‏إظهار الرسائل ذات التسميات المسيحية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات المسيحية. إظهار كافة الرسائل

إعترافات تولستوي وفلسفته (ليو تولستوي)


• لم أبلغ الثامنة عشر من عمري حتى تركت الجامعة في السنة الثانية من دخولي إليها وحررت نفسي من كل ضروب العبادة والإيمان الذي تعلمته.
• قد آمنت بإله، أو بالأحرى لم أنكر وجود إله، ولكن لم أقدر أن أوضح شيئاً عن هذا الإله الذي لم أنكر وجوده..
• في بداءة عملي كنت أعتقد أن الكمال الأدبي هو غايتي الرئيسية، ولكنني لم ألبث أن وجدت نفسي ساعياً وراء الكمال العام في جميع الأعمال.
• لقد كانت أسمى مراتب الأخلاق الصالحة في عقيدتي منحصرة في الطموح، ومحبة القوة، والحصول على الربح، والكبرياء والغرور، والغضب والإنتقام.
• ليس في قاموس الجرائم جريمة واحدة لم أرتكبها، ولكنني كنت مع كل ذلك مكرماً محترماً من أبناء عشيرتي كرجل أديب فاضل.
• رغبتي في الشهرة كانت تقضي على كل إصلاح في فكري. وعلى خداعي الكثير في كتابتي نجحت نجاحاً باهراً، وكان الناس يقرأون كتاباتي مادحين شاكرين.
• كان الإيمان بالشعر، وبنمو الحياة، إيماناً حقيقياً، وكنت كاهناً حقيقياً أبشر به. وكان القائم بمثل هذا العمل إذ ذاك رفيقاً للربح والكرامة في جميع أعماله.
• كانت حياتي في أوروبا، وتعرفي بعظماء مفكريها وعلمائها، عاملاً فعالاً على تأييد عقيدتي بإمكانية البلوغ إلى الكمال العام الذي كان المفكرون في أوروبا يؤمنون به.
• إنني كسائر المجانين كنت أعتقد أن جميع رفقائي مجانين وليس بينهم عاقل غيري..
• يجب أن أحكم على ما هو حق وضروري، وليس بما قاله الناس وفعلوه، ولا بما رتبوه من النظم للتقدم، بل بما أشعر بصوابه في أعماق قلبي.
• كل شيء ينمو ويتغير. وأنا نفسي أنمو وأتغير كل يوم. وسيأتي يوم يدرك فيه الجميع سر هذا النماء.
• لقد رأيت أن كلاً من المعلمين يختلف عن الآخر بطريقة تعليمه، وبما يعلمه، ولذلك يخاصمه، وينازعه عبثاً ليخفي عنه جهالته وغروره.
• كانت فكرة الإنتحار تخطر لي في كل يوم، بل كل ساعة كما كانت فكرة الجهاد في سبيل كمال الحياة، رفيقة لأحلام شبابي.
• لم أكن أبلغ الخمسين من عمري بعد، فقد كان لي زوجة صالحة تحبني وأحبها، وأولاد مهذبون، وأملاك واسعة كانت تنمو وتزداد من غير أن أتعب في سبيلها.
• هكذا أتعلق أنا بغصن شجرة الحياة، عارفاً أن تنين الموت ينتظرني، وهو على أتم الإستعداد ليمزقني إرباً إرباً. ولا أدري لماذا قدر لي أن أحتمل كل هذه المشقات..
• مهما بالغت في التفكير في نفسي لأقنع ذاتي أنني لا أستطيع أن أدرك معنى الحياة، وأنني يجب أن أعيش بدون تفكير، فإنني عاجز عن العمل بهذه النصيحة، لأنني قد عشت متمرداً عليها زمناً طويلا.
• أنا، بما في قلبي من المحبة لهم (أسرتي) لا أقدر أن أُخفي عنهم الحقيقة، لأن كل خطوة يخطونها في طريق المعرفة تُدنيهم من هذه الحقيقة الواحدة التي هي : "الموت!"
• إن الفن زينة الحياة وسحرها. والحياة بعد أن خسر سحرها نفوذه في قلبي، كيف أستطيع أن أجعل غيري يرى هذا الساحر فيها؟
• ظل سؤالي الشخصي:"لماذا أعيش وأرغب وأعمل؟" سراً غامضاً لا جواب عليه. وقد عرفت إذ ذاك أن فروع المعرفة هذه لذيذ درسها، شيق التأمل فيها، ولكنها كانت تظهر، بملء الوضوح عجزها الكامل عن المجاوبة على مسائل الحياة.
• ما هي حياة تلك البشرية أو الإنسانية المجهولة منا، التي لا نعرف منها سوى جزء صغير في قسم من الوقت ؟
• لكي يفهم الإنسان حقيقة ذاته يجب عليه والحالة هذه أن يعرف حقيقة الإنسانية السرية، التي تتألف من ملايين الناس الذين يجهلون حقيقة ذواتهم مثله..
• كلما وضحت سماء المعرفة المنبسطة فوقي، وزادت نقاوتها، وتعاظمت سحرها وتعمقت في إدراك أسرارها، والإطلاع على دقائقها، كنت أجدها بعيدة عن قضاء حاجتي، قاصرة عن مجاوبتي على مسائلي..
• الحكيم يُنشِد الموت في كل ساعة من حياته، ولذلك فالموت لا يُرعب الحكماء.
• كل ما في هذا الوجود من الكائنات، والشموس، والمجرات هو لا شيء بعد زوال إرادتنا أو حياتنا: لأن وجوده، أو بالحري شعورنا بوجوده ناشيء عن وجود هذا الشعور فينا، ولذلك فهو زائل بزوال هذا الشعور فينا..
• كان مركزي صعباً مزعجاً. لأن المعرفة التي يقدمها العقل تنكر الحياة، والمعرفة التي يمنحها الإيمان تنكر العقل، وكلا الأمرين صعب عليّ وخصوصاً الثاني منهما.
• ومع أنني ظللت أعتقد أن الإيمان بعيد عن أحكام العقل، فلم أجد بُداً من التسليم بأن الإيمان وحده منح الإنسان جوابات مغرية على مسائل الحياة، ومهد أمامه العقبات الحائلة دون سعادة حياته.
• المعرفة المبنية على العقل أظهرت لي أن الحياة لا معنى لها، فاحتقرت حياتي، وودت أن أقتل نفسي بيدي. بيد أنني كلما نظرت إلى جماهير الناس حولي أرى أنهم يعيشون فرحين بالحياة عارفين معانيها السامية.
• مهما تعددت أنواع الأجوبة التي يقدمها الإيمان للإنسان فإن كل واحد منها يجعل لحياة الإنسان المحدود معنى غير محدود، معنى لا يزول ولا يفنى مهما اجتمع لمحاربته من جيوش الآلام والوحدة والموت.
• بالإيمان نستطيع أن نجد الحياة، وبه نفهم معانيها السامية.
• ماذا فعلت عندما نشدت جواباً على قضيتي بدرس العلوم الطبيعية؟ رغبتي في معرفتي السبب الذي أعيش لأجله، ولذلك درست كل شيء ما خلا نفسي. ولا شك أنني تعلمت أمور كثيرة بهذا الدرس، ولكنني لم أتعلم شيئاً مما كنت في حاجة إليه.
• ماذا فعلت عندما نشدت الجواب في دروس الفلسفة؟ درست أفكار الذين كانوا في نفس الحالة التي كنت فيها، يجهلون الجواب على السؤال "لماذا أعيش؟" وواضح أنه لم يكن لي أتعلم بهذه الطريقة، إلا ما عرفته من قبل، وهو أنه يستحيل أن أعرف شيئاً.
• من أنا ؟ ــــ جزء من غير محدود. بهذه الكلمات سر القضية بكاملها.
• ما برح الإنسان منذ أبعد أزمنة التاريخ يدرس علاقة المحدود بغير المحدود ويوضحها ويفسرها.
• إن المركز الذي إتخذناه أنا وشوبنهور وسليمان، بالرغم من كل حكمتنا، كان جنونياً محضاً، لأننا مع معرفتنا الحياة شر، لا نزال نتمسك بها..
• فهمت أننا بجميع مباحثنا كنا ندور في دائرة واحدة. ندرس، ونبحث، ونفتش، وندقق، وأخيراً تأتي النتيجة ج تساوي ج . فسر الماء بعد الجهد بالماء.
• بدأت أُدرِك أن الأجوبة التي يقدمها الإيمان تحتوي على أنقى ينابيع الحكمة البشرية، وأنه لا يجوز لي أن أرفضها لمجرد تمرد العقل عليها، فهي وحدها الكفيلة بحل قضية الحياة.
• قد فهمت كل هذا، ولكنه لم يساعدني على التخلص من شقائي فقد أصبحت مستعداً أن أقبل أي إيمان كان على شرط أن لا يطلب مني نكراناً ظاهراً لعقلي.
• الإنسانية، لكي تعيش، وتواصل حياتها شاعرة بمعنى هذه الحياة، تحتاج إلى نوع آخر من الإيمان أنقى وأصدق من الإيمان الذي عرفته.
• إن في الوجود إرادة كلية تدير كل ما فيه من الكائنات. وهذه الإرادة الكلية لا عمل لها سوى العناية بحياتنا وبحياة الوجود الذي نعيش فيه.
• كنت أفكر بغير انقطاع في الحياة وما أشكل عليّ من أسرارها. ولكن قلبي كان يتألم. وفي أعماقه شعور مذيب لا أستطيع أن أصفه إلا بأنه عاطفة خفية كانت تدفع بي إلى التفتيش عن الله.
• في بعض المرات كنت أراجع مباحث كانط وشوبنهور في أن البرهان على وجود الله مستحيل، وأقبلها بإقتناع، ثم لا ألبث أن أثور عليها في أوقات أخرى، وأفندها وأُظهِر خطأها وضلالها.
• لا أقول مثنى، وثلاث ورباع، بل عشرات ومئات المرات، كانت تنازعني هذه الأفكار المتناقضة، فتارة اؤمن وأشعر بحلاوة الحياة، وتارة يفارقني إيماني ويحل مكانه الشكوك والشعور بشر الحياة وبطلانها.
• لم أشرع في الإختلاط مع المتعلمين من المؤمنين، أو في مطالعة كتبهم حتى عاودتني شكوكي، ورجع إليّ تمردي واضطرابي فشعرت أنني كلما حادثتهم، أو قرأت مؤلفاتهم، يزداد بُعدي عن الحقيقة ودنوي من هوة اليأس والشقاء.
• البراهين التاريخية التي تُصبغها كل طائفة  بصبغتها الرسمية، لا يمكن أن تكون مرجعاً للحكم بين الطوائف.
• ومع أنني لم أعد أجد من الخطأ في إيمان الشعب بمقدار ما في إيمان زعماء الكنيسة فقد رأيت أخيراً أن غير الحقيقي في إيمان الشعب ممتزج بالحقيقي.
• ومما لا شك فيه أن العقائد كانت تحتوي على الكثير مما هو حق، ولكنها كانت أيضاً بدون أقل ريب تحتوي على الكثير مما هو غير حق.
• الحياة الروحية تُعاش لا تُلقَن.

▬ هذا هو حالنا اليوم كما كان من ذي قبل.ــــ فإن تأثير التعليم الديني الذي قبلناه في المدرسة عن طريق الثقة والإيمان البسيط، وحفظته السلطة المطلقة في حياتنا، يضمحل شيئاً فشيئاً تجاه المعرفة التي نستمدها من إختبارات الحياة اليومية التي تُناقض كل مبادئه، ومع أن الفرد منا يعتقد أن إيمانه لا يزال راسخاً في أعماق قلبه فإن هذا الإيمان لا أثر له في حياته العملية. صــ7

▬ لذلك أعترف الآن بأن الإيمان المغروس في أعماقي منذ صبوتي قد زالت آثاره من قلبي كما تزول من قلب كل إنسان، ولكن الفرق بيني وبين الكثيرين هو أنني منذ الخامسة عشرة من عمري شرعت أقرأ كتب الفلاسفة، وأدركت في أعماقي عدم إيماني. فقد انقطعت عن الصلاة وأنا في السادسة عشرة من العمر، وتحولت عن حضور الإحتفالات الكنسية، والمحافظة على صيامات الكنيسة بملء إرداتي وقناعتي. قد طرحت عني الإيمان الذي تعلمته في صباي وما برحت أؤمن بشيء، ولكنني لم أقدر أن أوضح ماهيته. قد آمنت بإله، أو بالأحرى لم أنكر وجود إله، ولكن لم أقدر أن أوضح شيئاً عن هذا الإله الذي لم أنكر وجوده. إنني لم أنكر المسيح ولم أجحد تعاليمه، ولكن الحقيقة التي تدور عليها هذه التعاليم لم أعرف عنها شيئاً. صــ9

▬ قد قتلت الكثيرين في الحرب، وبارزت الكثيرين لأفقدهم حياتهم، وخسرت أموالاً كثيرة بالمقامرة، وأنفقت الأموال الكثيرة التي وصلت إليّ بأعراق الفلاحين، وكنت قاسياً عاتياً في معاملة خدامي، ولم أترك سبيلاً من سبل الفسق والدعارة مع العواهر إلا سلكته، ولم تفتني طريقة من طرق الخداع والمراوغة: كذب وسرقة، وزنا، وسكر وتمرد وقتل.. كل هذا جزء من حياتي في تلك الأيام. فليس في قاموس الجرائم جريمة واحدة لم أرتكبها، ولكنني كنت مع كل ذلك مكرماً محترماً من أبناء عشيرتي كرجل أديب فاضل. صــ12

▬ وقد مر العام الأول وأنا أشتغل في كل دقيقة من يومي بالتحكيم، والتعليم في المدارس، وتحرير جريدتي، حتى شعرت أنني أكاد أرزح تحت أثقال الواجبات الكثيرة التي أُلقيت على كاهلي. وظل الحال هكذا حتى صرت أنظر إلى كل أعمالي في القضاء، والمدرسة، والجريدة، نظرتي إلى ألد أعدائي. فوقعت أخيراً في مرض عقلي، أكثر مما هو جسدي، وتركت أعمالي، وسرت إلى البرية، حيث أصبحت أستنشق نسيم الطبيعة النقي، وأعيش بين الحيوانات البريئة المعيشة الطبيعية الحقة. صــ22

▬ وقد أصابني نفس ما يصيب كل مريض في بداءة مرضه، تعرض له بعض الأيام بسيطة، فلا يعبأ لها، وهي لا تلبث أن تزيد وتتجمع حتى يتألف من مجموعها داء عياء، يقضي على راحته ويسلبه سعادته، فيعمد المريض المسكين إلى مُلاقاه الخطر، ولكنه يرى نفسه قاصراً أمام عدوه، ويدرك أن المسئلة، التي بدت له لأول وهلة تافهة لا أهمية لها، قد أصبحت قضية في الوجود يسعى إلى حلها، ولا يهتدي إلى ما ينقذه منها، وهي قضية موته. صــ24

▬ كانت فكرة الإنتحار تخطر لي في كل يوم، بل كل ساعة كما كانت فكرة الجهاد في سبيل كمال الحياة، رفيقة لأحلام شبابي. وقد لزمني هذا الفكر، وكان يبدو لي جميلاً جذاباً، بهذا المقدار حتى اضطررت أخيراً أن الجأ إلى وسائل عديدة للحؤول دون تنفيذه بسرعة ولم يحملني إلى التردد في الإنتحار سوى رغبتي في إستعمال كل قوى حياتي في تنظيف أفكاري من أقذار الأوهام العالقة بها ولو لم يتم لي هذا لكنت أقتل نفسي في الحال. صــ28

▬ شعرت في فجر شبابي بميل كلي إلى الدروس المجردة، ولكن الرياضيات والعلوم الطبيعية أغوتني بسحرها في فجر رجولتي. وقد كنت قبل أن خطر لي هذا السؤال عن معنى الحياة - السؤال الذي نشأ في أعماقي ونما نمواً عجيباً في فكري وهو يطلب الجواب عليه بفارغ الصبر - راضيا بالأجوبة التقليدية المصطنعة التي كانت تقدمها البشرية لفكري. صــ38

▬ على هذا المنوال ضلت بي السبيل في المعرفة البشرية، فلم أجد لي ملجأ، لا في نور العلوم الرياضياتية والطبيعية، التي كانت سبلها مفتوحة أمامي، ولا في ظلمة الفلسفة، التي كانت تقودني كل خطوة فيها من السيء إلى الأسوأ، ومن المظلم إلى الأكثر ظلاماً ـــــ إلى أن ثبت لدي أخيراً أنه لم يكن، ولن يكن في الوجود شيء مما أفتش عنه؛ لأنني عندما تبعت نور العلم، الذي يتوهم الناس قدرته على حل قضايا الحياة، كنت أجد نفسي أبعد كثيراً عن الحقيقة التي أُنشدها. وكلما وضحت سماء المعرفة المنبسطة فوقي، وزادت نقاوتها، وتعاظمت سحرها وتعمقت في إدراك أسرارها، والإطلاع على دقائقها، كنت أجدها بعيدة عن قضاء حاجتي، قاصرة عن مجاوبتي على مسائلي. صــ46

▬ قال سُقراط وهو يستعد للموت: "نحن ندنو من الحق كلما بعدنا عن الحياة." فلماذا نحن الذين نحب الحق نسعى وراء الموت؟ لكي نتحرر من الجسد والأوجاع التي ترافق الحياة فيه. فإذا كان الحال هكذا، فكيف يجوز لنا أن نخاف من دنو الموت؟ الحكيم يُنشد الموت في كل ساعة من حياته، ولذلك فالموت لا يرعب الحكماء. وهذا نفس ما عبر عنه شوبنهور بقوله: "إن المبدأ الأساسي لكل ما في الوجود هو الإرداة [...] إذا أنكرنا هذه الإرادة، وقضينا على وجودها، فإن كل مظاهر الوجود تزول في الحال بزولها [...] الوجود بأسره ما هو عند التحقيق إلا هذه الرغبة التي في أعماقنا - الرغبة في الحياة التي تحملنا إلى الخوف من المصير إلى عدم... صــ50

▬ وهكذا فإن سياحتي في حقول المعرفة البشرية لم تقتصر على الفشل في شفائي من يأسي بل زادتني يأسياً وشكاً. فالفرع الواحد من المعرفة يقف صامتاً تجاه السؤال عن معنى الحياة. والفرع الثاني أجابني جواباً صريحاً ثبت يأسي، وأراني أن الحالة التي أنا فيها لم تكن نتيجة لضلالي أو ضعفاً طرأ على دماغي، بل إنما  كانت على العكس من هذا تؤكد لي أنني إنما أفكر بدقة، وأن آرائي متفقة مع النتائج الكبرى التي إنتهى إليها أقدر مفكري الإنسانية. صــ57

▬ يحدثني عقلي أن الحياة مناقضة للعقل. فإن لم يكن في الوجود شيء أعلى من العقل، والحقيقة أنه ليس في الوجود أسمى من العقل أو بالحري ليس لنا برهان على مثل هذا، فالعقل إذن هو الذي خلق لي الحياة. فكيف يستطيع هذا العقل، والحالة هذه ، أن ينكر وجود الحياة التي هو أوجدها ؟ وإذا نظرنا إلى الموضوع من الجهة الثانية نقول : لو لم تكن لي حياة لما كان لي عقل، ولذلك فإن العقل بحكم الطبع هو ابن الحياة. فالحياة هي كل شيء. العقل هو ثمرة الحياة، وهذا العقل نفسه ينكر الحياة التي أثمرته شجرتها. صــ63

▬ كان مركزي صعباً مزعجاً. لأن المعرفة التي يقدمها العقل تنكر الحياة، والمعرفة التي يمنحها الإيمان تنكر العقل، وكلا الأمرين صعب عليّ وخصوصاً الثاني منهما. فالمعرفة المبنية على العقل قد برهنت أن الحياة شر، وأن الناس يعرفون هذا وفي منالهم أن يقتلوا أنفسهم ويستريحوا من شر الحياة متى شاؤوا، ولكنهم ما برحوا يعيشون في العالم وينفرون من الإنتحار، وأنا فرد منهم قد عشت طويلاً عالماً أن الحياة شر وحماقة لا معنى لها. ولو عشت بالإيمان لقُضي عليّ أن أهمل عقلي وأعرض عن تطلباته قبل أن أستطيع إدارك معنى الحياة، ولكن عقلي هو القوة الوحيدة فيّ التي تطلب إدارك معنى الحياة، فكيف يمكن أن أفهم الحياة بدونه ؟ صــ71

▬ في جميع مباحثي الفكرية مع نفسي كنت أقابل مضطراً، المحدود بالمحدود، وغير المحدود بغير المحدود، ولذلك كانت النتيجة التي لا بد منها كما يأتي: "القوة هي القوة، والمادة هي المادة، والإرادة هي الإرادة، وغير المحدود هو غير المحدود، ولا شيء هو لا شيء" لا أكثر ولا أقل. فقد حدث لي كما يحدث في الرياضيات، عندما نريد أن نحل معادلة يجب أن نحصل على أعداد متشابهة. فمع أن طريقة الحل صحيحة فإن الجواب يأتي هكذا. ب تساوي ب . ج تساوي ج ، ل تساوي ل . هذا هو نفس ما حدث لي في تفتيشي عن معنى الحياة. فقد تشابهت عندي جميع الأجوبة التي قدمها العلماء على إختلاف طبقاتهم. صــ73

▬ عندما بلغت هذه النتيجة أدركت أنه من العبث السعي وراء جواب على سؤالي في المعرفة المبنية على العقل، ووثقت بأن الجواب الذي تقدمه مثل هذه المعرفة ليس إلا دليلاً واضحاً على أن الجواب مستحيل ما لم يوضع السؤال بطريقة أخرى تجعله شاملاً للعلاقة بين المحدود وغير المحود. وأدركت أيضاً أن الأجوبة التي يقدمها الإيمان مهما خالفت أحكام العقل وتمردت على شرائعه، فهي تمتاز بأنها تقدم لكل سؤال العلاقة بين المحدود وغير المحدود، وبدون هذه العلاقة لا يمكنا الحصول على جواب ما. فكيف وضعت السؤال: ("كيف يجب أن أعيش؟) فالجواب عليه واحد:ــ "بشريعة الله." س: "وهل بعد حياتي شيء حقيقي ثابت؟ وما هو؟ ج:"عذاب أبدي أو بركة أبدية" س: "وهل في حياتي معنى لا يستطيع الموت أن يذهب به؟" ج:"نعم، وهو الوحدة مع إله غير محدود في الفردوس." على هذا المنوال وجدت نفسي محمولاً إلى التسليم بأن وراء المعرفة العقلية، التي كنت أعتقد أنها المعرفة الوحيدة، وجد ويوجد في كل إنسان نوع آخر من المعرفة لا سلطان للعقل عليها. وهو الإيمان الذي يساعد الناس على الغبطة في الحياة. ومع أنني ظللت أعتقد أن الإيمان بعيد عن أحكام العقل، فلم أجد بُداً من التسليم بأن الإيمان وحده منح الإنسان جوابات مغرية على مسائل الحياة، ومهد أمامه العقبات الحائلة دون سعادة حياته. فالمعرفة المبنية على العقل أظهرت لي أن الحياة لا معنى لها، فاحتقرت حياتي، وودت أن أقتل نفسي بيدي. بيد أنني كلما نظرت إلى جماهير الناس حولي أرى أنهم يعيشون فرحين بالحياة عارفين معانيها السامية؛ لأن الإيمان قد منحهم كما منحني قوة على إدراك معنى الحياة وحمل أثقالها بفرح وصبر. صــ 74 : 75

▬ ليس الإيمان بإعلان غير المنظورات فقط، ولا هو بالوحي الذي ينزل على قلوبنا فقط، لأن مثل هذا التحديد يظهر لنا شكلاً واحداً من أشكال الإيمان المتعددة، كلا ولا هو علاقة الإنسان بالله فقط، (لأن الإيمان يجب أن يتحدد أولاً ثم الله) ولا هو الإذعان لما أخبر به الإنسان فقط، كما يعتقد الكثير من الناس، وإنما الإيمان الحقيقي الكامل هو معرفة معاني الحياة الإنسانية معرفة حقاً تحمل الإنسان على محبة الحياة والمحافظة عليها. الإيمان هو وحده قوة الحياة. فالرجل الحي يؤمن بشيء، وبغير الإيمان لا يستطيع بشر أن يعيش في العالم. لأن الذي لا يؤمن بأن في الوجود غاية يعيش لأجلها هو ميت بالحقيقة. فإذا لم ير ولم يفهم بطلان المحدود فهو يؤمن بغير المحدود. وإذا رأى بطلان المحدود وزواله فهو مضطر إلى الإيمان بغير المحدود في كل حال. فالحياة بغير الإيمان مستحيلة. صــ76

▬ قد فهمت كل هذا، ولكنه لم يساعدني على التخلص من شقائي فقد أصبحت مستعداً أن أقبل أي إيمان كان على شرط أن لا يطلب مني نكراناً ظاهراً لعقلي، لأن مثل هذا العمل يعرضني للكذب. فدرست البوذية والإسلامية بكتبهما الأصلية، ودرست المسيحية بعناية خاصة، بكل ما كتب فيها وبحياة اساتذتها الذين كانوا حولي. فوقف فكري وانتباهي أولاً على درس المؤمنين من أبناء بلادي المقربين منى، علماء الأرثوذكسية وعظماء المفكرين من رجال الدين والرهبان الشيوخ المؤمنين بأن الخلاص يتوقف على الإيمان بالفادي. فكنت أسعى إلى هؤلاء المؤمنين وأسألهم عن  إيمانهم وعن عقائدهم في الحياة والغاية منها. ومع أنني كنت أبذل كل جهدي لتجنب المناظرات والمجادلات معهم فإنني لم أستطع أن أعتنق إيمانهم. فقد رأيت أن الذي كانوا يطلقون عليه إسم الإيمان، لم يوضح لي معنى الحياة، بل عمل بالأحرى على زيادة ظلمتها [...] لم أستفد شيئاً بل رجعت إلى هاوية يأسي الأول، أوفر شقاء وأكثر تعساً. فكنت كلما بالغوا في بسط دقائق عقائدهم أمامي أشعر بملء الوضوح أنهم على ضلال، وأن عقائدهم كلها لا تستطيع أن توضح لي معنى الحياة [...] أدركت أن إيمان هؤلاء ليس بالإيمان الذي نشدته، بل هو شكل من الأشكال التي يلجأون إليها ذوو الشهوات في الحياة لتبرير ذواتهم تجاه الحياة [...] الإنسانية، لكي تعيش، وتواصل حياتها شاعرة بمعنى هذه الحياة، تحتاج إلى نوع آخر من الإيمان أنقى وأصدق من الإيمان الذي عرفته. صــ 80 : 83

▬ ما رأيته في عامة الشعب مناقضاً على خط مستقيم لما رأيته بين الخاصة من أبناء الأشراف والأغنياء، الذين كانت حياتهم بدون الإيمان سهلة جداً عليهم، ولم يكن بين كل ألف منهم مؤمن واحد: في حين أن الفقراء والعامة لم يكن بين الألف منهم رجل واحد غير مؤمن... صــ84

▬ إن حياة طبقتنا الغنية والمتعلمة أصبحت مكرهة في عيني، ولم يبق لها أقل معنى في عقيدتي. فجميع أعمالنا، وأفكارنا وعلومنا ، وفنوننا، ظهرت لي بأشكال جديدة وصور جديدة. فأدركت أنها كلها لعبة صبي صغير لا معنى لها. وثبت لدي أن حياة العمال، وجميع أبناء الإنسانية المشتغلين بالإنتاج، والعاملين على البناء والتعمير، هي وحدها الحياة الحقيقية التي يجدر بي وبكل عاقل أن يسعى إليها. أجل، فقد أدركت جيداً أن هذه هي الحياة الحقيقية، وأن المعنى الذي يجده أبناؤها فيها هو المعنى الحقيقي للحياة ولذلك قبلته بفرح عظيم. صــ86

▬ [...] "إن الحياة شر لا معنى له" كان منطبقاً على حياتي الشخصية إذ ذاك، وليس على الحياة بوجه عام. حينئذ أدركت الحقيقة التي وجدتها فيما بعد في الإنجيل:"إن الناس أحبوا الظلمة دون النور، لأن أعمالهم كانت شريرة. لأن كل من يصنع الشر يبغض النور، ولا يأتي إلى النور، لئلا توبخ أعماله. فرأيت بوضوح أن على الراغب في ادراك معنى الحياة أن يعيش هو نفسه أولاً حياة بعيدة عن الشر ممتلئة بالمعاني الصالحة، وحينئذ تستنير بصيرته فيرى المعنى الحقيقي لحياته. صــ88

▬ شعرت أن قوة الحياة الضرورية ما برحت تعوزني، فعاودتني مخاوفي وشكوكي، وشرعت في الحال أصلي إلى الإله، الذي كنت أفتش عنه، ليساعدني وينقذني من يأسي. بيد أن إفراطي في الصلاة لم يزدني إلا ثقة بأن صلواتي لم يسمعها أحد، وبأنه لا يوجد أحد يستطيع أن يلجأ إليه في عهد محنته. لأجل ذلك صرخت واليأس يملأ قلبي، لعدم مقدرتي على الإهتداء إلى الإله الذي فتشت عنه، قائلاً: "يارب ارحمنى وخلصني. أيها الرب إلهي علمني." ولكن لم يرحمني أحد... صــ94

▬ وقد فارقتني هذه القناعة بوجود الله، إلى درس علاقتنا معه، فعرض أمامي الإله المثلث الأقانيم، خالقنا، الذي أرسل ابنه فادياً لخطايانا. حينئذ رأايت هذا الإله، المنفصل عني وعن العالم، يذوب كالجليد من أمام عيني، فلم يبق لوجوده أثر في ذهني، ولذلك نضب ينبوع الحياة الذي رأيته هنيهة وكنت أعلل النفس بأن أوري ظمأ يأسي من مائه النمير. فسقطت ثانية في هوة اليأس، وشعرت بأنه لم يبق لي سوى العزم على قتل نفسي. ولكن هنالك شعوراً آخر أردأ من هذا لزمني: وهو أنني يجب ألا أُفكر بالإقدام على مثل هذا العمل الفظيع أبداً. صــ95

▬ وجدت نفسي، وأنا الرجل الذي يعتقد من صميم قلبه بأن الإيمان لا يوجد إلا في المحبة المتبادلة المتحدة، نعم وجدتني مضطراً على رغمي أن أري أن عقائد الإيمان تعطل الغاية الوحيدة التي يجب أن تُحييها وتُنعشها، وإنما تظهر هذه العداوة بأتم وضوح لمن يعيش مثلنا في بلاد تعددت مذاهبها، ويرى الإحتقار المعيب، وسوء المعاملة، والإضطهاد، الذي يوجهه الكاثوليك للبروتستانت، والأرثوذكس، فيقابله الأرثوذوكس بأفظع منه للكاثوليك والبروتستانت، ثم لا يبرح الأخيرون أن ينتقموا من الإثنين معاً بشر من فعلهم. ومثل هذا يتناول في الغالب في بقية المذاهب الأخرى. صــ114

▬ نقطة أخرى كانت تربط علاقات الكنيسة بقضايا الحياة هي الصلة التي بين الكنيسة والحرب والقتل. فقد كانت روسيا في هذا العهد منخرطة في حرب، وكان الروسيون، بإسم المحبة المسيحية، يقتلون اخوتهم في الإنسانية. إن عدم التفكير في هذا العمل الفظيع مستحيل عليّ. ومثله عدم التصريح بأن القتل جريمة كبرى في نظر جميع الأديان. ولكن الناس على رغم هذه الحقيقة كانوا يصلون في الكنائس من أجل نصر جيوشنا، وزعماء الكنيسة كانوا يقبلون كل جرائم القتل هذه كأنها نتائج لابد منها للمحافظة على الإيمان. ولم يكن القتل في الحرب وحده مقبولاً في الكنيسة، بل كان قتل المتمردين والثائرين من الشبان على التقاليد الرثة البالية محرماً في نظر أكثرية من عرفت من أعضاء الكنيسة ومعلميها ورهبانها ونساكها. ولذلك نظرت إلى كل ما يجري حولي من الحوادث الفظيعة التي كان يقوم بها رجال يدعون المسيحية فارتعدت في أعماق قلبي..صــ118 : 119


▬ ومهما بدأ الأمر غريباً على آرائي العقلية القديمة التي مارستها زمناً طويلاً فهو الرجاء الوحيد بالخلاص من الشقاء، ولكي يكون هذا مفهوماً يجب أن يُفحص بتدقيق وتَحَفُظ مع أنه لا يمكن أن تكون نتيجته شبيهة بنتائج البحث العلمي. لأن معرفتي للمواضيع الدينية والمباحث اللاهوتية تجعل ترقّب البلوغ إلى نتائج فيها شبيهة بنتائج المباحث العلمية أمراً مستحيلاً. صــ121

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

تحريف أقوال يسوع (بارت إيرمان)


• الكتاب المقدس هو كتاب بشري.
• إن كان حقا يرغب في ذلك (أي توصيل الرسالة الإلهية) ،لكان عليه أن يحفظ هذه الكلمات من العبث بطريقة إعجازية.
• كون المرء ناقدًا نصيًا يشبه الاشتغال بعمل رجل المباحث.
• غالبية القراءـــ حتى هؤلاء اللذين يهتمون بالمسيحية ،بالكتاب المقدس،بالدراسات الكتابية،وكلا من هؤلاء اللذين يؤمنون بالكتاب المقدس ككتاب معصوم من الخطأ وهؤلاء اللذين لا يؤمنون بذلك ــ لا يعرفون تقريبًا أي شئ عن النقد النصي.
• يقول صديقي جيف سيكر إن قراءة العهد الجديد باللغة اليونانية هي مثل رؤيته بحروف ملونة ، في حين قراءته مترجما تشبه مشاهدته بالأبيض والأسود : وهو إنسان فهم الأمر لكنه فاته كثير من الفروق الدقيقة.
• كانوا - أي اليهود - يؤمنون بأن هناك مكانًا مقدسًا له خصوصية حيث يسكن فيه هذا الكائن الإلهي هنا على الأرض (الذي هو الهيكل في أورشليم)، وهناك تسفك هذه الأضاحي
• كان بين الشعب اليهودي ،كما كان يُعتَقد، وبين الله "عهد"،أي اتفاق بموجبه يكونون وحدهم شعبه كما يكون هو ربهم وحدهم .
• هناك إعتبارات تؤخذ في الحسبان للقول بأن مخطوطة ما أقدم من الأخرى، منها : عُمر المخطوطة - البُعد التاريخي - النطاق الجغرافي. 
• نصوص العهد الجديد في بعض الأحيان كانت تتعرض للتحوير لأسباب لاهوتية .
• قضية طبيعة المسيح : هل كان المسيح إنسانا ؟ هل كان إلها ؟ أم كان الاثنين كليهما ؟ ولو كان هو الاثنين كليهما ، هل كان كائنين منفصلين ، أحدهما بشري والآخر إلهي ؟ أما كان كائنا واحدا بشريا وإلهيا في الوقت ذاته ؟
• تغييرات النص لدوافع مضادة للانقساميين لعبت النزاعات حول عقائد الانقساميين المتعلقة بطبيعة المسيح دورًا في نسخ النصوص التي ستصبح فيما بعد  العهد الجديد.
• لم تلعب النزاعات التي ثارت حول دور المرأة في الكنيسة دورا عظيما في تحريف نصوص العهد الجديد ، لكنها لعبت بالفعل دورا ،في فقرات طريفة وهامة .
• لِتَتَعَلَّمِ الْمَرْأَةُ بِسُكُوتٍ فِي كُلِّ خُضُوعٍ. وَلَكِنْ لَسْتُ آذَنُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُعَلِّمَ وَلاَ تَتَسَلَّطَ عَلَى الرَّجُلِ، بَلْ تَكُونُ فِي سُكُوتٍ، لأَنَّ آدَمَ جُبِلَ أَوَّلاً ثُمَّ حَوَّاءُ، وَآدَمُ لَمْ يُغْوَ لَكِنَّ الْمَرْأَةَ أُغْوِيَتْ فَحَصَلَتْ فِي التَّعَدِّي، وَلَكِنَّهَا سَتَخْلُصُ بِوِلاَدَةِ الأَوْلاَدِ، إِنْ ثَبَتْنَ فِي الإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْقَدَاسَةِ مَعَ التَّعَقُّلِ. (1تيموثاوس 2 :11 -15 )
• كان الوثنيون أحيانا يقاومون المسيحيين بسبب الشكل غير المعتاد لعباداتهم ولقبولهم يسوع باعتباره ابن الله الذي جلب موته على الصليب الخلاص ؛ و أحيانا كانت هذه المقاومة تؤثر على النساخ المسيحيين الذين كانوا يعيدون كتابة نصوص الكتاب المقدس .
• هذه الاعتراضات تأتي من داخل كتاباتكم الخاصة، ولسنا في حاجة إلى شهود أخرين: فأنتم بأنفسكم تمنحوننا ما به نبطل إيمانكم .(ضد سيلزس 2 ،74)
• لقد كان كتبة الأناجيل كتاب مزيفون ـ لم يكونوا معاينين ولا شهود عيان لحياة يسوع . فكلٌ من المؤلفين الأربعة يناقض الآخر في حكايته لأحداث معاناة يسوع وصلبه .(بورفراي الوثني - ضد المسيحيين 2 ،12-15)
• بعض المؤمنين يتصرفون كما لو كانوا في مجلس لاحتساء الشراب،يذهبون بعيدا إلى درجة التناقض مع أنفسهم، فيغيرون النص الأصلي للإنجيل ثلاث مرات أو أربع أو مرات عديدة أكبر من ذلك، ويغيرون أسلوبه بما يمكّنهم من إنكار الصعوبات متى وُجِّه النقد إليهم "(ضد سيلزس 2 . 27)
• لقد أصبح من الوضوح بمكان لدى غالبية العلماء منذ القرن التاسع عشر أن مرقس كان هو أول الأناجيل كتابةً، وأنَّ متَّى و لوقا كليهما قد استخدماه كأحد مصادر قصصهم عن يسوع .

[مقدمة عن نفسه]

♀ كانت دراستي للأدب الإنجليزي،الفلسفة،والتاريخ ــــ ناهيك عن اليونانيةـــ قد وسعت آفاقي بشكل كبير ،وأصبحت متعتي الآن هي في المعرفة ،المعرفة بكافة أشكالها،الدينية والدنيوية . ولو أن معرفة "الحقيقة"تعني أن لا أكون بعد من المسيحيين المولودين مرة ثانية مثل من عرفتهم في المدرسة العليا،فليكن ما يكون.كنت أنوي أن أواصل بحثي عن الحقيقة مهما كان الطريق الذي ستقودني إليه، وأنا على ثقة من أن أي حقيقة سأتعلمها لا يقلل من قيمتها كونها غير متوقعة أو كونها تتلائم بصعوبة مع التصنيفات التي تضعها خلفيتي الإنجيلية.

♀ إن تعلُّمي للغة اليونانية ودراستي للمخطوطات اليونانية،أدت بي إلى إعادة النظر بصورة جذرية في مفهومي لماهية الكتاب المقدس.كان ذلك تغييرًا مزلزلا بالنسبة إليَّ.قبل ذلك ـــ منذ بداية تجربة الميلاد مرة ثانية التي مررت بها في المدرسة العليا،عبر أيام تزمتي الديني في معهد "مودي"،و الذي استمرَّ مرورًا بأيامي كإنجيليٍّ في معهد "ويتون"ـــ كان إيماني مبنيًا بالكامل على نظرة يقينية إلى الكتاب المقدس ككلمة الرب الموحى بها والمعصومة بصورة كاملة. الآن لم أعد أرى الكتاب المقدس بهذه الصورة.بدأ الكتاب المقدس يبدو لي ككتاب بشري جدا.فتماماً كما نسخ النساخون البشريون نصوص الكتاب المقدس و غيَّروها،فكذلك وبالطريقة ذاتها نصوص الكتاب المقدس كتبها مؤلفون من البشر منذ البداية. لقد كان كتابًا بشريًا من البداية وإلى النهاية.كتبه مؤلفون مختلفون من البشر في أزمنة مختلفة وفي أماكن مختلفة تلبيةً لحاجات مختلفة. كثيرٌ من هؤلاء المؤلفين بلا شك كانوا يشعرون أنهم يوحى إليهم من قبل الله لقول ما فعلوه،لكنهم كان لهم آراؤهم الخاصة ،معتقداتهم الخاصة،رؤاهم الخاصة ،حاجاتهم الخاصة،رغباتهم الخاصة ،مفاهيمهم الخاصة،عقائدهم اللاهوتية الخاصة.

[بدايات الكتاب المقدس المسيحي]

♀ لكي ندرس النسخ التي في حوذتنا للعهد الجديد ، نحتاج أولا إلى البدء بأحد الخصائص غير المألوفة التي تختص بها المسيحية في محيط العالم اليوناني الروماني:ألا وهي طابعها الكتابيّ (Bookish).  في الواقع ،لكي نفهم هذه الخصيصة التي تختص بها المسيحية ،نحن بحاجة ،قبل الحديث عن المسيحية،إلى البدء بالحديث عن الديانة التي انبثقت منها المسيحية ،أي اليهودية. حيث إن اليهودية ،التي كانت "الديانة الكتابية" الأولى في الحضارة الغربية،كانت قد سبقت إلى حد ما كتابيّة المسيحية وتنبأت بها.

♀ لقد بدأت المسيحية ،بالطبع ، من خلال يسوع ، الذي كان نفسه حبرًا Rabbi  يهوديًا (أي معلمًا) الذي قَبِل سلطان التوراة ، وربما الكتب اليهودية المقدسة الأخرى ،و لقن تلاميذه تفسيره الخاص لهذه الكتب . مثل معلمي عصره الآخرين ،أكد يسوع أن النصوص المقدسة،قانون موسى على وجه الخصوص، تمثل إرادة الله . لقد قرأ من هذه الكتب المقدسة ،وتعلمها،وقام بتفسيرها ،والتزم بها،وعلَّمها. لقد كان تلامذته ،منذ البداية ، يهودًا وكانوا ينظرون إلى الكتب التي تحوي تقاليد قومهم على أنها ذات قيمة خاصة. وهكذا ، بالفعل ،في بداية المسيحية ،كان أتباع هذه الديانة الجديدة ،أي تلاميذ يسوع ،فريدين في الإمبراطورية الرومانية :فهم كانوا مثل اليهود من قبلهم ،لكن ليس مثل أي شخص آخر تقريبًا ،فقد أوجدوا سلطة مقدسة في ثنايا كتب مقدسة . لقد كانت المسيحية في بدايتها ديانة الكتاب .

♀ ارتاب العلماء لفترة طويلة في أن بعضًا من هذه الرسائل الموجودة في العهد الجديد منسوبةً لبولس هي في الحقيقة من كتابات أتباعه المتأخرين ونسبت إليه كذبا . و لو صحَّت هذه الشكوك ،فستعطي دليلًا لا شك فيه على أهمية الرسائل عند الحركة المسيحية الأولى : فلكي يجذب الإنسان الأسماع إلى وجهات نظره ، كان عليه أن يكتب رسالة ممهوة بتوقيع الرسول مفترضًا أن ذلك سيمنحها حجمًا من الموثوقية جديرًا بالاعتبار .

♀ كان المسيحيون بالطبع معنيِّين بمعرفة معلومات أكثر عن حياة ،وتعاليم ، وموت الرب و قيامته ؛ ولذلك كُتِبَتْ العديد من الأناجيل ،التي قامت بتسجيل التقاليد المتصلة بحياة يسوع . أربعة من هذه الأناجيل أصبحت هي الأوسع استخدامًا ـ وهي تلك التي كتبها متى ،ومرقس ،ولوقا ، ويوحنا في ثنايا العهد الجديدـ لكنَّ أناجيلا أخرى كثيرة كُتِبت: منهاعلى سبيل المثال ،الأناجيل المنسوبة إلى فيليبُّس تلميذ يسوع ، ويهوذا توما أخيه ، ورفيقته مريم المجدلية. كما فقدت أناجيل أخرى بعضها من الأناجيل الأكثر قِدمًا .

♀ في روايات إنجيلية ، نجد أن معظم تلاميذ يسوع كانوا فلاحين بسطاء من الجليل ـ صيادين غير متعلمين ، على سبيل المثال . اثنان منهما ، بطرس ويوحنا ، قيل عنهما بوضوح أنهما كانا "أمِّيين" في سفر الأعمال ( 4 : 13). بولس الرسول يشير لشعب كنيسته الكورنثيين إلى أن " قليل منكم من هم حكماء بالمقاييس البشرية " (1 كو 1 : 27 ) ـ التي ربما تعني أن البعض القليل كان حاصلين على تعليم جيد ، لكن ليس الأغلبية . فإذا تقدمنا إلى القرن المسيحي الثاني ، يبدو أن الأمور لم تتغير كثيرا . كما أشرت ، بعض المثقفين آمنوا ، لكنّ معظم المسيحيين كانوا من الطبقات الدنيا وغير المتعلمة .  أحد الأدلة على صحة هذه الرؤيا تأتي من مصادر عديدة . واحدة من أكثرها طرافة هو أحد الوثنيين من خصوم المسيحية المسمى "سيلزس" والذي عاش في أواخر القرن الثاني . كتب "سيلزس" كتابا اسمه " الكلمة الحقة "( The True Word) ، هاجم فيه المسيحية لعدد من الأسباب ، متذرعا بأنها ديانة حمقاء خطرة يجب مسحها من على وجه الأرض .

♀ يرد أوريجانوس بأن المسيحيين المؤمنون حقا هم في الحقيقة حكماء ( وبعضهم ، في الواقع ، من ذوي التعليم الجيد)، لكنهم حكماء فيما يتعلق بالله ، وليس فيما يتعلق بالأشياء في هذا العالم . لم ينكر ، بطريقة أخرى، أن المجتمع المسيحي  يتشكل في الغالب من الطبقات الدنيا ،غير المتعلمة.

♀ الكتب التي كانت ذات أهمية قصوى في المسيحية المبكرة كانت  في الغالب تُقرأ بصوت عال من خلال هؤلاء الذين كانوا قادرين على القراءة ، لكي يستطيع الأميون الاستماع إليها  ، وفهمها ، وحتى دراستها . على الرغم من حقيقة أن المسيحية الأولى كانت في العموم تتشكل من المؤمنين الأميين ، إلا أنها كانت ديانة أدبية إلى حد كبير .

[نُسَّاخ الكتابات المسيحية الأولى]

♀ كانت عمليات النسخ خارج المجتمعات المسيحية، في العالم الروماني على اتساعه، تتم إما على أيدي النسَّاخ المحترفين، أو على أيدي عبيدٍ قادرين على القراءة والكتابة ويتم تكليفهم بالنسخ من قبل سادتهم؛ ويعني ذلك، من بين ما يعني، أنه كقاعدة لم يكن الأشخاص الذين يقومون بالنسخ هم أنفسهم الأشخاص الراغبين في الحصول على النصوص، وإنما كان الناسخون في الغالب الأعمّ ينسخونها لمصلحة آخرين. إلا أن واحداً من أهم الاكتشافات الحديثة التي قام بها العلماء الباحثون في نسـّاخ المسيحية الأولى، هو أن الحال كان على العكس من ذلك تماما. إذ يبدو أن المسيحيين الذين كانوا يقومون بالنسخ، كانوا هم أنفسهم من يحتاجون للنُسَخ، بمعنى أنهم كانوا ينسخونها إما لاستخدامهم الشخصيّ، أو لمصلحة المقربين منهم..

-----------------------------------------------------------------------------
لأن النصوص المسيحية الأولى لم تكن تنسخ بمعرفة نسّاخ محترفين ، على الأقل في أثناء القرنين أو القرون الثلاثة الأولى من عمر الكنيسة، وإنما بمعرفة أشخاص متعلمين ينتمون للمجتمع الكنسي لديهم القدرة الرغبة لأداء هذه المهمة، فمن الممكن أن نتوقع أنه في النسخ الأولى، على وجه الخصوص، كانت أخطاء النسخ شائعة الحدوث. في الحقيقة، توجد لدينا أدلة دامغة على ذلك، حيث كانت (هذه الأخطاء) محلاً لبعض الشكاوى العارضة من مسيحيين يقرأون تلك النصوص ويحاولون اكتشاف الكلمات الأصلية للمؤلفين. ففي إحدى المرات، على سبيل المثال، يسجل الأب "أوريجانوس" المنتمي لكنيسة القرن الثالث الشكوى التالية من نسخ الأناجيل الموجودة تحت تصرفه:

"لقد أصبحت الاختلافات بين المخطوطات عظيمة، إما بسبب إهمال بعض النسـّاخ أو بسبب التهور الأحمق للبعض الآخر؛ فهل كانوا يهملون مراجعة ما نسخوه،أم، بينما يراجعونه، يقومون بالحذف والإضافة على هواهم؟ "

لم يكن "أوريجانوس" الشخص الوحيد الذي لاحظ تلك المشكلة، فقد أشار إليها أيضاً خصمه الوثني "سيلزس" قبل ذلك بسبعين سنة، ففي سياق هجومه على المسيحية وأعمالها الأدبية، طعن  "سيلزس" في النسـّاخ المسيحيين لاتباعهم أساليب تتعدّى على أصول النسخ:

" بعض المؤمنين يتصرفون كما لو كانوا في مجلس لاحتساء الشراب،يذهبون بعيدا إلى درجة التناقض مع أنفسهم، فيغيرون النص الأصلي للإنجيل ثلاث مرات أو أربع أو مرات عديدة أكبر من ذلك، ويغيرون أسلوبه بما يمكّنهم من إنكار الصعوبات متى وُجِّه النقد إليهم "(ضد سيلزس 2 . 27)
-------------------------------------------------------------------------------

♀ هناك صورة توضيحية طريفة للتغيير العمدي الذي وقع لنص موجود في واحدة من أنقى مخطوطاتنا القديمة ،ألا وهي المخطوطة الفاتيكانية ( يسميها البعض كذلك لأنها اكتشفت في المكتبة الفاتيكانية )،التي كتبت في القرن الرابع .  ففي افتتاحية سفر العبرانيين هناك فقرة يقال لنا فيها ، وفقا لمعظم المخطوطات، إن " المسيح يحمل (باليونانية : PHERON) كل الأشياء بكلمة قدرته"( عبرانيين 1 : 3 ). أما في المخطوطة الفاتيكانية ،فقد  أحدث الناسخ الأصلي اختلافا دقيقا في النص ، باستخدامه أحد الأفعال المشابهة في اللغة اليونانية ؛ حيث يُقرأ النص في الفاتيكانية كالتالي:" المسيح يُظِهر ( باليونانية :PHANERON) كل الأشياء بكلمة قدرته." بعد ذلك بعدة قرون ، قرأ ناسخ ثان هذه الفقرة في المخطوطة (الفاتيكانية) وقرر أن يستبدل الكلمة الغريبة يُظهِِر ( manifests ) بالأكثر شيوعا يحمل (bears)ـ  ماحيا  الكلمة الأولى وكاتبا الأخرى. ثمّ قرأ المخطوطة ، بعد ذلك ببعض القرون ، ناسخ ثالث ولاحظ التحريف الذي فعله سلفه ؛ فمحى ، بدوره ،الكلمة يحمل وأعاد كتابة الفعل يظهر .ثم أضاف ملاحظة ناسخ في الهامش ليشير إلى ما دار في خلده عن الناسخ الثاني الذي سبقه . تقول الملاحظة :" أيها الوغد الأحمق ، دع القراءة القديمة ،لاتحرفها !

♀ إن الديانة المسيحية هي ديانة توجهها النصوص وهذه النصوص قد تعرضت للتحريف ، وما بقي فقط ،في شكل نسخ، يختلف من واحدة لأخرى ، وفي كثير من الأحيان يكون الاختلاف في أمور شديدة الأهمية . إن مهمة الناقد النصي هي محاولة استعادة الشكل الأقدم من هذه النصوص .  هذه المهمة واضح أنها شديدة الأهمية ، حيث إننا لا يمكن  أن نفسر الكلمات الواردة في العهد الجديد لو لم نكن نعرف الشكل الذي كانت عليه الكلمات . فوق ذلك ، كما آمل أن يكون واضحا الآن ، معرفة هذه الكلمات هي أمر مهم ليس فقط من أجل هؤلاء الذين يعتقدون أن هذه الكلمات موحاة من الله . بل هي مهمة من أجل أي شخص يعتقد أن العهد الجديد كتاب هام . وبالتأكيد كل شخص مهتم بالتاريخ ، والمجتمع و بثقافة الحضارة الغربية يعتقد  ذلك ، لأن العهد الجديد ،إن لم يكن أكثر من ذلك ، هو منتج ثقافي ضخم ، وكتاب يوقِّره الملايين ويمثل الأساس لأكبر الديانات في عالم اليوم .

[نصوص العهد الجديد]

♀ متى بدأت الكنيسة في استخدام النسَّاخ المحترفين لنسخ نصوصها؟  هناك أسباب مقنعة تدفعنا إلى الاعتقاد بأن ذلك قد حدث في وقت ما قريب من بداية القرن الرابع.  فقبل ذلك الحين،كانت المسيحية ديانة صغيرة تعتنقها أقلية داخل الإمبراطورية الرومانية ،كثيرًا ما تعرضت هذه الأقلية للاضطهاد،و للتعذيب أحيانًا. ولكنَّ تغييرًا عنيفًا وقع حينما تحول إمبراطور روما،قسطنطين،إلى الإيمان عام 312 ميلاديًا تقريبًا.  فجأة تغير حال المسيحية من كونها ديانة المنبوذين مجتمعيًا ،المعذبين بأيدي الرعاع و سلطات الإمبراطورية على حدٍ سواء ،إلى لاعبٍ رئيسيّ في المشهد الديني في الإمبراطورية.

♀ كما أشرت، نص العهد الجديد نُسِخ في شكل معياري بكل معنى الكلمة عبر قرون العصور الوسطى،سواء في الشرق(النص البيزنطي) أو في الغرب (الفولجاتا اللاتينية). لقد كان اختراع ماكينة الطباعة  في القرن الخامس عشر الميلادي على يد جوهانس جوتنبرج(1400 – 1468) هو الذي غيَّر كل شئ يتعلق بإعادة إنتاج الكتب بشكل عام وكتب الكتاب المقدس بشكل خاص.

♀ على الرغم من أن "مل" علِمَ وقام بفحص حوالي مائة مخطوطة يونانية ليكشف الاختلافات الثلاثين ألفًا التي أعلنها، فإن ما نعرفه اليوم أكثر من ذلك ،بل أكثر من ذلك  بكثير. في آخر إحصاء ،تم الكشف عن أكثر من خمسة آلاف وسبعمائة  مخطوطة يونانية و فهرستها.  وهذا يمثل من ناحية العدد سبعة وخمسين ضعفًا مما علم "ملّ" عنه في عام 1707 . هذه الخمسة آلاف وسبعمائة تشمل كل شئ بدءًا من أصغر كِسَر من المخطوطات – أي في حجم بطاقة الائتمان – إلى الأعمال شديدة الضخامة و العظم، المحفوظة بكاملها . بعضها يشمل كتابًا واحدًا فقط من العهد الجديد ؛والبعض الآخر يشمل مجموعة صغيرة  (كمثال الأناجيل الأربعة و رسائل بولس ) ؛ والقليل للغاية منها يشمل العهد الجديد بكامله.

[البحث عن الأصول]

♀ كان الناقد الوثني سيلزس يزعم أن المسيحيين غيروا النص على هواهم ،كما لو كانوا مخمورين في جلسة شراب ؛ أما خصمه أوريجانوس فيتحدث عن عدد "كبير" من الاختلافات بين مخطوطات الكتاب المقدس ؛ بعد ذلك بما يزيد عن قرن كان البابا داماسوس قلقا للغاية من اختلافات المخطوطات اللاتينية إلى درجة أنه كلف القديس جيروم بإنتاج ترجمة معيارية ؛ وجيروم نفسه كان قد قارن العديد من نسخ النص ، سواء اللاتينية أو اليونانية ، لكي يختار النص الذي كان يعتقد أنه النص الأصلي الذي خطته أيدي مؤلفيه.

♀ استنتاجات ""سيمون"" المضادة للبروتستانتية تصير أكثر وضوحا في بعض  كتاباته الأخرى . على سبيل المثال ،في كتاب له يتناول " المفسرين الرئيسيين للعهد الجديد " ،يصرح بغير تردد :"  التغييرات العظيمة التي وقعت في مخطوطات الكتاب المقدس . . . منذ أن فقدت الأصول الأولى ، تهدم مبدأ البروتستانتيين من أساسه . . . الذين يلجأون فحسب إلى هذه المخطوطات  ذاتها الخاصة بالكتاب المقدس في شكلها الموجود اليوم . لو أن حقيقة الدين لم تعش طويلا في ظل الكنيسة ، فإن البحث عنها في الكتب التي كانت عرضة لكثير جدا من التغييرات والتي كانت أيضا خاضعة لإرادة النساخ  لن يكون بالأمر المأمون.

♀ كان يوهان ج.ج. فيتشتاين(1693-1754 ) واحدًا من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في أوساط علماء الكتاب المقدس في القرن الثامن عشر . في سنٍ صغيرة أصبح فيتشتاين أسيرًا لقضية نص العهد الجديد و قراءاته المتباينة ، وعمل على الموضوع خلال دراسته المبكرة .بعد بلوغه العشرين بيوم واحد ، في ال17 من مارس، 1713، تقدم إلى جامعة بازل بفرضية عنوانها " تنوع القراءات في نص العهد الجديد." ومن بين أشياء أخرى ، بنى فيتشتاين البروتستانتي المذهب دفوعه على أن القراءات المتباينة " يمكن أن يكون لها مؤثرات موهِنَة لقضية صحة وسلامة الكتاب المقدس."  والسبب هو أن الله " أنزل هذا الكتاب مرة واحدة و للأبد إلى العالم كوسيلة لتحقيق كمال الشخصية الإنسانية. فهو يشتمل كل ما هو ضروريٍّ للخلاص سواء على مستوى الاعتقاد أو على مستوى السلوك." لذلك ، ربما يكون للقراءات المتباينة تأثير على نقاط  ثانوية في الكتاب المقدس ، لكن الرسالة الأساسية تبقى سليمة بغض النظر عن القراءت التي قد يلاحظها المرء.

[الأصول هي الأهم]

 ♀ لفنترض أنه بعد أن أُنْتِجت المخطوطة الأصلية التي تحوي نصًا ما ، نسخت منها نسختان ،ربما نطلق عليهما الاسمين ( أ) و (ب). هاتان النسختان ،بطبيعة الحال ،سيكون بينهما اختلافات بطريقة أو بأخرى – ربما هي اختلافات هامة أو على الأرجح اختلافات يسيرة . الآن لنفترض أن النسخة (أ) قد نسخت من خلال ناسخ واحد آخر فقط ، لكنّ النسخة (ب) نسخت من خلال خمسين ناسخ .ثم حدث أن فقدت المخطوطة الأصلية ،وكذلك النسختان (أ) و (ب)،ليصبح ما تبقى لدينا في شكل تقليد نصيّ هما الواحد والخمسون نسخة التي تمثل الجيل الثاني ،واحدة منهم نسخت من النسخة (أ) و الخمسون الباقية تم نسخهم من النسخة (ب). لو أن إحدى القراءات  موجودة في المخطوطات الخمسين (المنسوخة من المخطوطة (ب)) تختلف عن قراءة موجودة في المخطوطة الوحيدة (المنسوخة من (أ))، فهل القراءة الأولى منهما (أي الموجودة في الخمسين نسخة) بالضرورة هي الأكثر احتمالا أن تكون القراءة الأصلية ؟لا ، على الإطلاق – حتى لو ثبت أنها متكررة  في الشواهد الخمسين خمسين مرة . في الواقع ، الفارق النهائي الذي يدعم تلك القراءة ليس نسبة خمسين إلى واحد . بل الفارق هو بنسبة واحد إلى واحد (أ في مقابل ب ).

غالبية الانتقائيين العقلانيين ، على وجه الخصوص ،يعتقدون أن  النص السكندري المزعوم (هذا يشمل ما سماه هورت النص " المحايد")،الذي كان في الأساس مقترنًا بالممارسات النسخيَّة المنضبطة التي مارسها النساخ المسيحيون في الإسكندرية في مصر ، هو الشكل الأعلى مقامًا من النص المتاح ، وفي أغلب الحالات يزوِّدُنا بالنص الأقدم أو "الأصلي"، في أي موضع يوجد فيه قراءات متباينة . النصان "البيزنطي" و "الغربي" ، من ناحية أخرى ، من المحتمل بصورة أقل أن يحتفظا بأفضل القراءات ،عندما لا يكونان مدعومين بالمخطوطات السكندرية .

[تحريفات النص التي حدثت لدوافع لاهوتية]

♀ يتناول علم النقد النصي  ما هو أكثر من مجرد تحديد النص الأصلي . فهو يتطلب أيضًا مشاهدة الكيفية التي تمَّ بها تعديل النص عبر الزمن ،سواء بسبب أخطاء النساخ أو لأن النساخ قاموا بتعديلات مقصودة . هذا النوع الأخير ، أي التغييرات العمدية ، شديد الأهمية ، لا لأنه فحسب يساعدنا بالضرورة على فهم ما كان المؤلفون الأصليون يحاولون قوله ، بل أيضًا لأنه بإمكانه أن يوضح لنا بعض الأشياء عن الكيفية التي كان النساخ ،الذين أعادوا إنتاج النصوص، يفسِّرون بها النصوص التي كتبها المؤلفون . ومن خلال رؤية الكيفية التي حرَّفوا من خلالها النصوص التي بين أيديهم ، يمكننا اكتشاف  إشارات تدلنا على ما كان هؤلاء النساخ يظنونه مُهِمَّا في النص ، وهكذا يمكننا أن نتعلم الكثير حول تاريخ النصوص عندما كانت تُنسخ و يعاد نسخها عبر القرون .

♀  في القرنين الثاني والثالث كان ثمة مسيحيون ، بالطبع ،يؤمنون بأنه لا إله إلا إله واحد ، خالق كل شئ . أناس آخرون من الذين يسمون أنفسهم بالمسيحيين ، مع ذلك ، أصروا على أن الكون له إلهين اثنين مختلفين ـ إلهٌ للعهد القديم ( إله النقمة ) وإلهٌ للعهد الجديد (إله المحبة و الرحمة). هاذان لم يكونا ببساطة وجهين مختلفين للإله نفسه: في الواقع هما كانا إلهين مختلفين . من المدهش أن المجموعات التي تفوهت بهذه المزاعم ـ بما في ذلك أتباع مرقيون ، الذين تعرفنا عليهم من قبل بالفعل ،أصرت على أن رؤاها كانت هي التعاليم الحقة التي نادى بها يسوع وتلاميذه. مجموعات أخرى ،على سبيل المثال ، من المسيحيين الغنوصيين ، أصروا على أنه لم يكن ثمة إلهين اثنين فحسب ، بل اثنا عشر إلها . وآخرون قالوا: بل ثلاثين إلها . و آخرون استمروا في القول إن الآلهة 365 إلها .

♀ رأيي الذي أجادل لإثباته هو أن النسَّاخ المسيحيين الذين كانوا خصوما  لوجهات النظر التبنّوية حول يسوع قاموا بتعديل نصوصهم في بعض المواضع لكي يؤكدوا على وجهة نظرهم بأن يسوع لم يكن إنسانا فحسب ، وإنما كان إلها أيضًا. يمكننا أن نسمي هذه التعديلات تحريفات الكتاب المقدس المضادة للتبنيّين.

♀ في الطرف المقابل للخط اللاهوتي القادم من خلفية يهودية متنصرة والمتمثل في الأبيونيين ومعتقداتهم التبنوية في المسيح كانت تقف مجموعات من المسيحيين عرفوا باسم الظهوريين  . أصل هذا الاسم يجيئ من الكلمة اليونانية (DOKEO) ، التي تعني " ظهور" أو "ترائي". كان الظهوريون يعتقدون أن يسوع لم يكن كائنا بشريا كاملا من لحم ودم . بل كان بدلا من ذلك إلهيا تماما (وفقط )؛ لكنه "بدى" أو " ترائى " ككائن بشريّ ، أو بدى وكأنه يشعر بالجوع ، والعطش و الألم ، وبدى وكأنه ينزف ،ويموت. وحيث إن يسوع كان هو الله ، فلا يمكنه أن يكون إنسانا على وجه الحقيقة. وإنما ببساطة جاء إلى الأرض في " مظهر " لحم بشري. ربما كان الفيلسوف المُعَلِّم مرقيون هو أشهر الظهوريين من قرون المسيحية الأولى.

♀نحن نعلم أن مسيحيي ماقبل الأرثوذكسيّة أرادوا أن يؤكدوا على الطبيعة المادية الحقيقية لمغادرة يسوع للأرض : لقد غادر يسوع بشكل مادي ، وسيعود ثانية بصورة مادية ، ليأتي بالخلاص المادي معه .وهكذا قاموا بمجادلة الظهوريين ، الذين تمسكوا بأن هذا كله كان ظهورا . من المحتمل أن ناسخا كان له مشتركا في هذه النزاعات قام بتحرير نصه لكي يؤكد على هذه المسألة .

♀ الناحية الثالثة التي كانت محط اهتمام مسيحيي ماقبل الأرثوذكسية الذين عاشوا في القرنين الثاني والثالث تتعلق بمجموعات مسيحية كان مفهومها عن المسيح ليس باعتباره إنسانا فحسب (مثلما هو الحال مع التبنيين) أو إلها فحسب ( مثل الظهوريين ) وإنما ككائنين اثنين ، أحدهما إنسان تماما والآخر إله تماما   . ربما يمكننا أن نطلق على هذا العقيدة "الانقسامية"  حول طبيعة المسيح لأنها قسمت يسوع المسيح إلى اثنين : الإنسان يسوع ( الذي كان إنسانا تاما ) و الإله المسيح (الذي كان إلها كاملا ).. وفقا لغالبية القائلين بوجهة النظر هذه ، يسوع الإنسان كان مسكونا بصورة مؤقتة بالكائن الإلهي ،أي المسيح ،ما مكنه من القيام بأعماله الإعجازية و بتبليغ تعاليمه  ؛ لكن قبل موت يسوع ، فارقه المسيح ، مجبرا إياه على مواجهة الصلب وحده .

♀ لدينا من الأدلة القوية ما يجعلنا نفترض أن بعض الغنوصيين أخذوا هذه الجملة الأخيرة التي قالها يسوع على معناها الحرفيّ - أي التي قالها عند الصلب، وهي الجملة "إلوي ،إلوي ،لما شبقتني ؟" ،التي تترجم كالآتي:"إلهي ، إلهي ،لما تركتني ؟" -، لكي يثبتوا أن هذه اللحظة هي التي انفصل فيها المسيح ذو الطبيعة الإلهية عن يسوع (حيث إن اللاهوت لا يمكن أن يذوق الفناء و الموت ).

[بيئات النص الإجتماعية]

♀ بعض الخصوم القدماء للمسيحية من بين الوثنيين ،بما فيهم ،على سبيل المثال ، سيلزس الناقد الذي عاش في أواخر القرن الثاني ، الذي التقيناه من قبل ، انتقد الدين على خلفية أن أتباعه في الغالب كانوا من الأطفال ،والعبيد ،و النساء (أي من هؤلاء الذين لم يكونوا في الغالب يتمتعون بمركز اجتماعي داخل المجتمع ). الغريب أن أوريجانوس ،الذي كتب الرد المسيحي على سيلزس ، لم ينكر التهمة لكنه حاول أن يحولها ضد سيلزس في محاولة لإظهار أن الله يستطيع أن يأخذ ما هو ضعيف وأن يكسوه بالقوة.

♀ النساء ، باختصار ، يبدو أنهن لعبن دورا هاما في الكنائس في عصر بولس . إلى حد ما ، هذه المكانة العالية لم تكن بالأمر المألوف في العالم اليوناني الروماني . وربما تكون هذه المكانة قد ترسخت ،كما أعتقد ،بإعلان يسوع أن المملكة المزمع أن تأتي ستعتمد المساواة بين الرجال والنساء .

♀ من بين رفاق بولس في سفر الأعمال كان ثمة زوج وامرأته يسميان أكيلا وبريسكلا ؛ عندما يتمُّ ذكرهما في بعض الأحيان ، يقدم المؤلف اسم الزوجة أولا ، كما لو كانت تتمتع برتبة أعلى سواء من ناحية القرابة أو داخل المهمة التبشيريَّة المسيحية (كما يحدث في رومية 16 : 3 كذلك ،حيث يطلق عليهم اسم بريسكا)..ليس مفاجئًَا إذن أن يبدي النساخ أحيانًا امتعاضهم بسبب هذا الترتيب ومن ثمَّ يقومون بعكسه ،حتى يحصل الرجل على ما يستحقه من خلال ذكر اسمه أولا : أكيلا و بريسكلا بدلا من بريسكلا و أكيلا ..باختصار ، كان ثمة نزاعات في القرون الأولى للكنيسة حول دور النساء ،و عند اللزوم تتسلل هذه النزاعات إلى عملية نسخ نصوص العهد الجديد ذاته ، حيث غيَّر النساخ أحيانًا نصوصهم ليجعلوها تتوافق بصورة أكبر مع مفهومهم الخاص عن الدور (المحدود) للنساء داخل الكنيسة.

♀ إحدى سخريات المسيحية في عصورها المبكرة أن يسوع نفسه كان يهوديًّا عَبَدَ إله اليهود ،حافظ على العادات اليهودية ،فسَّر الشريعة اليهودية ،وكان له تلاميذ من اليهود اتبعوه باعتباره المسيح اليهوديَّ . رغم ذلك ، وفي غضون عشرات قليلة من السنوات فحسب بعد موته ، كان أتباع يسوع قد كوَّنوا ديانة وقفت من اليهودية  موقف النقيض .فكيف انتقلت المسيحية بهذه السرعة من كونها طائفة يهودية إلى ديانة معادية لليهود ؟

♀ إطلاق اسم المسيح على يسوع كان بالنسبة لغالبية اليهود  أمرًا يجلب على قائله السخرية . لم يكن يسوع قائدًا مهاب الجانب لليهود . كان ضعيفًا و عاجزًا – تم إعدامه بأكثر طرق القتل إذلالا و إيلامًا من بين ما ابتكره الرومانيون ،الذين هم أصحاب السلطة الحقيقية . رغم ذلك ،أصرَّ المسيحيون على أن يسوع هو المسيح ، وعلى أن موته لم يكن إخفاقًا للعدالة بل حدث تنبأ به الكتاب، و أنه حدث بترتيب من الله ، جلب عن طريقه الخلاص للعالم .

♀ وعندما ننتقل إلى القرن الثاني نجد أن المسيحية واليهودية قد أصبحتا ديانتين منفصلتين كليةً،لديهما على الرغم من ذلك الكثير لقوله بعضهما عن الآخر.المسيحيون ،في الواقع،وجدوا أنفسهم وقد شكلوا نوعا من الرابطة . لأنهم كانوا يؤمنون بأن يسوع كان هو المسيح الذي تنبأت به الكتب اليهودية المقدسة؛ ولكي تحصل على المصداقية في عالمٍ يعتزُّ بكل ما هو قديم و يرتاب في أي شئ "جديد" باعتباره بدعة مشكوك بها ،فقد كان على المسيحيون أن يواصلوا الاستشهاد بالكتب المقدسة ـ باعتبارها أساسا لمعتقداتهم الخاصة . هذا كان يعني أن المسيحيين ادعوا أن الكتاب المقدس اليهودي هو كتابهم المقدس الخاص . ولكن أليس الكتاب المقدس اليهودي هو لليهود ؟ بدأ المسيحيون يصرّون على أن اليهود لم ينكروا فحسب مسيحهم ،وإنما  أنكروا إلههم أيضا بذلك، وأساؤوا فهم كتابهم المقدس أيضا. ولذلك نجد أن الكتابات المسيحية  مثل ما عرف باسم رسالة برنابا ،وهو الكتاب الذي اعتبره بعض المسيحيون الأوائل جزءا من قائمة العهد الجديدة الرسمية ، قد أكد أن اليهودية كانت دائما ولا تزال ديانة باطلة ،وأن  ملاكا شريرا أضل اليهود ليفهموا الشريعة التي أعطاها الله لموسى بأنها تعاليم حرفية تشرح كيف ينبغي أن يعيش الإنسان ،في حين أنها كانت من المفترض أن تفسر في الحقيقة بشكل رمزي.

♀ غالبية المسيحيين كانوا وثنيين سابقين ، من غير اليهود الذين قد تحولوا إلى الإيمان بالمسيحية والذين فهموا أنه على الرغم من أن هذا الدين كان مبنيًّا ،في الأساس، على الإيمان بإله اليهود كما ذكر نعته  في الكتاب المقدس اليهودي ،إلا أنه كان ذا توجه معاد لليهود تماما .

♀ بالنسبة للمسيحيين الأوائل كان ثمة مشكلتان ، في حقيقة الأمر ،تواجهان هذا العدد ،في حال النظر إليه بهذه الطريقة . أولا ، تسائل المسيحيون ،ما الذي يجعل يسوع يصلي لمغفرة ذنوب هذا الشعب المتمرد الذي رفض الله نفسه عن عمد ؟ هذا الأمر كان من النادر أن يكون متصورا عند كثير من المسيحيين.بل أكثر من ذلك نقول، إنه قريبا من القرن الثاني كان كثير من المسيحيين على قناعة تامة بأن الله لم يغفر لليهود لأنهم ، كما ذكرت من قبل ،اعتقدوا أن الله سمح بأن تدمر أورشاليم كعقوبة لليهود على قتلهم يسوع . يقول أوريجانوس أحد آباء الكنيسة :" صحيح أن المدينة التي مر فيها يسوع بمثل هذه الآلام ينبغي أن تدمر بالكامل ، وأن الأمة اليهودية ينبغي أن تباد "(ضد سيلزس 4 ،22). كان اليهود يعرفون جيدا ما كانوا يفعلونه ، ومن الواضح أن الله لم يسامحهم . انطلاقا من وجهة النظر هذه ، ليس لدعاء يسوع بالمغفرة من أجلهم أي معنى ، في الوقت الذي لم يكن ثمة غفران ممكن في حقهم  .ماذا كان على النساخ أن يفعلوا،إذن، مع هذا النص الذي يصلي فيه يسوع "أبتاه ،اغفر لهم ،لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون"؟ تعاملوا مع النص ببساطة من خلال اقتطاع النص ،لكي لا يعود يسوع يطلب لهم المغفرة .

♀ باقتراب منتصف القرن الثاني الميلادي، بدأ المسيحيون يلفتون انتباه المفكرين الوثنيين الذين هاجموهم في مقالات كتبت للرد عليهم . هذه الأعمال لم  ترسم صورة للمسيحيين أنفسهم بصورة سلبية ،وإنما أيضا هاجمت المعتقدات المسيحية باعتبارها معتقدات مضحكة ( فهم على سبيل المثال يدعون عبادة إله اليهود ، في حين يرفضون الالتزام بالشريعة اليهودية!) و بدأوا في الغمز واللمز بالممارسات المسيحية باعتبارها ممارسات شائنة .

♀ في ميدان الهجمات الفكرية على المسيحيين ،كان ثمّ اهتمام ملحوظ بيسوع  كمؤسس لهذا الإيمان الجديد وسئ السمعة مجتمعيًّا. حيث أشار الكتاب الوثنيون إلى أصله الوضيع و انتمائه إلى الطبقة الدنيا تقريعا وسخرية بالمسيحيين على اعتقادهم بأنه كان مستحقا للعبادة ككائن إلهي. كان يقال إن المسيحيين يعبدون مجرما مصلوبا ،ثم بغباء يؤكدون أنه كان بطريقة ما كائنا إلهيا.

♀ أحد نقاط الخلاف الدائمة بين منتقدي المسيحية من الوثنيين و بين مفكريها المدافعين عنها تتعلق بسلوك المسيح، وما إذا كان قد تصرف بطريق تليق بشخص ادعى أنه ابن الله. يجب أن أؤكد أن ذلك لم يكن خلافا حول إمكانية تصور أن كائنا بشريا يمكن أيضاً أن تكون له طبيعة إلهية بشكل ما. فتلك نقطة كانت محل اتفاق بين الوثنيين والمسيحيين بشكل تام، حيث يعرف الوثنيون أيضاً قصصاً تحول فيها كائن إلهي إلى بشري وتعامل مع الآخرين هنا على الأرض. القضية كانت هل تصرف يسوع بهذا الشكل الذي يبرر الاعتقاد بأنه واحد من هذا النوع، أم، على العكس من ذلك، كان لمواقفه وتصرفاته دورا في استبعاد إمكانية أن يكون بالفعل ابنا لله.

♀ لقد كان هذا سؤالاً يأخذه خصوم المسيحية من الوثنيين مأخذ الجد؛ فهم ،في الحقيقة ، فهموا المسألة  بشكل منطقي: يسوع  لا يمكن أن يكون ابنا لله إن كان مجرد  نجار. الناقد الوثني "سيلسوس" سخر من المسيحيين في هذه النقطة تحديدا، حيث ربط بين الزعم بأن المسيح كان "نجارا" وبين كونه قد صلب (على وتد من الخشب) وبين الإيمان المسيحي بـ "شجرة" الحياة .
وكلما تحدثوا في كتاباتهم عن شجرة الحياة .. أتخيل أن سبب ذلك هو أن سيدهم قد تم تثبيته على الصليب بالمسامير، وأنه كان يعمل نجاراً. فلو تصادف أنه ألقي به من على منحدر أو إلى حفرة أو تعرض للشنق، أو لو كان إسكافياً أو بناءاً أو حداداً، لكان ثمة  منحدر للحياة فوق السماوات، أو حفرة للقيامة، أو حبل للخلود، أو حجر مبارك، أو حديد للمحبة، أو جِلد مقدس. لو كان ثمة امرأة عجوز تغني حكاية قبل النوم لطفلها ،أما كانت لتخجل من الهمس بمثل هذه القصص ؟ (ضد سيلزس 6، 34)

[خاتمة]

♀ قناعتي هذه بأن النساخ قد حرَّفوا الكتاب تحولت إلى يقين يتزايد كلما توسعت في دراسة النصوص أكثر فأكثر . وهذا اليقين أثّر على أسلوبي في فهم النصوص بطرق كثيرة لا بطريق واحدة. وبشكل خاص، كما قلت في البداية، بدأتُ أنظر إلى العهد الجديد باعتباره كتابًا بشريًّا محضًا . العهد الجديد على حالته الفعلية التي بين أيدينا ، هو نتاج أيادٍ بشرية، أيادي النُسَّاخ الذين نقلوه . بعد ذلك بدأت أنظر ليس فقط إلى النص المنسوخ باعتباره نصًّا بشريًّا محضًا، بل إلى النص الأصلي أيضًا .

♀ وعلاوة على ذلك، فقد وصلت إلى مرحلة أصبحت أعتقد فيها أن وجهات نظري المبكرة عن الوحي لم تكن عقلانية فحسب، بل هي على الأرجح وجهات نظر خاطئة .لأن السبب الوحيد(حسب ما صرتُ أعتقده) الذي يجعل الله يوحي الكتاب المقدس، هو رغبته في أن تصل كلماته إلى شعبه على صورتها الحقيقية ؛ لكنه إن كان حقا يرغب في ذلك ،لكان عليه أن يحفظ هذه الكلمات من العبث بطريقة إعجازية، تمامًا كما أوحاها أول مرة بطريقة إعجازية. وبناءا على حقيقة أنه لم يفعل ذلك ، فلا مفر من وجهة نظري من استنتاج أنه لم يكلف نفسه مشقة إنزال الوحي ابتداءًا . كلما فكّرت مليًا في تلك الأمور، كلما بدأت أنظر إلى مؤلفي العهد الجديد بالطريقة ذاتها التي أنظر بها إلى النساخ الذين نقلوا إلينا فيما بعد ما كتبه هؤلاء المؤلفون .

♀ فكرة قيام لوقا بتغيير النص السابق عليه- والذي هو في هذه الحالة إنجيل مرقس - لا يجعله في وضعٍ شاذٍ بين المؤلفين المسيحيين الأوائل. فهذا، في الحقيقة، هو ما فعله كلُّ كتاب العهد الجديد – وأضف إليهم كل كُتَّاب الأدب المسيحي الموجود خارج دفتي العهد الجديد، بل في الواقع كتاب كل أنواع الأعمال الأدبية في أيِّ مكان. فهم يعدِّلون تقليدهم ويدونون كلمات التقليد على طريقتهم وبكلماتهم الخاصة.

♀ وعلى هذا النحو فإن النساخ قد حرفوا الكتاب المقدس بطرق لم نفعلها نحن.و بصورة ما أكثر أساسيةّ نجد أنهم ،مع ذلك ،قد غيَّروا الكتاب المقدس كما نفعل نحن في كل مرة نقرأه فيها ، إذ أنهم، مثلنا، كانوا يحاولون فهم ما كتبه المؤلفون، وكانوا يحاولون أيضًا معرفة أهمية النصوص التي كتبها النساخ بالنسبة لهم، وكيف يمكن أن تساعدهم في أن يجعلوا من حياتهم و أوضاعهم شيئا ذا معنى.










  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

الهرطقة في المسيحية (ج.ويتلر)



• إن هرطقات القرون الثلاثة الأولى يمكن أن تٌختصر بأربعة إتجاهات رئيسية تتشابك، فضلاً عن ذلك، أو تتراكب غالباً بسبب التوفيقية الدينية التي كانت رائجة آنذاك : 1-العرفان 2- الثنوية 3-الدوسيتية 4-الوحدوية .

====================================
◄ الوثيقة المعروفة بقانون إيمان نيقية، التي عقدت في مجمع نيقية عام 325م، وهاكم المقطع الرئيسي فيها : "نؤمن بإله واحد، آب ضابط الكل، خالق السماء والأرض، ما يُرى وما لا يُرى؛ وبربٍ واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب، الذي هو من جوهر الآب، اله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق ، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، به كان كل شيء في السماء وعلى الأرض، الذي من اجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد وصار إنساناً". صــ82

◄ أهم ما جاء في مجمع خلقيدونية الثاني، في العام 451م، أكثر من 520 أسقفاً، أقر بعد مناقشات طويلة وصعبة إعلان إيمان من بين ما جاء فيه : "إننا نعلَّم جميعنا أن هناك ابناً "واحداً" ووحيداً، سيدنا يسوع المسيح، الكامل من حيث الالوهة، والكامل من حيث الإنسانية، الإله الحق، والإنسان الحق، المؤلف من نفس عاقلة وجسد، والمساوي الآب في الجوهر، والمساوي لنا في الجوهر وفقاً للإنسانية، والشبيه بنا ما عدا الخطيئة، والمولود من الآب قبل كل الدهور وفقاً للألوهة، والمولد، وفق الإنسانية، لأجلنا ولأجل خلاصنا في آخر الدهر، من العذراء مريم أم الله؛ مسيحاً واحداً ووحيداً، إبناً سيداً، إبناً وحيداً بطبيعتين، من دون خلط، ومن دون تحول، ومن دون إنقسام، ومن دون إنفصال،؛ لأن الإتحاد لم يلغِ الفرق في الطبيعتين، فلقد احتفظت كل منهما بطريقتها لأن تكون خاصة، وتلاقت مع الطبيعية الأخرى في شخص واقنوم واحد".صــ96 
------------------------------------------------------

◄ إن التعريف الكاثوليكي للهرطقة هو التالي : رأي ديني مدان كنسياً على أنه مناقض للإيمان الكاثوليكي، أو أيضاً : خطأ إرادي ومتشبث به، متعارض مع مبدأ موحى به وتُعلمه الكنيسة بصفته هذه. ومن وجهة النظر التاريخية، ينبغي التوسع بالتعريف، لأن مفهوم الهرطقة موجود، وإن بطريقة أكثر غموضاً، في كنائس أخرى غير الكاثوليكية - الرومانية. هكذا يعتبر الروم الأرثوذوكس "اللاتينيين" هراطقة، لأنهم تبنوا المباديء الإيمانية التي لم تكن قد تحدثت عنها المجامع المسكونية السبعة الأولى (كمبدأ وجود المطهر) . أما الكنيسة البروتستانتية فكان لديها هراطقتها، على الأقل البدايات. فلقد أدان كالفن ميشال سيرفيه بهذه الصفة، وفعل لوثر الأمر نفسه مع القائلين بتجديد العماد. صــ17

◄ وفي ما يتعلق بالهرطقة، ينص القانون الكنسي الحالي على ما يلي : "إذا أنكر أحدهم، بعد أن يكون تلقى العماد في الوقت نفسه الذي يحتفظ فيه بصفة مسيحي. "(أي إذا لم يكن مرتداً)" إذا أنكر بإصرار إحدى الحقائق التي يجب إعتبار أنها تتعلق بالإيمان الإلهي والكاثوليكي، أو شك بها، يكون هرطوقياً..صــ23

◄ كل عقيدة تتعارض مع الإيمان الحقيقي تشكل في ذاتها ما يسميه اللاهوتيون كفراً، أي غياب فضيلة الإيمان الموحى بها، أو القضاء عليها. وهم يميزون بين ثلاثة أنواع من الكفر : الكفر السلبي الصرف وهو كفر الوثنيين الذين لم يظهر لهم المسيح، وهو ناجم عن الجهل، ولهذا السبب لا يجعلهم مذنبين؛ والكفر السالب المتصف بالرفض الواعي والإرادي للإلتحاق بالحقائق الموحى بها أو حتى البحث عنها، إما بإنكار إمكانية الوحي الإلهي (وهذه حالة الماديين، والوضعيين، والألهيين، والواحديين) ، أو برفض واقع الوحي المسيحي وقانونه (الوثنيون، الإسرائيليون، المحمديون)؛ وأخيراً، الكفر الإيجابي، وهو يختلف عن السابقين بكونه ليس سابقاً فضيلة الإيمان الموحى بها، بل يدمر الفضيلة .. إن الكفر الإيجابي خطير بوجه خاص، لأنه يستتبع من جانب المعمد ارتداداً كاملاً إلى هذا الحد أو ذاك. وهو ينطوي إما على الجحود، الإنكار الإرادي لأسباب تتعلق بالتصديقية (أو قابلية التصديق) [الإلحاد، الوحدانية ، المادية، العقلانية] ، أو الزندقة، أي رفض التسليم بسلطة الله...صــ24

◄ لكي تكون هناك هرطقة يجب توفر الشروط التالية : ينبغي أن يكون المرء معمداً، وأن يختار الخطأ بعمل من أعمال عقله، ويتشبث به بعناد؛ ينبغي، فضلاً عن ذلك، أن يكون هذا الخطأ متعارضاً مع وحي إلهي، تطرحه الكنيسة الكاثوليكية بواسطة أحد أعضائها المعصومين عن الخطأ..صـ25

◄ يُشكل أول مجمع مسكوني انعقد في نيقية، في آسيا الصغرى، في العام 325، حدثاً في تاريخ البدع المسيحية. فللمرة الأولى، اجتمع ممثلون لكل طوائف المؤمنين بصورة رسمية لأجل تحديد ما يَحْسُن الإيمان به وإدانة العقائد الزائفة. لقد دخل اللاهوت بذلك إلى العالم المسيحي، وحتى إلى العالم عموماً. صــ45

◄ والحال أنه كان على الدين المسيحي - لكي يكون قادراً على التغلب على الوثنية المتحضرة وسط تكاثر مَرَضي لأيديولوجيات غريبة، ولكي يكون في وسعة، من جهة أخرى، أن ينافس تعاليم الرواقيين، أو الأبيقوريين، الفلسفية - كان عليه أن يتمكن من حيازة عقيدة واضحة ودقيقة. لا بل كان يلزم ذلك لأجل الحفاظ على إيمان اولئك المسيحين الأوائل الذين خيب آمالهم الإنتظار العبثي لملكوت الله الذي بشَّر به الإنجيل على أساس أنه وشيك جداً، والذي كان يُعرف بمجيء المسيح الثاني، أو رجعة المسيح. كان أولئك المتنصِّرون المتحمسون الجدد قد عاشوا على وعد الرسالة الخيرة، وطالما كان المسيح سيظهر بلحمه ودمه، هل كان يهمهم أن يفقهوا سر طبيعته المزدوجة أو سر علاقاته بكلمة الله ؟ صــ46

◄ يمكن إعتبار أن البدع الغنوصية أصلاً أقدم من أصل الهرطقات اليهو - مسيحية. فهي تعود إلى ينابيع مصرية، وكلدانية، وفارسية، وربما حتى هندوسية، ينابيع اختلطت في الإسكندرية، عاصمة تلك الهللينية المنحطة التي شهدت فيلون اليهودي يحجب بِسُحُبٍ متماوجة أنوار الفكر الأفلاطوني الواضح..صــ52

◄ إن تاريخ المانويين غامض بما فيه الكفاية، وبائس جداً، في كل حال، لأنهم تعرضوا في الوقت نفسه لإضطهاد المسيحيين والزرادشتيين، ثم المسلمين في ما بعد. فقد سُلخ رئيسهم حياً، عام 276، لأنه أراد إفساد الزرادشتية، وقد تم ذلك بأمر من ملك فارس، الذي جعل جلده المحشو بالقش يُعرض على أحد أبواب عاصمته. وقد بقيت عبارة "مانوي" تُستخدم زمناً طويلاً في الكنيسة الكاثوليكية للتنديد بالمنشقين الثنويين، ولا سيما البوغوميليين والكاتاريين..صــ60

◄ غالباً ما يجري تصنيف مارسيون، وهو أحد كبار مبتدعي الهرطقات في القرن الثاني، بين الغنوصيين. إلا أنهة لاهوتي أكثر مما هو فيلسوف؛ وهو يبقى في إطار تفسير النصوص التوراتية؛ ولقد أسس، في الواقع ، كنيسة قوية التنظيم بقيت في آسيا الوسطى حتى القرن الخامس..صــ64

◄ تطلق تسمية الإنكراتيين (أي العفة) على الهراطقة الذين كانوا يبالغون بهذا الزهد الذي لا تدينه الكنيسة من حيث المبدأ، لا بل تشجعه ولكنها لا تؤيد مبالغاته. والحال أن الانكراتية لم تكن تشجب فقط تناول اللحم والخمر، بل حتى الزواج..صــ72

◄ إن مفهوم الآريوسية يتمثل في القول أن الله، غير مخلوق، غير مولود، لا بداية له. وكان يقول آريوس انه، بعد طرح ذلك، لا يكون الإبن منبثقاً عن الآب، كما كان يريد فالنتينوس الغنوصي، وليس الابن والآب مختلطين وفقاً لنظرية سابليوس، لأن الإستدلال هكذا يعني أن يجعل من الآب كائناً مركباً، ومنقمساً ومتغيراً، أي جسداً. هذا وقد تأثر آريوس رغم كل شيء بلوغوس فيلون اليهودي حين أعلن :"حين أراد الله أن يخلقنا، صنع أولاً كائناً سماه الكلمة (لوغوس) وحكمة وإبناً، لكي يخلقنا بواسطته. هنالك إذا حكمتان : إحداهما هي حكمة الله الخالصة به وهي توجد معه؛ أما الإبن فقد صُنِعَ في هذه الحكمة، ولأنه من نوعها فهو يدعى حكمة وكلمة، ولكن بالإسم فقط" . وبالتالي فالإبن ليس مساوياً للآب ولا هو مشارك له في الجوهر. أما الثالوث فيتضمن، بحسب آريوس، ثلاثة أقانيم، ولكن هذه الاقانيم جواهر متمايزة ومنفصلة، واكثر مختلفة من حيث طبيعتها. صــ79

نظرية العقيدة النسطورية..

◄ اليس القول ان الكلمة الله، الأقنوم الثاني في الثالوث، أمّاً، تبريراً لجنود الوثنيين الذين يعطون أمهاتٍ لآلهتهم؟! لا يمكن الجسد أن ينجب إلا الجسد، والله، وهو روح خالصة، لا يمكن أن يكون وُلد من إمرأة : لم يتمكن المخلوق من إنجاب الخالق، ومريم لم تلد إلا الإنسان الذي تجسد فيه كلمة الله. لقد تجسد كلمة الله في إنسان فانٍ، ولكنه هو نفسه لم يمت، وهو بعث حياً ذلك الذي تجسد فيه. أنا اعبد الإناء بسبب محتواه، واللباس لأجل ما يغطيه، ما يظهر لي في الخارج بسبب الله المختبيء الذي لا أفصله عنه. صــ93

◄ كانت التحليلات الدقيقة التي انصرف لها أبوليناريوس تبشر بالمونوفيزية، العقيدة التي لا تعترف بأنه يوجد في يسوع المسيح أكثر من طبيعية واحدة ووحيدة، والتي اثار دحضها خلافاتٍ لا تُحصى في القرن الخامس. صــ95

[البدع الهرطوقية في القرون الوسطى]

◄ إن البوغوميلية، التي أبصرت النور في بلغاريا، اكتسبت فيها طابع ديانة وطنية، حاظية حتى بحماية بعض ملوك ذلك البلد، لكن مجمعين للكنيسة البلغارية انعقدا في عامي 1350 و 1353، أدانا هذه الهرطقة والبدع التي كانت ترتبط بها. ويمكن أن نشير، من بين هذه البدع، إلى واحدة كانت تنادي بعري أجدادنا الاولين وبالخصاء، وإلى أخرى كانت تكافح عبادة الأيقونات، وإلى ثالثة كانت تشجع أتباعها على إرتكاب الخطايا لأجل الإستمتاع بالنعمة الممنوحة للتائبين. في غضون ذلك، إجتاح الأتراك بلغاريا وباتت الديانة اليونانية الأرثوذكسية الحصن الوحيد للشعور الوطني. ولم تبق البوغوميلية حية إلا في الاساطير التي تناقلتها إلى اليوم أجيال من الفلاحين. صــ113

◄ لقد كانت الكنيسة الكاتارية منظمة بقوة. فبالإضافة إلى "الكاملين" كان هنالك الاساقفة، الذين يبدو أنه لم تكن لهم غير وظائف إدارية؛ وكان يساعدهم عدد من الشمامسة. لا بل تتحدث وثائق من تلك الفترة عن بابا كاتاري يقيم في بلغاريا، ولكن يبدو أن هنالك خلط مع كلمة pope التي تعني الكهاهن بالبلغارية، تماماً كما بالروسية. وكانت الجماعة الكاتارية تدعي أنها وحدها كنيسة يسوع المسيح، بينما كنيسة روما هي "أما أعمال الفسق" و "بابل الكبرى" ، و "كاتدرائية الشيطان". صــ123

◄ كان المحقق (في محاكم التفتيش) ، بعد أن يتسلم من البابا "رسائل تكليف" ،يختار مقره، ثم يصدر "مرسوم إيمان" يجبر المؤمنين على كشف الهراطقة، و "مرسوم عفو" يمنح مهلة 15 إلى 30 يوماً للمذنبين كي يتراجعوا (عن هرطقتهم) . وفي حال الرفض، هنالك السجن، والحرمان من الطعام، التعذيب إذا اقتضى الأمر. بعد الإستحصال على الإعترافات بهذه الطريقة، كان المحقق، الذي يستعين بكُتّاب وحقوقيين زمنيين، يصدر الحكم الذي كان يتم إعلانه خلال جمعية عامة تسمي "الموعظة العامة". وكان التائبون، الراكعون، يجحدون قناعتهم (الهرطوقية) ويدهم على الإنجيل، ويستمعون إلى قراءة العقوبات التي يتوجب عليهم تنفيذها: صلوات، صيام، هبات للكنائس، حج إلى روما، وسان جاك دور كوموستيل، وسان توما دو كانتربري. وتضاف إلى هذه الأعمال الصالحة العقوبات المساه penitentiae confusibiles : بعد أن يسمع الجاني القداس، حافياً وبالقميص، يجلده الكاهن؛ أو يكون عليه، لمدة من الزمن قد تطول أو تقصر، أو يحمل صليباً أحمر أو أصفر على ردائه، الأمر الذي يعرضه لكل شتائم العامة من الناس. فلنشر أيضاً، من بين العقوبات إلى ما يلي : النفي، مصادرة الأملاك، الإحتجاز الجسدي، أو الحبس مدى الحياة في زنزانة. صــ131

------------------------------------------------------

◄ إن القطيعة بين الكنيستين الشرقية والغربية، التي تحددها كتب التاريخ في العام 1054، كانت قد بدأت قبل هذا التاريخ بكثير، وامتدت ما بعده بزمن طويل، والأمر لا يتعلق بإنشقاق مفاجيء، بحدث معزول، بل بسيرورة تمايز غير محسوسة ولا مفر منها. ويمكن تقريباً إرجاع اصل الإنشقاق إلى العام 330، حين اعطى قسطنطين الكبير اسمه لبلدة بيرنطة المتواضعة، التي جعل منها عاصمة إمبراطورية الشرق الفتية. وقد كانت تلك شهرة سياسية سرعان ما باتت دينية. فمنذ العام 451، كان مجمع خلقيدونية المسكوني يضع أسقف القسطنطينية مباشرة بعد الحبر الاعظم الروماني ويمنحه سلطة على أسقفيات تراقية، وآسية البون. وفي ما بعد، استحصل مطران القسطنطينية على رتبة بطريرك، ثم بطريرك مسكوني. وفي العام 733، فرض سلطته على جنوبي إيطاليا وصقلية، اللتين احتلتهما القوات البيزنطية. وقد كان النزاع محتوماً بين مركزين دينيين يمتلك احدهما قوة مادية لم يكن في وسع الآخر أن يواجهها إلا بسلطة خليفة القديس بطرس، المتنازع فيها. صــ151

◄ لقد استمر تلامذة ابيلار في نشر عقائده، في النصف الثاني من القرن الثاني عشر الذي كان، على الصعيد الفكري، ما يشبه عصر "ما قبل النهضة". وقد كتب الإيطالي بيار لومبار، على غرار sic et non ، اربعة كتب حِكم sentences استعملها تلامذة جبل القديسة جنييف كوجيز زمناً طويلاً . فثمة كانت موجودة، بحسب كلام إينوسان الثالث، "قلعة النظام المقدس المشهورة" ، ومشتل اللهوتيين الذي سوف يتخذ لاحقاً اسم جامعة. وقد استقر هناك فرنسيسكانيون ودومينيكانيون، وازاحوا نهائياً خطر عقلانية ابيلار، عبر إعادة أرسطو، شيئاً فشيئاً، إلى الفكر المسيحي . صــ161

◄ وإذا كان هنالك من شيء مشترك بين الألبيجيين والفوديين، فقد كان حقدهم على التسلط الإكليروسي والبابوي. وكان هذا الحقد يتلازم لدى الفوديين مع حلم المساواة الإجتماعية، ولا ريب أن هذا العنصر الثوري هو الذي أدى إلى اضطهادهم بالقدر نفسه من القساوة التي مورست ضد الاولين. صــ166

◄ مع أن المصلحين الدينيين الكبار في القرن السادس عشر والبروتستانت الاوائل وًُصفوا بالهراطقة وعاملهم الكاثوليك كهراطقة، ومع ان الكنيسة الرومانية لا تزال تطلق هذا التعبير على البروتستانت، لا يسعنا أن نعتبر الطوائف البروتستانتية الكبرى بدعاً. انها كنائس حقيقية تمثل بهذه الصفة سلطة إذا كان البعض يجادل فيها، فالكثيرون يقبلون بها. ولكن بسبب أنها ولدت من مبدأ حرية التفكير، فهي تصطدم، أكثر بكثير من الكنيسة الرومانية، بهجمات غير الإمتثاليين؛ لذا فقد ولَّدت إنشقاقات لا تُحصى، أكانت عقيدية أو طقسية..صــ187

◄ كانت الحرب الرهيبة التي دمرت ألمانيا قد وضعت لوثر في موقف حساس. فبعد أن علق، في العام 1517، أطروحاته الخمس والتسعين، بخصوص صكوك الغفران، على باب مصلَّى قصر ويتنبرغ، شعر المجدد الجسور، المنتشي بنجاح إحتجاجه غير المتوقع، بأنه مدعو لإطاحه "المسيح الدجال الحقيقي الذي يحكم في الإدارة البابوية في روما" . وقد انصرف إلى هذه المهمة بكل حدة مزاجه وكل فظاظة لغته : فالرهبان خنازير، والكهنة حمير والكنيسة بيت دعارة. أكثر من ذلك، لقد دعا إلى العمل العنيف : "إذا كان السارقون يعاقبون بالسيف، والقتلة بحبل المشنقة، والهراطقة بالنار، فلماذا لا تمضون ممتشقين السلاح للقبض على كل اسياد الهلاك الأبدي الأشرار هؤلاء، على البابوات، والاساقفة، والكردالة، وكل عصابة سدوم الرومانية؟". صــ194

◄ لقد ولدت بدعة المورمونيين من إحدى حالات الضلال الأشد غرابة التي أحدثت إنشقاقات مسيحية. ففي العام 1870، صدر في بالماير، في ولاية نيويورك، مجلد بعنوان كتاب مورمون جاء فيه أن قبائل إسرائيل العشر التي لم تعد إلى اليهودية بعد اسر بابل كانت قد هاجرت إلى أمريكا الشمالية وانقمست هناك إلى شعبتين، الزنادقة اللّمنيين، أو الهنود الحمر الأمريكيين، والنيفيين الأتقياء، وقد أبناد اللمنيون هؤلاء، في القرن الرابع بعد الميلاد، ولكن آخر من بقي منهم على قيد الحياة، النبي مورموند، نقش على لوحات ذهبية احتفالات الماضي الباذخة والأحداث القادمة. وقد آمن بهذا الكلام الفارغ قاريء له يُدعى جوزيف سميث ووجد حوله الكثير من الناس الذين آمنوا به بحيث أمكنه أن يجمعهم في جمعية دينية اتخذت في العام 1834 اسم قديسي الأيام الأخيرة...صــ231

◄ كان القرن التاسع عشر، عصر العقلانية، والليبرالية، والإشتراكية، يشكل تهديداً للكنيسة الرومانية أكثر خطورة من الهرطقات القديمة. فالإلحاد كان أسوأ من الإنشقاق، لأن هذا الأخير لم يكن يتخلى عن أكثر من قسم فقط من الإيمان. صــ276

◄ إن البدعة الأشد غرابة، وشهرة و "راهنية" بين البدع هي تلك الخاصة بالـ Skoptsy، أو " اليمامات البيض" ، المتميزة بممارسة الخصاء المنتظمة والدائمة .. لقد قال يسوع : "هنالك الخصيان بالولادة، من أحشاء أمهاتهم؛ وثمة أيضاً خصيان صاروا كذلك بفعل البشر؛ وثمة أيضاً من خصوا أنفسهم بانفسهم بسبب ملكوت السماوات؛ فليفهم من في وسعه الفهم". ولقد فهم الـ Skoptsy ("المخصيون") النص بمعناه الحرفي كما فهموا بالطريقة نفسها الأمر الذي أصدره يسوع من قبل ذلك بقليل، بحسب ما جاء في إنجيل متى : "إذا كانت يدك أو قدمك سبباً لسقوطك، اقطعها وارمِ بهما بعيداً عنك"..صــ319

◄ أياً يكن، فالهرطقة التي استفادت من بقائها زمناً طويلا بدون عقاب، بسبب علاقات زعيمها مع الأوساط العليا، عرفت انتشاراً كبيراً. كانت هنالك كنائس في موسكو، وفي مقاطعات الوسط، والشرق والجنوب، وفي سيبيريا والقوقاز، وفي تامبوف، قطعت نساء أثداءهن، كمثال أول على الخصاء الأنثوي. واستمرت البدعة في كسب الأتباع من كل الطبقات الإجتماعية : فثمة فلاحون، وتجار، ونبلاء، والعديد من ضباط الحرس الإمبراطوري جرى خصاؤهم بطلب منهم. صــ322

◄ كان بعض الـ prygouny، المدعوِّين "أولاد صهيون" يجلدون أنفسهم لتسريع نزول الروح القدس. وكانوا يبشرون بنهاية العالم الوشيكة وبقيام مملكة صهيون، التي تدوم ألف سنة؛ أما رئيس تلك المملكة فكان ينبغي أن يكون يسوع المسيح، الحاظي بمساعدة مؤسس البدعة، الفلاح رودوميوتكين. وكان يحق لكل مؤمن زوجتان فيما كان للرئيس عدة زوجات. ولقد كان يمضي بصحبة اثني عشر رسولاً واعظاً من قرية لاخرى في جنوبي روسيا. وقد تُوَّج ذات يوم "ملكاً على المسيحين" بواسطة جمع هائج. صــ338

◄ كان "شاربو الحليب" يتسموُّن بـ "المسيحيين الروحيين" ، وتشبه عقيدتهم تقريباً عقيدة "مصارعي الروح"، الذين يبدون منبثقين منها. بيد أنهم أقرب إلى المسيحية، لكونهم يولون أهمية أكبر للكتاب المقدس واقل للوحي الداخلي. وهم يقرأون بإنتباه العهدين القديم والجديد، ولكنهم يرفضون كل ما اضافه إليهما آباء الكنيسة، فضلاً عن كل نوع من الطقوسية. لقد كان أحدهم يقول : "إن الـ raskoliniki (المنشقين) يذهبون إلى المحرقة لأجل إشارة الصليب بإصبعين؛ أما نحن فلا نرسم إشارة الصليب بإصبعين ولا نرسمها بثلاثة أصابع، بل نسعى لمعرفة الله بشكل أفضل" . بإختصار ، إن شاربي الحليب بروتستانت الأورثوذكسية الروسية. ألا يقولون بالفعل : "ليس هنالك من حبرٍ غير المسيح، ونحن كلنا كهنة" ؟ صــ348

◄ أياً يكن من العدمية المسيحية، والأناركية الإنجيلية لدى تولستوي، فلقد كان لعقيدته، همها بقيت غامضة - وربما لأنها غامضة جداً - دويِّ كبير في روسيا. لم يكن في وسعها أن تشكل أساساً لبدعة، لأنها على غرار عقيدة سوتاييف، لم تكن تنظم شيئاً، بل كانت تكتفي بالنصح، والوعظ الاخلاقي. لذا وجدت إصغاء أكبر لدى طبقات الأمة المثقفة مما لدى الجماهير الشعبية، المدفوعة دوماً إلى التطبيق العلمي لفكرة ما. لقد كان أنصار تولستوي، في الفترة التي كان رد الفعل البوليسي من جانب اسكندر الثالث قد سحق فيها الإندفاعية الثورية، أفضل ممثلي المثالية الإجتماعية : على الرغم من المغالاة التي كانوا يبلغونها احياناً في "تبسيط" حياتهم، باللبس من دون تصنع، وإحتقار المجاملات، والإمتناع عن اللحم والكحول، عملوا بحماس لنشر عقيدة المحبة الخاصة بمعلمهم، وعلى الصعيد العلمي لمكافحة البؤس والجهل وغياب الأخلاص لدى الطبقات الشعبية. صــ355

◄ لم يكن "الناكرون" يسلِّمون بغير السلطة الذاتية لكل شخص في القضايا الدينية، وكانوا يرفضون، فضلاً عن ذلك، كل شكل من التنظيم الإجتماعي.
. ولكن ثمة سمة نموذجية لديهم هي أن عاداتهم طاهرة : لم يكونوا يشربون الخمر، أو يدخنون، ومن كان يعيش منهم مع إمراة كان يعتبرها كائناً مستقلاً، مساوياً له، وكان يسميها "صديقتي" . هكذا حين أُحضر "ناكر"، مع زوجته وطفلة صغيرة أمام القاضي، ساله هذا : - هل هذه إمرأتك؟ - كلا، ليس هذه امراتي. - ولكنك تعيش معها؟ - أجل ولكنها ليست لي، إنها لنفسها؟ .. عندئذ سأل القاضي المرأة : - هل هذا زوجك؟ - كلا ليس زوجي. - ولكن من يكون إذاً؟ - أنا بحاجة إليه، وهو بحاجة إلي، وهذا كل شيء. ولكن كل منا هو ملك نفسه". - وهل هذه الصغيرة لكما؟ - كلا ، هي من دمنا، ولكنها ليست لنا، هي لنفسها. - أنتما مجنونا، وجلد الخروف هذا الذي ترتدينه هل هو لك؟ - كلا، ليس لي. - لماذا ترتدينه إذا؟ - ارتديه طالما لم تنتزعه مني، كان على ظهر خروف، وهو الآن على ظهري؛ وربما غداً يصبح على ظهرك. كيف تريدني أن اعرف لمن هو؟ أنا لا أملك شيئاً سوى فكري وعقلي. صــ360

◄ إن انعدام التسامح يقوم في أغلب الأحيان على الكبرياء. وهو يدمج في هذه الحالة الغرور والرغبة في السيطرة. وهذان الشعوران أكثر وضوحاً لدى رؤساء الكنيسة أو الجماعة مما لدى المؤمنين البسطاء، الذين تعلمهم الحياة الرحمة، وهما يصلان إلى الذروة لدى مبتدعي الهرطقات، لدى أولئك الذين "ابتدعوا" حقيقة جديدة، والذين تخدع ثقتهم بانفسهم الأعضاء الجدد. ولكنهما متواترات أيضاً وسط أعضاء بدعة..صــ371

◄ لقد أعطانا هراطقة القرون الأولى، بوجه خاص، وأعضاء البدع البروتستانت، المشهد المتنوع لكل ما يمكننا أن ناخذه من الكتب المقدسة ولكل ما يمكننا أن نضيفه إليها. ويا له من إنجيل مسكين، في الحقيقة، يتم الطلب منه بإلحاح، وتشريحه، وهرسه لجعله يوضح ما تركه غامضاً أو لجعله يقول ما لم يقله على الإطلاق ! كم من الموقت المضاع، كم من الرق أو الورق المسوَّد، كم من الشتائم المتبادلة، كم من الدم المراق لإثبات أن يسوع إنسان أكثر مما هو إله أو إله أكثر مما هو إنسان ! فالمجامع تلعن، والرسائل البابوية تعرض، والقرارات البابوية تدين، والمفتشون يعذبون، والمحارق تشوي. وعلى الرغم من التحديدات، على الرغم من القوانين الكنسية، على الرغم من التحريمات، لا تنفك الحقيقة، المنادى بها بتلك الدرجة من الأبهة والإحتفال، تناقش ويعاد نقاشها بإستمرار. صــ374

◄ لقد ظن الفاتيكان أن اصل الإلحاد الحديث يكمن في الليبرالية. وهذه العقيدة الأخيرة (أو بالأحرى النزعة الفكرية) ، التي هاجمها بيوس التاسع، وداراها ليون الثالث عشر، ثم ادانها من جديد بيوس العاشر وبيوس الحادي عشر، هل تتحمل المسؤولية عنه؟ ألم تعترف على العكس للجميع بحق اعتناق المباديء التي يعتبرونها الافضل ؟ والم يسمِّ الكاثوليك الفرنسيون بالذات انفسهم ليبراليين زمناً طويلاً، بالتعارض مع تشدد المعادين للإكليروس؟ وبوجه خاص، ألا نشهد اليوم بالذات تقارباً ضرورياً بين الليبرالية والكاثوليكية؟ ولكن، من وجهة أخرى، ألم تكن الليبرالية خطأ القرن التاسع عشر، وهو خطأ سام ِ ونبيل بلا ريب، ولكنه خطا اياً يكن؟ فهل الإنسان عاقل بما فيه الكفاية بحيث يحترم كل الآراء، حتى تلك التي لا يوافق عليها، ويمتنع عن السعي لفرض الحقائق الوحيدة التي يُجلها على الغير؟ وبإختصار، هل يمكن أن تعيش البشرية من دون مباديء إيمان؟..صــ379 

[فقرات خارجة عن الكتاب .. ذكرها الكتاب لكن بأسلوب آخر ممل]

عن عصور التخلف والظلام..

▬ كان أغلب الغربيين من الأميين السذج، وكانت نسبة الضحالة الفكرية عالية جداً بين سكان أوروبا، وكان اهل أوروبا - في الغالب - قبائل همجية تعيش أسوأ مراحل التاريخ الأوربي كله، وكان مناخ الجهل الفاحش والبدائية يوفر مناخ الطغيان الكنسي، فالكنيسة نشأت لها سلطة كهنوتية في غاية التنظيم، وشملت دول أوروبا، ولذلك فكان لها سطوة وقهر شديدين على الناس، ومن ضمن الأشياء التي إحتكرتها الكنيسة لنفسها هو منع أي شخص من تفسير كتابهم المقدس، بحيث كان حكراً فقط على رجال الإكريلوس والقساوسة أو الباباوات، فأدى ذلك الى ان تحولت الكنيسة عن طريق هذا التسلط إلى ماردٍ جبارٍ طاغٍ ظالمٍ يملك مقومات البقاء ومقومات الإستبداد وعبر المجامع المقدسة تحولت الكنيسة نفسها الى (إله) تحل للناس وتحرم ما تشاء، تنسخ وتضيف إلى الشريعة...إلخ

▬ كانت الكنيسة تملك حق غفران الذنوب، أي أن القسيس هو من يتوسط بينك وبين الله كي يعفو عنك، وتطور هذا الحق بعد ذلك إلى ما يسمى صكوك الغفران، أي أن الجنة توزع وتعرض للبيع في مزادٍ علني، وبجانب هذا الحق كانت تملك حق آخر يسمى أخر الحرمان (أي الحرمان من دخول الجنة).

▬ وما حدث أيضاً في تلك العصور المظلمة شيء بشع وشبح مرعب، وهو ما يسمى بمحاكم التفتيش..كانت تقوم بإنتزاع الناس من بيوتهم في جوف الليل..كانوا الناس يعتلقون لمدار سنين طويلة بلا أدني تهمة او محكامة، وإذا ثبتت الإدانة على أحدٍ كانت تلك المحاكم يصل بها الحد ان تقطعه أشلاء ثم تحرقه بعد ذلك..

▬ كان أول ضحايا محكام التفتيش هم مسلمو الأندلس، بعد ذلك إنتقلت إلى باقي اقاليم في أوروبا، لكن بقيت المحكمة الأمة (كانت تسمى المحكمة المقدسة) في روما ، وكانت مليئة بالسجون المظلمة تحت الأرض، وبغرف التعذيب وآلات لتكسير العظام وسحق الجسم البشري بحيث يدخل الجسم البشري من جهة ويخرج من الجهة الأخرى كتلة من العظام المسحوقة والدماء الممزوجة باللحم المفروم. كانت هناك آلة تسمى التابوت ذات سكاكين حادة تُطبق على الضحية فتمزقه إرباً إرباً، وكانت آلة تعذيب اخرى تسمى الكلاليب، تُغرز في لسان المعذب، ثم تُشد، ثم تُقطعه قطعة ً قطعة، ويفعلون نفس الشيء في أجساد النساء..

▬ نأتي إلى قرارات الحرمان - والتي كانت تُذل الملوك نفسها - بحيث إذا لم يّنقَد الملك للكنيسة، فالويل كل الويل له .. ومن أمثال هؤلاء فريديك، وهنري الرابع الالماني، وهنري الثاني الإنجليزي، ذلوا كل الذٌل حينما تمردوا على الكنيسة، فبالتالي أصدرت ضدهم قرارات حرمان، فراحوا كاشفين عن رؤوسهم وأجسادهم حفاة في الثلج يقف أمام البابا في ساحة المقر الباباوي يبكي ويُبدي الندم والرجوع والتوبة إلى أن يعفو عنه البابا.. وهذا نموذج مختصر من قرارات الحرمان يقول : "بقرار من الملائكة وحكم القديسيين نحرم ونلعن ونصب دُعاءنا على (فلان)، نصب عليه اللعنة وجميع اللعنات المدونة في سفر الشريعة وليكن مغضوباً وملعوناً ليلاً نهاراً ، وفي نومه وصبحه، ملعوناً في ذهابه وإيابه، وخروجه ودخوله، وألا يُتحدث معه بكلمة، أو يُتصل به كتابة ً..، وألا يُقدم له أحداً مساعدة ً ـو معروفاً، والا يعيش معه أحداً تحت سقفٍ واحد، والا يقترب أحد منه على مسافة اربعة اذرع، وألا يقرأ أحدٌ شيء ان جرى به قلمه أو أملاه لسانه.."

▬ عاقبت الكنيسة ثلاث مائة ألف من الناس، أُحرق منهم وهم أحياء 32 ألف..ثم نأتي إلى نماذج أخرى، وهي إضطهاد الكنيسة للعلم، بحيث كان يصل الأمر إلى إحراق العلماء، مثال العالم الفلكي الذي اُحرقت كُتبه العلمية والجغرافية وسُجن حتى الموت " .. أيضاً مارتن لوثر الذي إنتقد صكوك الغفران وسلطان الكنيسة، وعاقبته، لكنه إستطاع أن يُفلت من عقابها (وهو مؤسس المذهب البروتستانتي) .. كذلك أيضاً كان من الذين عوقبوا هو العالم (إسحق نيوتن) على كلامه حول قوانين الطبيعة .. أيضاً (جوردانو برونو) خالف آراء الكنيسة، فأُحرق بسبب نظريته الفلكية .. عالم الفلك (جاليليو جاليلي) هُدد بالقتل بسبب نظريته الفلكية التي دافع فيها بقوة عن نظرية كوبرنيكوس، وقال بدوران الارض حول الشمس، فحكم عليه بالسجن لإرضاء خصومه الثائرين. وفي اليوم التالي خف الحكم إلى الإقامة الجبرية. وتم منعه من مناقشة تلك الموضوعات، وأعلنت المحكمة بأن كتاباته ممنوعة. .. وهذا خلاف آخر حصل بين البابا والملك يوحنا (ملك الإنجليز) بحيث حرمه البابا، وشمل الحرمان الأمة الإنجليزية كلها ! فعُطلت جميع الكنائس عن الصلاة في إنجلترا، ومُنعت عقود الزواج، وكانت تُدفن الجثث بلا صلاة، إلى أن ذُل (يوحنا) أشد الذُل وأقر بخطيئته، وتذلل للبابا فعفى عنه .. كذلك (هنري الرابع) ملك إنجلترا عوقب بقرار حرمان، فركع أمام الفاتيكان في زمهرير الشتاء وقتاً طويلاً إلى أن عفا عنه البابا.

[مقتطفات منوعة]

▬ هناك نظرة مسيحية صوفية تقول بأن تعذيب الجسم وإشقاءه طريق الوصول إلى الله، حيث هجرة الحياة وتعذيب النفس وتحرى المشقة .. كان هناك راهباً يُدعى (مكاريوس) نام ستة أشهر في مستنقع ليقرص جسمه العاري ذُباب سام وكان يحمل دائماً نحو قنطارٍ من الحديد، وصاحب هذا الراهب اسمه (يوسبياس) كان يحمل وزناً ثقيلاً جداً من الحديد، واقام ثلاثة اعوام في بئر نُزح ماءه، تعبداً وتقرباً إلى الله .. الراهب (يوحنا) تَعَبَدَ ثلاث سنين قائماً على رجلٍ واحدة، بحيث كان يتقرب إلى الله بهذا التعذيب، ولم ينم ولم يقعد طوال هذه المدة، فإن تعب جداً اسند ظهره إلى صخرة .. كان بعض الرهبان لا يكتسون دائماً، وإنما يتسترون بشعرهم، ويمشون على أديهم وارجلهم، وكان اكثرهم يسكنون في مغارات السباع والآبار النازحة والمقابر، وياكل كثيراً من الكلأ والحشيش .. كانوا يعدون طهارة الجسم منافية لطهارة الروح، ويتأثمون عن غسل الأعضاء، وازهد الناس عندهم واتقاهم ابعدهم عن الطهارة وأوغلهم في النجاسات والدنس.

▬ يقول الراهب (أتهينس) حاكياً عن سلفه :"إن الراهب (أنتوني) لم يقترف إثم غسل الرجلين طول عمره" .. وكان الراهب (إبراهام) لم يمس وجهه ولا رجله الماء خمسين سنة .. وقال الراهب (الإسكندري) متلهفاً على هذا الماضي : "واسفاه ..لقد كنا في زمنٍ نعد غسل الوجه حراما، فإذا بنا الآن ندخل الحمامات".

▬ كان الرهبان يتجولون في البلاد ويختطفون الأطفال، ويهربونهم في الصحراء والأديرة، وينتزعون الصبيان من جحور امهاتهم ويربونهم تربية رهبانية، وعُرف كبار الرهبان ومشاهير التاريخ النصراني بالمهارة في التهريب، حتى رُوي أن الامهات كن يسترن أولادهن في البيوت إذا رأينا الراهب (أمبروز) .. وكانوا يفرون من ظل النساء، ويتأثمون من قربهن والإجتماع بهن، وكانوا يعتبرون مصادفة المرأة في الطريق او التحدث اليها (حتى لو كانت امه أو زوجته او اخته) تحبط أعمالهم وجهودهم الروحية.

▬ عندهم الزواج دنس يجب الإبتعاد عنه، والعزب اقرب عند الله من المتزوج، وقالوا أن المرأة هي باب الشيطان، وان العلاقة مع المرأة رجس في ذاتها، وأن السمو لا يتحقق إلا بالبعد عن الزواج .. يقول ترتوليان ، ويلقب بالقديس :"ان المراة هي مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان ناقضة لنواميس الله مشوهة للرجل" .. يقول (سوستان) وهو يلقب بالقديس : "إنها شرٌ لابد منه - أي المرأة -وآفة مرغوب فيها وخطرٌ على الاسرة والبيت، ومحبوبة فتاكة ومصيبة مطلية مموهة.

▬ في القرن الخامس الميلادي، إجتمع بعض اللاهوتيين يبحثون ويستاءلون في مجتمع (ماكون) : هل المرأة جُثمان بحت أم أنها جسدٌ ذو روح يناط به الخلاص والهلاك ؟ ، فغلب على آرائهم أنها خلوٌ من الروح الناجية، وليس هناك إستثناء من جميع بنات حواء من هذه الوصمة إلا مريم. .. وعقد الفرنسيون في سنة 586 مؤتمراً للبحث هل تعد المرأة إنساناً أم غير إنسان ؟ وهل لها روح أم ليس لها روح ؟ وإذا كانت لها روح، فهل هذه الروح حيوانية أم إنسانية ؟ وإذا كانت روح إنسانية فهل هي على مستوى روح الرجل أم أدنى منها ؟ ، واخيراً قرروا أنها إنسان ولكنها خُلقت لخدمة الرجل فحسب.

▬ وعند بعض النصارى يرى ان المراة ينبوع المعاصي، وأصل السيئة و الفجور، ويرى ان المراة للرجل باب من ابواب جهنم، تحركه وتحمله على الآثام، ومنها انبجست عيون المصائب على الإنسانية جمعاء ، ولما كانت المرأة - حسب راوية سفر التكوين - هي التي اغرت الرجل بالأكل من الشجرة، فإن النصرانية ناصبت للمرأة العداء بإعتبارها أصل الشر ومنبع الخطيئة في العالم، لذلك فإن عملية الخلاص من الخطيئة لا تتم إلا بإنكار الذات وقتل كل الميول الفطرية والرغبات الطبيعية، والإحتقار البالغ للجسد وشهواته.   

▬ يقول (بونا فنتور) الملقب بالقديس : "إذا رأيتم إمرأة فلا تحسبوا انكم ترون كائناً بشرياً، بل ولا كائناً وحشياً، وإنما الذي ترون هو الشيطان بذاته، والذي تسمعون به هو صفير الثعبان ."

▬ البرلمان الإنجليزي في عهد (هنري الثامن) ملك إنجلترا ، أصدر قراراً يحذر على المرأة أن تقرأ كتاب العهد الجديد (الإنجيل)؛ لأنها تعتبر نجسة.

▬ القانون الإنجليزي حتى سنة 1805 كان يُبيح للرجل أن يبيع زوجته وقد حُدد ثمن الزوجة بستة بنسات.

هناك عوامل أخرى، وهي تحول الكنيسة إلى مؤسسة إقطاعية مادية جشعة، أفرط ثراء فاحشاً، وكانت دائماً تطمع إلى الفوز بالأموال، وشاع الفقر نتيجة ذلك، وكان من جراء ذلك أن انقسم الشعب إلى طبقة السادة وطبقة العبيد .
====================================
▬ في القرن الخامس الميلادي : كان التفاف جمهور المثقفين حول الفيلسوفة هيباتيا يسبب حرجا بالغا للكنيسة المسيحية وراعيها الأسقف كيرلس الذي كان يدرك خطورة هيباتيا على جماعة المسيحيين في المدينة، خاصة وأن أعداد جمهورها كان يزداد بصورة لافتة للأنظار، بالإضافة إلى أن صداقتها للوالي (أوريستوس) الذي كانت بينه وبين أسقف الاسكندرية (كيرلس) صراع سياسي في النفوذ والسيطرة على المدينة. كان أوريستوس مقربا إلى هيباتيا ويكن لها تقديرا كبيرا. كما يقال انه كان أحد تلاميذها، وهو ما يفسر لما كان كيرلس مستاء مما قد يمثله وجود هيباتيا.

وزاد الأمر سوءا أن الأسقف دخل في صراع مع اليهود الموجودين بالمدينة، وسعي جاهداً لإخراجهم منها، ونجح في ذلك إلى حد كبير وذلك بمساعدة أعداد كبيرة من الرهبان، الذين شكلوا ما يمكن تسميته بجيش الكنيسة، ولم يكن باستطاعة الوالي التصدي لهذه الفوضى، بل وتعرض بدوره للإهانة من جانب بعض الرهبان الذين قاموا بقذفه بالحجارة، بعد أن علموا بالتقرير الذي أرسله للإمبراطور متضمناً الفوضى التي جرت بالإسكندرية جراء اشتباكاتهم مع اليهود، ومن ثم تأزمت العلاقة بين المسيحيين وبين الوالي أوريستوس رغم أنه كان مسيحياً أيضا، وسرت الشائعات في المدينة أن سبب هذا العداء بين رجلي الإسكندرية يعود إلى هيباتيا وتأثيرها على حاكم المدينة وهذا لم يكن يعني أن المدينة لن تعرف الهدوء إلا بالخلاص منها.

وكان موتها مأساويا على يد جموع من الغوغاء المسيحيين التي تتبعتها عقب رجوعها لبيتها بعد إحدى ندواتها حيث قاموا بجرها من شعرها، ثم قاموا بنزع ملابسها وجرها عارية تماما بحبل ملفوف على يدها في شوارع الإسكندرية حتى تسلخ جلدها، ثم إمعانا في تعذيبها، قاموا بسلخ الباقي من جلدها بالأصداف إلى أن صارت جثة هامدة، ثم ألقوها فوق كومة من الأخشاب وأشعلوا فيها النيران.
====================================

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS