•
كما أن الإبدان تمرض بفقدان الذاكرة أو اضطرابها، فإن الشعوب تمرض لضياع تاريخها
أو دخول التشويه والتشويش عليه.
• تكتمل
النزعة الطبيعية في التاريخ بالاهتمام بالتعليل، ذلك أن تاريخاً بلا تعليل مجرد
تقويم، فدراسة التاريخ هو دراسة أسباب، إذا كان جمع المادة التاريخية يشكل الخطوة
الأولى، فإن التعليل يشكل الخطوة الأخيرة الحاسمة في كتابة التاريخ.
• لقد أدى
الانقلاب الصناعي إلى تحول الصناعة من النظام المنزلي إلى نظام المصنع، وسيطرة
الآلة على الصناعة، وزيادة كمية الإنتاج وسرعته، وظهور التسويق والتوزيع
بالجملة...
==========================
▬ إزاء
اعتماد التاريخ في استرداده لوقائعه بشكل غير مباشر على ما خلفه الإنسان عبر
مسيرته من آثار، فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال الإلمام بكل الآثار التي تعكس
أفكار، وأفعال الإنسان بأي مكان أو زمان. ومن ثم فالتاريخ لا يتناول الماضي الإنساني،
بقدر ما يتناول الوقائع التي استرعت الانتباه صدفة أو عن عمد، وذلك إذا ما سلمت
وثائقها من عوادي الزمن، لا سيما أن قدراً فقط مما لوحظ في الماضي قد تذكره أولئك
الذين لاحظوه، وأن جزءاً فقط مما تذكر تم تسجيله، بل وأن جزءاً فقط مما قد سجل
حفظه التاريخ، وأن جزءاً من ذلك وصلنا مما ترك يمكن تصديقه، وأن جزءاً من ذلك الذي
يمكن تصديقه هو الذي حفظ، وأن جزءاً من ذلك الذي حفظ يوسعه المؤرخ أو يقصه، لا
سيما أن التاريخ يصنع أربع مرات على الأقل ما بين حده الأول، الذي هو الحدث أو
الواقعة التاريخية، وما بين شكله الأخيرة الذي هو التاريخ، وما من أحد بالطبع
يستطيع أن يؤكد أن "ألحقيقة" التاريخية قد حافظت على صفائها وذاتها عبر
هذه المراحل. ص7
▬ هناك
إجماع ليس بين مؤرخي اليوم فحسب، بل بين كل أهل الفكر، على أن ترديد مقولة التاريخ
يعيد نفسه، وهم كبير وخطأ محض، وسوء فهم للتاريخ، الذي يقوم على الزمن، المرتبط
بالاستمرار والتغير، ومن ثم فالوقائع أو الحوادث التاريخية للأفراد والمجتمعات بل
والحضارات لا يمكن بأي حال أن تتماثل أو تتطابق، أو تتكرر، وهذا ما انتهى إليه
المؤرخ وعالم الاجتماع والفيلسوف العربي ابن خلدون منذ قرون، بفضل ما أوتي من
عبقرية، ونفاذ ملاحظة، ودقة بصيرة، وقدرة نادرة على التأليف والتحليل حتى أنه أوضح
ذلك إيضاحاً لا لبس فيه عندما كتب في هذا الصدد ما نصه" ومن اللغط الخفي في
التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال، بتبدل الأعصار ومرور الأيام،
وهو داء دوي، شديد الخفاء، إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يتفطن له
إلا الآحاد من أهل الخليقة، وذلك أن أحوال العالم والأمم، وعوائدهم ونحلهم، لا
تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر. إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال
من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الأفاق
والأقطار والأزمنة والدول، سنة الله التي قد خلت في عباده. ص15
▬ انفصال
ذات المؤرخ عن الموضوع يعني إلغاء الموضوع، لأن التاريخ ليس مجرد نسخ حرفي لأقوال
الآخرين، وليس مجرد سنوات ولادة ووفاة وحروب متفق عليها. وقد بلغ تأثير الذات في
كتابة التاريخ حداً أن سلم جميع المؤرخين مؤخراً بأن المؤرخ مهما فعل فهو لا يرى
الماضي إلا من وجهة نظره، ومن خلال عصره، أي أنه لا يستطيع التخلي عن مفاهيم
مجتمعه، والآراء السائدة فيه، ورأوا أن في هذا خير للتاريخ والمؤرخين، لأن المؤرخ
بصفته خادماً للجماعة الإنسانية ينبغي أن يكتب تاريخه في صورة ذات معنى وأهمية
لأبناء عصره، وأن الحادث التاريخي ما لم يكن ذا أثر في الحاضر فلا قيمة حقيقية له،
ومن ثم يصبح أشبه بإناء قديم في البيت، كانت له أهمية في حينه أيام كان نافعاً، ثم
تقادم به العهد وتحطم، فلم يعد أكثر من مجرد ذكرى ماضية، ومن الصالح التخلص منه.
ص26
▬ استفاد
التاريخ كثيره من العلوم الإنسانية من التقدم الذي أحرزته العلوم الطبيعية منذ
القرن السابع عشر، والذي كان من أسبابه انتهاج العلوم الطبيعية للمنهج التجريبي،
وظهور فلاسفة شغلوا بالمنهج وعلى رأسهم فرانسيس بيكون، ولوك، وهيوم، وكذا علماء
اهتموا بالموضوع وعلى رأسهم جاليليو وكبلر ونيوتن [...] وقد انعكس هذا التطور
المنهجي على العلوم الإنسانية وبخاصة التاريخ الذي أصبحت دراسته من حيث المنهج
تقوم على جمع أكبر عدد ممكن من الوقائع التاريخية بهدف الوصول إلى أحكام كلية على
غرار ما هو حاصل في العلوم الطبيعية، كذلك أصبحت غاية التاريخ في ظل هذا التطور
المنهجي تتمثل في تزويد الإنسان بأحكام تمكنه من أن يفهم معنى الأحداث الحاضرة في
ضوء خبرته بالماضي، بل وإلقاء الضوء على المستقبل، وذلك على غرار الغاية
البرجماتية "العملية أو النفعية" في العلوم الطبيعية التي تهدف إلى
تسخير الطبيعة لصالح الإنسان، وأخيراً ساهم تأثر التاريخ بتطور مناهج العلوم
الطبيعية في فصل العلم عن الدين، باستبعاد المؤرخون النظرة الأخروية التي تجعل
غاية التاريخ خارج نطاق العالم دائماً إلى العالم الآخر، والبحث عن مساره في نطاق
العالم الحاضر ممثلاً في أفعال الإنسان، وليس لأية قوة غيبية، وهذا على غرار
العلوم الطبيعية التي لم تعد غايتها أغراض لاهوتية. ص28،29
▬ لعل
الدليل القوي على الارتباط بين ظهور البرجوازية والنهضة الأوربية أن المدن
الأوربية، ولا سيما الإيطالية وتحديداً المدن الشمالية - البندقية، جنوة، قسطانيا
- ، التي سيطرت على أسواق التجارة، وحصدت فائض الحركة التجارية النشطة بين الشرق
والغرب بعد الحروب الصليبية، هي المدن التي تحررت من سيطرة الإقطاع قبل غيرها من
المدن الأوربية الأخرى، وهي المدن التي بزغ منها نور النهضة الأوربية. نظراً
لاهتمام البورجوازية بالتعليم، لحاجتها إلى كوادر تقوم على أعمالها الحسابية والمالية
وغيرها من المعاملات، كما اهتمت بتغيير ثقافة المجتمع الأوربي بما يتماشى مع
مصالحها، مما أدى إلى انتشار التعليم العلماني إلى جانب التعليم الديني، واختراع
آلة الطباعة. ص74
▬ مما لا
شك فيه أن العمال كانوا من أكثر شرائح المجتمع معاناة من سرعة الانقلاب الصناعي في
انجلترا على الأقل في مراحله الأولى، لأن كل اختراع، كان يترتب عليه مزيد من
التطور الذي يطرأ على الآلة الصناعية، كان يقابله استغناء عن العمالة. ولهذا، كانت
المخترعات وأصحابها في تلك المرحلة محل كره الجمهور، واضطهاده حتى أن بعض العمال
طاردوا بعض رجال الاختراع أمثال هرجريف، الذي لحق به كثير من الإهانة، والضرب من
الجمهور، حتى اضطر إلى ترك لانكشير بحثاً عن مكان آخر لتجربة آلته. ولم يتوقف
الجمهور عند هذا الحد بل أن بعض العمال هاجم مصانع للنسيج وحطم آلاتها. بيد أن هذه
المقاومة لحركة الاختراع لم تستطع إيقاف تحول الصناعة اليدوي إلى النظام الآلي،
حتى اضطر الجمهور في النهاية إلى قبول الواقع الجديد، وتهيئة حياتهم وموارد رزقهم
بطريقة تتفق مع الظروف المتغيرة. ص196،197
▬ على
الرغم من أن الثورة الصناعية قللت أهمية العامل في الإنتاج وزادت في أهمية الآلات
ونفوذ أصحاب الأعمال، فإنها استلزمت حشد كبيرة من العمال في المصانع ومهدت بذلك
الطريق أمام العمال إلى تنظيم صفوفهم وزيادة اتحادهم وقوتهم. بمعنى أنها إذا كانت
قد أنقصت أهمية العمال كأفراد فإنها عظمت أهميتهم كطبقة كبيرة في المجتمع، فأصبحوا
أقدر على المساومة وعلى استخدام الضغط لتحسين حالهم عن ذي قبل. ص198
▬ أتاحت
الثورة الصناعية للمرأة الإنجليزية فرصة كبيرة لتحسين وضعها بعد أن أتاحت لها فرصة
العمل في المصانع والكسب المستقل عن الرجل، فأخذت سبل العمل تتسع أمامها تدريجياً
حتى صارت منافساً خطيراً للرجل في جميع ميادين العمل. وكان ذلك سبباً في سعادة
الرجل وشقائه في آن واحد، نظراً لزيادة دخل الأسرة وتقليل أعباء الرجل المالية من
جهة. ومن جهة أخرى لانتشار البطالة بين الرجال وانخفاض أجورهم من استمرار تحملهم
مسؤولية رعاية الأسرة وسداد حاجاتها. فعمل المرأة في المصانع زاد من استقلالها
اقتصادياً، ووسع مداركها، وصارت تعتد بنفسها، وأصبح القانون يعترف لها بالمساواة
الفعلية مع الرجل من الوجهة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ص199