• الإنسان
الذي يستجيب إلى المنبهات الفنية يتصرف تجاه الواقع الرؤيوي كما يتصرف الفيلسوف
تجاه الواقع الوجودي. ص81
• السحر
شرط مسبق لأي فن مسرحي. في إطار السحر يُرى المعربد الديونسيسي كواحد من أفراد
"الساتير" وبهذه الطريقة ذاتها ينظر الساتير ذاته إلى الإله ديونيس: فمن
خلال تحوله يحصل على رؤية جديدة خارج ذاته، يرى صورته الأبولية المكملة لحالته.
وبهذه الرؤية الجديدة تكتمل بنية الداراما. ص132
• لقد كان
يوربيدس هو الذي خاص معركة موت الدراما. وكان الجنس الجديد الطالع يُسمى
"الكوميديا الأتيكية الجديدة" وفي رحاب هذه الكوميديا عشات التراجيديا
أيامها الأخيرة، فكانت الكوميديا إثبات على موتها العنيف. ص152
• تعتبر
الغريزة عند الأذكياء من الناس ملكة إبداعية وتأكيدية، بينما يتولى الوعي دورا
نقديا ورادعا. لكن بلنسبة إلى سقراط الغريزة تتحول إلى وعي إبداعي وتمارس دورا
نقديا - تصبح مسخا ناقصا! ما يظهر لنا كائنا عجيبا تنقصه الموهبة الصوفية،
وبالتالي يمكن وصف سقراط بأنه التجسيد الفعلي للكائن اللاصوفي الذي تطورت هويته
المنطقية عن طريق التخصيب المتطور تماما كحال الحكمة الغريزية التي تميز الصوفي.
ص172
• إن الفن
اليوناني، والتراجيديا اليونانية بالدرجة الأولى، حال دون تدهور الميثولوجيا. وكان
على اليونانيين بدورهم تدمير التراجيديا بغية العيش، بعد أن تحرروا من الجغرافيا
الوطنية، دون حواجز تعيقهم عن التحليق الحر بأفكارهم وأخلاقياتهم وأفعالهم. ص251
• إن وجود
الكون والعالم يبدو مبررا فقط باعتبارهما ظاهرة جمالية. ص257
• إذا
أردنا أن نقدر بدقة إمكانيات مجتمع معين، فمن الضروري، لا أن ننظر إلى الموسيقى
التي أبدعها فقط، بل ما أبدعته مخيلته من الأساطير التراجيدية. ص258
• إن الروح
غير الفنية الطفيلية لمذهب التفاؤل السقراطي قد تم نقله عبر الأوبرا وعبر الطبيعة
التجريدية لوجودنا المفرغ من الميثولوجيا، عبر فنٍ غاص حتى مستوى المتعة المحضة،
وسار في دروب حياة تسيرها الأفكار فقط. ص259
▬ إن الوهم
الجميل في عوالم الحلم، الذي متى ما ولد يجعل من كل إنسان فنانًا كاملًا، هو الشرط
الذي برر وجود الفنون البصرية بأنواعها، كما يبرر قسمًا كبيرًا من الشعر.. نحن
نشعر بالسعادة في خوفنا المباشر من الشكل، إذ أن كل الأشكال تخاطبنا، ولا شيء يقف
محايدًا أو يكون زائدًا عن الحاجة. لكن حتى عندما يأتي هذا الواقع الحلم إلينا
مصحوبا بكثير من الشدة، فإننا نبقى ندرك أن هذا مجرد "وهم". هذه هي
تجربتي على الأقل، وفي وسعي أن أسوق لكم الكثير من البراهين على ذلك، ومن ضمنها ما
يقوله الشعراء أنفسهم، إثباتًا لتكراره وسيرورته العادية. كما أن الفلاسفة لديهم
إحساس بأن وراء الألم الذي نعيش فيه عالم ثانٍ مختلف وأشد هدوءًا، ولذلك فإن
عالمنا نحن ما هو إلا وهم. وفي الواقع يقول شوبنهاور إن موهبة رؤية البشر والأشياء
أحيانًا كأطياف أو صور رؤيوية، علامة على إمكانية فلسفية.. وهكذا فإن الإنسان الذي
يستجيب إلى المنبهات الفنية يتصرف تجاه الواقع الرؤيوي كما يتصرف الفيلسوف تجاه
الواقع الوجودي. هذا الإنسان دقيق الملاحظة ويستمتع بما يلاحظه: وذلك لأنه يفسر
الحياة من خلال هذه الصورة، ويعد نفسه للحياة من خلال هذه العمليات. وهي ليست صور
محببة ولطيفة فقط تلك التي يختبرها هو بمثل هذا الفهم الشامل، بل بالقيود الطارئة
والجدية والكئيبة والمحزنة والعميقة، وبداء المصادفة وبالتوقعات المخيفة،
وباختصار، هو يختبرها بكل ما في الحياة من "كوميديا إلهية" ومن ضمنها
الجحيم، حيث تعبر كلها أمام ناظريه، ليس فقط كتيار متحرك - لأنه هو نفسه يعيش
شخصيًا من خلال هذه المشاهد - ومع هذا ليس دون ذلك الشعور الزائل للوهم. ومن
المحتمل أن يكون بوسع كثيرين يتذكرون مثلي أنهم يصرخون في داخلهم تشجيعا لأنفسهم،
وسط مخاطر ومخاوف الحلم، بانتصار قائلين: هذا حلم! وأريد أن أستمر فيه! ص81، 82
▬ تقول
الحكاية القديمة أن الملك "ميداس" بقي زمنًا طويلًا يتربص بسيلينوس
الحكيم، رفيق ديونيس، دون أن يقبض عليه. وحين وقع سلينوس في نهاية المطاف في يده
سأله الملك: ما هو أفضل وألذ شيء للإنسان؟ وقف الرجل العبقري بلا حراك وبقي
صامتًا، متوترًا، حتى أجبره الملك أخيرًا على الكلام، فأطلق الحكيم ضحكةٍ مدوية،
وقال العبارات التالية: "يأ أبناء السلالة البائسة الزائلة، أبناء المخاطر
والصعاب، لماذا تُكرهونني على قول ما قد يكون الأفضل لكم ألا تسمعوه؟ إن أفضل
الأشياء طرًا هو الشيء الذي لا حيلةَ لكم عليه: ألا تولد، ألا تكون. لكن ثاني أفضل
الأشياء لكم هو أن تندثروا في أقرب الأوقات". ص93
▬ ليس
بالإمكان فهم "العفوية" لدى هومر إلا باعتبارها انتصارًا مؤزرًا للوهم
الأوبلي. وهذا أحد الأوهام التي تستخدمها الطبيعية كثيرا لتحقيق غايتها. إن الهدف
الحقيقي محجوب بستار السراب. إننا نمد أيدينا للإمساك بشيء ما، لكن الطبيعة تخدعنا
فتقدم لنا بدلًا منه شيئا آخر يخدم غايتها. لقد كانت "الإرادة" بين
اليونانيين في حالة تأمل عميق وتستعرض عالمها عبر العبقرية وعالم الفن. كانت تريد
رؤية أن يلقى ما تبدعه النجاح والتهليل بجعله يعكس شعورا بالعظمة، بالنظر إلى ذاته
كمستوًى أرفع، دون أن يبدو هذا التأمل مفروضًا عليه فرضًا أو كعقوبة ولوم. في هذه
الدائرة الجمالية كانت تنعكس إبداعات الإرادة بما أنتجته من أفكار متمثلة في آلهة
الأولمبي، وفي إطار هذا الانعكاس الجمالي اضطرمت المعركة بين "الإرادة"
الهيلينية وموهبة العبقري، كتمثيل معادل للموهبة الفنية، للوصول إلى الألم وحكمة
الألم، لكي يشمخ هومر، فنان العفوية شاهدًا على نجاح هذه الإرادة ص97
▬ لو
أَضفنا إلى ذلك أهم ظاهرة طبيعية تميز الشعر القديم: أي صفة التوحيد، بالأحرى
الهوية - التي اعتبروها صفة طبيعية تمامًا - التي تربط بين الشاعر الغنائي
والموسيقي، وهي التي يبدو حيالها شعرنا الغنائي الحديث أشبه بتمثال إله بلا رأس،
يمكن لنا الاستناد إلى ميتافيزيقا الفن المذكور سابقًا، لتفسير مسألة الشعرا الغنائي
كما يلي: إن الشاعر الغنائي كفنان ديونيسي يقرن ذاته بالدرجة الأولى ببساطة مع
الوحدة الأولية (الأزلية) بكل آلامها وتناقضاتها، وبالتالي فهو ينتج صورة هذه
الوحدة الأزلية كموسيقى، بافتراض أن الموسيقى قد صُنفت بدقة بأنها تكرار وقولبة
للعالم. وتحت تأثير الإلهام - الحلم الأبولوني فإن هذه الموسيقى تظهر له مرة
ثانيةً كصورة، كحلم رمزي. وهذا الانعكاس الأولي غير المحسوس للألم الأصلى كموسيقى،
الخالي من الصور والمفاهيم والمستعاد عبر
الوهم، يولد الآن انعكاسًا ثانيًا هو الرمز أو المثال الأعلى. لقد تخلى الفنان عن
ذاتيته في أثناء هذه العملية الديونيسية: إن الصورة التي تظهر له الآن ذاته في
مركز الكون هي مشهد حالم يجسد التناقض الأصلي والألم الأصلي، إلى جانب الفرح
الأصلي للمظهر. ولهذا فإن "الأنا" لدى الشاعر الغنائي تصرخ من أعماق
كينونته: أما ذاتيته/ "الأنا" بالمعنى الحديث لعلم الجمال فمحض تخييل.
حيث يعبر أرخيلوكس، كأول شاعر غنائي في اليونان القديمة، أمام بنات
"ليكامب" عن مشاعر الحب المجنون والاحتقار، فإن هواه ليس وحده الذي يرقص
أمامه بحماسة العرائس. فنحن نرى ديونيس ومينادس كما نرى أرخيلوكس المعربد في حالة
نعاس، وهو على حد قول يوروبيدس في كتابه "تمساء باخوس" يغط في النوم في
المراعي الجبلية تحت آشعة الشمس، والآن، ها هو أبولو يقترب منه ويهمزه بغصن من
الغار. ولذلك، فالسحر الموسيقي الديونيسي للنائم يبدو وهو يطلق لمعات من الصورة لتلك
القصائد الغنائية التي سوف تسمى، حين تبلغ أبهى صورها، نصوصًا تراجيدية وأغاني
الديثرامب الدرامية. ص106، 107
▬ إذا أمكن
لنا رؤية الشعر الغنائي كانتشار لعملية محاكاة الموسيقى في صورة أفكار، فيمكن أن
نسأل: "".كيف ظهرت الموسيقى إذن على صفحة هذه الصور والأفكار؟. إن ذلك
يبدو كالإرادة حسب مفهوم شوبنهاور لكلمة رغبة Will باعتبارها نقيضًا للجمالي، كحالة
تأملية خالصة معدومة الإرادة. هنا ينبغي لنا أن نفرق بقدر المستطاع بين مفاهيم
الجوهر ومفاهيم المظهر: إن الموسيقى في جوهرها يستحيل أن تكون رغبة، لأنها بذلك
تبعتد عن عالم الفن، ما دامت الإرادة تعني ما ليس جماليًا. ومع هذا فهي تتخذ مظهر
الرغبة. ولكي تكون القصيدة الغنائية معبرة عن مظهرها بالصور، يحتاج الشاعر إلى كل
دوافع الانفعال والوجد، من همس الشعور حتى صرخة الجنون. هذا الشاعر الغنائي مكره
على التعبير عن الموسيقى بالإشارات الأبولية، إذ يرى إلى الطبيعة بكاملها، وإلى
ذاته كجزء من الطبيعة، وكأنها رغبة أبدية، حنين أزلي، وتطلع بلا نهاية. لكنه بقدر
ما يفسر الموسيقى من خلال صور، يبقى الشاعر ذاته غارقًا في لجة التأمل الأبولي،
علمًا أن كل ما يراه عبر الوسط الموسيقى قد يكون ممثلًا في حركة طارئة جارفة.
بالتأكيد، لو أنه رأي نفسه وسط هذه الأداة (الموسيقى) ذاتها، فسيرى صورة ذاته
أيضًا في حالة حركة لا تهدأ، وتصبح رغباته، حنينه، تأوهاته، طربه، إشارة رامزة
تنقل له الموسيقى.. إن هذه هي ظاهرة الشاعر الغنائي كمبدع أبولي حيث يتم تفسير
الموسيقى من خلال صورة الإرادة، بينما يبقى الشاعر ذاته في منأى تام عن جشع
الإرادة، بمثابة عين الشمس الصافية التي لا يمكن
حجبها ص116، 117
▬ [...]
لقد اعتمدتُ في هذه المناقشة على منطق أن الشعر الغنائي الذي يقوم على أساس روح
الموسيقى بقدر اعتمادها على الموسيقى ذاتها، في استقلاليتها المطلقة، ليس في حاجة
إلى صور أو أفكار، لكن هذا الشعر يمكنه أن يتقبل الأفكار والصور. الشعر الغنائي لا
يمكنه أن يأتي بجديد لم يتم التعبير عنه في السابق في هذا العالم، جديد يتمتع
بصلاحية عالمية، وذلك داخل عالم الموسيقى الذي أجبر الشاعر الغنائي على استخدام
لغة الصور. لهذا السبب بالذات لا يمكن نقل الرمزية العالمية للموسيقى بصفة حصرية
عبر اللغة، كونها تعبر عن التناقض الأبدي داخل هذه الواحدية الأبدية، وبالتالي فهي
تمثل تمثيلا رمزيا مجالا ينجاوز كل الظواهر ويسبقها. وفي الطرف الآخر في هذه
المقارنة، نجد أن الظواهر بأجمعها ليست سوى إشارات دالة. من هنا فإن اللغة التي
تمثل أداة وإشارة إلى الظواهر لا يمكنها أن تكشف النقاب عن الجوهر الداخلي
للموسيقى، لكنها تبقى دائمًا، حين تحاول محاكاة الموسيقى، على اتصال سطحي معها،
ولا يمكن لأي قدر من البلاغة الغنائية أن يقترب خطوة أخرى من الجوهر الحقيقي
للموسيقى. ص117
▬ إن جوقة
الساتير، مثلها مثل الراعي البسيط في أحدث مراحل عصرنا، هي نتاج الحنين إلى نمط
البدائي وإلى الطبيعة. لكن السؤال هو كم استطاع اليونانيون أن يبقوا على هذا
الإنسان، رجل المراعي؟ وإلى أي حد تلهى الإنسان الحديث بتغنجه وتخنثه بالصورة
المسلية للراعي الحساس وهو يعزف على نايه؟ لقد كانت نظرة اليونانيين إلى الساتير
على أنه ممثل للطبيعة البكر، الطبيعة التي لم تغزها المعرفة بعد، لأن دعائم
الثقافة لم تكن قد تصلبت. ولهذا السبب لم يوحدوا بينه وبين القردة. بالعكس، كان
الساتير عندهم نموذجًا للإنسان، كان التعبير عن أرقى وأقوى مشاعر الإنسان، الكائن
المرح الملهم بسبب قربه من آلهته، وهي صحبة عاطفية تثبت الآلهة من خلالها ما تحس
به من لواعج الألم، كبشائر بالحكمة الصادرة عن كبد الحقيقة، كتعبير عن أمومة
الطبيعة الغامرة ، التي كان اليونانيون معتادين على تبجيلها بروح من الدهشة. إذن
كان الساتير شيئا ملائكيا ومتساميا. وكان يجب أن يكون هكذا بصفة خاصة في نظر
الديونيسي المتألم والكسير النظرة. وكان من المحتمل أن يتلقى الإهانة من الراعي
اللابس حلة مبهرجة: عين الراعي وقعت على هذا الكائن القنوع المتسامي، الذي لا يتقنع
بقناع ولا يعرف الاضطراب، ابن الطبيعة الرائعة بكل صفاتها. عندما أمحى وهم الثقافة
من الإنسان النموذج - إذ هنا بالضبط كشف الإنسان عن نفسه، كما وقف الساتير بلحيته
يمجد الرب، إلهه. ووقف رجل الثقافة في حضرته مرتعدًا في هيئة كاذبة مضحكة. ص126،
127
▬ لقد كان
الكورَس "المشاهد" المثالي بقدر ما كان الناظر الوحيد، الناظر من العالم
المتخيل، هو الواقف على خشبة المسرح. وكما نعلم، كان جمهور المشاهدين حسب مفهومنا
اليوم غير موجود لدى اليونانيين. ففي مسارح اليونايين كان الأشخاص الجالسون في الشرفات،
المبنية على قناطر مركزية بارزة، قدارين على مشاهدة كل المشهد الثقافي المحيط بهم،
وأن يتخيلوا أنفسهم في إطار تأملهم العميق أنهم من أفراد الكورَس. لهذا يجوز لنا
أن ندعو الكورس في تلك البدايات من عهد التراجيديا الأصلي، بأنه حصيلة تأمل
الإنسان الديونيسي في أفكاره الشخصية. ص129
▬ إن ما
يثيره الجو الديونيسي من الإثارة قادر على أن ينقل لجمعٍ غفير من الناس الهبة
الفنية المتمثلة في رؤية الشخص لنفسه محاطا بمجموعة من الناس الذين يعلمون أنهم
متحدون بقوة مع هذا الجو. هذه العملية هي الظاهرة المسرحية الأصلية في تاريخ
الكورس التراجيدي: رؤية الذات تتحول وتعمل كما لو أن صاحبها قد انتقل إلى بدن آخر،
تجسد في إنسان آخر. وهي العملية التي بدأت معها الدراما. وهي مسألة مختلفة عن صاحب
الملحمة الحماسية، الذي لا يتوحد مع صوره بل يرى، كالرسام، هذه الصور خارج ذاته
بعينين مليئتين بالتأمل. وهذا هجر للفردانية باللجوء إلى الحلول في شخصية أخرى.
ص131
▬ في
البداية، في ضوء هذه الرؤية، واعتمادًا على التراث، لم يكن ديونيس، البطل الحقيقي
لخشبة المسرح ومركز الرؤية كلها، موجودًا فعلًا في المرحلة الأولى القديمة من ظهور
التراجيديا، بل كان وجوده متخيلًا كبطل: وهذا يعني أن التراجيديا كانت في الأصل
عبارة عن "كورس" فقط وليس ""دراما". وفي مراحل لاحقة
كانت هناك جهود للبرهنة على أن هذا الإله "ديونيس" حقيقي، وليس مجرد
تجسيد للرؤية الشكلية بإطارها المتخيل في الشكل المرئي للنظر. من هنا انطلقت
الدراما بمفهومها الضيق. وقد أُنيطت بالكورس المنشد للأغاني الديثرامب مهمة تنشيط
مزاجية الجمهور على الطريقة الديونيسية، بحيث أنه عندما يظهر البطل التراجيدي على
الخشبة، لا يرى الجمهور مثلا الرجل المرتدي قناعه بشكل أخرق، بل يرى، وليكن، الشكل
المتولد في داخله كرؤية، نتيجة انحسار رؤيته بتأثير. وإذا كنا نتذكر أدميتوس وهو
يضيع في زحمة التفكير التخييلي، محاولًا أن يتذكر زوجته "ألسستيس" التي
هجرها مؤخرا، وفيما هو غارق تمامًا برؤيته لها - فجأة تظهر أمامه امرأة تشبه
امرأته لكنها متنكرة، وإذا كان بمقدورنا أن نتصور كيف أنه ارتعد فجأة بسبب القلق،
ونتذكر مقارناته المتهورة، وقناعاته الغريزية - عند ذلك نحصل على نظير للشعور الذي
انتاب الجمهور المشاهد، حيث أنه في ذورة الإثارة الديونيسية زُين له أنه يرى إلهه،
مع كل تلك الآلام التي وصفناها سابقًا، يراه وهو يذرع خشبة المسرح. يقوم المشاهد
مُكرها بتفسير كل هذه الصورة للإله وهو يرتعد في داخله أمام هذا البطل المقنع ومن
ثم يذوب حقيقته في وهم اللاحقيقة المرعبة. هذه الحالة هي حالة الحلم (الهذيان)
الأبولي الذي يحتجب بداخله ضوء النهار بحجاب، ليولد أمامنا مكانه بشكل مستمر عالم
جديد، أكثر وضوحًا، عالم يمكن فهمه والتأثر به أكثر من العالم الذي كان في السابق،
مع أنه أكثر احتجابًا. وحسب هذا الفهم يمكن أن نرى تباينًا شديدًا بين الأساليب
التراجيدية: وتصبح اللغة، واللون، والتعبئة وديناميكية الكلام فضاءات تعبيرية
منفصلة تمامًا في مجال الغناء الديونيسي الذي يؤديه الكورس، وأيضًا في عالم الحلم
الأبولي للخشبة. إن الظاهرات الأبولية التي يتجسد من خلالها ديونيس لم تعد الآن
"بحرًا بلا نهاية، ولا لحمة متغيرة في النسيج، أو حياة متوقدة كغناء الكورس.
فهي ليست تلك القوى لتشكل صورة ما، صورة يرى من خلالها التصاقه بإلهه. الآن أصبح
الوضوح والتماسك في الشعر الملحمي يخاطبه من فوق خشبة المسرح. الآن توقف ديونيس عن
الكلام عبر طاقاته الشخصية، وأصبح يتحدث كبطل ملحمي، لغته تكاد تقترب من لغة هومر.
ص134..136
▬ إن ما
يراه يوربيدس في "الضفادع" لأرستفانيس نقاط جدارة ينسبها لنفسه بأنه
تمكن بدوائه الشامل تخليص التراجيديا من تضخمها الطنان، يتجلى في شخوص أبطاله
التراجيديين. فمن حيث الجوهر، رأي المتفرج الآن وسمع نسخة مضاعفة تطابقه تقف على
مسرح يوربيدس، فطار فرحًا بفصاحته. لكن فرحته لم تكتمل: فقد علم يوربيدس الناس كيف
يعبرون عن أنفسهم، كما يقول مفاخرًا في المنافشة بينه وبين أسخيلوس - حول كيف أنه
علَّم الناس على المراقبة والعمل والتفكير بشكلٍ منطقي وبحرفية ومهارة. وفي هذا
التحول في اللغة العادية مهد الطريقة لظهور الكوميديا الجديدة. ذلك أنه من هذه
اللحظة فصاعدًا لم يبق خافيًا كيف يمكن تمثيل مجريات الحياة اليومية على الخشبة،
وما هي المأثورات التي يمكن قولها. لقد لاحت الفرصة للوسطية البرجوازية لكي تتكلم
، بينما كانت لغتها الدرامية في ما مضى لغة أنصاف الآلهة في التراجيديا، أما في
الكوميديا فهي كلمات الساتير الثمل الذي هو نصف إنسان. كان يوربيدس في نظر أرستيفان
(أرستفانيس) جديرًا بالمفاخرة بأنه كان يصور الحياة اليومية، والناس العاديين،
والحياة الدنيوية التي بإمكان أي شخص يتحدث عنها. وإذا كان المجتمع اليوم أصبح
مهتمًا بفلسفة الحياة، ناقلًا ما كان يقوم به من عمل، ومدافعًا بذكاءٍ غير مسبوق
عن قضاياه القانونية، فهذا قد حدث بفضل يوربيدس، والعادات الذكية التي غرسها في
الناس. ص153، 154
▬ يوربيدس،
كشاعر، أحس بالترفع عن جمهور العامة، ما عدا اثنين من المتفرجين: فهو قدم رجل
العامة للمسرح لكنه كان يقيم وزنًا للمتفرجين اللذين نعنيهما كحكمين وحيدين
ومعلمين معنيين بالحكم على إبداعاته الفنية بصفة عامة ومن خلال تقيده بنصائح هذين
الحكمين واتباع إرشاداتهما سعى إلى ترجمة كل عالم الانفعالات والشغف والتجارب التي
أحس أن الجمهور المشاهد يحملها معه، وأفرغها في شخوص أبطاله فوق الخشبة، ناقلًا
لهم عبر بحثه عن لغة جديدة موسيقى لجمهورٍ يمثل مشاهدين جددا. في أصوات هؤلاء فقط
كان يسمع أحكامًا قاطعة حول عمله كما سمع تشجيعهم الذي يعده بالنجاح إذا ما خذله
الجمهور.. كان أحد هذين المشاهدين يوربيدس ذاته: يوربيدس المفكر، وليس الشاعر.
ويمكن القول إن الغنى المميز لموهبته النقدية، التي تضارع عبقرية "ليسنغ، هو
الذي كان يمنحه القدرة على الاستمرار المطرد على الأقل إذا ما واجه احتمال الفشل
في إبداع فن مميز من حيث زخمه وشاعريته. وبهذه الموهبة العظيمة، هذه العبقرية
النقدية الرشيقة، صمد يوربيدس في المسرح مناضلًا في سبيل إعادة اكتشاف الكتاب
الذين سبقوه، عبر كل سطر وكل كلمة كتبوها في روائعهم الفنية. وهذا ما مكنه من
إعادة اكتشاف ما أسهم به كل واحد من هؤلاء المؤلفين العظام من خلال أعمالهم في تثبيت
ما يمكن تثبيته من أسرار التراجيديا الأسخيلية: وقد وجد في كل سطر وكل سمة
تراجيدية شيئًا لا يخضع للقياس، نوعا محددًا من الدقة المخادعة، كما اكتشف في
الوقت عينه عمقًا محيرًا، خلفية مفتوحة على كل الاحتمالات.. لقد رأى يوربيدس أن
أكثر الشخصيات وضوحًا يحمل ذنبًا كالمذنب، متجهًا نحو اللايقين، نحو شيء لا يمكن
الإضاءة عليه. وهذا الغسق ذاته كان يلف بنية المسرحية، معنى الكورس خاصة. وما أكثر
ما استمر مثيرا للشك عنده حل المشاكل الأخلاقية! ويا لكثرة الأسئلة المتعلقة
بمعالجة الميثولوجيا! ويالكثرة شذوذ توزيع الحظ والتعاسة! حتى في اللغة التراجيدية
السابقة وجد الكثير من الأشياء الطاردة أو المحيرة على الأقل. واكتشف بصفة خاصة الكثير
من الإطناب في وصف العلاقات البسيطة، الكثير من اللغة المجازية والتضخيم في رسم
الشخصيات العادية. لقد جلس يوربيدس داخل
المسرح متأملًا طويلَا في قلق، واعترف هو ذاته، كشاهد، أنه لم يفهم هؤلاء الكتاب
الكبار الذين سبقوه. لكن بسبب إيمانه بأن العقل هو المصدر الحقيقي لكل المتع
والإبداع، لجأ مرغمًا إلى التساؤل عما إذا كان أي كاتب غيره قد فكر بما يفكر به هو
الآن، واعترف بانعدام القياس مع ما كتبه. لكن أكثرية الذين درسهم، وأبرز ممثليهم،
اكتفوا للإجابة عن تساؤلاته بمجرد الابتسام. ومع ذلك لم يحصل على إجابة شافية، برغم
كل شكوكه وكل ظنونه، على التساؤل لماذا كان هؤلاء الكتاب العمالقة على حق. وفيما
كان هو غارقًا في هذا الوضع المثير للشفقة هداه تفكيره العميق إلى الشاهد الثاني،
الشاهد الذي لم يكن مثله يفقه التراجيديا فاختار أن يتجاهلها. لكن يوربيدس استطاع،
بضم استنتاجاته إلى أفكار الشاهد الثاني، ومن خلال موقعه المنعزل، أن يشن هجومًا
كاسحًا على أعمال أسخيلوس وسوفوكل - ليس من خلال المناظرات الكلامية بل من موقعه
الشعري، كشاعر، متحدًا المفاهيم التقليدية للتراجيديا بما لديه من مفهومات شخصية.
ص158، 159، 160
▬ إن
يوربيدس هو الممثل صاحب القلب النابض رعبًا والذي يقف شعره خوفًا. وهو يضع الخطة
كمفكر من نمط سقراط ويطبقها كممثل شغوف. إنه فنان نقي عندما يضع الخطة ويطبقها
أيضا. لهذا تأتي تراجيديا يوربيدس مباشرة، رابطة الجأش، ومتقدة، أي تكون باردة جدا
وملتهبة. لكن هذه التراجيديا لا يمكنها بلوغ الأثر الذي تحققه الملحمة الأبولية،
لكنها تمتلك القدرة على إحداث قطيعة مع الاتجاه الديونيسي. وفي هذه الحالة يلزمها،
لكي تحدث أثرا ما، حوافز جديدة تدفعها، حوافز لا تتوفر في تلك الدوافع الجمالية
ولا الأبولية أو الديونسية. هذه الحوافز من طبيعة باردة، أفكار متناقضة، أكثر مما
هي ذات طبيعة تأملية، هي عواطف نارية أكثر مما هي نشوات ديونيسية - وهذه الأفكار
والعواطف مآثر واقعية، ليست بأي حال من الأحوال منغمسة في فضاء الفن. . ما دمنا عرفنا
أن يوربيدس فشل فشلا ذريعًا في مساعيه لبناء التراجيديا على أساس وحيد هو الروح الأبولية،
وأن الغايات غير الديونيسية قد ابتعدت في اتجاه نزعة طبيعية لافنية، فقد صار
باستطاعتنا أن نناقش ظاهرة السقراطية الجمالية، التي تقوم أساسًا على القانون
التالي: "لكي يكون الشيء جميلًا يجب أن يكون مفهومًا" وهو قانون يتوازى
مع مقولة سقراط الشهيرة بأن "الفضيلة ملك المعرفة فقط". ص164
▬ في هذا
المجال يتجاوز الفكر الفلسفي الفن ويضطره للتشبث بقوة بغصن الديالكتيك. لقد انحشر
الاتجاه الأبولي في قوالب المنطق الضيق. وكان هذا يشبه ما حدث ورأيناه في أعمال
يوربيدس، إلى جانب تأويل الديونيسية بمشاعر طبيعية. إن سقراط، البطل الجدلي في
الدراما الأفلاطونية، يذكرنا ببطل يشبهه في مسرح يوربيدس، الذي يجبر على الدفاع عن
أفعاله بنقاشات وحجج مضادة، وبالتالي يغامر بفقدان تعاطفنا التراجيدي معه. إن الذي
يخفق في ملاحظة عنصر التأويل في الجدل، هو العنصر الذي يرقص مهللا لأي نتيجة ولا
يمكنه أن يتنفس إلا في الأجواء الصريحة ومن خلال الوعي، هذا العنصر المتفائل، الذي
غزا ذات يوم عالم التراجيديا، قد نما شيئًا فشيئًا حتى غطى على أصوله اليوربيدية
وأجبره على الانتحار - بانتقاله إلى المسرح البرجوازي. هنا لا بد من الاستشهاد
بأقوال سقراط المأثورة: "الفضيلة هي المعرفة، كل الخطاة يأتون من عوالم
الجهل، الإنسان الفاضل شخص سعيد". هذه العبارات الثلاث المتفائلة هي التي
تحمل موت التراجيديا في طياتها. والسبب هو أن البطل الفاضل يجب أن يكون جدليًا ،
يجب أن يكون هناك ضرورة كرابط واضح بين الفضيلة والمعرفة، بين الإيمان والأخلاق.
إن عدالة أسخيلوس التصعيدية قد تم تقليصها إلى المبدأ البسيط والجريء، أعني مبدأ
"العدالة الشعرية" بما فيه من "عدالة إلهة". ص177، 178
▬ لكن
العلم الآن يسير، نتيجة قوة الوهم فيه، بخطًى حثيثة متجاوزًا العقبات لتحقيق
غاياته، حيث ينهار التفاؤل اللازم للمنطق. ذلك أن محيط الدائرة العلمية يتشكل من
عدد لا يُحصى من النقاط، وحيث يكون مستحيلًا أيضًا معرفة قياس الدائرة بصفة كاملة،
فإن الإنسان النبيل والموهوب يصل بكل تأكيد، حتى قبل أن يبلغ منتصف العمر، محيط
الدائرة ليجد أنه يقف على الحافة محملقًا فيما لا يمكن التعبير عنه. وإذا ما شاء
حظه التعس أن يتفهم هذا الإنسان كيف يلتف المنطق حول ذاته، ويعض ذنبه، يبرز فجر
جديد من أشكال المعرفة، المعرفة التراجيدية، شكل معرفي يحتاج منا، إذا أردنا أن
نتحمله، إلى الحماية والعلاج .. ص186، 187
▬ يمثل
أبولو في نظري تجسيدًا للفكرة العبقرية "مبدأ الفردانية" كسبيل وحيد
للبحث عن الخلاص الحقيقي عبر الوهم. أما سحر الفردانية في صيحة انتصار ديونيس
الصوفية مقطوعة والسبيل مفتوح للوصول إلى أمهات الوجود، إلى جوهر الأشياء. هذا
التعارض الهائل، هذه الثغرة المتوسطة بين الفنون التشكيلية الأبولية وبين الموسيقى
الديونيسية، أصبحت واضحة جدًا عند أحد مفكرينا الأعلام إلى حد أنها دفعته إلى
القول، دون إشارة من الرموز الإلهية الهيلينية، إن تلك الموسيقى كانت مختلفة في
طبيعتها وأصولها عن كل الفنون الأخرى، والسبب هو أن الموسيقى بعكس بقية الفنون لم
تكن نسخة مطابقة تمامًا للظواهر، بل كانت نسخة مباشرة عن إرادة الإرادة ذاتها، وهي
تكامل بين كل المظاهر الطبيعية في هذا العالم وبين تجسيد للشيء بحد ذاته، أي
بالميتافيزيقي. لقد وضع رتشارد فاغنر بصمته موافقًا على هذه الرؤية المهمة للغاية
بالنسبة لكل علم الجمال (الذي يشير بمعناه الجدي إلى بدايات علم الجمال)، معتبرًا
في مقالته عن بيتهوفن أن الموسيقى تمثل لمبادئ مختلفة كليًا عن مبادئ الفنون
البصرية، ولا يمكن قياسها بمقاييس جمالية. مع أن علم الجمال المزيف، إلى جانب
الفنون المضللة والمتحللة، قد نما معتادًا على طلب المزيد، على أساس مفهوم الجمال
السائد في عالم الفنون البصرية، تلك الموسيقى يجب أن تقدم وقعًا يشبه وقع الأعمال
الفنية البصرية - إيقاظ المتعة في الأشكال الجميلة .. ص189، 190
▬ إن الفن
الديونيسي بدوره يريد منا أن نقتنع بالمتعة الخالدة للوجود - لكن شريطة أن نسعى
لتأمين هذه المتعة فيما وراء الظاهرات وليس في الظاهرات ذاتها. هذا الفن يردنا أن
نعتبر بأن كل ما يحدث في الوجود يجب أن يكون معدا لمواجهة مصير مأساوي ما. وهو
يجبرنا على أن نتأمل في الأحداث المرعبة لوجود الفرد، لكن دون أن نتجمد خوفًا. إن
العزاء الميتافيزيقي ينتزعنا للحظات من لُجة التبدلات الشكلية المضطربة. ونصبح
فعلًا ولأمدٍ قصير الجوهر الأول ذاته، ونشعر بالإرادة الجامحة للوجود والاستمتاع
بهذا الوجود. عند ذلك نشاهد الصراعات، والعذاب، والتدمير الذي يلحق بالظاهرات
كضرورة، بوجود حركة التوالد الأبدي لأشكال الوجود التي تتدافع ليشق طريقه إلى
النور، إلى الحياة كحضن للخصوبة الغنية لعالم الإرادة. ص197
▬ تحدثنا
حكاية التراجيديا الإغريقية بكثير من الدقة والوضوح أن الفن التراجيدي اليوناني قد
خرج بالفعل من أعطاف الموسيقى، من جوهرها. ولأول مرة نتمكن بفهمها من إنصاف المغزى
القديم والمذهل للكورس. لكن ينبغي علينا أن نعترف بأن معني الميثولوجيا التراجيدية
لم يكن شفافًا من حيث درجة الوضوح الكلي لمفهومه لدى شعراء اليونان قديمًا من حيث
درجة الوضوح الكلي المفهومه لدى شعراء اليونان قديمًا، ناهيك عن فلاسفتها. لقد كان
أبطال اليونان إلى حد ما يتفوهون بأشياء ويقولون أكثر مما يعملون. لكن الأسطورة لا
ترى ما يكفي من التشيؤ objectification
لعالمها في علم الكلام. إن بنية المشاهد والصورة الماورائية تكشف عن حكمة أعمق من
الحكمة التي يمكن التي يمكن أن يقلها الشاعر نفسه عبر كلماته وأفكاره. ونحن نلاحظ
هذا عند شكسبير، حيث هاملت، على سبيل المثال، يقول أكثر مما يفعل. وبالتالي، إن
العبرة من شخصية هاملت يمكن أن نأخذها ليس مما يهذر به بالضبط، بل مما هو في
التفكير المستغرق الذي يلف أمامه، ومن دراسة المسرحية ذاتها .. فيما يتعلق
بالتراجيديا اليونانية، التي نراها مكتوبة فقط ككلام شفوي، فكما قلتُ سابقًا، إن
التناقض بين الأسطورة والكلمة يمكن أن يكون مضللا ويقودنا بسهولة إلى الاعتقاد
أنها أكثر سطحية وأقل عمقًا مما هي عليه في الواقع، وإلى أن نتوقع أن تكون ذات وقع
سطحي أقوى مما كان يفترض، قياسا على شهادات الأقدمين. ذلك أن من السهل جدًا أن
ننسى أنه بينما كانت جهود الشاعر تخفق في الوصول
بالميثولوجيا إلى حالة روحية راقية المستوى ومثالية، كان هو ينجح دومًا
كموسيقي.. لا شك في أن علينا أن نعيد تركيب قوة الأثر الموسيقي المهيمنة، بطريقة
تقترب من الأسلوب المدرسي، حتى نتمكن من إدراك جزء من العزاء الذي لا يُضاهى، ولا
بد أنه متوفر في التراجيديا الحقيقية. لكن لا يمكن لنا، إلا إذا كنا من
اليونانيين، أن نقدر مدى تأثير تلك الموسيقى الرائعة حق قدرها. بينما في كل
الموسيقى اليونانية - لدى مقابلتها مع الموسيقى الأكثر غنى بما لا يقاس، والتي نعرفها
- يمكن أن نستمع إلى الأغنية الشبابية فقط التي تبدعها العبقرية الموسيقية، ذات
القوة المرخمة. واليونانيون، على حد قول الكهنة المصريين، أطفالٌ خالدون، وهم مجرد
أطفال حتى في فن التراجيديا، حيث يجهلون اللعبة التي ابتكروها، والتي سرعان ما
ستتصدع وتتفتت. ص198، 199
▬ بينما
تبدأ المحنة. القابعة في سكون في رحم الثقافة النظرية بزرع الرعب تدريجيًا في نفوس
الإنسان الحديث، وتجبره على اللجوء مكرهًا إلى ما ادخرته ذاكرته من تجارب علها
تساعده على إيجاد الدواء الناجع الذي يمكن أن يدرأ عنه مخاطرها عليه، برغم عدم
ثقته في هذا الدواء، وبينما يبدأ بتكوين فكرة أولية عن النتائج التي ستترتب على
وضعه المأزوم هذا ، فإن الكثير من الأشخاص المعروفين والبارزين عالميًا، كانوا
يحتمون بدرع العلم ويستخدمونه للكشف عن قصور المعرفة ونزعاتها، وبذلك بدأوا بكل
عزيمة بنفي امتلاك المزاعم العلمية شرعية عامة وأهدافًا عامة. وبهذا السلوك كشف
هؤلاء الغطاء عن التضليل القائم على مبدأ السببية الذي يزين له أن باستطاعته تفسير
جوهر الأمور الفنية ص209
▬ لقد كانت
شجاعة الحكمة الهائلة التي تحلى بها الفيلسوفان "كانت" وشوبنهاور هي
التي حملت بحزم مهمة التصدي وتحقيق الانتصار على التفاؤل الذي يكمن في أعماق
المنطق، الذي يشكل بدوره أساس ثقافتنا وفي حين اعتقدت هذه النزعة المتفائلة في
السابق أن من الحكمة معرفة كل أسرار العالم وفكفكة غموضها، اعتمادًا على مبدأ
الشرعية الأبدية غير الضار في ظاهره، وتعاملت مع عناصر المكان والزمان والسببية
كقوانين شرطية ومشروعة عالميًا، فقد كشف كانت كيف أن هذه العناصر قد استغلت فقط من
أجل تحويل حدود الظواهر، كيف أن كل ما فعلته "مايا"، إلى جوهر فذ وحقيقي
للأشياء، فجعلت بذلك المعرفة الحقيقية لهذا الجوهر أمرا مستحيلا جدا. أو على حد
وصف شوبنهاور، هي أغرقت الحالم في سبات عميق (انظر: العالم رغبة وتمثل). وقد أسهمت
هذه الفكرة في ثقافة أفضّل أن أدعوها بالتراجيدية. وأبرز سمة في هذه الفكرة أن
أسمى هدف لها ما عاد كامنًا في العلم، بل في الحكمة، بعيدًا عن تضليل انحرافات
العلوم المغرية، وأنها تنظر إلى العالم بأكمله بعينٍ ثابتة، وتسعى إلى احتضان
الألم بكل حنو كما لو كان ألمها هي. ص210
▬ هنا
يتوجب عليّ أن أضيف توكيدًا توضيحيًا موازيًا لموقفي بأن الأوبرا تقوم على الأساس
ذاته الذي تقوم عليه ثقافتنا الألكسندرية. فالأوبرا نبتت من بنات أفكار الإنسان
النظري، الإنسان العادي الناقد، وليس الفنان: وهذه إحدى أغرب الحقائق في تاريخ
الفنون جميعها. لقد كان المستمعون غير الموسيقيين حقًا هم الذين طالبوا بأن تكون
الكلمات قبل غيرها مفهومة لديهم. وبذلك فإن ميلاد الموسيقى من جديد يمكن أن يحصل
عندما يتم العثور على طريقة للغناء تكون الكلمات فيها تحلق كنغم مضاف فوق النغم
الأصلي، كما يرتقي السيد فوق عبده. فقد كان هناك شعور بأن الكلمات أنبل من النظام
الهارموني المصاحب مثلما يكون العقل أنبل من الجسد. ومع هذا، فبمثل هؤلاء الهواة،
بمثل هذه الفجاجة البعيدة عن عالم الموسيقى، أصبح سائدًا التعاطي مع البنى
الموسيقية والصورة والكلمة في الأيام الأولى لنشأة الأوبرا. وبمثل هذه الروح من
الجمال كانت دوائر الهواة الأنيقة بين الشعراء والمغنيين تشجع التجارب الأولى
للأوبرا التي يقومون برعايتها.. إن الإنسان غير المتمكن من الفن يخلق لنفسه نوعا
من الفن يطابق الوضع الذي يخلقه من لا علاقة له بالفن الحقيقي. لأن هذا الإنسان
الذي لا يمتلك فكرة عن مكنونات فن الموسيقى الديونيسية، تراه يحول المتعة
الموسيقية إلى عوالم عقلانية من الخطابة التي تجمع بين العبارة والموسيقى
الانفعالية على طريقة الأسلوب التمثيلي وإلى شكل حسي من الموسيقى الصوتية. ولأنه
مفتقد للرؤية فهو يفرض بالقوة على الفنان الآلي والتزييني ليعمل لحسابه. ولأنه
الجوهر الحقيقي للفنان يقع خارج محيط فهمه
تراه يستحضر "الإنسان الأول الفنان" حسب ذائقته الشخصية، ذلك الإنسان
الذي يغني وينشد بعاطفة متقدة. إنه يحلم بنفسه في عصر تكون العاطفة فيه كافية
لتحقيق الإبداع الفني. الأوبرا تقوم على إيمان زائف بخصوص العملية الفنية، الإيمان
الرعوي (الريفي) بأن كل من يمتلك العاطفة فنان. وحسب هذا الإيمان تصبح الأوبرا
تعبيرًا عن الهواية في الفن، التي تُملي قوانينها بمقتضى تفاؤل الإنسان النظري ص216، 217، 218
▬ إن كل من
يريد أن يختبر بدقة كم هو قريب في علاقته من المشاهد الجمالي الحقيقي، أو من مجتمع
البشر الناقدين على مذهب سقراط، في حاجة فقط إلى أن يسأل نفسه بأمانة عن الشعور
الذي يتشكل بداخله كرد فعل تجاه المعجزات التي تعرض على المسرح: ما إذا كان حسه
التاريخي الموجه نحو علة "سببية" نفسية محددة بدقة قد تعرض للإهانة، ما
إذا كان يقر بالمعجزات، بإرادة خيرة أم لا، كظاهرة يفهمها الأطفال، لكن ليس هو، أو
ما إذا كان يستجيب لها بطريقة مغايرة ما. بذلك يمكنه أن يعرف ما إذا كان قادرًا
على فهم الأسطورة، باعتبارها صورة مكثفة للعالم الذي يستحيل، كتعبير مختصر
للظواهر، أن يتحقق دون معجزة. لكن في جميع الحالات، إن كل الذين عرضوا أنفسهم
لاختبار صعب كهذا، سوف يشعرون بانحطاط قيمتهم بسبب الروح النقدية التاريخية
المميزة لثقافتنا، حتى أصبح من المستحيل تصديق الحجة على وجود الأسطورة بشكلها
الأول بالوسائل البحثية وباللجوء إلى التجريد.. مع ذلك، إن كل إنسان تقريبًا في
حاجة إلى أن يسأل نفسه، بعد أن عرض نفسه للنقد القاسي، وسوف يشعر بالامتهان بسبب
الروح النقدية التاريخية لثقافتنا التي ترى أنه ليس إلا من خلال الوسائل التعليمية
يمكن أن تحقق الأسطورة بشكلها الأول مصداقيتها. مع هذا، من دون الأسطورة تفقد
الثقافة برمتها عافيتها وطاقتها الإبداعية الطبيعية. وهذا يعني أن الفضاء المحاط
بالأساطير وحده هو الذي يمكن أن يلعب دورا موحدا لحراكه الثقافي بمجمله. إن
الأسطورة وحدها هي المخلص لكل طاقات الخيال ومعها الحلم الأبولي من طوافها العبثي.
ومن الواجب أن تكون صورة الأسطورة عفاريت حراسة، لا يغيببون عن المكان ولا تراهم
العين، عفاريت يتكفلون بتنمية العقل الناشئ، ويقودون عملية تفسير الإنسان لحياته
ولصراعاته. حتى الدولة ذاتها ليس لديها من القوانين الشفوية ما هو أقدر من أعراف
مؤسسة الميثولوجيا التي تضمن علاقتها بالدين وتعاظمها من خلال عمليات التمثيل
الميثولوجي... لنتصور عند هذا الحد، بطريق المقارنة، الرجل المهتم بالتجريد، دون
مساعدة الأسطورة، وكذلك التعليم المجرد، والأخلاق المجردة، والعدالة المجردة،
والدولة المجردة. دعونا نتخيل عملية الانتقال
غير المشروع، غير المسيطر عليه
للأسطورة الوطنية، للخيال الفني. ولنتخيل أيضًا وجود ثقافة بلا موقع أزلي آمن
وقدسي لها، ثقافة محكوم عليها ببذل كل ما لديها من جهد والعيش على فضلات الثقافات
الأخرى - هنا بالضبط سوف نعثر على عصرنا الحالي، الذي هو نتاج الفكر السقراطي
المنكب على مسألة تدمير الميثولوجيا. وههنا يقف الإنسان، مجردًا من سلاح الأسطورة،
وهو يتضور جوعًا إلى الأبد، يهيم وسط العصور التاريخية القديمة، وهو ينبش وينبش
بحثًا عن الجذور، حتى وإن كانت هذه الجذور في أعمق أعماق الزمن الغابر. ... ص246، ..248
▬ هنا
يتحتم علينا أن نخطو خطة جريئة نحو ميتافيزيقا الفن، مكررين ما أكدنا عليه سابقًا
بأن وجود الكون والعالم يبدو مبررا فقط باعتبارهما ظاهرة جمالية. وبالتالي يجب على
الميثولوجيا التراجيدية أن تكون مقنعة لنا بأنه حتى البشاعة والتنافر عبارة عن
لعبة فنية، تلعبها إرادة الإرادة مع نفسها في إطار غمرة سعادتها المفرطة السرمدية.
لكن هذه الظاهرة البدئية والصعبة للفن الديونيسي، لا يكون مفهومًا ويمكن الإمساك
بها إلا من خلال المغزى الرائع للتنافر
الموسيقي، تمامًا كما أن الموسيقى وحدها، التي تأتي في المحل الثاني بعد العالم،
يمكن أن تزودنا بفكرة عما يمكن أن نفهمه عن طريق "تبرير وجود العالم على أسس
جمالية". إن المتعة التي توفرها لنا الميثولوجيا التراجيدية تصدر عن الأصل
ذاته الذي يتيح لنا الاستمتاع باستعياب التنافر الموسيقي. إن الفن الديونيسي، بما
فيه من متعة أزلية متاحة حتى في الألم ذاته، هذا الفن هو الحاضنة المشتركة
للموسيقى والميثولوجيا التراجيدية. ص257، 258
▬ أيها
الأصدقاء، يا من آمنتم بالموسيقى الديونيسية، كلكم تعرفون كم نحن نحب التراجيديا.
ففي رحاب التراجيديا التي وُلِدت مجددا من رحم الموسيقى نجد الأسطورة التراجيدية -
ومع هذه التراجيديا قد تأملون في الوصول إلى أي شيء ونسيان كل الآلام. غير أن أسوأ
هذه الآلام بالنسبة إلينا، في هذا التدهور الذي استغرق زمنًا طويلًا، هو ذاك الذي
عاشته الروح الألمانية بعيدة عن موطنها، فكانت خادمًا لأقزام شريرين. وأرجو أنكم
تستوعبون ما أقول - كما ستتفهمون في نهاية المطاف ما أطمح إليه من آمال. ص260
1 التعليقات:
مكتبة اهل الحق والإستقامة ..موقع يهتم بنشر الكتب القيمة في مختلف الجوانب (فقه..عقيدة..تار يخ...الخ) فما عند الإ باضية من نتاج فكري
https://maktaba-ibadia.blogspot.com/
إرسال تعليق