في الشعر الجاهلي (طه حسين)





بعضاً من مقولاته فى الكتاب..

• إن الكثرة المطلقة مما نسميه الشعر الجاهلي ليست من الشعر الجاهلي فى شىء .
• لو أن الإنسان خُلقَ كاملاً لما احتاج إلى أن يطمع فى الكمال .
• مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تُلتمس فى القرآن لا فى الشعر الجاهلي .
• رُوى عن أبى عمرو بن العلاء أنه كان يقول : ما لسان حِمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا .

فى سنة 1926 أصدر طه حسين تلك المحاضرات فى كتاب بعنوان : "فى الشعر الجاهلي" فى طبعة لدار الكتب المصرية. فكان له صدى عظيم فى الأوساط الفكرية والأدبية. وكان سبباً فى إثارة ضجة، لم يعرف لها تاريخ الأدب العربي المعاصر مثيلاً لها. وكان المحرك لهذه الضجة أسباب عديدة، دينية وعلمية، وبالخصوص سياسية... ولما إشتدت سنة 1927 الحملة العنيفة على طه حسين ظهر الكتاب من جديد بعنوان "فى الأدب الجاهلي" بعد حذف ما كان سبباً فى إثارة الضجة. ولكنه أُجبر على الإستقاله من الجامعة. وبعد ملاحقات قانونية كانت لها أطوارها، أنصفت العدالة المصرية لطه حسين. ولم يلبث أن عاد الدكتور إلى الجامعة المصرية، ليس أستاذاً للأدب فقط بل عميداً لكلية الآداب.

[تمهيد]

◄ هذا نحو من البحث عن تاريخ الشعر العربى جديد، لم يألفه الناس عندنا من قبل. وأكاد أثق بأن فريقاً منهم سيلقونه ساخطين عليه، وبأن فريقاً آخر سيزورّون عنه ازورارا. ولكنى على سخط اولئك وازورار هؤلاء أريد أن أذيع هذا البحث، أو بعبارة أصح أريد أن اقيده، فقد أذعته قبل اليوم حين تحدثت به إلى طلابي فى الجامعة. وليس سراً ما يُتحدث به إلى أكثر من مائتين. ولقد إقتنعت بنتائج هذا البحث اقتناعاً ما أعرف أنى شعرت بمثله فى تلك المواقف المختلفة التى وقفتها من تاريخ الأدب العربى، وهذا الإقتناع القوى هو الذى يحملنى على تقييد هذا البحث ونشره فى هذه الفصول، غير حافل بسخط الساخطين ولا مكترثٍ بإزورار المزوَرّ. وأنا مطمئن إلى أن هذا البحث وإن أسخط قوما وشق على آخرين، فسيرضى هذا الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم فى حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة الحديثة وذخر الأدب الجديد . صـ13

من خلال حديثه عن ما أسميه (البحث فى دائرة القلق والشك...)

◄ وأول شىء أفجؤك به فى هذا الحديث هو أننى (شككت) فى قيمة الشعر الجاهلي والححت فى الشك، أو قل الح علىّ الشك، فأخذت أبحث وأفكر وأقرأ وأتدبر، حتى انتهى بى هذا كله إلى شىء إن لم يكن يقيناً فهو قريب من اليقين. ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعراً جاهلياً ليست من الجاهلية فى شىء، وإنما هى (منتحلة) مختلقة بعد ظهور الإسلام، فهى إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم أكثر مما تمثل الجاهليين. واكاد لا اشك فى أن ما بقى من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جداً لا يمثل شيئاً ولا يدل على شىء، ولا ينبغى الإعتماد عليه فى استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي. وأنا أقدر النتائج الخطرة لهذه النظرية، ولكن مع ذلك لا أتردد فى إثباتها وإذاعتها، ولا اضعف عن ان أعلن اليك وإلى غيرك من القرّاء أن ما تقرؤوه على أنه شعر أمروء القيس او طرفة أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء الناس فى شىء؛ وإنما هو إنتحال الرواة أو إختلاق الأعراب أو صنعة النحاة أو تكلف القصاص أو إختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين .. وانا أزعم مع هذا كله أن العصر الجاهلي القريب من الإسلام لم يضع، وأنا نستطيع أن تصوره تصوراً واضحاً قوياً صحيحاً. ولكن بشرط ألا نعتمد على الشعر، بل على القرآن من ناحية، والتاريخ والأساطير من ناحية أخرى . صــ19 ، 20

[منهج البحث]

◄ أريد ان أريح الناس من هذا اللون من الوان التعب، وأن أريح نفسى من الرد والدفع والمناقشة فيما لا يحتاج إلى مناقشة. وأريد أن أقول انى سأسلك فى هذا النحو مسلك المحدثين من أصحاب العلم والفلسفة فيما يتناولون من العلم والفلسفة. وأريد أن اصطنع فى الأدب هذا المنهج الفلسفى الذى استحدثه (ديكارت) للبحث عن حقائق الأشياء فى أول هذا العصر الحديث. والناس جميعاً يعلمون ان القاعدة الأساسية لهذا المنهج هى أن يتجرد الباحث من كل شىء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلواً تاماً. والناس جميعاً يعلمون أن هذا المنهج الذى سخط عليه أنصار القديم فى الدين والفلسفة يوم ظهر، قد كان من أخصب المناهج وأقومها واحسنها أثرا، وأنه جدد العلم والفلسفة تجديدا، وأنه غير مذاهب الأدباء فى أدبهم والفنانين فى فنونهم، وأنه هو الطابع الذى يمتاز به هذا العصر الحديث . صــ23

◄ نعم! يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربى وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها، وأن ننسى ديننا وكل ما يتصل به، وأن ننسى ما يضادّ هذه القومية وما يضاد هذا الدين؛ يجب ألا نتقيد بشىء ولا نذعن لشىء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح. ذلك أنّا إذا لم ننس قوميتنا وديننا وما يتصل بهما فسنضطر إلى المحاباة وإرضاء العواطف، وسنغل عقولنا بما يلائم هذه القومية وهذا الدين. وهل فعل القدماء غير هذا ؟ وهل افسد علم القدماء شىء غير هذا ؟ كان القدماء عرباً يتعصبون للعرب، أو كانوا عجماً يتعصبون على العرب؛ فلم يبرأ علمهم من الفساد فأسرفوا على أنفسهم وعلى العلم؛ ولأن المتعصبين على العرب غلو فى تحقيرهم وإصغارهم فأسرفوا على أنفسهم وعلى العلم أيضاً . كان القدماء مسلمين مخلصين فى حب الإسلام، فأخضعوا كل شىء لهذا الإسلام وحبهم إياه، ولم يعرضوا لمبحث علمى ولا لفصل من فصول الأدب أو لون من ألوان الفن إلا من حيث إنه يؤيد الإسلام ويعزه ويعلي كلمته. فما لاءم مذهبهم هذا أخذوه، وما نافره أنصرفوا عن إنصرافا. أو كان القدماء غير مسلمين : يهودا ً أو نصارى أو مجوساً أو ملحدين أو مسلمين فى قلوبهم مرض وفى نفوسهم زيغ، فتأثروا فى حياتهم العلمية بمثل ما تأثر به المسلمون الصادقون : تعصبوا على الإسلام ونحوا فى بحثهم العلمي نحو الغض منه والتصغير من شأنه، فظلموا أنفسهم وظلموا الإسلام وأفسدوا العلم وجنوا على الإجيال المقبلة . ولو أن القدماء إستطاعوا ان يفرقوا بين عقولهم وأن يتناولوا العلم على نحو ما يتناوله المحدثون لا يتأثرون فى ذلك بقومية ولا عصبية ولا دين ولا ما يتصل بهذا كله من الأهواء، لتركوا لنا أدباً غير الأدب الذى نجده بين أيدينا، ولأراحونا من هذا العناء الذى نتكلفه الآن. ولكن هذه طبيعة الإنسان لا سبيل الى التخلص منها. وأنت تستطيع  أن تقول هذا الذى نقوله فى كل شىء. فلو أن الفلاسفة ذهبوا فى الفلسفة مذهب (ديكارت) منذ العصور الأولى، لما احتاج (ديكارت) إلى أن يستحدث منهجه الجديد. ولو أن المؤرخين ذهبوا فى كتابة التاريخ منذ العصور الأولى مذهب (سينيوبوس) لما احتاج (سينيوبوس) الى أن يستحدث منهجه فى التاريخ. وبعبارة أدنى إلى الإيجاز : لو أن الإنسان خُلق كاملاً لما احتاج الى أن يطمع فى الكمال . صــ24 ، 25

[مرآة الحياة الجاهلية]

◄ قلت : ان القرآن أصدق مرآة للحياة الجاهلية. وهذه القضية غريبة حين تسمعها؛ ولكنها بدهية حين تفكر فيها قليلاً. فليس من اليسير أن نفهم أن الناس قد أُعجبوا بالقرآن حين تُليت عليهم آياته إلا أن تكون بينهم وبينه صلة هى هذه الصلة التى توجد بين الأثر الفنى البديع وبين الذين يعجبون به حين يسمعونه أو ينظرون إليه . وليس من اليسير أن نفهم أن العرب قد قاوموا القرآن وناهضوه وجادلوا النبى فيه إلا أن يكونوا قد فهموه ووقفوا على أسراره ودقائقه . وليس من اليسير بل ليس من الممكن أن نصدق أن القرآن كان جديداً كله على العرب. فلو كان كذلك لما فهموه ولا وعوه، ولا آمن به بعضهم ولا ناهضه وجادل فيه بعضهم الآخر. إنما كان القرآن جديدا فى أسلوبه، جديداً فيما يدعون إليه، جديداً فيما شرع للناس من دين وقانون، ولكنه كان كتاباً عربياً؛ لغته هى اللغة العربية الأدبية التى كان يصنعها الناس فى عصره، أى فى العصر الجاهلي. وفى القرآن ردّ على الوثنين فيما كانوا يعتقدون من الوثنية، وفيه ردّ على اليهود، وفيه ردّ على النصارى، وفيه رد على الصابئة والمجوس. وهو لا يرد على يهود فلسطين، ولا على نصارى الروم، ومجوس الفرس، وصابئة الجزيرة وحدهم، وإنما يرد على فرق من العرب كانت تمتثلهم فى البلاد العربية نفسها، ولولا ذلك لما كانت له قيمه ولا خطر، ولما حفل به أحد من أولئك الذين عارضوه وأيدوه، وضحوا فى سبيل تأييده ومعارضته بالأموال والحياة.. صــ28 ، 29


◄ نقول أن هذا الشعر الجاهلي لا يُمثل اللغة الجاهلية.. أما الرأى الذى اتفق عليه الرواة أو كادوا يتفقون عليه فهو أن العرب ينقسمون إلى قسمين : قحطانية منازلهم الأولى فى اليمن، وعدنانية منازلهم الأولى فى الحجاز. وهم متفقون على أن القطحانية عرب منذ خلقهم الله فُطِروا على العربية فهم العاربة، وعلى أن العدنانية قد اكتسبوا العربية اكتسابا؛ كانوا يتكلمون لغة أخرى هى العبرانية أو الكلدانية، ثم تعلموا لغة العرب العاربة فمحت لغتهم الأولى من صدورهم وثبتت فيها اللغة الثانية المستعارة. وهم متفقون على أن هذه العدنانية المستعربة إنما يتصل نسبها بإسماعيل بن إبراهيم. وهم يرون حديثاً يتخذونه أساساً لكل هذه النظرية، خلاصته أن اول من تكلم بالعربية ونسى لغة أبيه إسماعيل بن ابراهيم . صـ36 ، 37

◄ للتوراة ان تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين فى التوراة والقرآن لا يكفى لإثبات وجودهما التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القصة التى تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها. ونحن مضطرون إلى أن نرى فى هذه القصة نوعاً من الحيلة فى إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى. وأقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو هذا العصر الذى أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية ويبتنون فيه المستعمرات. فنحن نعلم أن حروباً عنيفة شبت بين هؤلاء اليهود المستعمرين وبين العرب الذين كانوا يقيمون فى هذه البلاد، وانتهت بشىء من المسالمة والملاينة ونوع من المحالفة والمهادنة. فليس يبعد أن يكون هذا الصلح الذى استقر بين المغيرين وأصحاب البلاد منشأ هذه القصة التى تجعل العرب واليهود أبناء أعمام، لا سيما وقد رأى أولئك وهؤلاء أن بين الفريقين شيئاً من التشابه غير القليل؛ فأولئك وهؤلاء ساميون . صـ38

◄ ليس هناك ما يمنع قريشا من أن تقبل هذه الاسطورة التى تفيد أن الكعبة من تأسيس اسماعيل وإبراهيم، كما قبلت روما قبل ذلك ولأسباب مشابهة أسطورة أخرى صنعها لها اليونان تثبت أن روما متصلة بإينياس ابن بريام صاحب طروادة . صـ41

[الشعر الجاهلي واللهجات]

◄ فنحن إما نؤمن بأنه لم يكن هناك إختلاف بين القبائل العربية من عدنان وقحطان فى اللغة ولا فى اللهجة ولا فى المذهب الكلامي؛ وإما أن نعترف بأن هذا الشعر لم يصدر عن هذه القبائل وإنما حُمل عليها حملاً بعد الإسلام. ونحن إلى الثانية أميل منها إلى الأولى، فالبرهان القاطع قائم على أن إختلاف اللغة واللهجة كان حقيقة واقعة بالقياس إلى عدنان وقحطان، يعترف القدماء أنفسهم بذلك كما رأيت أبا عمرو بن العلاء، ويثبته البحث الحديث . صـ45

◄ أليس من الممكن أن تكون قصة ابن عباس ونافع بن الأزرق قد وضعت فى تكلف وتصنع لغرض من هذه الأغراض المختلفة التى كانت تدعو إلى وضع الكلام وإنتحاله، لإثبات أن الفاظ القرآن كلها مطابقة للفصيح من لغة العرب، أو لإثبات أن عبد الله بن عباس كان أقدر الناس على تأويل القرآن وتفسيره ومن أحفظهم لكلام العرب الجاهليين ؟ وأنت تعلم ان ذاكرة ابن عباس كانت مضرب المثل فى القرن الثانى والثالث للهجرة .. صـ51

[السياسة والدين والقصص والأساطير وإنتحال الشعر]

◄ يستطيع الكاتب فى التاريخ السياسي أن يضع كتاباً خاصاً ضخماً فى هذه العصبية بين قريش والأنصار فى حياة المسلمين أيام بنى أمية، لا نقول فى المدينة ومكة ودمشق، بل نقول فى مصر وأفريقيا والأندلس. ويستطيع الكاتب فى تاريخ الأدب أن يضع سفراً مستقلاً فيما كان لهذه العصبية بين قريش والأنصار من التأثير فى شعر الفريقين الذى قالوه فى الإسلام، وفى الشعر الذى انتحله الفريقان على شعرائهما فى الجاهلية. هذا دون ان يتجاوز المؤرخ السياسى أو الأدبى الخصومة بين قريش والانصار، فكيف إذا تجاوزها إلى الخصومة بين القبائل الأخرى!ذلك أن العصبية لم تكن مقصورة على أهل مكة والمدينة، ولكنها تجاوزتها إلى العرب كافة ... صــ76

◄ نستطيع أن نتصور هذه القبائل العربية فى هذا الجهاد السياسي العنيف، تحرص كل واحدة منها على أن يكون قديمها فى الجاهلية خير قديم، وعلى أن يكون مجدها فى الجاهلية رفيعاً بعيد العهد. وقد أردات الظروف أن يضيع الشعر الجاهلي، لأن العرب لم تكن تكتب شعرها بعد، وإنما كانت ترويه حفظاً. فلما كان ما كان فى الإسلام من حروب الردة ثم الفتوح ثم الفتن، قُتل من الرواة والحفاظ خلق كثير. ثم اطمأنت العرب فى الأمصار أيام بنى أمية وراجعت شعرها، فإذا أكثره قد ضاع، وإذا اقله قد بقى. وهى بعد فى حاجة إلى الشعر تقدمه وقودا لهذه العصبية المضطرمة. فإستكثرت من الشعر وقالت منه القصائد الطوال وغير الطوال ونحلتها شعراءها القدماء . صــ77

◄ ونوع آخر من تأثير الدين فى إنتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين، وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي بان يجب أن يكون صفوة بنى هاشم، وأن يكون بنو هاشم صفوة بنى عبد مناف، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بنى قصي وان تكون قصي صفوة قريش، وقريش صفوة مضر، ومضر صفوة عدنان، وعندنا صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانية كلها ...صــ84

◄ نستطيع أن نتفهم ما يروى من أن النبى أنشد شيئاً من شعر أمية بن ابي الصلت فيه دين وتحنف فقال : "آمن لسانه وكفر قلبه" . آمن لسانه لأنه كان يدعو إلى مثل ما كان يدعو إليه النبي؛ وكفر قلبه لأنه كان يظاهر المشركين على صاحب هذا الدين الذى كان يدعو إليه. فأمره كأمر هؤلاء اليهود الذين ايدوا النبى وواعدوه، حتى إذا خافوه على سلطانهم السياسى والإقتصادى والدينى ظاهروا عليه المشركين من قريش . صـ97

◄ وليس من شكٍ عندنا فى أن هؤلاء القصّاص من المسلمين قد تركوا آثاراً قصصية لا تقل جمالاً وروعة وحسن موقع فى النفس عن "الإليَاذة" و "الأوُدِسّا" . وكل ما بين القصص الإسلامى واليونانى من الفرق هو أن الأول لم يكن شعراً كله وإنما كان نثراً يزينه الشعر من حين إلى حين بينما كان الثانى كله شعراً، وأن الأول لم يكن يلقيه صاحبه على أنغام الموسيقى بينما كان القصص اليونانى يعتمد على الأداة الموسيقية إعتمادا ما، وان الاول لم يجد عناية المسلمين مثلما وجد الثانى من عناية اليونان؛ فينما كان اليونان يقدسون "الإليَاذة" و "الأوُدِسّا" ويعنون بجمعها وترتيبها وروايتهما وإذاعتهما عناية المسلمين بالقرآن، كان المسلمون مشغولين بالقرآن وعلومه عن قصصهم هذا . صــ103

◄ مهما يكن من شىء، فإن هذه المصادر (عربية، وغير عربية) كلها كانت تطلق السنة القصاص بما كانوا يتحدثون به إلى سامعيهم فى الأمصار . وأنت تعلم أن القصص العربى لا قيمة له ولا خطر فى نفس سامعيه إذا لم يزنه الشعر من حين إلى حين . ويكفى أن تنظر فى "الف ليلة وليلة" وقصة عنترة وما يشبهها ... وأكاد لا اشك فى أن هؤلاء القصَاص لم يكونوا يستلقون بقصصهم ولا بما يحتاجون اليه من الشعر فى هذا القصص، وإنما كانوا يستعينون بأفراد من الناس يجمعون لهم الأحاديث والأخبار ويلفقونها، وآخرين ينظمون لهم القصائد وينسقونها. ولدينا نص يبيح لنا أن نفترض هذا الفرض؛ فقد يحدثنا الإسلام أن ابن اسحاق كان يعتذرعما كان يروى من غناء الشعر فيقول : لا علم لي بالشعر إنما أوتى به فأحمله. فقد كان هناك قوم إذن يأتون بالشعر وكان هو يحمله... صــ107

◄ كل ما يُروى عن عاد وثمود وطَسم وجّدِيس وجُرْهُم والعماليق موضوع لا أصل له .. وكل ما يُروى من تُبّع وحمير وشعراء اليمن فى العصور القديمة، وأخبار الكهان، وما يتصل به بسيل العرم وتفرق العرب بعده موضوع لا أصل له .. وكل ما يُروى من أيام العرب وحروبها وخصوماتها وما يتصل بذلك من الشعر خليق أن يكون موضوعا. والكثرة المطلقة منه موضوعة من غير شك .. وكل ما يُروى من هذه الأخبار والأشعار التى تتصل بما كان بين العرب والأمم الأجنبية من العلاقات قبل الإسلام كعلاقاتهم بالفرس واليهود والحبشة خليق أن يكون موضوعا. وكثرته موضوعة من غير شك .. ولسنا نذكر شعر آدم وما يشبهه فنحن لم نكتب هذا الكتاب هازلين ولا لاعبين ... صـ117

◄ ولعل أهم المؤثرات التى عبثت بالأدب العربى وجعلت حظه من الهزل عظيما : مجون الرواة وإسرافهم فى اللهو والعبث وإنصرافهم عن أصول الدين وقواعد الأخلاق الى ما يأباه الدين وتنكره الأخلاق . صـ131

[الشعر والشعراء]

◄ القرآن وحده هو النص العربى القديم الذى يستطع المؤرخ أن يطمئن الى صحته ويعتبره مشخصاً للعصر الذى تُلي فيه. فأما شعر هؤلاء الشعراء وخطب هؤلاء الخطباء وسجع هؤلاء الساجعين فلا سبيل الى الثقة بها ولا الى الإطمئنان اليها ..صـ138

◄ ولسنا نخشى على القرآن من هذا النوع من الشك والهدم بأسا؛ فنحن نخالف أشد الخلاف اولئك الذين يعتقدون أن القرآن فى حاجة الى الشعر الجاهلى لتصح عربيته وتثبت ألفاظه. فنحن نخالفهم فى ذلك أشد الخلاف لأن احداً لم ينكر عربية النبي فيما نعرف، ولأن أحداً لم ينكر أن العرب قد فهموا القرآن حين سمعوه تتلى عليهم آياته. وإذا لم ينكر أحد أن النبى عربي وإذا لم ينكر أحد أن العرب قد فهموا القرآن حين سمعوه، فأى خوف على عربية القرآن من أن يبطل هذا الشعر الجاهلي أو هذا الشعر الذى يضاف الى الجاهليين ؟ وليس بين أنصار القديم أنفسهم من يستطيع أن ينازع فى أن المسلمين قد احتاطوا أشد الإحتياط فى رواية القرآن وكتابته ودروسه وتفسيره حتى أصبح أصدق نص عربى قديم يمكن الإعتماد عليه فى تدوين اللغة العربية وفهمها وهم لم يحفلوا برواية الشعر ولم يحتاطوا فيها، بل إنصرفوا عنها فى بعض الأوقات طائعين أو كارهين، ولم يراجعوها إلا بعد فترة من الدهر وبعد أن عبث النسيان والزمان بما كان قد حفظ من شعر العرب فى غير كتابة ولا تدوين. فأيهما أشد إكبارا للقرآن وإجلالا له وتقديسا لنصوصه وايمانا بعربيته : ذلك الذى يراه وحده النص الصحيح الصادق الذى يستدل بعربيته القاطعة على تلك الغريبة المشكوك فيها، أم ذلك الذى يستدل على عربية القرآن بشعر كان يرويه وينتحله فى غير إحتياط ولا تحفظ قوم منهم الكذاب ومنهم الفاسق ومنهم المأجور ومنهم صاحب اللهو والعبث؟.. أما نحن فمطمئنون الى مذهبنا مقتنعون بأن الشعر الجاهلي أو كثرة هذا الشعر الجاهلي لا تمثل شيئاً ولا تدل على شيء إلا ما قدمنا من العبث والكذب والإنتحال، وأن الوجه - اذا لم يكن بد من الإستدلا بنص على نص - إنما هو الإستدلال بنصوص القرآن على عربية هذا الشعر لا بهذا الشعر على عربية القرآن .

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

2 التعليقات:

عبدو خليفة يقول...

أرى في هذه الصفحة تناضا في كلام الكاتب، فهو من جهة يكذب القرآن في قصصه فيما يرويه عن إبراهيم وإسماعيل، وكون اسماعيل واسحاق ولدا إبراهيم، ومن جهة ثانية نراه يصدق القرآن ويجعله هو المصر الحقيقي والوحيد للغة العربيةوينفي صحة ما يعرف بالشعار الجاهلي.

عبدو خليفة يقول...

أرى في هذه الصفحة تناضا في كلام الكاتب، فهو من جهة يكذب القرآن في قصصه وفيما يرويه عن إبراهيم وإسماعيل، وكون اسماعيل واسحاق ولدا إبراهيم، ومن جهة ثانية نراه يصدق القرآن ويجعله هو المصدر الحقيقي والوحيد للغة العربية، ينفي صحة ما يعرف بالشعار الجاهلي.

إرسال تعليق