العلمُ المَرِح (نيتشه - ترجمة وتقديم حسان بورقية، محمد الناجي)



• تجرأوا أن تتذوقوا طعامي، أيها الأكلّة! غدًا سيكون طعمه أفضل.. وبعد غدٍ سيبدو لكم أحسن! أترغبون في المزيد منه؟ ستُلهمني وصفاتي القديمة، بقدر وصفاتٍ جديدة. ص26
• عندما مللتُ البحثَ.. تعلمتُ الاكتشاف.. ولما أمست لي ريح رفيقًا.. صرتُ لكل ريحٍ شِراعًا.
• أيسحركَ أسلوبي وكلامي؟ ماذا؟ ستتبعني خطوة خطوة؟ لا تأبه بأن تكون إلا نفسك مخلصا، وستكون قد تبعتني- رويدًا رويدا!
• إذا أردتَ أن لا يَكلَّ نفاذُ النظر والرأي.. طارد الشمسَ في الظلِ. ص29
• غير كافٍ، أبدًا، أن تكون مشحوذًا.. فالصدأُ ضرويٌ لك أيضا.. إن أردتَ ألا تُعرف مغفلا. ص29
• كيف أصل بسرعة إلى القمة؟ - اصعد دائما، ولا تأبه بذلك!
• أكرهُ النفوس البليدة.. حيثُ لا طيبة، ولا خبث أيضا. ص30
• إن ألمًا مضاعفًا مطاقٌ، أكثر من ألم أوحد: أتريد أن تخاطر؟
• انزع المرأة التي من أجلها يحترق قلبك! هكذا يفكر الرجل؛ المرأة لا تنزع أبدا، إنها تخفي.
• أجل، إن نظرته باردة: ولذلك تبجلونه؟ هو لا يبالي بتشريفاتكم، كالنسر، عينه على الأقاصي.. كلا لن يراكم، لن يبصر إلا النجوم، النجوم! ص35
• بالصراع يا أصدقائي.. تنزل كل سعادة ساحةَ الأرض.. أجل، لنصبح أصدقاء.. لابد من جلجلة المدافع.. يتوحد الأصدقاء في ثلاثة أشياء: إخوة في الضرورة، سواء أمام العدو، أحرار أمام الموت!
• ماذا، أنا مُنقِّب؟-بمنّة، وفروا عني هذا الكلام.. ما أنا إلا ثقيل كالعديد من الأوزان! أسقط، أسقط دون توقف.. للوصول أخيرًا إلى العمق!
• الشمسُ، يلعنها كل المنهوكين.. وعندهم، قيمةُ الأشجارِ: ظلالُها!
• أقطنُ بيتي الخاص، ولم أقلدا أحدا في شيء قطُ، وأسخرُ من كل معلم لم يعرف كيف يسخر من نفسه.
• إن التنكر اللاشعوري للحاجات الفيزيولوجية تحت أقنعة الموضوعية، التصور الذهني، العقلانية الخالصة، قادر على أن يأخذ أبعادًا مخيفة-وكثيرا ما تساءلتُ، بعد تقليب طويل، إن لم تكن الفلسفة إلى ذلك الحين عبارة عن تأويل للجسد وسوء فهم له، على الإطلاق. ص45
• لسنا ضفادع مفكرة، آلات للإسقاط أو للتسجيل دون أحاسيس،- يجب أن نولِّد دومًا أفكارنا من صميم آلامنا، وبإمومة ننعم عليها بكل ما فينا من حياة، من حب، من رغبة، من شغف، من وجع، من شعور، من مصير-من حتمية.
• حتى آنذاك يظل حب الحياة ممكنا- ولو أننا سنحب الآن بطريقةٍ أخرى.
• إننا نعظم الشفقة وكأنها عفة المومسات. ص62
• جشعٌ وحبٌ: أية أحساس، متضاربة، لا توحي إلينا بكل من هاتين اللفظتين!
• إنّ نفعا ممتلكا تقل أهميته، على العموم، بفعل امتلاكه.
• يجب أن نعرف الكتمان في معاشرة الأشخاص الذين يحتشمون من العواطف: فهم قابلون لحقد مفاجئ على الذي يكتشف لديهم شعورا رهيفًا، حماسيًا أو عظيمًا، وكأنه تبين أسرارهم. ص64
• إنّ السم الذي يموت به نوعٌ ضعيف جدًا ليُعتبر مُنشِّطًا للقوي-هكذا لا يأبه القوي بأن يعتبره سُما. ص65
• إنّ بواعث هذه الأخلاق تُناقض مبادئها! ما تريد هذه الأخلاق أن تقيم به حججها تدحضه في نفس المحاولة بمعيارها الأخلاقي! ص67
• تغير الذوق العام مهم أكثر من تغير الآراء: فالآراء بمجموع أدلتها، دحوضاتها وبكل تقنّعها الفكري ما هي إلا أعراض الذوق الذي يتغير وليست بالتأكيد دواعي هذا التغيير، كما مازلنا نفترض. ص77
• إن أقوى سحر النساء، هو أن نُعرِّف به إلى مسافةٍ بعيدة، وحتى نتلكم لغة الفلاسفة، إنه الفعل عن بعد: لكن لبلوغ ذلك يجب أولا وقبل كل شيء-بعضُ المسافة! ص90
• كل النساء يظهرن أنفسهن في غاية الرقة في تعظيم نقائصهن، بل ويتفنن في اختراعها ليظهرن هشّات مثل التزيينات التي مجرد ذرة عفر تفسدها: فوجودهن يقتضي أن يُشعر الرجل بثقله الخاص وإرهاق إحساسه بذلك. هكذا يدافعن عن أنفسهن ضد "حق القوي على الضعيف". ص92
• هل تستطيع المرأة أن تأخذنا (أو كما نقول، أن تفتننا) من حيث لا ندري، عند اللزوم، هل تعرف كيف تستعمل الخنجر (أي نوع من الخناجر) ضدنا؟ أو ضد نفسها هي: ذاك ما يكوّن في حالاتٍ معينة انتقامًا أكثر حساسية (الانتقام الصيني). ص93
• النساء صغيرات السن يجهدن أنفسهن ليظهرن سطحيات وطائشات: وأشدهن نباهةً يتظاهرن بنوع من الوقاحة. ـــ إن النساء يختبرن أزواجهن بسهولة كعلامة استفهام عن حياتهم الزوجية وأبنائهم كتبرير أو توبة - إنهن بحاجة إلى أطفال، ويرغبن فيهم بمعنى مخالف تماما لما يمكن للرجل أن يرغب فيهم. باختصار لا نستطيع أن تكون أكثر حنوا تجاه النساء! ص94
• ليست الحقيقة ولا اليقين هما ما يكوّن الرأي المعاكس لعالم الجنون، بل العمومية والضرورة الإجماعية لرأي ما. ص95
• "ما الجميل في هذا؟" سأل أحد المسّاحين عند نهاية عرض (إيفيجيني) ــ "إن هذا لا يبرهن على أي شيء إطلاقا!".. هل كان الإغريق في منأى عن هذا الذوق؟ لدى سوفوكليس على الأقل، "كل شيء مبرهن عليه". ص100
• إن الشغف أفضل من الرواقية والتمثل، إن الصدق حتى في الشر أفضل من أن تضل النفس في أخلاقية التقاليد، إن الإنسان الحر قد يكون طيبًا بقدر ما يكون شريرًا، لكن الإنسان العبد يكون عارًا للطبيعة ولا حظ له في أي عزاء سماوي أو أرضي. أخيرًا أن أي امرىءٍ يريد أن يكون حرا لا بد له أن يصير كذلك بنفسه، وأن الحرية لم تهبط على أحد من السماء كهبةٍ معجزة. (كلمات نقلها عن ريتشارد فاغنر) ص113
• يتعلم الناس الثناء كما يتعلمون الازدراء. أي امرىءٍ انخرط في سبل جديدة وقاد إليها آخرين كثيرين يكتشف باندهاش كم يظهرون حقيرين ورعناء في التعبير عن شكرهم، كم هو نادر أن يتوصل هذا الشكر إلى التعبير عن نفسه. ص114
• إنه لمن الضروري أن نروّح عن أنفسنا من حينٍ لآخر لصالح الفن الذي يمكننا ممن تأمل أنفسنا، من أعلى، وأن نضحك علاوة على ذلك، من أنفسنا أو نبكي عليها. أن نكشف البطل وكذلك البهلوان اللذين يختبئان في شغفنا للمعرفة، أن نستمتع من حينٍ لآخر بجنوننا كي نستمر في الاستمتاع بتعقلنا! ص119
• فلا شيء يستطيع أن يحسن إلينا أفضل من قبعة الجنون: إننا في حاجة إليها حاجتنا إلى دواء ضد أنفسنا-نحن في حاجة إلى كل فنٍ مرِح، طافٍ، راقص، ساخر، طفولي وجدي. ص119
• ستكون انتكاسة لنا أن نسقط كليةً في الأخلاق بفعل نزاهتنا النزقى ذاتها، وبتلبية مطالب مفرطة فإننا ننتهي بأن نصير مسوخا وفزّاعات فضيلة. ص119
• إن طبيعة كل العالم هي منذ الأزل طبيعة الفوضى، ليس بسبب غياب الحاجة لكن بسبب غياب النظام، التمفصل، الشكل، الجمال، الحكمة، وذلك مهما تكن مقولاتنا الجمالية الإنسانية. ص122
• منذ أن تعلَم أنه ليست هناك غاية فإنك ستعلم أن لا صدفة هناك. لأن كلمة الصدفة ليس لها معنى إلا بالقياس إلى عالم الغايات. ص123
• لم يُولِّد العقلُ خلال مُدد زمنية هائلة سوى أخطاء: وقد بدت في بعضها مفيدة، وصالحة لحفظ النوع: أيّ واحد يتبناها أو يرثها كان يقوى على خوض صراع ما بمزيد من الحظ من أجله هو ومن أجل خَلَفِهِ. ص123
• من أين نشأ المنطق في رؤوس الناس؟ لا شك من اللامعقولية التي كان مجالها شاسعًا في الأصل. لكن كائنات لا تُحصى كانت تستنتج بطريقة غير التي نستنتج بها الآن قد هلكت. ص125
• العلة والمعلول: نقول إنه "التفسير"، لكن في الواقع "الوصف" هو ما يميزنا بالنسبة إلى درجات المعرفة والعلم الدقيقة. إننا نصف أحسن، نفسر قليلا مثل أسلافِنا. ص126
• يكفي أن نعتبر العلم أنسنة للأشياء مخلصًا نسبيًا؛ إننا نتعلم أن نصف أنفسنا بشكلٍ دقيق أكثر فأكثر، فقط بوصفنا الأشياء وتعاقبها. ص126
• بالأخلاق يجد الفرد نفسهُ مُستدرّجًا ليكون تابع القطيع وإلى عدم ادعاء أية قيمة إلا باعتباره تابعًا. ص127
• إن اللذة والاشتهاء تختلطان لدى الأقوى الذي يريد أن يحول شيئا إلى تابعه الخاص: وتختلط لدى الأضعف، الذي يرغب في أن يصير تابعا، لذة وإرادة أن يكون مُشتهى.ص128
• لقد ساهمت المسيحية أيضًا بقسطٍ وافر في التنوير: لقد لقنت الشكوكية الأخلاقية، بطريقةٍ نفاذة وفعالة، من فرط الاتهام والإغاظة، ولكن بصبرٍ ودقة لا يعرفان الكلل: لقد دمرت في كل فرد اعتقادَه في فضائله الخاصة؛ لقد وارت إلى الأبد تلك الوجوه الكبيرة الفاضلة التي كانت تزخر بها العصور القديمة، أولئك الناس الشعبيين المشربين بقداستهم، الذين كانوا يسيرون بسرعة مصارعي الثيران. ص130
• تشتهر التفسيرات الصوفية بكونها عميقة: الحقيقة أنها ليست حتى سطحية. ص133
• الاعتقاد في الإرادة، كما في علة الآثار هو اعتقاد في قوى فاعلة بشكل سحري. والحالة أن الإنسان كان في البدء يعتقد في وجود إرادة مسببة حيثما شاهد وقوع حادثة ما، مثلما كان يعتقد في وقوفه شخصيًا خلف العمل ــ لقد كان مفهوم الإوالة غريبًا عنه تماما. ص133
• لقد وُضِعت الصلاة لهذا الصنف من الأشخاص غير القادرين إطلاقًا على التفكير بأنفسهم، الذين لا يعرفون تساميًا، أو لا يشعرون بتطوره. ص134
• "إن الإله ذاته لن يستطيع البقاء بدون الناس العقلاء" - قال لوثر، وبحق، غير أن "قدرة الإله على البقاء ستكون أقل بدون الخُرق" - هذا ما لم يقله لوثر الشجاع! ص135
• إن الحل المسيحي القاضي باعتبار العالم ذميمًا وقبيحًا قد صيّر العالم ذميمًا وقبيحًا. ص135
• لقد جعلتْ المسيحية من الرغبة الكبيرة في الانتحار التي كانت سائدة وقت ظهورها عماد قوتها: فبينما كانت تُحرم بشكلٍ صارم كل أشكال الانتحار الأخرى لم تترك سوى شكلين ألبستهما أسمى كرامة وغلفتهما بأغلى الآمال: الاستشهاد، وقتل الزاهد لنفسه ببطء. ص135
• انتشار البوذية (وليس ظهورها) يُعزى بقدر كبير إلى إفراط الهندوس في استهلاك الأرز والاقتصار عليه تقريبًا، وإلى الخمول التام الذي نتج عنه. ص136
• لقد كان مُنشئ المسيحية يخال أنه لم يكن هناك شيء يجعل الناس يعانون غير ذنوبهم:- لقد كان هذا خطأه، خطأ من يشعر أنه غير مذنب ومن تنقصه التجربة في هذا المجال! ص138
• إن تعدد الآلهة قد جسّد مقدمًا زندقة وتعددية فكر الإنسان: أي قوة إيجاد عيون جديدة وشخصية جديدة أكثر فأكثر، بحيث أنه، من بين كل الحيوانات، يفلت الإنسان وحده من ثبات المنظورات والآفاق الأبدية. ص140
• إننا قد أضفينا صبغة جديدة على الحقائق، ولا نفتأ نصبغها- لكن ماذا كانت إلى الآن مهارتنا إزاء بهاء لون هذا المعلم القديم! أعني الإنسانية القديمة. ص143
• إنكم لا تعرفون إطلاقًا ما يتفق لكم أن تعيشوه، تهرولون كما لو أن الوجود أسركم، وإن سقطتم أسفل السلم من حينٍ لآخر. لكن أعضاءكم تبقى سالمة بفضل سُكركم؛ جد واهنة هي عضلاتكم وجد معتمة هي رأسكم لكي تحسوا مثلنا بصلابة حجر هاته الدرجات! أن نحيا، بالنسبة لنا، هو غاية المخاطرة: فنحن من زجاج-وويل لنا عند أدنى صدمة! سقطة واحدة وتكون نهاية كل شيء! ص144
• يحدث أن تعوز الكرامةُ أحدَنا فيظهر نفسه متملقًا إحدى الفضائل. ص145
• إن أفضل نتائج الفوز العظيم هي كونه يحرر المنتصر من خشية الهزيمة. "لمَ أستسلمُ عند الحاجة؟ ــ يقول لنفسه. فأنا منذ الآن ثري بما فيه الكفاية كي أتحمل ذلك. ص145
• لا نقول إننا مُتخمون بالناس إلا حين لا نستطيع هضمهم وقد امتلأتْ بهم معدتنا عن آخرها. ما بُغض البشر إلا نتيجة حب جدُ شره للبشرية. ص146
• إن من يعلم أنه عميق يجِدّ في النور: أما من يريد أن يبدو عميقًا في أعين العامة فإنه يجدّ في الظلام. لأن العامة يعتبرون كل ما لا يستطيعون رؤية قعره عميقًا: لشدّ ما يخشون الغرق! 147
• من الذي ملك الفصاحة الأكثر إقناعًا حتى الوقت الحاضر؟ إنه قرع الطبل: ومادام تحت نفوذ الملوك فإنهم سيظلون أجود الخطباء ومهيجي الشعوب. ص147
• الأفكار ظلال أحاسيسنا-فهي دائمًا مظلمة وأكثر فراغًا وبساطة من هاته الأحاسيس. ص148
• إنه مفكر: أي أنه ماهر في اعتبار الأشياء أبسط مما هي عليه. ص150
• أ- لا نُمدَح إلا من طرف أندادنا!" ب: "طبعًا! فالذي يمدحك يقول لك: أنت ندّي". ص150
• ما الذي يميز هؤلاء الأشخاص الخيرين الذين تشع وجوههم بالخير عن سائر الناس؟ إنهم يشعرون بالراحة لدى حضور شخص جديد، ويولعون به بسرعة: لهذا يريدون له الخير، وحكمهم الأول يعني: "إنه يروق لي" وتتابع لدى هؤلاء الأشخاص رغبة التملك (فهم لا يدققون كثيرا فيما يخص قيمة الغير)، التملك السريع، فرحة التملك والعمل لصالح الشيء المتملك. ص150
• انظروا! انظر! إن يفر بعيدًا عن الناس. ـــ لكن هؤلاء يتبعونه لأنه يجري أمامهم، ــ لشد ما هم قطيعيون. ص150
• إننا لا نسمع إلا الأسئلة التي نقدر أن نجد لها جوابا. ص151
• إن الفضيلة لا تمنح السعادة ونوعا من الخلاص إلا لأولئك الذين يؤمنون بفضيلتهم، وليس لهاته الأرواح الشفافة التي تقتضي فضيلتها الاحتراس التام من الذات ومن كل الفضائل. إذن هنا أيضًا نلاحظ جيدًا أن "العقيدة هي التي تنجي" ــ وليس الفضيلة! ص153
• أنفر من الأشخاص الذين، لكي يبهروا فقط، يوجبون على أنفسهم أن ينفجروا مثل القنابل التي توشك أن تفقد، بالقرب منها، حاسة السمع ــ بل وأكثر من ذلك. ص154
• يرى الشاعر في الكذب أخاه من الرضاعة الذي حرمه (أي حرمه الشاعر) من الحليب الذي كان مخصصًا له: بهذا بقي الثاني بئيسًا ولم يتمكن حتى من بلوغ الإحساس بالارتياح. ص154
• إني أخاف أن تعتبر الحيوانات الإنسان كائنًا من جنسها فَقَدَ فطرته الحيوانية بأكثر الأشكال خطورة،  ـــ أن تعتبره بمثابة الحيوان الغريب الأطوار، الحيوان الضاحك، الحيوان الباكي، الحيوان الذي مآله التعاسة. ص155
• لقد كان الشر دائمًا متأكدًا من أكبر الأثر! والطبيعة شريرة! فلنكن إذن طبيعيين!" هكذا يستنتج سريًا كبار مشخصي أثر الإنسانية الذين كثيرا ما عددناهم ضمن الرجال العظام. ص155
• إننا نعبّر عن أصعب الأمور ببساطة، شريطة أن نكون محاطين بأشخاص يؤمنون بقوتنا: فلمثل هذا المحيط مزية التدريب على "بساطة الأسلوب". بينما العقول الحذرة تعبر عن نفسها بمغالاة، العقول الحذرة تجعل سامعيها مُغالين. ص155
• موسومٌ بالضعف من أراد التوسط بين مفكرين وطيدي العزم؛ ليس له نظر ثاقب ليميز مالا يحدث إلا مرة واحدة: فأن لا ترى سوى تشابهات وتساوي بين كل شيء فتلك ميزة البصر الضعيف. ص155
• إن تشبُّثه بقضيةٍ قد توضحت له لهُوَ محض تحدٍ، ــ لكنه يسمي ذلك "وفاء". ص155
• إنّ العقول البطيئة في اكتساب المعرفة تظن أنه لا غنى عن البطء في اكتسابها. ص156
• قلما نحلم، وإلا فبطريقةٍ مفيدة. ـــ ينبغي تعلم السهر بهذا الشكل: ألّا نسهر إطلاقًا وإلّا فبطريقةٍ مفيدة. ص156
• كم من رجلٍ يصل إلى أوجِه بطبعه، لكن عقله بالتحديد يبقى ما دونه ــ والعكس هو ما يحدث لآخرين كثيرين. ص156
• ألا ينبغي لمن يريد أن يؤثر على العامة أن يكون كوميديَ أناه الخاصة؟ وأن يعبر عن نفسه أولًا بصورة ذات دقة مضحكة ويمثل كل شخصيته وكل قضيته بهذا الشكل البذيء والمبسط؟. ص156
• "إنه جد مؤدب!" - في الواقع، إنه يحرص دائمًا على أن تكون معه قطعة سكر ليعطيها لسيربيروس، وهو فَزِعٌ جدًا لدرجة أنه يعتبر كل واحد سيربيروس، وكذلك أنت، وأنا نفسي- هنا يكمن أدبه. ص157
• إنه طاهر من الحسد، لكن لا مزية في ذلك إطلاقًا: إنه يريد غزو بلد لم يمتلكه أحد بعد، بل ولم يره. ص157
• إننا نحاول بأي ثمن، مادام ذلك في مقدورنا، أن نُدخِل الرياضيات وصرامتها في كلِ علم؛ لا لاعتقادنا بأننا سنفهم الأشياء أفضل بهاته الوسيلة، لكن بُغيةَ توضيح علاقتنا الإنسانية بالأشياء. فالرياضيات ليس إلا وسيلة معرفة الكائن الإنساني الكونية والأخيرة. ص158
• كل عادة تجعل يدَنا أكثر مكرًا ومكرنا أقل حذقًا. ص158
• ما الذي يصنع البطولة؟ أن نسير في الوقت ذاته قُدّام أقسى معاناتنا وأسمى أمنيتنا. ص161
• من الذي تعتبره خبيثًا؟ - الذي يريد دائمًا أن يُخجِل الآخرين.. -ما الأكثر إنسانية في نظرك؟ -أن توفر الخجل على شخصٍ ما. -ما خاتم الحرية المكتسبة؟ - ألا تخجل من نفسك أبدا. ص162
• يجب على أفكاري أن تدلني على أين أنا: لا أن تكشف لي إلى أين أسير، قال المسافرُ لظله. إني أحب تجاهل المستقبل، ولا أريد أن أستسلم للجزع ولا للطعم المتوقع للأشياء الموعودِ بها. ص170
• أن يصل المرء إلى الإعجاب بذاته-سواء بالصنف كذا أو بالصنف كذا من الفن أو من الشعر: إذاك فقط يبدو الإنسان بمظهر محتمل! وكل من كان مستاءً من نفسه فهو مستعد دائمًا للانتقام منها: وسنكون نحن ضحاياه، وإن لم يكن ذلك إلا لكي نستطيع تحمل مظهره البشع! لأن رؤية شيء بشع تجعل الإنسان مريضًا وكئيبًا. ص172
• يتميز الناس المتفوقون عن الأراذل بما يسمعونه ويرونه بطريقةٍ لا توصف، وإنهم لا يرون ولا يسمعون إلا وهم يتأملون- وهذا ما يميز الإنسان عن الحيوان، مثلما يميز الحيوانات الراقية عن الدنيا. ص178
• إن كل ما له بعض القيمة في العالم الحالي لا يملكها في ذاته، لا يملكها من طبيعته-فالطبيعة دائمًا بدون قيمة-بل تلقى شيا من القيمة يومًا كمنحة، ونحن هم من كنا المانحين! نحن الذين خلقنا العالم الذي يهم الإنسان! ص179
• إني أعرف الحياة أكثر لكوني كثيرا ما كنتُ على وشكِ فقدها؛ ولهذا السبب بالذات أعطتني الحياة أكثر مما أعطت أيا منكم! ص180
• إني لا أحبُ أيّا من هاته الفضائل السلبية-الفضائل التي جوهرها جحود الذات والتضحية بها. ص181
• إن هؤلاء الأخلاقيين الذين يَحُضُّون الإنسان قبل كل شيء وبالأساس على السيطرة على نفسه يثيرون لديه مرضًا شاذًا: سرعة انفعال دائمة من كل الميول وكل الحركات الطبيعية، نوعا من الحكة تقريبًا. ص181
• لقد أطلقتُ اسمًا على ألمي وأناديه "كلبة" ــ إنها وفية، فضولية، قليلة الحياء، مسلية وذكية، مثل أي كلب آخر ــ وأستطيع أن أوبخها وأمرر عليها سخطي مثلما يفعله آخرون مع كلابهم، مع خدَمِهم ومع زوجاتهم. ص184
• العواصفُ خطري: فهل لي عاصفتي التي سأستسلمُ لها، مثلما استسلم أولفير كُرومويل لعاصفته؟ أم سأنطفئ كمشعلٍ لا ينتظر أن تطفئه الريح، لكنه تعبٌ وشبعانٌ من نفسه ــ كمشعلٍ مستهلك؟ أم: سأنتهي بإطفاء نفسي حتى لا أُستَهلك؟
• يوجد في الألم من الحكمة قدر ما يوجد في المتعة: وهو، مثلها، ينتمي إلى القوى الأساسية لحفظ النوع. ولو لم يكن ذلك لماتت هاته القوة منذ أمدٍ طويل. ص186
• الذي ينظر في نفسه كما في داخل كونٍ هائل ويحمل في ذاته مجرّات يعرف أيضًا كم هي لامنتظمة كل المجرات: فهي تؤدي حتى عمق فوضى الوجود ومتاهته. ص187
• "الحياة كوسيلة للمعرفة" ــ بهذا المبدأ في القلب نستطيع لا فقط أن نحيا بشجاعة، بل كذلك أن نحيا بمرحٍ ونضحك بمرح! 188
• لا شك أن الإيمان بالطبيعة الذميمة للأنانية، الذي نُودِي به بكثير من التصلب والإقناع، قد أضر بالأنانية على العموم (لفائدة الغرائز القطيعية!)، خاصة بفعل تجريده لها من كل راحة ضمير وحثه على البحث فيها عن المنبع الأساسي لكل شقاء.. "أنانيتك هي كارثة حياتك" هذا كان مضمون كل وعظ طيلة ألفيات.. ص190
• كم يوجد من الرجال الذين يتقنون الملاحظة! ومن بين النادرين الذين يقدرون على ذلك-هل يوجد من يستطيعون أن يلاحظوا أنفسهم؟ إن سابري الروح كلهم يعرفون، لسوء حظهم، أن كل واحد بعيد عن ذاته أشد البعد؛ وحكم "اعرف نفسك بنفسك" الموجه إلى الناس من فم إله هو خبث تقريبًا. ص194
• إن متانة حكمك الأخلاقي يمكن دائمًا أن تكون برهانًا بالضبط على البؤس الشخصي ودليلا على اللاشخصية، إن مصدر قوتك الأخلاقية قد تكون في عنادِك-أو في عجزك عن استعياب مثل عليا جديدة! ص195
• إن النطق بالأحكام بإسم الأخلاق لابد أن ينفر ذوقنا السليم في النهاية! 196
• لو تأملتُ هذا القرنَ بعيون قرن سحيق فلن أعرف في طبيعة الإنسان المعاصر شيئًا أغرب من هاته الخاصية الغريبة، هذا المرض الغريب الذي ندعوه "الحس المؤرّخ".ص196
• إن كل هاته المخلوقات التي تثير الشفقة وتطلب الإنجاد تمارس إغواءً سريًا: "طريقنا الخاص" في الواقع في الواقع قضية شاقة ومكلفة، وبعيدة جدًا عن حب الآخر ومعرفته، ــ لا نفلت منها، وكذلك من شعورنا الشخصي.
• أينما لوحظنا على أننا مُعانون فإن معاناتنا تُفسّر بأكثر الطرق سطحية؛ شيء خاص بطبيعة العاطفة الشفوقة أن تعري المعاناة الغريبة مما هو شخصي فيها بالأساس: ــ فــ "المحسنون" إلينا هم الذين ينتقصون من قيمتنا وإرادتنا أكثر من أعدائنا. ص198جدا، دون بعض الارتياح، ونبحث عن ملجأ بقرب شعور الآخرين، في حراب معبد "دين الشفقة" المريح. ص199
• العالم يفيض بالأشياء الجميلة، لكنه فقير، فقير جدا من حيث اللحظات الجميلة ومن حيث التجليات الجميلة لمثل هاته الأشياء. لكن ربما يكون هذا هو سحر الحياة الأقوى: إنها مغظاةٌ بخمارٍ منسوجٍ من ذهب، بخمارٍ من الإمكانيات الجميلة يعطيها هيأة واعدة، متحفظة، محتشمة، ساخرة مستعطفة وساحرة. أجل، إن الحياة امرأة! ص200
• لا أحد حتى الآن استطاع إذن أن يتفحص قيمة أشهر أنواع الطب، المُسمى الأخلاق: الشيء الذي يستلزم أولا أن نقرر جعل هاته القيمة-موضع سؤال. وإذن هذا هو بالضبط مشروعنا. ص208
• إن الوعي لم يتطور، بصفةٍ عامة، إلا تحت ضغط الحاجة إلى التواصل-ولم يكن الوعي، منذ البداية، ضروريا ونافعا إلا داخل علاقات الإنسان بالإنسان، خاصةً بين الذي يصدر الأوامر والذي يطيع، وتبعا لدرجة هذا النفع كان يتطور. ص217
• إن طبيعة الوعي الحيواني تتضمن أن العالم الذي يمكن أن نعيه ليس إلا عالمًا سطحيًا، عالم إشارات، عالمًا معمما، مبتذلا-أن كل ما يصير شعوريا يجد نفسه للوهلة ذاتها مسطحا ومصغرا ومنقصا إلى حد بلادة المقولب القطيعي؛ أن كل وعي يرجع إلى عملية تعميم وتسطيح وتزوير، إذن إلى عملية مُفسدة بالأساس. ص218
• الرجل الذي يحب مثل المرأة يصير بذلك عبدًا؛ لكن المرأة التي تحب كامرأة تصير بذلك امرأة أكثر كمالا.. ص231
• كل ما هو مُتصور، مُتخيل شعريا، مرسوم أو مؤلف موسيقيًا، أو حتى منبني ومشكل، ينتمي إما إلى الفن المناجاتي وإما إلى الفن أمام شهود. يجب أن نصنف ضمن هذا النوع الأخير كذلك غنائية الصلاة كلها، هذا الفن الذي يبدو مُناجاتيًا، الذي يتضمن إيمان بالإله: لأنه ليست هناك وحدة بالنسبة لروحٍ وروعة-هذا الابتكار يرقى زمنيًا إلينا نحن الذين هم دون إله. ص234
• لا أعلم تميزًا أعمق مما يلي في وجهة نظر الفنان الكاملة: معرفة إن كان يعتَبِر عمله في تقدم من وجهة نظر الشاهد (ومنها كذلك يتأمل نفسه) أو إن كان على العكس قد "نسي الناس": وهو شيء أساس لكل فن مناجاتي-الفن الذي يكمن في النسيان. الفن الذي هو موسيقى النسيان. ص234
• كآبتي تريد أن تستريح في خبايا وثنايا الكمال، لهذا أنا في حاجة إلى الموسيقى. ص235
• إن تفسيرًا "علميًا" للعالَم مثلما تقصدونه أنتم سيبقى بالتالي واحدا من أبلد التفسيرات، أي واحدا من بين أفقرها من حيثُ المعاني من بين كل التفسيرات الممكن تصورها. ص241
• إنّ الراقصَ لا ينتظر من غِذائه البدانة، بل الحيوية والرشاقة الكبرى.. ص248

▬ إن النفوسَ القوية، النفوس الخبيثة هي لأولئك الذين ساهموا أكثر، حتى الآن، في التقدم البشري: إذ لا يتوقفون أبدا عن تحميس الأهواء الخامدة مجددا-كل مجتمع منظم يخدرهاـــ، لا يتوقفون أبدا عن إيقاظ روح المقارنة، التناقض، التذوق للجديد، المحاولات الجسورة، التجربة الخلاقة دائما، ويُكرِهون الناس على مقارعة الرأي بالرأي، الأمثلة بالأمثلة. وذلك مع التلويح بأسلحةٍ [ما]، وقلب تخوم الحدود، وفي الغالب، مع جرح روح التقوى: ولكن أيضا مع خلق دياناتٍ وأخلاقياتٍ جديدة! إن [الخبث] آنئذ بين وضوح أكثر، فإنه لن يحرك العضلة في الحال، ولن يثير افتضاحًا مماثلًا! إن الجديد يوجد مع ذلك في كل حالات الشر بما أنه الساعي إلى الغزو، إلى احتقار تخوم الحدود القديمة والتقوى القديمة، والقديم وحده هو ما يمثل الخير! إن الرجال الطيبين في كل عصر هم أولئك الذين يخُدُّنَ كليا الأفكار القديمة، والتي تنبث معها الثمرات. إنهم حرَّاثو الروح. غير أن حقلا كهذا لن يثمر في النهاية ويجب على سكة محراث الشر أن تقلبه ثانية. وتوجد الآن هرطقة أخلاقية، مبجلة في انجلترا بالخصوص: تبعا لهذا تترجم أحكام ما هو "حسن" وما هو "قبيح"، جملة تجارب الـ "نافع" وغير الـ "نافع": ويكون الخير هو كل ما يحفظ النوع، "قبيح" كل ما هو ضار له. وفي الحقيقة إن الدوافع القبيحة تعتبر، في درجة عليا، مفيدة وصالحة لحفظ النوع مثل الدوافع الحسنة: باستثناء أن لها وظيفة مغايرة. ص55

▬ إن الشعور هو النمو الأخير والأكثر تأخرًا في الحياة العضوية، وبالتالي الأقل تكاملًا والأكثر تعرضًا للعطب منها. فمن خلال الحياة تنشأ كبوات لا تُحصى، أفعال فاشلة، تجعل حيوانًا، [و] كائنًا بشريا ينقرضان قبل أن يكون ذلك ضروريًا-"نكايةً في القدر" كما يقول هوميروس. لولا وثاق الغرائز المحافظ، الشديد المتانة للغاية، لولا الفضيلة المنظمة التي يباشرها الكائن البشري، لكان ينبغي أن تنقرض الإنسانية من جراء أحكامها الفاسدة، هذيانها في حالة اليقظة، حاجتها لأساس وسذاجتها، باختصار، من جراء حياتها الشعورية ذاتها: أو بالأحرى، من دون هذه الظواهر كانت الإنسانية قد امّحت منذ عهدٍ طويل! قبل أن يتطور فعل ما وأن ينضج فإنه يشكل خطرا على الجهاز العضوي: نعم الأمر إذا كان خلال هذه الفترة، مضطهدا جدا! هكذا  يلفي الشعور نفسه مضهدا بجفاء، ومن دون شك أليست غطرسته الخاصة هنا الأقل جورا! إننا نعتقد أن ثمة نواة الإنسان: أي الدائم، الأبدي، الأخير، الأكثر الأصالة فيه. نتعامل مع الشعور ككم ثابت معطًى! نتجاهل نماءه وتقلباته! نتصوره مثل "وحدة الجهاز العضوي"!- هذا التقدير المبالغ فيه للشعور! وهذا الإنكار المثير للسخرية، كانت عاقبتهما الصائبة تحاشي تدبيره السريع جدا. ولأن الناس اعتقدوا مسبقا امتلاك الشعور فإنهم لم يكلفوا أنفسهم عناءً لاكتسابه- وقلما يختلف الأمر اليوم عن ذلك! فأن نتمثل المعرفة وأن نجعلها فطرية، ذلك ما يؤسس حتما دورا جديدا، لا يكاد يدرك، حيث يتنبأ تماما الإبصار الإنساني بوميضه-دور لا يدرك جيدا إلا من طرف أولئك الذين فهموا أنه حتى الآن وحدها أخطاؤنا هي التي تشبهت بنا، وأن شعورنا كله لا يستند إلا إلى الأخطاء! ص60

▬ في فعل الخير أو الشر للآخرين، نمارس عليهم سلطتنا-إذ لا نبتغي شيئا عدا ذلك! في فعل الشر، نمارسها على أولئك الذين يجب أولا أن نختبرها فيهم! ذلك أن الألم وسيلة ظاهرة بهذه الغاية أكثر من اللذة: فالألم يحتاج دائمًا إلى علل، في حين أن اللذة ميّالة إلى ألا تُراعي إلا لذاتها دون مراعاة لناحية ما. إننا نمارس قوتنا في فعل أو في إرادة الخير لأولئك الذين يخضعون لنا بطريقةٍ معينة (بمعنى، الذين جرت العادة عندهم بأن يفكروا فينا كما يفكرون في مبرراتهم)، نريد أن ننمّى كثيرا سلطتهم الخاصة، لأنه بهذا الشكل ننمي قوتنا، أو أننا نريد أن نبين لهم ميزة وجودهم في تبعيتنا،ــ هكذا سيرضون أكثر على ظروفهم وسيكونون أكثر عدائية، أكثر قتالية لأعدائنا نحن. أما أن نقدم تضحيات في فعل الخير أو الشر، فلن يبدل ذلك القيمة الأخيرة لأفعالنا في شيء؛ أكان يجب أن نراهن بحياتنا كالمستشهد في سبيل كنيسته،ــ فثمة دائما تضحية لصالح ظمئنا للقوة أو على الأقل للحفاظ على شعورنا بها. كم من السيطرة يحوزُ ذلك الذي يريد أن يحمي الإحساس بأنه "يملك الحقيقة"! كم من الأشياء لم يعد يلقي بها قط من عل، ليبقي في "العلو" أي فوق الآخرين الذين تغيب عنهم الــ "حقيقة"! مؤكد أن الحال التي نسيء فيها، نادرا ما تكون مقبولة، خالصة من كل شائبة مثل الحال التي نحسن فيها-تلك علامة على أن القوة ما تزال تعوزنا، أو ما تزال تفشي بعائق هذا النقص، وافتقارنا للفعل كذلك يُسبب مجازفات جديدة وشكوكا جديدة في قدرة القوة التي حظينا بها سابقا، ويكّدر أفقنا بهواجس الانتقام، الهزء، العقاب والفشل. وحدهم الناس الأكثر حنقا والأكثر عطشا للشعور بالقوة يمكنهم أن يحسوا بلذة أكبر في وصم مُعانِدِهم بخاتم قوتهم: يحسون بمظهر الخاضع لهم، كعبء وغم (باعتباره سبب عطفهم). كل شيء يتعلق بالطريقة التي نطيّف بها عادة حياتنا: المسألة مسألة ذوق في أن نفضل نموا بطيئا للقوة بدلا من نمو مباغت، نموًأ محققا بدلا من نمو مجازف أو مغامر،ــ نختار هذا البهار، أو ذاك، بحسب المزاج. إن ضحية سهلة لشيء جدير بالاحتقار بالنسبة للأمزجة الشامخة، لأنها لا تحس إحساس الراحة إلا عند رؤية أناس لم يستطع شيء أن يضطدم بهم والذين بإمكانهم أن يكونوا لهم معادين، مثلما لا تفتنهم سوى رؤية الحيازات الصعبة البلوغ: إن أمزجة مماثلة تبدو دائمًأ قاسية للذي يتألم، إذ يظهر غير جدير بأنفتها وسعيها، بالمقابل يبدو هؤلاء أولى باللباقة بالنسبة إلى أندادهم الذين سيكون الصراع والمقاومة معهم مشرفين على أي حال، إذا أتيحت الفرصة لذلك. إن الشفقة هي دائمًا المحسوس بها بلذة من طرف أولئك الذين لهم أنفة أقل ولا يستطيعون الوثوق بفتوحاتٍ كبيرة: إن التضحية السهلة في نظرهم-كذا كل كائن يتألم-شيء فاتن. إننا نعظم الشفقة وكأنها عفة المومسات. ص61، 62

▬ عندما نشاهد شخصًا يتألم، ننتهز طوعا الفرصة السانحة لتملكه: ذاك مثلا ما يفعله الإنسان الرحيم والرؤوف ويعتقد بدوره أنه يحس بالـ "حب"، الحب بين الجنسين ما ينفضح بجلاء أكبر كإغراء بتملك منفعة خاصة: فالعاشق يريد تملك المرغوب فيها تملكا يقتصر عليه وحده، يريد أن يمارس سلطة مانعة على روحها، كما على جسدها، يريد أن يكون معشوقًا من طرفها إلى حدود استبعاد أي شخص آخر، أن يسكن هذه الروح، ويهيمن عليها كأنه أسمى من يكون وأشهى بالنسبة لها. إذا فكرنا أن كل هذا لا يعود في مداه، إلا إلى حرمان بقية الناس من الاستمتاع بالنفع وبسعادة عزيزة؛ أن العاشق يسعى إلى إفقار وحرمان كل المنافسين الآخرين ولا يلتمس سوى أن يغدو تنين كنزه، الآسير، المحتال، الأكثر تجردا من الوساوس والأكثر أنانية؛ وأخيرا أن العالم عينه يبدو في عيني العاشق، عديم الأهمية، أكمد، لا قيمة له، وأنه مستعد للتضحية بكل شيء، للإخلال بأي نظام، لاحتقار أي مصلحة أخرى، فهناك ما سيدهشنا، أن هذا الجشع وهذا الجور الهمجيين للكلف الجنسي جاز لهما أن يكونا مبجلين ومعظمين إلى هذه الدرجة كما حصل في أي عصر، وأنه ولو بالغناء في أن نستمد، من نوع العشق هذا، مفهوما للحب باعتباره نقيضا للأنانية، فإن الأمر ربما يتعلق بالتعبير الأكثر وقاحة عن هذه الأخير. هنا، حسب الظاهرة، أن الذين لا يملكون، غير المشبعين ـــ وهم دائما الأغلبية على الأرجح ــ هم الذين ساهموا في التعابير الشائعة للكلام. أما الذين كان القدر، في هذا المجال، قد خبأ لهم الكثير من التمتع والإشباع، فقد انفلت منهم، دون شك، بعض الكلام هنا وهناك بصدد الـ "جنّي الساخط"، شأن ألطف وأحب الآثينيين: سوفوكوليس؛ أما إيروس فقد كان يسخر دائما من مجدفين مماثلين مع أن الأمر كان يتعلق بالضبط بأكبر مُفضليه. أكيد أنه يوجد على الأرض، هنا وهناك نوع من التمديد للعشق، والذي في غضونه استسلم هذا الطمع الجشع والمتبادل بين شخصين، لطمعٍ جديد، لجشعٍ جديد، للظمأ المتفوق المشترك لمِثَل يستعلي عليهما: لكن، من يعرف هذا الحب؟ من خَبَرَهُ؟ إن اسمه الحقيقي هو: صداقة. ص62، 63

▬ ــــ ماذا سأفعل بهذين اليافعين! صرخ بتبرم فيلسوف كان يفسد الشبيبة مثلما أفسدها سقراط قديما،ــ إنهما بالنسبة لي مريدان غير مرغوب فيهما. فذاك لا يعرف أن يقول لا، وهذا يقول في كل لحظة: "من زاويةٍ ما"... لنفترض أنهما أدركا مذهبي، سيعاني الأول منه كثيرا، ذلك أن طريقة تفكيري تقتضي نفسًا شرسة، إرادة التعذيب، رغبة في قول لا، جلدا صلبا-سيستسلم لجراحاته الظاهرة والخفية. وأما الثاني فكل قضية يدعمها سيكون مستعدًا ليجعل منها قضية بين بين-إن مريدًا مماثلًا أتمناه لعدوي! ص74

▬ إذا قوَّمنا عموم رغبة الانفجار الكامنة في طاقة الشباب، فلن نستغرب إذا رأيناهم يعزمون على هذه المصلحة، أو تلك بقليل من الدقة وبقليل من الرَّوية في اختيارهم: إن ما يحرضهم هو الغليان الذي تثيره مصلحة ما، أي رؤية الفتيل مُشعلا تقريبا-لا المصلحة في حد ذاتها. كذلك يدرك الغاوون المرهفون جدا كيف يَعِدون بالانفجار والتغاضي عن تبرير مصلحتهم: ليس بالتبريرات قط نربح براميل من بارود مماثلة! ص76

▬ هذه الظواهر الغريبة التي هي اللامبلاةُ الفجائية في سلوك الإنسان العاطفي، دعابةُ الإنسان السوداوي، مثل الكرم الذي يرفض بالخصوص الانتقام وإشباع الرغبة فجأةــ تتولد عند أناس تفعل فيهم طاقة قوية على التبذير، عند أناس ذوي الامتلاء الفُجائي والاشمئزاز الفجائي. إن تعويضاتهم جد سريعة وجد قوية لدرجة أن يتعقبها الضجر والنفور وفرارٌ مستهامٌ للذوق المناقض مباشرةً: في هذا التقابل تنحل أزمة الحساسية، عند فلان بلامبالاة فجائية، عند فلان آخر بالضحك، وعند ثالث بدموع وبتضحيات بالنفس. يبدو لي أن الكريم ـــ على الأقل من هذه الفصيلة من الكرماء التي كان لها دائمًا إحساس مفرط ـــ إنسان متعطش إلى الانتقام بدرجة عليا، والذي تتاح له إمكانية إرواء الغليل، ومن خلال تصوره لذلك يستلذها ويرتوي بها بوفرة وبعمق إلى آخر قطرة، حتى يعقب هذا الجنون المباغت، اشمئزاز رهيب مباغت-ومستقبلا يعلو على ذاته كما يقال، ويصفح عن عدوه بل يمجده ويبجله. بهذا العنف الذي يمارسه على نفسه، بهذا الشكل الذي يهين به اندفاعه للانتقام الذي كان قويا من قبل، فإنه لا يستزيد إلا الاستسلام للاندفاع الجديد الذي يهيمن، بدوره، عليه الآن، ويفعل ذلك بنفاذ صبر وبجنون مثلما كان من قبل يحدث لذة الانتقام توهما، لدرجة استنفاذها تقريبا. إن مدى الأنانية الذي يوجد في الكرم نفسه يوجد في الانتقام، غير أنه نوع آخر من الأنانية. ص82، 83

▬ وأنتم أيها الرجال المتحفظون، الذين تشعرون بالحذر ضد الشغف والجنون، والذين تصنعون من فراغكم عن طيب خاطر موضوع كبرياء وزينة، تدّعون بأنكم واقعيون وتزعمون أن كذلك يبدو العالم لكم، وكذلك يكون في الواقع: لكم وحدكم يعرض الواقع نفسه عاريا وأنكم ربما كنتم أحسن ضلع فيه.. لكن ألستم دائما، حتى في حالتكم الأكثر انكشافًا، أناسًا هائمين ومظلمين بصراحة، مشبّهين بالأسماك ومتشابهين فوق الحد أيضًا لفنان عاشق؟ــ وبلتالي ما "الحقيقة" بالنسبة لفنان عاشق! إنكم لا تكفون قط عن استرجاع طريقة قديمة ما في تقييم الأشياء، طريقة لها أصلها في أهواء وشغوفات القرون القديمة! إن تحفظكم ذاته سيظل مشبعا بنشوة خفية متعذر إخمادها! إن حبكم لل "حقيقة" مثلا - ليس سوى شغف قديم، آه كم هو قديم! في كل إحساس، في كل انطباع بالغ يكمن جزء من هذا الشغف القديم، وبعد كل حساب، فقد كان للاستبشاح، للحكم المسبق، للجهل، للاوعي ولا أعرف أي أشياء أخرى، نصيب في تشكيل ذلك! انظروا إلى هذا الجب، وإلى الغيمة هناك! ما الـ "واقعي" فيهما إذن؟ غضوا النظر عن الاستيهام وعن كل إسهام بشري أيها الرجال المُتحفظون! آه لو كنتم تقدرون! لو أنكم على الأقل كنتم تستطيعون نسيان أصلكم، ماضكيم، تكوينكم السالف- مجموع إنسانيتكم وحيوانيتكم! لا توجد "حقيقة" قط بالنسبة لنا - لا ولا لكم أيها الرجال المتحفظون - وكلانا غير غريب عن الآخر كما تزعمون، وربما استحق استعدادنا للخروج من النشوة من العناية مقدار إيمانكم بأنكم غير قادرين حتى على الانتشاء. ص88

▬ عندما نعشق امرأة، نمقت بسهولة كل أنواع الأشياء الكريهة التي أخضعت الطبيعة المرأة لها، طواعيةً نبعدها عن عقولنا، لكن عندما يحدث أن تلمس أرواحنا هذه الأشياء، فإنها ترتعش بنفاذ صبر وتنظر للطبيعة بمظهر احتقار: إن الطبيعة تغيظنا، الطبيعة التي يبدو أنها تغتصب ثروتنا، وذلك بأيادٍ جاز لها انتهاك الحرمات. نرفض الاستماع لأدنى مصطلح من مصطلحات الفيزيولوجيا، ونعلن في أنفسنا: "لا أريد أن أسمع شيئا من جراء أن الإنسان شيء آخر أيضًا غير روح وصورة!"، إن عبارة الــ كائن بشري تحت البشرة" قبيحةٌ جدا، وشيءٌ غير معقول بالنسبة لكل العشاق، إنها تدنيس في حق العشق. والحال أن هذا النوع من الاشمئزاز الذي لا يكف العاشق يحس به تجاه المظاهر الدنيئة للطبيعة، كان كل عابد للإله و "جبروته" يحس به فيما مضى: في كل ما كان يقوله الفلكيون، الجغرافيون، الفيزيائيون، الأطباء عن الطبيعة، كان يرى فيه تدخلا في قدرته الخاصة العزيزة، فهو اعتداء إذن-وفضلا عن ذلك هو عدم حياء من طرف المعتدي! لقد كانت "قوانين الطبيعة" أيضا مخالفة للأخلاق بالنسبة له مثلما هي تجديف: جوهريا، كان بوده أن يُرجع كل أولولية لأفعال أخلاقية إرادية أو اعتباطية: وبما أنه لم يكن باستطاعة أحد أن يؤدي له هذه الخدمة، فقد اكتتم لنفسه، قدرما استطاع، الطبيعة وإواليتها وعاش كأنما في حلم. آة لقد كان هؤلاء الناس الغبرون يمهرون في الحلم ولهذا لم يكونوا بحاجة إلى أن يناموا!-ونحن أناس اليوم، مازلنا نمهر في ذلك أكثر بكثير رغما عن استعدادنا للسهر ولوضح النهار"! يكفي أن نعشق، أن نكره، أن نشتهي، وببساطة أن نحس، لكي يوحي إلينا الطيف وقوة الخيال. وها نحن نرتقي بتيقظ، المسالك الأكثر خطورة، غير آبهين بكل مخاطرة، على السطوح على الأجراف وعلى أبراج التخيل دون أدنى  دوار، للتسلق خُلقنا-نحن مترنمو النهار! نحن الفنانون! نحن كاتمو الطبيعة! نحن غريبو الأطوار والباحثون عن الإله! نحن المسافرون إلى صمت الموت، المسافرون الجلد على أعالي لا نحسبها كذلك، نعتبرها سهولنا، نعتبرها يقينياتنا. ص90

▬ جيء بشباب عند حكيم: "هذا واحد-قيل له-من الذين أُفسِدوا من طرف النساء!" أخذ الحكيم يبتسم وهو يهز رأسه: "إن الرجال هم الذين يفسدون النساء، وكل ما يغيب عن النساء يجب أن يُكفّر عنه وأن يُصلَح من طرف الرجال-ذلك أن الرجل يشكل صورة عن المرأة، والمرأة تظهر طبقا لهذه الصورة" ـــ أنت مفرط اللطافة مع النساء، قال أحد الحاضرين، إنك لا تعرفهن قط!" فأجاب الحكيم: "إن طبيعة الرجل إرادة، بينما طبيعة المرأة قبول-هذا ناموس الأجناس-قاس على النساء"! كل الكائنات البشرية بريئة من وجودها، والنساء كذلك لكن من درجة ثانية: من إذن يمكنه أن يملك كفاية من المسح والرأفة على النساء!" ــ "المسح! الرأفة! ماذا تقول؟ صاح آخر من بين الجمع: الأمر يتعلق بأن نربي النساء أفضل!" "الأمر يتعلق بأن نربي الرجال أفضل"، قال الحكيم، وأشار على الشاب بأن يتبعه. ــ لكن الشاب لم يتبعه قط. ص92

▬ إن الحيوانات تتصور الإناث بخلاف ما يتصوره الرجال عليهن: الأنثى بالنسبة إليها، قيمتها في طبيعتها الإنتاجية. لا وجود عندها، أي الحيوانات، لحب أبوي، هناك شيء يشبه الحب الذي نكنه لأبناء العشيقة، والطريقة التي نتعود عليها في ذلك. تجد الإناث في صغارهن إشباعًا لرغبتهن في السيطرة، يجدن فيهم ملكية ما، انشغالا ما، شيئا واضحًا بالنسبة لهن تمامًا، يمكن أن نثرثر معه: كل هذا يكوّن الحب الأمومي-مثيل حب الفنان لأثره. إن الحَملَ قد صيّر النساء حنونات أكثر، صبورات أكثر، هلوعات أكثر، لقد أعدّهن جيدًا للإذعان، وكذلك الحمل الفكري ينمي طبع مُحبي التأمل، حليفي الطبع الأمومي: أولئك أمهات ذكورية. وعند الحيوانات يعرف الجنس المذكر بالجنس اللطيف. ص94

▬ رأى قديس رجلا قاصدا إياه وهو يحمل وليدا: "ماذا عساي أن أفعل بهذا الطفل، سأل هذا الأخير، فهو مُعدِم، مُخِف، ولم يعش كفاية ليموت". ـــ "اقتله"، صاح القديس بصوتٍ عنيف، "اقتله وخذه ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ بين ذراعيك، حتى تتذكر ذلك: بهذا لن تلدن طفلا أبدا إذا لم يكن الوقت ملائما". عندما سمع الرجل هذه الكلمات، رحل خائبًا: ولام كثير من الناس القديس لكونه نصح بالإقدام على فعلٍ قاسٍ، كقتل طفل. "لكن أليس أكثر قساوة أن ندعه يعيش؟" قال القديس. ص95

▬ إنهم الفنانون أولا، وبخاصة الفنانون المسرحيون، الذين منحوا الناس أعينا وآذنًا للنظر والسماع بشيءٍ من الحبور إلى ما يكونه كل واحد في حد ذاته، ما يحس به كل واحد، ما يريده كل واحد: إنهم الذين أولا علمونا كيف نحترم البطل المتخفي في كل واحد من هؤلاء الرجال العاديين، هم الذين علمونا فن اعتبار أنفسنا كأبطال، من بعيد، مغيري الهيأة تقريبًا-علمونا فن إخراج أنفسنا نحن بأم أعيننا. هكذا أتيحت لنا بوسائلنا الخاصة، إمكانية صرف النظر عن بعض تفاصيلنا الحقيرة! دون الفن ذاك لن نكون عدا "صورة مكبّرة" ولن نفتأ نحيا كلية تحت زاوية هذه البصرية التي تُكبِّر ببشاعة ما هو مباشر ومتداول وتظهره كحقيقة في حد ذاته. ربما كان لها استحقاق مماثل، هذه العقيدة التي تأمر بتفحص الخطأ مجهريًا عند كل إنسان، والتي تجعل من المذنب مجرمًا أبدًا كبيرا: وبرسم أبعاد أزلية حوله، فإنها تُلقِّن الناس كيف يعتبرون أنفسهم من بعيد، كشيء ماضٍ وحاصل. ص97

▬ قال أحد المبدعين لأحد مريديه: "أنا متعطش لأستاذ في فن الأصوات يعرف كيف يتعلم أفكاري ويعبر عنها في المستقبل بلغته الخاصة: بذلك سأنفذ بشكل أفضل إلى الآذان وقلوب الناس. الأصوات تمكن من إغوائهم في كل خطأ كما في كل حقيقة: منذا سيفكر في إبراز خطأ صوت؟| ـــ "هكذا تريد أن تعتبر غير قابل للحضور؟" قال المريد. ردّ المبدع: "أود أن أرى البذرة تصير شجرة. ولكي تصير نظرية ما شجرة، يجب أولًا أن يُعتقد فيها/ أن تُعتبر غير قابلة للدحض. العاصفة، الشك، الهامة، الخبث امتحن الشجرة لكي يظهر نوعٌ وقوة بذرتها، لتنكسر إن لم تكن قوية! لكن فيما يخص البذرة فإنه لا يمكن أبدًا سوى أن تُباد-لا أن تُدحض!" ــ حين انتهى من قول هذا، صرخ مريده باندفاع: "لكني أنا الذي أؤمن بقضيتك أعتبرها متينة جدا حيث سأجرؤ على قول كل ما ينطوي عليه قلبي وإن كان ضدها" ــ ضحك المبدع في سره قال مهددا إياه وهو يشير بأصبعه: "لن نستطيع أن نجد مريدين أفضل، غير أنهم الأخطر، وثمة نظريات عديدة لن تؤيدهم". ص118، 119

▬ لو لم نستحسن الفنون ونبدع هذا النوع من عبادة اللاحقيقي فلن نستطيع إطلاقا تحمل الملكة التي يمنحنا إياها العلم، ملكة فهم الروح الكونية للاحقيقة وللكذب-فهم الهذيان والخطأ باعتبارهما شرطين للوجود العارف والحساس. ستكون عاقبة النزاهة هي الاشمئزاز والانتحار، ويحدث، والحالةُ هذه أن نزاهتنا تمتلك ملاذًا قويًا للتهرب من عاقبة مماثلة: الفن، باعتباره موافقة للظاهر. إننا لا نمنع دائمًا نظرنا من أن يحدّ وينهي ما نتخيله: وآنئذ ليس النقص الأبدي هو ما نحمل ما وراء نهر الصيرورة-لكننا نعتقد أننا نحمل آلهة ونظهر أنفسنا فخورين وطفوليين بإسدائنا هاته الخدمة لها. باعتبار الوجود ظاهرة جمالية فإنه دائمًا ممكن التحمل لدينا، وبموجب الفن فإن العين واليد وقبل كل شيء راحة الضمير قد وهبت لنا كي نستطيع أن نتحول إلى مثل هذه الظاهرة. إنه لمن الضروري أن نروّح عن أنفسنا من حينٍ لآخر لصالح الفن الذي يمكننا من تأمل أنفسنا، من أعلى، وأن نضحك علاوة على ذلك، من أنفسنا أو نبكي عليها: أن نكشف البطل وكذلك البهلوان اللذين يختبئان في شغفنا للمعرفة، أن نستمتع من حينٍ لآخر بجنوننا كي نستمر في الاستمتاع بتعقلنا!-ولأننا في العمق عقول خطيرة، ولنا جسامة الوزن بدل جسامة الرجال، فلا شيء يستطيع أن يحسن إلينا أفضل من قبعة الجنون: إننا في حاجة إليها حاجتنا إلى دواء ضد أنفسنا-نحن في حاجة إلى كل فن مرِح، طافٍ، راقص، ساخر، طفولي وجدي، حتى لا نفقد أي شيء من هاته الحرية التي تعلو على الأشياء التي تنتظر منا نحن أن نكون مثلها الأعلى. ستكون انتكاسة لنا أن نسقط كليةً في الأخلاق بفعل نزاهتنا النزقى ذاتها، وبتلبية مطلب مفرطة فإننا ننتهي بأن نصير مسوخا وفزّاعات فضيلة. يجب أن نكون قادرين كذلك على البقاء ما فوق الأخلاق: وليس فقط أن نمكث بالتصلب القلِق لامرىءٍ يخشى أن ينزلق ويسقط في كل لحظة، بل أن نتجاوزها ونمرح بعيدا! كيف إذن سنحرم أنفسنا من الفن، كيف سنحرم من المجنون فينا؟ ــ وطالما أن فيكم شيئًا من الخجل من أنفسكم فلن تكونوا منّا بعد! ص119

▬ منذ أن تعلَم أنه ليست هناك غاية فإنك ستعلم أن لا صدفة هناك. لأن كلمة "صدفة" ليس لها معنى إلا بالقياس إلى عالم الغايات. لنحذر القول أن الموت نقيض للحياة. الحي ليس إلا نوعا مما هو ميت، ونوعا نادرا جدا. ــ لتحذر الظن أن العالم أبدا يخلق شيئًا جديدا. ليست هناك مادة دائمة بشكلٍ أزلي؛ المادة خطأ مثل إله الإيليين.. متى إذن سنتخلص من حذرنا ومن همومنا؟ متى تكف كل ظلال الإله هاته عن حجب النور عنّا؟ متى سنزيل صفة الأولوهية كليةً عن الطبيعة؟ متى سيسمح لنا بأن نتطبّع، نحن الناس، مع الطبيعة الخالصة المُكتشفة من جديد، المُحررة من جديد ؟ ص123

▬ من أين نشأ المنطق في رؤوس الناس؟ لا شك من اللامعقولية التي كان مجالها شاسعًا في الأصل. لكن كائنات لا تُحصي كانت تستنتج بطريقة غير التي نستنتج بها الآن قد هلكت: ربما يكون هذا أصح مما نظنه! مثلا، من لم يكن يعرف في غالب الأحيان تمييز الـ "مماثل" فيما يخص الغذاء أو الحيوانات الخطيرة عليه؛ الذي كان بالتالي بطيئا جدا في الترتيب، متيقظا جدا في الترتيب، قد كانت له حظوظ في البقاء أقل من الذي يقع مباشرةً على المماثل ضمن كل أنواع الحقائق المتشابهة. لكن الميل السائد إلى اعتبار الشبيه كالمماثل ـــ ميل لا معقول، لأنه لا يوجد شيء مماثل في ذاته ــ هذا الميل قد خلق أساس المنطق نفسه. كان لابد كذلك، لكي يمكن تطور مفهوم الجوهر الذي لا غني للمنطق عنه ألا يناظره شيء واقعي بحصر المعنى، أن تبقى تغيرية الأشياء لمدة طويلة خفية وغير مضبوطة؛ لقد كان للكائنات غير المزودة بنظر دقيق سبقٌ على الذين كانوا يرون كل الأشياء كما لو كانت "في تدفق أبدي". كل تيقّظ بالغ في الاستنتاج وكل ميل شكوكي يشكلان لوحدهما خطرا كبيرا على الحياة. لم يكن أي كائن حي ليبقى لو أن الميل المعاكس لإثبات الحكم بدلا من تعليقه، للتيه والتخيل بدلا من الانتظار، للموافقة بدلا من الإنكار، للحكم بدلا من الإنصاف ــ لو أن لم يُثر بشكلٍ قوي جدا. إن سياق الأفكار والاستنتاجات المنطقية في دماغنا الحالي تطابق سياق وصراع دوافع هي بنفسها لا معقولة وجائرة: إن الإلوالية القديمة تجري فينا الآن بشكلٍ سريعٍ وخفي جدا بحيث لا ننتبه أبدا إلا إلى نتيجة الصراع. ص125

▬ العلة والمعلول: ربما لا توجد مثل هذه الثنائية أبدا ــ إننا في الحقيقة أمام مجموعة متصلة نعزل منها بعض الأجزاء، كذلك لا ندرك أبدا إلا نقطًا معزولة من حركةٍ لا نراها في جملتها، لكننا نفترضها فقط. إن الفُجاءة التي يحلُ بها عددٌ كبيرٌ من المعلومات محل البعض تخدعنا: لكنها بالنسبةِ لنا ليست إلا فُجاءة. هناك مجموعة لامتناهية من السيرورات التي تفوقنا في هاته الثثانية من الفُجاءة. إن الفكر القادر على رؤية العلة والمعلول ليس على طريقتنا أي باعتباره الكائن المقسّم والمجزأ تعسفيًا، لكن باعتباره مجموعة متصلة Continuum ، القادر إذن على رؤية مجرى الأحداث ــ سيرفض مفهوم العلة والمعلول وينكر كل شرطية. ص126

▬ لقد رُبي الإنسان بأخطائه: فهو لم ير نفسه أولا إلا ناقصًا؛ ثانيًا، ادّعى ميزاتٍ وهمية؛ ثالثًا، أحس أنه يَشغَل في تراتبية الحيوانات مرتبة خاطئة بين الحيوان والطبيعة؛ رابعًا، لقد ابتكر باستمرار سلالم جديدة للقيم، اعتبرها البعض لوقت، أزلية ومطلقة، حيث أن الدافع الإنسان كذا أو الحالة الإنسانية كذا، كانا يجدان نفسيهما بالتناوب في المرتبة الأولى، معظمين بهذا التقدير. لو غضننا الطرف عن أثر هاته الأخطاء الأربعة سنكون قد غضضنا النظر عن مفاهيم الإنسانية، عن الإحساس الإنساني وعن "الكرامة الإنسانية". ص127

▬ أينما توجد الأخلاق يوجد تثمينٌ وتراتبية الاندفاعات والأعمال الإنسانية. مثل هذا التثمين وهاته التراتبية يعبران دائمًا عن حاجيات جماعة، عن حاجيات جمهور قطيعي: فما يعود عليه بالنفع بالدرجة الأولى-كما الذي بالدرجة الثانية أو الثالثة-يشكل أيضًا المعيار الأسمى لقيمة كل الأفراد. بالأخلاق يجد الفرد نفسهُ مُستدرَجًا ليكون تابع القطيع وإلى عدم ادعاء أية قيمة إلا باعتباره تابعًا. بما أن شروط بقاء طائفة كانت شديدة الاختلاف عن شروط بقاء طائفة أخرى، فقد وُجدت أخلاق شديدة الاختلاف؛ وإذا ما تأملنا إعادة الصهر الجوهرية التي ستصدر عن الشرائح القطيعية وعن الطوائف، عن الدول وعن المجتمعات، فإننا سنستطيع أن نتنبأ بمجيء أخلاق شديدة الاختلاف. فالأخلاقية ليست سوى الغريزة القطيعية الفردية. ص127، 128

▬ إبان عهود الإنسانية الغابرة والطويلة كان هناك نوع من تبكيت الضمير غير الذي هو في الحاضر. فالناس لا يشعرون بالمسؤولية اليوم إلا عما يريدون وعما يفعلون، ويحملون في ذاتهم موضوع أنفتهم: كل مشرّعينا ينطلقون من هذا الإحساس باللذة والرضى الذي يلمسه الفرد في ذاته كما لو كان هذا منبع القانون منذ الأزل. ولكن خلال أطول مدة من تاريخ الإنسانية لم يكن هناك أبشع من إحساس الفرد بكونه معزولا. فأن تكون وحيدا، أن تكون لك طريقتك الخاصة في الإحساس، ألا تطيع ولا تسود، أن تشكل فردا، ــ هذا الذي لم يكن في الماضي لذة، بل عقوبة؛ لقد كان محكومًا على الناس "بالفرد". فحرية التفكير كانت تُعتبر الشقاء ذاته. وبينما نحس نحن بالقانون والاندماج كإكراه وحرمان، كان الناس يحسون بالأنانية كمسألة مضنية، كضيق حقيقي. أن تكون ذاتك، أن تقيّم ذاتك تبعا لوزنك ومقاييسك الخاصة ــ هو ذاما. كان في الماضي منافيا للذوق. لربما اعتبر الميل لهذا الاتجاه جنونا: لأن مجرد أن تكون وحيدا كان يستتبع كل المصائب، كل المخاوف. فيما مضى كان الإحساس بالخطأ جارّ "القدرية" القريب؛ فكلما تصرف الناس بحرية أقل، كلما تجلّت الغريزة القطيعية، لا المنحى الشخصي، في الفعل، كلما حسب الناس أنهم أخلاقيون. فكل ما يُلحِق الضررَ بالقطيع، سواء الفرد أم أبى، كان يسبب تبكيت الضمير ليس فقط للفرد ذاته ــ لكن لجاره، بل للقطيع كله! ــ وهذا ما غيّرنا فيه حكمنا أكثر. ص128

▬ ألاحظ لدى كثير من الأشخاص فائضًا من القوة ومن اللذة ينزع بهم ليصيروا تابعين: لهم فطنة ثاقبة لكل المواضع التي يمكن أن يكونوا فيها هم أنفسهم تابعين، فيسارعون إلى شَغلِها. في هذا الصنف نجد النساء اللائي يتحولن إلى تابع للرجل الذي لم يتطور لديه هذا التابع إلا قليلا؛ على هذا النحو يصرنَ إما بورصة هذا الرجل، إما سياسته وإما اجتماعيته. مثل هاته الكائنات تحافظ على نفسها بالاندماج في جسدٍ غريب: وإذا لم تفلح في ذلك، تغتاظ، تغضب وتأكل بعضها. ص129

 ▬ أما سمعتم بذلك الرجل الأخرق الذي بعد أن أوقد فانوسه في وضح النهار،صار يجري في ساحة السوق ويصيح دون توقف: "أبحث عن الإله! إني أبحث عن الإله!" ــ ولما كان كثير ممن لا يؤمنون بالإله متواجدون هناك بالضبط فقد أثار ضحكًا كثيرًا. هل فقدناه؟ قال أحدكم. هل شرد مثل طفل؟ قال آخر. أم يختفي في مكانٍ ما؟ هل هو خائف منا؟ هل أبحر؟ هل هاجر؟ ـــ هكذا كانوا يصيحون ويضحكون جميعا في ذات الوقت. سارع الأخرق إلى وسطهم واخترقهم بنظراته. "أين الإله؟ صاح فيهم، أنا سأقوله لكم! لقد قتلناه-أنتم وأنا! نحن كلنا هم قتلته! ولكن كيف فعلنا ذلك؟ كيف استطعنا أن نفرغ البحر من أعطانا الإسفنجة لمحوِ الأفق كله؟ ماذا فعلنا بإبعادنا هاته الأرض عن شمسنا؟ إلى أين تسير الآن؟ إلى أي شيء تقودنا حركتها؟ أبعيدا عن كل الشموس؟ ألم نندفع في منحدر طويل؟ وذلك إلى الخلف، إلى الجانب، إلى الأمام، إلى كل الجوانب؟ أما يزال هناك أعلى وأسفل؟ ألسنا نتيه كما لو عبر عدم مطلق؟ ألا نحس نفس الفراغ؟ أليس جو أبرد مما كان؟ أليس الوقت ليلا باستمرار ويصير ليلا أكثر فأكثر؟ ألا يجب أن نوقد الفوانيس منذ الصباح؟ ألا نسمع شيئا بعدُ من ضوضاء الرمّاسين الذين دفنوا الإله؟ ألا نشم شيئا أيضًا من التدعص الإلهي؟ ــ فالآلهة أيضًا تتدعّص! مات الإله! ويظل ميتا! ونحن هم الذين قتلناه! كيف سنعزي أنفسنا نحن أكبر القتلة؟ إن أقدس وأقوى ما ملك العالمُ إلى الآن قد نزف دمَه بطعنات مُدادنا ــ من سيمسح هذا الدم عن أيدينا؟ أي ماء سيطهرنا؟ أي مراسيم تكفيرية، أية ألعاب مقدسة يجب علينا أن نبتكر؟ وعِظَم هاته الفعلة، أليس شيئا يفوق طاقتنا؟ ألا يجب علينا أن نصير نحن أنفسنا آلهة كي نبدو جديرين بهاته الفعلة؟ لم تحدث أبدا فعلة أعظم من هاته - وكل من سيولد بعدنا سينتمي، بمقتضى هاته الفعلة نفسها، لتاريخ أسمى مما كان عليه التاريخ الآن!" هنا توقف الرجل الأخرق وتأمل مستمعيه: هم بدورهم ركنوا إلى الصمت وصاروا ينظرون إليه دون أن يفهموا. وأخيرًا ألقى بفانوسه على الأرض حتى أنه انكسر وانطفأ. "لقد حَلَلتُ قبل الأوان، قال إثر ذلك، لم يحن أواني بعدُ. هذا الحدث الرائع ما يزال يمشي ويسافر - لم يبلغ آذان الناس بعد. يلزم الصاعقة والرعد بعضُ الوقت، يلزم ضوء النجوم بعض الوقت، يلزم الأفعال بعض الوقت، يلزمها كلها بعض الوقت، بعد تمامها، لتُرى وتُسمع. هاته الفعلة أبعد عنهم من النجوم الأشد بعدا - ومع ذلك فإنهم هم الذين قاموا بها!" ويحكي أيضًا أن الرجل الأخرق دخل في نفس اليوم مختلف الكنائس حيث رتل "ترانيم صلاة الله الأبدية" ولما طُرِدَ خارجا وأُرغِمَ على تبرير سلوكه لم يكف عن تكرار: "ما هي هاته الكنائس إذن إن لم تكن مدافن وقبور الإله؟". ص132، 133

▬ إن طباعًا مثل طبع الحواري بولس لا تملك إلا عينًا لامّة تجاه الشهوات: فهي لا تسعى لأن تعرف منها إلا ما يُوسّخ، ما يُشوه، ما يقطع القلب، ــ فأمنيتها المُثلى بالتالي هي تحطيم الشهوات: إنها لا تشعر بنفسها مُطهرة تمامًا إلا فيما هو إلهي. وعلى عكس بولس واليهود تمامًا فإن الإغريق قد خصصوا أمنيتهم المُثلى للشهوات بالضبط وأحبوها، مجّدوها، زخرفوها، وألّهوها. لم يكونوا، بكل بداهة، شعرون فقط بسعادة أكثر في الشهوة، بل أيضًا بطهارة وبربانية أكثر من المعتاد. ص138

▬ إنه في حالة خطرة! - مم يعاني؟ - من الرغبة في أن يُمدح، ولا يملك ما يلبي به رغبته. ـــ إنه شيء غير معقول! فالكل يحتفي به، يشيد به، ولا يأخذونه بالأحضان فقط، بل إن اسمه على كلِ لسان! - لا شك في ذلك، غير أنه لا يصغي للمديح. فإن كان الذي يمدحه صديقًا فإنه يبدو أنما يريد أن يمدح نفسه، وإن كان عدوا كان كأنه لا يرتضي ذلك إلا لينال الثناء؛ وأخيرًا إن كان الذي يمدحه واحدًا من الآخرين-وما بقي منهم إلا القليل، فهو جد مشهور! ها هو ذا نَكد: لا يرغب الناس أن يكون لهم صديقًا ولا عدوا. وقد اعتاد أن يقول: لا يهمني ذاك الذي يدّعي أنه مُنصفي! ص146

▬ "واهاً أيتها الشراهةُ الملعونة! لم يعد كفران الذات يقيم في هاته الروح- بل ذات تشتهي كل الأشياء، تتمنى أن ترى من خلال كثير من الأفراد كما لو بأم عينيها، وأن تمسك كما لو بيديها، ذات مسترجعة للماضي كله كذلك، لا تريد أن تفقد شيئًا من كل ما قد يكون ملكا لها تماما! واهاً يا شُعلة شرهي الملعونة! ليتني أستطيع أن أولد من جديد في مئات الكائنات!" ـــ إن من لا يعرف هذا التأوه عن تجربة لا يعرف شغف العارف أيضًا. ص158

▬ الحاصل أن قليلا من الأشخاص لهم ثقة في أنفسهم:- وضمن هذا العدد الضئيل يتلقاها البعض، بطريقةٍ فطرية، كعمًى نافع أو كتعتيم جزئي لعقولهم - (كم سيبصرون لو أنهم استطاعوا أن يروا في عمق أنفسهم!) أما البعض الآخر فعليه أن يكتسبها أولا: فكل ما يفعلونه من خير، من عملٍ ذي قيمة، من عملٍ عظيم، يصلح أولا كحجة ضد الشكوكي المقيم فيهم: يتعلق الأمر بإفحام هذا الشكوكي أو إقناعه، وهذا يتطلب عبقرية تقريبًا. إنهم أكبر اللاراضين عن أنفسهم. ص169

▬ [...] نحن أنداد شعاع الضوء الذين نفضل امتطاء جزء من الأثير، مثله، لكن في الاتجاه المعاكس، مسارعين نحو الشمس! هذا مستحيل: ـــ لنفعل إذن ما نستطيعه: لنحمل الضوء إلى الأرض، لنكن "ضوء الأرض!" لأجل هذا نحن مجنحون وسريعون وقساة، نتيجة لهذا نحن رجوليون، بل شديدو المراس مثل النار. ليخشنا أولئك الذين لا يعرفون كيف يصطلون ولا كيف يستنيرون قرب النار التي هي نحن! ص174

▬ أحبُّ العادات القصيرة وأعتبرها أنفسَ وسيلة لمعرفة عدد من الأشياء والحالات حتى عمق عذوبتها ومرارتها: طبيعتي كلها مخلوقة لعادات قصيرة بقدر ما أستطيع رؤيته: من أخمصها إلى أعلاها، حتى من جهة متطلبات صحتها الجسدية، وبشكلٍ مطلق. أنا أعتقد دائمًا أن هذا يملك ما يرضيني بشكلٍ دائم- فللعادة القصيرة هي الأخرى إيمان الشغف، إيمان بالأبدية ــ وأتخيلني محسودًا لأني عثرت عليها وتعرّفتُ عليها: ومنذ ذلك الحين وهذا الاعتقاد له الفضل في إطعامي صباح مساء وفي نشر اعتدال عميق حوله وهو وفي أنا حتى أنني لا أشتهي شيئًا دون أن يكون على أن أقارن أو أحتقر أو أبغض.يأتي اليومُ الذي يكون فيه الشيء الحسن قد أدى مهمته: فيفارقني، ليس كما لو صار موضع اشمئزاز-لكن بهدوء، وقد شبع مني كما شبعتُ منه، وكما وجب علينا عرفانٌ متبادلٌ بالجميل، إذن نكون مستعدين لنتصافح لحظة نتوادع! والشيء الجديد ينتظرني بعدُ بالباب، وكذلك الاعتقاد ــ الأحمق الرصين، الحكيم الرصين! ـــ الاعتقاد بأن هذا الشيء الجديد سيكون الشيء العادل، العادل قطعًا. بالنسبةِ لي فإن الأمر كذلك في الوجبات والأفكار والرجال والمدن والقصائد والموسيقى والعقائد وبرامج اليوم وأساليب العيش. - في المقابل أبغض العادات الدائمة، وأحس كأن طاغية يقترب وكأن جوي قد تسمم بمجرد أن تأخذ الظروف منحًى من شأنه أن يوجِد بالضرورة عادات دائمة: بواسة وظيفة مثلا، أو بواسطة حياة في صحبة دائمة لنفس الأشخاص، بواسطة سكن مستقر أو بواسطة نمط واحد من الصحة. نعم، أعرف ، في عمق روحي وإرضاءً لصحتي الرديئة ولكل ما هو على غير ما يرام فيّ، كيف أوفر لنفسي مئات المسالك الخفية من حيث أستطيع الإفلات من العادات الدائمة. - إن الذي لا يُطاق دون شك، وما سيكون فظيعًا بالنسبةِ لي هي حياة خالية تماما من العادات، حياة ستتطلب ارتجالا متواليا: - ستكون منفايَ وسيبِريايَ. ص175، 176

▬ يتميز الناس المتفوقون عن الأراذل بما يسمعونه ويرونه بطريقةٍ لا توصف، وإنهم لا يرون ولا يسمعون إلا وهم يتأملون- وهذا ما يميز الإنسان عن الحيوان، مثلما يميز الحيوانات الراقية عن الدنيا. إن العالم يغتني أكثر باستمرار في نظر الذي يتطور وهو يسمو في أعالي الإنساني؛ تُلقى إليه إغراءاتُ الفائدة المتكاثرة: تزداد كميةُ إثاراته باستمرار متزامنة مع مختلف أصناف متعته واشمئزازه ـــ هكذا يصير الإنسان المتفوق سعيدا أكثر وتعسًا أكثر في الوقت ذاته. بينما هو دائمًا مرفوق بجنونٍ ما: فهو يعتقد أنع وضع في الحقيقة، بكونه مشاهدًا ومستمعا، أمام العرض السمفوني الكبير، الحياة؛ إنه يسمي طبعه تأمليًا دون أن يتنبه لكونه هو نفسه شاعر الحياة كذلك الذي يتتبع تبلورها الشعري-وأنه يتميز دون شك عن ممثل هاته المأساة الذي يزعم أنه رجلُ الفعلِ، بل يتميز، أكثر من ذلك، عن المتأمل البسيط المدعو إلى الحفل ليجلس في صدر المسرح.. إن القوة التأملية، أي النظرة الاستعدادية لعمله، خاصة بالشاعر بكل تأكيد، كما هي خاصة به أكثر من ذلك،  وقبل كل شيء، القوة الإبداعية التي تنقص رجل الفعل تمامًا، رغم المظاهر ورغم الرأي السائد. إننا نحن المولعون بالتأمل-الرقيقو الطبع، هم في الواقع من ينتج باستمرار شيئًا لا يوجد بعد: كليةَ العالم النامية أبدا، ننتج تقديرات، ألوانا، أوزانا، منظورات، درجات، تأكيدات ونفيا. إن هذا الخلف الشعري الذي هو من ابتكارنا يُدرَس باستمرار ويُتمرن عليه كيف يُمثل من طرف ممثلينا الذين هم الرجال العمليون المزعومون، كي يُجسِّد ويخرج من طرفهم بل ويترجم إلى تفاهات يومية. إن كل ما له بعض القيمة في العالم الحالي لا يملكها في ذاته، لا يملكها من طبيعته-فالطبيعة دائمًا بدون قيمة-بل تلقى شيا من القيمة يومًا كمنحة، ونحن هم من كنا المانحين! نحن الذين خلقنا العالم الذي يهم الإنسان!- غير أنه ثمة بالضبط تكمن المعرفة التي تنقصنا، وإن حدث أن استوعبناها في لحظة فإننا ننساها في اللحظة التي بعدها: إننا نجهل أفضل قوة فينا ونقلل من شأن أنفسنا بعض الشيء، نحن محبو التأمل- لسنا فخورين ولا سعداء بالقدر الذي كنا نستطيع أن نكون عليه. ص178، 179

▬ يختبار الأبيقوري الحالة والأشخاص وحتى الأحداث التي تناسب تكوينه الثقافي، ولأنه انفعالي إلى أقصى حد فإنه يتخلى عن الباقي كله-أي عن أغلبية الأشياء تقريبًا-لأن ذلك سيكون طعامًا حارًا وثقيلًا بالنسبةِ إليه. بالمقابل، يتمرن الرواقي على ابتلاع الأحجار والهوام وأطراف الزجاج والعقارب، وعلى عدم الاشمئزاز من ذلك، فمعدته يجب أن تصير غير آبهة بكل ما تُفرغ فيها صدفة الوجود، إنه يُذكِّر بطائفة عيساوة العربية التي نجدها في الجزائر: ومثل فاقدي الإحساس هؤلاء يحلو له أن يكون له جمهور مدعوّ لمشاهدة عرض فقْد-حساسيته، وهو بالضبط مالا يُنصح به الأبيقوري عن طيب خاطر:- في الحقيقة إن لهذا "حديقة"! قد تكون الرواقية منصوحا بها كثيرا لرجال يرتجل معهم القدر ويعيشون في منتصف عهودٍ قاسية، عالة على رجال أجلاف ومتقلبين. لكن الذي يتنبأ إلى حدٍ ما بأن القدر سيسمح له أن يغزل عزلًا طويلًا فحسنًا سيفعل باتخاذه إجراءات إجراءات أبيقورية: فقد فعله كل رجال العمل الروحي حتى الآن! ستكون بالنسبةِ لهم أفدح الخسائر أن يفقدوا انفعاليتهم الرقيقة وأن يتلقوا في المقابل جلد الرواقيين الشائك واللاسع. ص181، 182

▬ أغلق المسافرُ بابًا وراءه بعنف ذات يوم، توقف وأخذ يبكي. ثم قال: "كم أحقد على هذا النزوع، على هذا الدافع إلى الحقيقي، إلى الواقعي، إلى غير الظاهر، إلى الأكيد! لماذا يتعلق بي أنا بالضبط هذا المطاردُ الغامضُ والولِه؟ أود أن آخذ قسطًا من الراحة، لكنه لا يسمح لي بذلك! وكم من الأشياء تغريني بغواية الراحة! بالنسبةِ لي، فإنه لا يوجد في كل مكان سوى حدائق عرميد: من ثم تنتج في القلب غموم وتمزقات جدية، باستمرار! لا يزال علي أن أتقدم، أن أرفع هاته الرّجل المتعبة، هاته الرّجل الجريحة؛ ولأنه علي أن أتقدم فإنه لا يكون لي إلى الأشياء الجميلة التي لم تستطع استبقائي سوى نظرة مليئة حنقًا-لأنها لم تستطع استبقائي!". ص182، 183

▬ يا لها من شراهة تلك التي تتقدم بها هاته الموجة، كأنما يتعلق الأمر ببلوغ شيءٍ ما! بأية سرعة مقلقة تنساب في أعمق زوايا الشقوق الصخرية! يبدو أنها تريد أن تسبق أحدا إليها: يبدو أن شيئا نفسيا مخبأ فيها! ــ وهاهي ذي ترجع بشيءٍ من التثاقل، وهي تزال كلها بيضاء من الانفعال-ترى هل خاب أملها؟ هل وجدتْ ضالتها؟ هل تتصنع الخيبة؟ ـــ لكن موجه أخرى تقترب الآن، إنها أكثرث شراهة وشراسة من الأولى وروحها تبدو مليئة بالعجائب، كلها طبع في الكنوز المستعبدة! هكذا تحيا الأمواج -هكذا نحيا نحن، نحن الكائنات المريدة! لا أقول عن ذلك أكثر. ما هذا؟ أتحذرنني؟ ممتلئات حنقا عليّ أيتها المسوخ المتعجرفة؟ أتخشين أن أفشي سركن كاملا؟ حسنًا! كن إذًا حنقات! كوِّنَّ حائطا بيني وبين الشمس بنصب أجسامكن الهائلة الضاربة إلى الخضرة أعلى ما تستطعن ــ كما تفعلن الآن! في الحقيقة، لم يتبق من العالم شيء سوى الأخضر الشفقي، وومضات خضراء. ارقصن على هواكن، أيتها الجميلات الصاخبات، اصرخن من اللذة ومن الخبث-ومن جديد اغطسن، وفي قعر الهوة أفرغن زمرداتكن، وفوق ذلك ألقين تخريماتكن البيضاء اللامنتهية من الرغوة والزبد-أصفق للكل لأن الكل يلائمكن كذلك، أنتن اللائي أدين لكن بكل شيء: فكيف أغدر بكن يوما؟ لأنني - إعلمن هذا جيدا - أعرفكن أنتن وسركن، أعرف عرقكن! ألسنا، أنا وأنتن، من نفس العرق الواحد! أليس لنا، لي ولكُنّ نفس السر الواحد!. ص183

▬ العقل لدى الأغلبية آلة مُربِكةٌ، كئيبةٌ وصارة، ييأسون من تشغيلها: يتحدثون عن "حمل الأشياء محمل الجد" بمجرد ما ينتبهوا، بواسطة هذه الآلة، لأن يعملوا ويفكروا جيدا ـــ آه! كم من جهودِ مضنية سيتطلبها منهم فعلُ التفكير جيدا! إن الإنسان، الحيوان المحبوب، يفقد ابتهاجه كل مرة، فيما يبدو، حين يشرع في التفكير جيدا! إنه يصير "جديا"! و "حيث لا يسود إلا الضحك والمرح يفكر الناس عشوائيًا" ــ هذا حكم هذا الحيوان الجيدي المسبّق بخصوص كل "علمِ مرح". طيب! لِنُبيِّن أنه حكم مسبق! ص189

▬ إني أفكر في العقاب المخصص للشيخ كانط الذي لكونه رصد "الشيء في ذاته" وتلقفه خلسة-شيء مضحك كذلك-فقد رُصِدَ هو بدوره وفوجيء بـ "الأمر" المطلق، وفي باطنه وقع في بعض الأخطاء التي هي "الإله"، الـ "روح"، الــ "حرية" والــ "خلود"، مثل ثعلب يتيه في قفصه من جديد:- والحالةُ أن قوتَه وذكاءَه هما اللذان حطما هذا القفص!- وهأنتم أولاء تُعجبون بالأمر المطلقل في داخلكم؟ بمتانة حكمكم  الأخلاقي المزعوم هذه؟ بمطلقية الإحساس أنه "في هذا يجب على الآخرين أن يحكموا مثلي أنا"؟ عظّموا بالأحرى أنانيتكم هنا! عظموا عمى وخسة ونقصَ متطلب أنانيتكم! إنه لمن الأنانية حقًا أن يشعر الواحد بحكمه الخاص كقانون كوني: وإنها لأنانية عمياء، خسيسة وبلا مُتطلب، لأنها تكشف أنك لم تجد نفسك بعد، أنك لم تخلق لنفسك مثلا شخصيا محضا: -ولن يكون مَثَل امرئٍ آخر أبدا، حتى لا نتكلم عن الكل، عن كل الآخرين!... إن الذي لا يزال يحكم بأنه "في الحالة كذا يجب على كل واحد أن يفعل كذا" لم يتقدم بعد في معرفة ذاته ولو قليلا: وإلا فإنه كان سيعرف أنه ليس هناك، ولن يمكنه أن يكون هناك، أفعال متطابقة أبدا-إن كل فعل تم فقدْ تم بطريقة فريدة ولا يمكن الاهتداء إليها ثانية، وأن نفس الشيء سينطبق على كل فعل مقبل-سيعرف أن كل قوانين الفعل لا تهم إلا المظهر الخارجي الفج (حتى القوانين الداخلية الأكثر دقة في كل الأخلاق حتى الآن)-سيعرف أنه يمكن أن يتحقق بها-ولا مظهر تطابق، لكن لا شيء بالضبط غير المظهر-أن كل فعل هو شيء لا يُخترق ويبقى كذلك بمجرد أن نفحصه أو نعيد تأمله-أن آراءنا حول ما هو جيد وسام وعظيم لن يُبرهن عليها أبدا بأفعالنا، لأن كل واحدة منها غير معروفة- سيعرف أنه إن كانت آراؤنا وتقييماتنا وجداول قيمنا من ضمن أقوى الركائز في دولاب أفعالنا فإنه يبقى أنه في كل حالة خاصة يكون قانون آليتها متعذر الإثبات... ص195، 196

▬ لو تأملتُ هذا القرنَ بعيون قرن سحيق فلن أعرف في طبيعة الإنسان المعاصر شيئًا أغرب من هاته الخاصية الغريبة، هذا المرض الغريب الذي ندعوه "الحس المؤرّخ". إنه ترسبُ شيءٍ جديد تماما وغريب في التاريخ: لنُهمل هاته البذرة بعض القرون ونيف، فقد تنتهي إلى إنتاج نبات ذي رائحة لا تقل روعة، جدير بجعل الأرض ممتعة للسكن أكثر مما كانت عليه حتى الآن. إننا نحن المعاصرون وقد شرعنا تماما في تشكيل سلسلةِ إحساس مُستقبلي قوي، حلقة حلقة-ولا نكان نعرف هذا الذي نفعله. قد يبدو تقريبًا أن الأمر يتعلق بإحساس جديد بل بتقليل من كل الإحساسات القديمة-فالحس المؤرخ لا يزال شيئا فقير، جد بارد، ويوجد من بيننا كثيرون أصيبروا مثلما يصابون بجمود، ويجدون أنفسهم من جرائه أكثر فقرا وبرودة. بينما لآخرين كعلامة الشيخوخة الزاحفة شيئًا فشيئا، ويبدو لهم كوكبُنا كمريض مُترع بالكآبة، ولكي ينسى حاضره يشرع في كتابة تاريخ شبابه. ليس هذا، في الواقع، سوى درجة من الإحساس الجديد: فكل من يستطيع أن يشعر بتاريخ الناس في جملته كتاريخ الخاص سيشعر، بنوع من التعميم الكبير، بمرارة المريض الذي يفكر في الصحة، بمرارة الشيخ الذي يفكر في أحلام الشباب، بمرارة البطل عشية المعركة الحاسمة والتي كلفته مع ذلك جروحًا وفقد الصديق؛ ـــ لكن أن يتحمل هذا الكم الهائل من المرارات من كل الأصناف، أن يستطيع تحملها ويكون مع ذلك البطل الذي، عند طلوع اليوم الثاني من المعركة، يحيي الفجر ويحيي حظه، بمقدار ما له أفق من الألفيات أمامه وخلفه، باعتباره وارث كل نبل العقل من الماضي، لكن وراث مُكلَّف بواجبات، باعتباره أنبل كل النبلاء القدامى، لكنه المولود الأول للأرستقراطية الجديدة، حيث لم يشهد أيُّ عهدٍ مثيلا له ولم يحلم به أبدا: أن يتحمل كل هذا في روحه، أن يتحمل ما هو قديم جدا وما هو جديد جدا؛ أن يتحمل الخسائر والآمال والغزوات وانتصارات الإنسانية، أن يملك كل هذا في روح واحدة في الأخير، أن يركزه في إحساس واحد: ــ هذا ما ينبغي مع ذلك أن يشكل سعادةً لم يعرفها الإنسان قط حتى الآن، ــ سعادة إله، كلها قوة وحب، كلها دموع وضحكات، سعادةً توزّع باستمرار، مثل الشمس عند المساء، ثروتها لا تنضب وتُفرغ منها في البحر الذي لا يشعر، مثل الشمس، إنه الأكثر غنًى إلا حين يجدف فيه أفقرُ صيادٍ بمجاديفٍ مُذهَّبة! إذاك سيسمّى هذا الإحساس الإلهي-إنسانية!. ص196، 197

▬ لو تفحصنا أغلب المعروف الذي نُسديه للأشقياء فإننا سنجد فيه شيئا ممقوتا في الوقاحة الفكرية التي يطيب للشّفوق أن يلعب بها دور القَدر. إنه يجهل كل شيء عن هذا التشابك وعن هاته العواقب الداخلية التي تُسمى شقاء بالنسبةِ لي أنا ولك أنت! فمجموع مُدّخَر روحي وتعويضه بالــ "شقاء"، واقتحام مصادر وحاجيات جديدة، واندمال جروح قديمة، ورفض الماضي بمختلف أنواعه ــ كل هذا الذي يمكن أن يُربَط بالشقاء لا يزعج الروح الشفوقة العزيزة بتاتا: فهي تريد أن تُنجد، ولا تفكر في أية لحظة في وجود احتياج شخصي للألم، في كون أشكال الرعب، أكال الحرمان، أشكال الإفقار، منتصفات ليل الروح، مغامرات، مجازفات، كبوات، في كونها ضرورية، مثل أضدادها، لك كما هي ضرورية لي، وأنه، لكي أعبِّر بطريقة صوفية، حتى السبيل التي تؤدي إلى سمائها الشخصية تمر دائما عبر لذة جحيمنا الخاص. لا، إن الروح الشفوقة لا تعرف شيئا من ذلك: "دين" الشفقة (أو الــ "قلب") يأمر بالإنجاد، ويعتقد الناس أنهم يحسنون الإنجاد حين ينجدون في أسرع وقت! إن كنتم أنتم يا مُعتنقي مثل هذا الدين تطبقون على أنفسهم هاته الحالة المعنوية التي تبدونها تجاه أمثالكم، أنتم الذين تأبون حتى أن تتركوا معاناتكم الخاصة تستريح فيكم قليلا لتستقبل باستمرار كل شقاء محتمل، إن كنت تشعرون إطلاقًا بالمعاناة والكرب باعتبارهما قبيحين وكريهين وجديرين بالإزاحة، باعتبارهما عيب الوجود: فلأن لكم، خارج دينكم، دين الشفقة، دينا آخر في القلب أيضًا، وربما يكون أصل ذاك: دين لين العيش! آه، كم هو قليل ما تعرفنه عن غبطة الإنسان أنتن أيتها الأرواح المرفّهة والرؤوفة! ـــ لأن السعادة والشقاء أخوان توأمان إما يكبران كلاهما وإما، كما هو الحال عندكم، يظلان صغيرين كليهما! لكن لنعد الآن إلى السؤال الأول. ــ كيف يمكن أن يبقى الإنسان في طريقه! فدائمًا يليهنا عنها صياح ما: ويندر إذاك أن تكتشف عيننا حالة لا تأمرنا بترك أمرنا الخاص لنسرع إليه. أعرف ذلك جيدا: هناك ألف طريقة شريفة وحميدة لتضليلي بعيدا عن طريقي، وهي طرق جد "أخلاقية"، هذا صحيح! أجل، يذهب دعاة أخلاق الشفقة الحاليون إلى حد ادعاء هذا، ولا شيء غير هذا، سيكون أخلاقيًا: أن  يتيه المرء بهذا الشكل عن طريقه الخاص ويسارع إلى قريبه. أعرف أيضًا بيقين لا يقل عن الأول: أنني لا أملك إلا أن أتأمل بؤسًا حقيقيًا لأكون قد تهت! ولو أن صديقًا معانيا قال لي: "هذا هو الأمر، سأموت عما قريب؛ عدني إذن أن تموت معي" ـــ لوعدته بذلك، تماما كما ستجعلني رؤية عامة الناس الجبليين المقاتلين من أجل حريتهم أمد لهم يد العون وأهبهم حياتي: ـــ حتى لا أختار هنا سوى بعض الأمثلة السيئة ذات الأسباب المعقولة. أجل، إن كل هاته المخلوقات التي تثير الشفقة وتطلب الإنجاد تمارس إغواءً سريا كذلك: "طريق (نا) الخاص" في الواقع قضية شاقة ومكلفة، وبعيدة جدًا عن حب الآخر ومعرفته، ـــ لا نفلت منها، وكذلك من شعورنا الشخصي جدا، دون بعض الارتياح، ونبحث عن ملجأ بقرب شعور الآخرين، في رحاب معبد "دين الشفقة" المريح. ما أن تنفجر حربٌ في الوقت الحاضر فإن ذلك لا يكون أبدًا دون هجمة شهوة حسية أبقيت سرية بداهة بالضبط لدى أنبل رجال شعب ما: فهم يسارعون، مفتونين، إلى خطر الموت الجديد، لأنهم يظنون أنهم سيجدون في التضحية في سبيل الوطن هذا الإذن الذي بحثوا عنه طويلا- الإذن بتحاشي هدفهم الخاص: ــ فالحرب توفر لهم منعطفا ليصلوا إلى الانتحار، لكنه منعطف مع راحة الضمير. وإن تعلق الأمر هنا بكتمان بعض الأشياء فلن أكتُم مع ذلك أخلاقي التي تقول لي: عش مختبئًا حتى تتمكن من العيش لنفسك! عش في جهل ما يبدو لقرنك هو الأهم! ضع بين الحاضر وبينم سُمْكَ ثلاثة قرون على الأقل! لتكن صيحات الحاضر، لتكن ضوضاءُ الحروب والثورات بالنسبة لك همسات فقط! أنت أيضًا تود أن تنجد! لكن أن تنجد فقط أولئك الذين تدرك ضيقهم تماما، ــ إنهم أصدقاؤك، لأن معك ستكون لهم معاناة، وأمل: وألا تنجدهم إلا بالطريقة التي تنجد بها نفسك أنت: ــ سأجعلهم أكثر شجاعة، أكثر تحملا، أكثر بساطة، وأكثر فرحا! سأعلمهم ما يفهمه الآن قليل من الناس، ما يفهمه دعاة التضامن الشّفوق أقل: التضامن في الفرح! ص198، 199

▬ في الواقع إننا نحن الفلاسفة، نحن "العقول الحرة" عند سماع خبر أن "الإله القديم قد مات" نحس وكأن أشعة فجر جديد قد لمستنا: يفيض قلبنا، لهذا الخبر، بالشكران، بالدهشة، بالتوجس، بالانتظار ـــ ها هو ذا الأفق صافٍ من جديد، وإن لم يكن صافيًا تمامًا، ها هي ذي سُفُنُنا حرة في استئناف سباقها، في استئناف سباقها مهما كلفها الأمر، ها هي ذي كل جرأة المعرفة قد سُمِحَ بها، والبحرُ، بحرنا، ها هو ذا مفتوح من جديد، ربما لم يكن هناك أبدا "بحرٌ مفتوح" بمثل هذا الشكل. ص204، 205

▬ أن تريد أن تبقى أنت ذاتك فذاك تعبير عن حالة من الضيق، عن تقييد للدافع الحيوي الذي يطمح بطبعه إلى بسط القوة، ومن ثم غالبا ما  يتهِم الحفاظ على الذات ويضحي به. إن كان بعض الفلاسفة، مثل المسلول سبينوزا، يرون في غريزة البقاء مسلمة قطعية، فلنعتبر ذلك شيئًا ذا دلالة لديهم: ــ فهم بحق رجال في ضيق، فكون علوم الطبيعة المعاصرة قد اتفقت بشكل كبير مع المسلمة الاسبينوزية (وفي الماضي القريب وبشكل فظ مع الداروينية بنظريتها الأحادية الجانب بشكل غير مفهوم المتعلقة بـ "الصراع من أجل البقاء")، فهذا ما قد يكون على وجه الاحتمال، في الأصل الاجتماعي لأغلبية هؤلاء العلماء: بهذا الاعتبار فهم من "الشعب"، كان أسلافهم فقراء، من الطبقةِ الدنيا، ولم يكونوا يعرفون من شظف العيش إلا بشكل جد مباشر. من كل الداروينية الأنجلو سكسونية تفوح رائحة جو خانق بالاكتظاظ السكاني البريطاني، كنتنانة الطبقة الدنيا، المكون من البؤس وضيق المجال. لكن على العالم باعتباره عالما في حقل العلوم الطبيعية أن يعرف كيف يخرج من خلوته الإنسانية: ففي الطبيعة ليس الضيق هو الذي يسود، لكن الوفرة، التبذير حتى درجة العبث. الصراع من أجل الوجود ليس إلا استثناء، إلا تقييدًا مؤقتًا لإرادة الحياة: إن الصراع الصغير مثل الصراع الكبير من أجل الحياة، كلاهما يدوران في كل الجهات حول التفوق، حول النمو، حول التوسع، طبقا لإرادة القوة التي هي بالضبط إرادة الحياة. ص212

▬ الإنسان، يفكر باستمرار، مثل سائر المخلوقات الحية، لكنه يجهل ذلك، والفكرة التي تصير شعورية ليست سوى جزء صغير جدا: الأكثر سطحية، الأضعف: ــ لأن هاته الفكرة الشعورية وحدها تحدث بالكلمات، أي برموز التواصل التي بها ينكشف تلقائيًا أصل الوعي. باختصار، إن تطور اللغة وتطور الوعي (وليس العقل قط) يسيران يدا في د. لنضف إلى ذلك أنه ليست اللغة وحدها هي التي تمد جسرا بين الإنسان وآخر، بل كذلك النظرة وضغط اليد والإشارة، أما الشعور بانطباعاتنا المحسوسة، أما القدرة على إثباتها وموضعتها خارجنا تقريبا، فقد تزايدت تناسبيا مع الحاجة المتنامية لتبليغها للغير عبر إشارات. إن الإنسان المخترع للإشارات هو ذات الوقت الإنسان الذي يعي ذاته بشكل حاد أكثر فأكثر؛ وأن لم يتعلم أن يفعل ذلك إلا باعتباره حيوانا اجتماعيا-ولا يزال يفعله أكثر فأكثر. ــ فكرتي، كما ترون، هي أن الوعي لا ينتمي في العمق إلى الوجود الفردي للإنسان، بل إلى كل ما يجعل منه طبعا جماعيا وقطيعيا؛ هي أن الوعي، بالتالي، لم يتطور بشكلٍ دقيق إلا من حيثُ النفع الجماعي والقطيعي، وأن كل واحد منا رغم رغبته في أن يفهم ذاته فرديا قدر المستطاع، في "أن يعرف نفسه" لا بد أنه لن يفعل شيئا عدا أن يجلب لوعيه ما هو غير فردي، ما هو "واسطة"؛ ــ هي أن فكرنا نفسه يرى باستمرار تقريبا مزيد القيمة بميزة الوعي ـــ بــ:عبقرية النوع" التي تسود فيه ـــ ومترجما ثانية إلى منظار القطيع. إن أفعالنا في العمق شخصية تماما وبلا مثيل، فريدة، وفردية بمعنى غير محدود، هذا شيء لا يرقى إليه الشك، لكن بمجرد ما نعيد ترجَمتها إلى الشعور تكف عن أن تبدو كذلك... تلك هي الظاهراتية، المنظورية بحصر المعنى، كما أفهمها: إن طبيعة الوعي الحيواني تتضمن أن العالم الذي يمكن أن نعيه ليس إلا عالمًا سطحيًا، عالم إشارات، عالمًا معمما، مبتذلا-أن كل ما يصير شعوريا يجد نفسه للوهلة ذاتها مسطحا ومصغرا ومنقصا إلى حد بلادة المقولب القطيعي؛ أن كل وعي يرجع إلى عملية تعميم وتسطيح وتزوير، إذن إلى عملية مُفسدة بالأساس. في الختام، إن الوعي يشكل خطرا بتطوره ذاته، وكل من عاش بين الأوربيين الأكثر وعيا يعلم أنه مرض. ليس ما يشغلني هنا، كما يمكن أن تحزروه، هو التعارض بين الذات والموضوع: أدَعُ مثل هذا التمييز المنظري المعرفة الذين وقعوا في أنشوطات النحو (هاته الميتافيزيقا المخصصة للشعب). ويشغلني بشكل أقل التعارضُ بين "الشيء في ذاته" والظاهرة: لأننا بعيديون عن أن "نعلم" ما يكفي حتى نسمح لأنفسها للقيام بمثل هذا التمييز. الحقيقة أننا لا نمتلك أية آلية صالحة للمعرفة، للحقيقة: لا "نعلم" أو (نعتقد أو نتصور) أن مقدار ذلك قد يكون نافعا لمصلحة القطيع الإنساني، لمصلحة النوع: وما له اسم "نفع" هنا ليس في نهاية المطاف سوى اعتقاد، سوى تصور، ولربما كانت بالضبط هاته البلادة نفسها، القاتلة أكثر من كل الأخريات، والتي سنهلك بسببها يوما. ص217، 218

▬ الفيلسوف الفلاني اعتبر العالم "معروفا" بمجرد ما أرجعه إلى الـ"فكرة: لكن أليس ذلك لأن الــ" فكرة" كانت معروفة ومألوفة لديه قبليا؟ أليس لأنه كان قد توقف تمامًا عن الخوف من الــ "فكرة"؟ ــ يالفضيحةِ اكتفاء أولئك الذين يزعمون أنهم يعرفون! لنتفحص بهذا الخصوص المبادئ والحلول التي يقترحونها لألغاز العالم! إنهم حين يجدون في الأشياء وتحت الأشياء ووراء الأشياء ما هو معروف لنا جيدا، لسوء الحظ، مثلا جدول ضربنا أو منقطنا، أو كذلك إرادتنا وطمعنا، فكم يكونون سعداد لتوّهم! لأن "ما هو معروف يُتعرف عليه ثانية": إنهم على الإجماع بهذا الخصوص. غير أن أكثرهم تحفظا يزعمون أن التعرف على المعروف أسهل على الأقل من التعرف على الغريب: وسيكون أكثر منهجية مثلا أن ننطلق في "العالم الداخلي" ابتداءً من "أفعال الشعور" لأن ذلك هو العالم المعروف فينا أفضل! هذا أفظع الأخطاء! بالمعروف هو المعتاد، والمعتاد هو أصعب ما يمكن "أن نتعرف عليه"، أي أن نتأمله كمشكل، إذن كغريب، كبعيد، كشيءٍ وُضِعَ "خارجنا".. اليقين الكبير الذي تبين عنه العلوم الطبيعية بالنسبة إلى علم النفس ونقد عناصر الوعي-وهما علمان يمكن القول أنهما مضادان للطبيعي-يتعلق بالضبط بحقيقة كونها تعتبر الواقع الغريب موضوعًا: بينما هناك شيء من التناقض والعبث تقريبًا في إرادة اعتبار ما ليس غريبًا موضوعًا... ص219

▬ الرجل الذي يحب مثل المرأة يصير بذلك عبدًا؛ لكن المرأة التي تحب كامرأة تصير بذلك امرأة أكثر كمالا.. شغف المرأة بتخليها التام عن حقوق خاصة يفترض بالضبط أنه لا يوجد لدى العاشق لا شفقة ولا إرادة تخلٍ مشابهين: لأنه لو تخيلنا عن نفسيهما، بالحب، فقد ينتج عن ذلك، لستُ أدري، ربما فضاء فارغ؟ ــ المرأة تريد أن تُؤخَذ، أن تُقَبَّل كملكية، تريد أن تزدهر في مفهوم "الملكية"، "أن تكون مملوكة"؛ وبالتالي فهي ترغب في رجل يأخذ، لا يعطي نفسه ولا يتخلى عن نفسه، بالمقابل، عليه أن يصير أكثر غنًى في "نفسه" ــ بفائض قوة، بفائض سعادة، بفائض إيمان،  وذلك يشكل ما تعطيه إياه المرأة حين تعطي نفسها. المرأة تتخلى عن نفسها، الرجل ينمو أكثر ــ لا أعتقد أن أي عقد اجتماعي ولا أفضل إرادة إنصاف سيمكنان من التغلب على هاته الثنائية الطبيعية: يُستحب إلى حدٍ بعيد ألا نصطدم باستمرار بما هو صلب ومرعب وملغز ولا أخلاقي في هاته الثنائية. لأن الحب، مُتصورا في كليته، في رفعته، في كماله، هو طبيعي، وبما أنه كذلك فهو شيء "لاأخلاقي" إلى الأبد. بهذا فإن الوفاء متضمن في حب المرأة، يتفرع عن تعريف هذا الحب نفسه: لدى الرجل يمكن أن يتولد بسهولة من بعد حبه، عرفانا بالجميل، أو بطبع ذوقه، وبالقرابة الانتخابية، لكنه لا ينتمي لجوهر حبه، ــ وهذا أقل ما يمنحنا بعض الحق في التحدث عن تناقض طبيعي بين الحب والوفاء الدى الرجل: هذا الحب ليس سوى إرادة امتلاك وليس تخليا ولا تركًا قط: والحالة أن إرادة الامتلاك تتوقف بانتظام بمجرد ما يكون هناك امتلاك... في الواقع، إن ظمأ الامتلاك الدقيقة والحذر لدى الرجل، هذا "الامتلاك" الذي لا يعترف به إلا نادرا، وبشكل متأخر، هو الذي يُوجِد الحب لديه، وبهذا يُحتمل أن يزداد أكثر بعد تخلي المرأة - فالرجل لا يقبل بسهولة أن يتبقى للمرأة شيء "تتخلى" له عنه. ص231

▬ إن الكائن الغني بالوفرة الحيوية، إن الإله والإنسان الديونيزوسين يمكنهما أن يتيحا لنفسيهما ليس فقط رؤية ما هو مريع وإشكالي لكن كذلك أن يقوما بعمل مريع وأن يكبّا على ترف الهدم والتفكيك والنفي: فالشر والعبث والقبح تبدو كلها مباحة لديهما بفضل وفرة في القوى المنتجة والمخصبة القادرة على تحويل كل صحراء، كيفما كانت، إلى بلدٍ خصب. بالمقابل، سيكون الكائن المعاني والفقير من حيث هو من يحتاج الحياة أكثر إلى الوداعة، إلى الصلاح في الفكر وفي العمل، لا بل إلى إله، إلى إله للمرضى بصفة خاصةٍ، إلى "مخلص"؛ وهو من سيكون بحاجة كذلك إلى المنطق، إلى الوضوح المفهومي للوجود- لأن المنطق يُهدِّئُ، يعطي الثقة-باختصار، سيكون بحاجة إلى نوعٍ من الضيق والتضمين في آفاق متفائلة، جديرة بأن توفر له الدّفء وتطرد الخوف.. ص237

▬ إننا نقر بالغموض-الحقيقة هي أننا نحن أنفسنا في نمو نخلع عنا قشورا بالية، في تغير دائم، نكتسب جلدا جديدا كل ربيع، لا نفتأ نصير شبابًا أكثر فأكثر، نسير مستقبليين، شامخين، أقوياء، نغرس جذورنا دائمًا بقوة أكب في الأعماق-في الشر-بينما في الوقت نفسه نعانق السماء دائما بحب وسعة أكثر، وبكل أغصاننا، بكل أوراقنا نمتص ضوءها بتعطش. إننا ننمو مثل الأشجار، مثل كل ما هو حي، هذا ما يستعصي على الفهم-ولسنا ننمو في مكان واحد فقط، بل في كل مكان، لا في اتجاه واحد فقط، بل بقدر ما ننمو إلى الأعلى، إلى الخارج، ننمو إلى الداخل وإلى الأسفل، ــ قوتنا في نفس الوقت في الجذع، في الأغصان، في الجذور، لم نعد نملك أن نفعل شيئًا بشكل أفضل أو أن نكون شيئًا منفصلا... هنا إذن نصيبنا، كما أسفلتُ؛ ننمو لى الأعلى حتى وإن كان ذلك مميتا لنا ـــ لأننا نسكن قريبا من الصاعقة أكثر فأكثر! ــ نِعِمّا هو، فنحن لا نحط من شرفها بهذا، ويبقى هذا الشيء هو ما لا نريد أن نقتسمه ولا أن نكشفه، إنه لعنه العلو، لعنتُنا... ص239

▬ حين نكتب لا نحرض فقط على أن نُفهم، لكن أيضا على ألا نُفهم. لو ان شخصًا كائنا ما كان حكم على كتاب ما بأنه غير مفهوم فليس ذلك اعتراضًا كافيًا عليه إطلاقًا: فلربما كان هذا داخلا ضمن نوايا المؤلِف، ــ فهو لم يرد أن يٌفهم من طرف "أي كان". كل عقل، كل ذوق رفيع يختار مُستمعيه حين يريد أن يتواصل؛ وبذلك نفسه يرسم حدا للآخرين. من هنا تنشأ كل قوانين الأسلوب المهذبة... إنها تُبعد، تخلق مسافة، تمنع الـوصول، تمنع الفهم، كما أسلفنا، ـــ بينما تفتح آذانَ أولئك الذين تجمعهم معنا قرابة في الأذن. ص247

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

مولد التراجيديا (فريدريك نيتشه، ترجمة: شاهر حسن عبيد)



• الإنسان الذي يستجيب إلى المنبهات الفنية يتصرف تجاه الواقع الرؤيوي كما يتصرف الفيلسوف تجاه الواقع الوجودي. ص81
• السحر شرط مسبق لأي فن مسرحي. في إطار السحر يُرى المعربد الديونسيسي كواحد من أفراد "الساتير" وبهذه الطريقة ذاتها ينظر الساتير ذاته إلى الإله ديونيس: فمن خلال تحوله يحصل على رؤية جديدة خارج ذاته، يرى صورته الأبولية المكملة لحالته. وبهذه الرؤية الجديدة تكتمل بنية الداراما. ص132
• لقد كان يوربيدس هو الذي خاص معركة موت الدراما. وكان الجنس الجديد الطالع يُسمى "الكوميديا الأتيكية الجديدة" وفي رحاب هذه الكوميديا عشات التراجيديا أيامها الأخيرة، فكانت الكوميديا إثبات على موتها العنيف. ص152
• تعتبر الغريزة عند الأذكياء من الناس ملكة إبداعية وتأكيدية، بينما يتولى الوعي دورا نقديا ورادعا. لكن بلنسبة إلى سقراط الغريزة تتحول إلى وعي إبداعي وتمارس دورا نقديا - تصبح مسخا ناقصا! ما يظهر لنا كائنا عجيبا تنقصه الموهبة الصوفية، وبالتالي يمكن وصف سقراط بأنه التجسيد الفعلي للكائن اللاصوفي الذي تطورت هويته المنطقية عن طريق التخصيب المتطور تماما كحال الحكمة الغريزية التي تميز الصوفي. ص172
• إن الفن اليوناني، والتراجيديا اليونانية بالدرجة الأولى، حال دون تدهور الميثولوجيا. وكان على اليونانيين بدورهم تدمير التراجيديا بغية العيش، بعد أن تحرروا من الجغرافيا الوطنية، دون حواجز تعيقهم عن التحليق الحر بأفكارهم وأخلاقياتهم وأفعالهم. ص251
• إن وجود الكون والعالم يبدو مبررا فقط باعتبارهما ظاهرة جمالية. ص257
• إذا أردنا أن نقدر بدقة إمكانيات مجتمع معين، فمن الضروري، لا أن ننظر إلى الموسيقى التي أبدعها فقط، بل ما أبدعته مخيلته من الأساطير التراجيدية. ص258
• إن الروح غير الفنية الطفيلية لمذهب التفاؤل السقراطي قد تم نقله عبر الأوبرا وعبر الطبيعة التجريدية لوجودنا المفرغ من الميثولوجيا، عبر فنٍ غاص حتى مستوى المتعة المحضة، وسار في دروب حياة تسيرها الأفكار فقط. ص259

▬ إن الوهم الجميل في عوالم الحلم، الذي متى ما ولد يجعل من كل إنسان فنانًا كاملًا، هو الشرط الذي برر وجود الفنون البصرية بأنواعها، كما يبرر قسمًا كبيرًا من الشعر.. نحن نشعر بالسعادة في خوفنا المباشر من الشكل، إذ أن كل الأشكال تخاطبنا، ولا شيء يقف محايدًا أو يكون زائدًا عن الحاجة. لكن حتى عندما يأتي هذا الواقع الحلم إلينا مصحوبا بكثير من الشدة، فإننا نبقى ندرك أن هذا مجرد "وهم". هذه هي تجربتي على الأقل، وفي وسعي أن أسوق لكم الكثير من البراهين على ذلك، ومن ضمنها ما يقوله الشعراء أنفسهم، إثباتًا لتكراره وسيرورته العادية. كما أن الفلاسفة لديهم إحساس بأن وراء الألم الذي نعيش فيه عالم ثانٍ مختلف وأشد هدوءًا، ولذلك فإن عالمنا نحن ما هو إلا وهم. وفي الواقع يقول شوبنهاور إن موهبة رؤية البشر والأشياء أحيانًا كأطياف أو صور رؤيوية، علامة على إمكانية فلسفية.. وهكذا فإن الإنسان الذي يستجيب إلى المنبهات الفنية يتصرف تجاه الواقع الرؤيوي كما يتصرف الفيلسوف تجاه الواقع الوجودي. هذا الإنسان دقيق الملاحظة ويستمتع بما يلاحظه: وذلك لأنه يفسر الحياة من خلال هذه الصورة، ويعد نفسه للحياة من خلال هذه العمليات. وهي ليست صور محببة ولطيفة فقط تلك التي يختبرها هو بمثل هذا الفهم الشامل، بل بالقيود الطارئة والجدية والكئيبة والمحزنة والعميقة، وبداء المصادفة وبالتوقعات المخيفة، وباختصار، هو يختبرها بكل ما في الحياة من "كوميديا إلهية" ومن ضمنها الجحيم، حيث تعبر كلها أمام ناظريه، ليس فقط كتيار متحرك - لأنه هو نفسه يعيش شخصيًا من خلال هذه المشاهد - ومع هذا ليس دون ذلك الشعور الزائل للوهم. ومن المحتمل أن يكون بوسع كثيرين يتذكرون مثلي أنهم يصرخون في داخلهم تشجيعا لأنفسهم، وسط مخاطر ومخاوف الحلم، بانتصار قائلين: هذا حلم! وأريد أن أستمر فيه! ص81، 82

▬ تقول الحكاية القديمة أن الملك "ميداس" بقي زمنًا طويلًا يتربص بسيلينوس الحكيم، رفيق ديونيس، دون أن يقبض عليه. وحين وقع سلينوس في نهاية المطاف في يده سأله الملك: ما هو أفضل وألذ شيء للإنسان؟ وقف الرجل العبقري بلا حراك وبقي صامتًا، متوترًا، حتى أجبره الملك أخيرًا على الكلام، فأطلق الحكيم ضحكةٍ مدوية، وقال العبارات التالية: "يأ أبناء السلالة البائسة الزائلة، أبناء المخاطر والصعاب، لماذا تُكرهونني على قول ما قد يكون الأفضل لكم ألا تسمعوه؟ إن أفضل الأشياء طرًا هو الشيء الذي لا حيلةَ لكم عليه: ألا تولد، ألا تكون. لكن ثاني أفضل الأشياء لكم هو أن تندثروا في أقرب الأوقات". ص93

▬ ليس بالإمكان فهم "العفوية" لدى هومر إلا باعتبارها انتصارًا مؤزرًا للوهم الأوبلي. وهذا أحد الأوهام التي تستخدمها الطبيعية كثيرا لتحقيق غايتها. إن الهدف الحقيقي محجوب بستار السراب. إننا نمد أيدينا للإمساك بشيء ما، لكن الطبيعة تخدعنا فتقدم لنا بدلًا منه شيئا آخر يخدم غايتها. لقد كانت "الإرادة" بين اليونانيين في حالة تأمل عميق وتستعرض عالمها عبر العبقرية وعالم الفن. كانت تريد رؤية أن يلقى ما تبدعه النجاح والتهليل بجعله يعكس شعورا بالعظمة، بالنظر إلى ذاته كمستوًى أرفع، دون أن يبدو هذا التأمل مفروضًا عليه فرضًا أو كعقوبة ولوم. في هذه الدائرة الجمالية كانت تنعكس إبداعات الإرادة بما أنتجته من أفكار متمثلة في آلهة الأولمبي، وفي إطار هذا الانعكاس الجمالي اضطرمت المعركة بين "الإرادة" الهيلينية وموهبة العبقري، كتمثيل معادل للموهبة الفنية، للوصول إلى الألم وحكمة الألم، لكي يشمخ هومر، فنان العفوية شاهدًا على نجاح هذه الإرادة ص97

▬ لو أَضفنا إلى ذلك أهم ظاهرة طبيعية تميز الشعر القديم: أي صفة التوحيد، بالأحرى الهوية - التي اعتبروها صفة طبيعية تمامًا - التي تربط بين الشاعر الغنائي والموسيقي، وهي التي يبدو حيالها شعرنا الغنائي الحديث أشبه بتمثال إله بلا رأس، يمكن لنا الاستناد إلى ميتافيزيقا الفن المذكور سابقًا، لتفسير مسألة الشعرا الغنائي كما يلي: إن الشاعر الغنائي كفنان ديونيسي يقرن ذاته بالدرجة الأولى ببساطة مع الوحدة الأولية (الأزلية) بكل آلامها وتناقضاتها، وبالتالي فهو ينتج صورة هذه الوحدة الأزلية كموسيقى، بافتراض أن الموسيقى قد صُنفت بدقة بأنها تكرار وقولبة للعالم. وتحت تأثير الإلهام - الحلم الأبولوني فإن هذه الموسيقى تظهر له مرة ثانيةً كصورة، كحلم رمزي. وهذا الانعكاس الأولي غير المحسوس للألم الأصلى كموسيقى، الخالي من الصور والمفاهيم  والمستعاد عبر الوهم، يولد الآن انعكاسًا ثانيًا هو الرمز أو المثال الأعلى. لقد تخلى الفنان عن ذاتيته في أثناء هذه العملية الديونيسية: إن الصورة التي تظهر له الآن ذاته في مركز الكون هي مشهد حالم يجسد التناقض الأصلي والألم الأصلي، إلى جانب الفرح الأصلي للمظهر. ولهذا فإن "الأنا" لدى الشاعر الغنائي تصرخ من أعماق كينونته: أما ذاتيته/ "الأنا" بالمعنى الحديث لعلم الجمال فمحض تخييل. حيث يعبر أرخيلوكس، كأول شاعر غنائي في اليونان القديمة، أمام بنات "ليكامب" عن مشاعر الحب المجنون والاحتقار، فإن هواه ليس وحده الذي يرقص أمامه بحماسة العرائس. فنحن نرى ديونيس ومينادس كما نرى أرخيلوكس المعربد في حالة نعاس، وهو على حد قول يوروبيدس في كتابه "تمساء باخوس" يغط في النوم في المراعي الجبلية تحت آشعة الشمس، والآن، ها هو أبولو يقترب منه ويهمزه بغصن من الغار. ولذلك، فالسحر الموسيقي الديونيسي للنائم يبدو وهو يطلق لمعات من الصورة لتلك القصائد الغنائية التي سوف تسمى، حين تبلغ أبهى صورها، نصوصًا تراجيدية وأغاني الديثرامب الدرامية. ص106، 107

▬ إذا أمكن لنا رؤية الشعر الغنائي كانتشار لعملية محاكاة الموسيقى في صورة أفكار، فيمكن أن نسأل: "".كيف ظهرت الموسيقى إذن على صفحة هذه الصور والأفكار؟. إن ذلك يبدو كالإرادة حسب مفهوم شوبنهاور لكلمة رغبة Will باعتبارها نقيضًا للجمالي، كحالة تأملية خالصة معدومة الإرادة. هنا ينبغي لنا أن نفرق بقدر المستطاع بين مفاهيم الجوهر ومفاهيم المظهر: إن الموسيقى في جوهرها يستحيل أن تكون رغبة، لأنها بذلك تبعتد عن عالم الفن، ما دامت الإرادة تعني ما ليس جماليًا. ومع هذا فهي تتخذ مظهر الرغبة. ولكي تكون القصيدة الغنائية معبرة عن مظهرها بالصور، يحتاج الشاعر إلى كل دوافع الانفعال والوجد، من همس الشعور حتى صرخة الجنون. هذا الشاعر الغنائي مكره على التعبير عن الموسيقى بالإشارات الأبولية، إذ يرى إلى الطبيعة بكاملها، وإلى ذاته كجزء من الطبيعة، وكأنها رغبة أبدية، حنين أزلي، وتطلع بلا نهاية. لكنه بقدر ما يفسر الموسيقى من خلال صور، يبقى الشاعر ذاته غارقًا في لجة التأمل الأبولي، علمًا أن كل ما يراه عبر الوسط الموسيقى قد يكون ممثلًا في حركة طارئة جارفة. بالتأكيد، لو أنه رأي نفسه وسط هذه الأداة (الموسيقى) ذاتها، فسيرى صورة ذاته أيضًا في حالة حركة لا تهدأ، وتصبح رغباته، حنينه، تأوهاته، طربه، إشارة رامزة تنقل له الموسيقى.. إن هذه هي ظاهرة الشاعر الغنائي كمبدع أبولي حيث يتم تفسير الموسيقى من خلال صورة الإرادة، بينما يبقى الشاعر ذاته في منأى تام عن جشع الإرادة، بمثابة عين الشمس الصافية التي لا يمكن  حجبها ص116، 117

▬ [...] لقد اعتمدتُ في هذه المناقشة على منطق أن الشعر الغنائي الذي يقوم على أساس روح الموسيقى بقدر اعتمادها على الموسيقى ذاتها، في استقلاليتها المطلقة، ليس في حاجة إلى صور أو أفكار، لكن هذا الشعر يمكنه أن يتقبل الأفكار والصور. الشعر الغنائي لا يمكنه أن يأتي بجديد لم يتم التعبير عنه في السابق في هذا العالم، جديد يتمتع بصلاحية عالمية، وذلك داخل عالم الموسيقى الذي أجبر الشاعر الغنائي على استخدام لغة الصور. لهذا السبب بالذات لا يمكن نقل الرمزية العالمية للموسيقى بصفة حصرية عبر اللغة، كونها تعبر عن التناقض الأبدي داخل هذه الواحدية الأبدية، وبالتالي فهي تمثل تمثيلا رمزيا مجالا ينجاوز كل الظواهر ويسبقها. وفي الطرف الآخر في هذه المقارنة، نجد أن الظواهر بأجمعها ليست سوى إشارات دالة. من هنا فإن اللغة التي تمثل أداة وإشارة إلى الظواهر لا يمكنها أن تكشف النقاب عن الجوهر الداخلي للموسيقى، لكنها تبقى دائمًا، حين تحاول محاكاة الموسيقى، على اتصال سطحي معها، ولا يمكن لأي قدر من البلاغة الغنائية أن يقترب خطوة أخرى من الجوهر الحقيقي للموسيقى. ص117

▬ إن جوقة الساتير، مثلها مثل الراعي البسيط في أحدث مراحل عصرنا، هي نتاج الحنين إلى نمط البدائي وإلى الطبيعة. لكن السؤال هو كم استطاع اليونانيون أن يبقوا على هذا الإنسان، رجل المراعي؟ وإلى أي حد تلهى الإنسان الحديث بتغنجه وتخنثه بالصورة المسلية للراعي الحساس وهو يعزف على نايه؟ لقد كانت نظرة اليونانيين إلى الساتير على أنه ممثل للطبيعة البكر، الطبيعة التي لم تغزها المعرفة بعد، لأن دعائم الثقافة لم تكن قد تصلبت. ولهذا السبب لم يوحدوا بينه وبين القردة. بالعكس، كان الساتير عندهم نموذجًا للإنسان، كان التعبير عن أرقى وأقوى مشاعر الإنسان، الكائن المرح الملهم بسبب قربه من آلهته، وهي صحبة عاطفية تثبت الآلهة من خلالها ما تحس به من لواعج الألم، كبشائر بالحكمة الصادرة عن كبد الحقيقة، كتعبير عن أمومة الطبيعة الغامرة ، التي كان اليونانيون معتادين على تبجيلها بروح من الدهشة. إذن كان الساتير شيئا ملائكيا ومتساميا. وكان يجب أن يكون هكذا بصفة خاصة في نظر الديونيسي المتألم والكسير النظرة. وكان من المحتمل أن يتلقى الإهانة من الراعي اللابس حلة مبهرجة: عين الراعي وقعت على هذا الكائن القنوع المتسامي، الذي لا يتقنع بقناع ولا يعرف الاضطراب، ابن الطبيعة الرائعة بكل صفاتها. عندما أمحى وهم الثقافة من الإنسان النموذج - إذ هنا بالضبط كشف الإنسان عن نفسه، كما وقف الساتير بلحيته يمجد الرب، إلهه. ووقف رجل الثقافة في حضرته مرتعدًا في هيئة كاذبة مضحكة. ص126، 127

▬ لقد كان الكورَس "المشاهد" المثالي بقدر ما كان الناظر الوحيد، الناظر من العالم المتخيل، هو الواقف على خشبة المسرح. وكما نعلم، كان جمهور المشاهدين حسب مفهومنا اليوم غير موجود لدى اليونانيين. ففي مسارح اليونايين كان الأشخاص الجالسون في الشرفات، المبنية على قناطر مركزية بارزة، قدارين على مشاهدة كل المشهد الثقافي المحيط بهم، وأن يتخيلوا أنفسهم في إطار تأملهم العميق أنهم من أفراد الكورَس. لهذا يجوز لنا أن ندعو الكورس في تلك البدايات من عهد التراجيديا الأصلي، بأنه حصيلة تأمل الإنسان الديونيسي في أفكاره الشخصية. ص129

▬ إن ما يثيره الجو الديونيسي من الإثارة قادر على أن ينقل لجمعٍ غفير من الناس الهبة الفنية المتمثلة في رؤية الشخص لنفسه محاطا بمجموعة من الناس الذين يعلمون أنهم متحدون بقوة مع هذا الجو. هذه العملية هي الظاهرة المسرحية الأصلية في تاريخ الكورس التراجيدي: رؤية الذات تتحول وتعمل كما لو أن صاحبها قد انتقل إلى بدن آخر، تجسد في إنسان آخر. وهي العملية التي بدأت معها الدراما. وهي مسألة مختلفة عن صاحب الملحمة الحماسية، الذي لا يتوحد مع صوره بل يرى، كالرسام، هذه الصور خارج ذاته بعينين مليئتين بالتأمل. وهذا هجر للفردانية باللجوء إلى الحلول في شخصية أخرى. ص131

▬ في البداية، في ضوء هذه الرؤية، واعتمادًا على التراث، لم يكن ديونيس، البطل الحقيقي لخشبة المسرح ومركز الرؤية كلها، موجودًا فعلًا في المرحلة الأولى القديمة من ظهور التراجيديا، بل كان وجوده متخيلًا كبطل: وهذا يعني أن التراجيديا كانت في الأصل عبارة عن "كورس" فقط وليس ""دراما". وفي مراحل لاحقة كانت هناك جهود للبرهنة على أن هذا الإله "ديونيس" حقيقي، وليس مجرد تجسيد للرؤية الشكلية بإطارها المتخيل في الشكل المرئي للنظر. من هنا انطلقت الدراما بمفهومها الضيق. وقد أُنيطت بالكورس المنشد للأغاني الديثرامب مهمة تنشيط مزاجية الجمهور على الطريقة الديونيسية، بحيث أنه عندما يظهر البطل التراجيدي على الخشبة، لا يرى الجمهور مثلا الرجل المرتدي قناعه بشكل أخرق، بل يرى، وليكن، الشكل المتولد في داخله كرؤية، نتيجة انحسار رؤيته بتأثير. وإذا كنا نتذكر أدميتوس وهو يضيع في زحمة التفكير التخييلي، محاولًا أن يتذكر زوجته "ألسستيس" التي هجرها مؤخرا، وفيما هو غارق تمامًا برؤيته لها - فجأة تظهر أمامه امرأة تشبه امرأته لكنها متنكرة، وإذا كان بمقدورنا أن نتصور كيف أنه ارتعد فجأة بسبب القلق، ونتذكر مقارناته المتهورة، وقناعاته الغريزية - عند ذلك نحصل على نظير للشعور الذي انتاب الجمهور المشاهد، حيث أنه في ذورة الإثارة الديونيسية زُين له أنه يرى إلهه، مع كل تلك الآلام التي وصفناها سابقًا، يراه وهو يذرع خشبة المسرح. يقوم المشاهد مُكرها بتفسير كل هذه الصورة للإله وهو يرتعد في داخله أمام هذا البطل المقنع ومن ثم يذوب حقيقته في وهم اللاحقيقة المرعبة. هذه الحالة هي حالة الحلم (الهذيان) الأبولي الذي يحتجب بداخله ضوء النهار بحجاب، ليولد أمامنا مكانه بشكل مستمر عالم جديد، أكثر وضوحًا، عالم يمكن فهمه والتأثر به أكثر من العالم الذي كان في السابق، مع أنه أكثر احتجابًا. وحسب هذا الفهم يمكن أن نرى تباينًا شديدًا بين الأساليب التراجيدية: وتصبح اللغة، واللون، والتعبئة وديناميكية الكلام فضاءات تعبيرية منفصلة تمامًا في مجال الغناء الديونيسي الذي يؤديه الكورس، وأيضًا في عالم الحلم الأبولي للخشبة. إن الظاهرات الأبولية التي يتجسد من خلالها ديونيس لم تعد الآن "بحرًا بلا نهاية، ولا لحمة متغيرة في النسيج، أو حياة متوقدة كغناء الكورس. فهي ليست تلك القوى لتشكل صورة ما، صورة يرى من خلالها التصاقه بإلهه. الآن أصبح الوضوح والتماسك في الشعر الملحمي يخاطبه من فوق خشبة المسرح. الآن توقف ديونيس عن الكلام عبر طاقاته الشخصية، وأصبح يتحدث كبطل ملحمي، لغته تكاد تقترب من لغة هومر. ص134..136

▬ إن ما يراه يوربيدس في "الضفادع" لأرستفانيس نقاط جدارة ينسبها لنفسه بأنه تمكن بدوائه الشامل تخليص التراجيديا من تضخمها الطنان، يتجلى في شخوص أبطاله التراجيديين. فمن حيث الجوهر، رأي المتفرج الآن وسمع نسخة مضاعفة تطابقه تقف على مسرح يوربيدس، فطار فرحًا بفصاحته. لكن فرحته لم تكتمل: فقد علم يوربيدس الناس كيف يعبرون عن أنفسهم، كما يقول مفاخرًا في المنافشة بينه وبين أسخيلوس - حول كيف أنه علَّم الناس على المراقبة والعمل والتفكير بشكلٍ منطقي وبحرفية ومهارة. وفي هذا التحول في اللغة العادية مهد الطريقة لظهور الكوميديا الجديدة. ذلك أنه من هذه اللحظة فصاعدًا لم يبق خافيًا كيف يمكن تمثيل مجريات الحياة اليومية على الخشبة، وما هي المأثورات التي يمكن قولها. لقد لاحت الفرصة للوسطية البرجوازية لكي تتكلم ، بينما كانت لغتها الدرامية في ما مضى لغة أنصاف الآلهة في التراجيديا، أما في الكوميديا فهي كلمات الساتير الثمل الذي هو نصف إنسان. كان يوربيدس في نظر أرستيفان (أرستفانيس) جديرًا بالمفاخرة بأنه كان يصور الحياة اليومية، والناس العاديين، والحياة الدنيوية التي بإمكان أي شخص يتحدث عنها. وإذا كان المجتمع اليوم أصبح مهتمًا بفلسفة الحياة، ناقلًا ما كان يقوم به من عمل، ومدافعًا بذكاءٍ غير مسبوق عن قضاياه القانونية، فهذا قد حدث بفضل يوربيدس، والعادات الذكية التي غرسها في الناس. ص153، 154

▬ يوربيدس، كشاعر، أحس بالترفع عن جمهور العامة، ما عدا اثنين من المتفرجين: فهو قدم رجل العامة للمسرح لكنه كان يقيم وزنًا للمتفرجين اللذين نعنيهما كحكمين وحيدين ومعلمين معنيين بالحكم على إبداعاته الفنية بصفة عامة ومن خلال تقيده بنصائح هذين الحكمين واتباع إرشاداتهما سعى إلى ترجمة كل عالم الانفعالات والشغف والتجارب التي أحس أن الجمهور المشاهد يحملها معه، وأفرغها في شخوص أبطاله فوق الخشبة، ناقلًا لهم عبر بحثه عن لغة جديدة موسيقى لجمهورٍ يمثل مشاهدين جددا. في أصوات هؤلاء فقط كان يسمع أحكامًا قاطعة حول عمله كما سمع تشجيعهم الذي يعده بالنجاح إذا ما خذله الجمهور.. كان أحد هذين المشاهدين يوربيدس ذاته: يوربيدس المفكر، وليس الشاعر. ويمكن القول إن الغنى المميز لموهبته النقدية، التي تضارع عبقرية "ليسنغ، هو الذي كان يمنحه القدرة على الاستمرار المطرد على الأقل إذا ما واجه احتمال الفشل في إبداع فن مميز من حيث زخمه وشاعريته. وبهذه الموهبة العظيمة، هذه العبقرية النقدية الرشيقة، صمد يوربيدس في المسرح مناضلًا في سبيل إعادة اكتشاف الكتاب الذين سبقوه، عبر كل سطر وكل كلمة كتبوها في روائعهم الفنية. وهذا ما مكنه من إعادة اكتشاف ما أسهم به كل واحد من هؤلاء المؤلفين العظام من خلال أعمالهم في تثبيت ما يمكن تثبيته من أسرار التراجيديا الأسخيلية: وقد وجد في كل سطر وكل سمة تراجيدية شيئًا لا يخضع للقياس، نوعا محددًا من الدقة المخادعة، كما اكتشف في الوقت عينه عمقًا محيرًا، خلفية مفتوحة على كل الاحتمالات.. لقد رأى يوربيدس أن أكثر الشخصيات وضوحًا يحمل ذنبًا كالمذنب، متجهًا نحو اللايقين، نحو شيء لا يمكن الإضاءة عليه. وهذا الغسق ذاته كان يلف بنية المسرحية، معنى الكورس خاصة. وما أكثر ما استمر مثيرا للشك عنده حل المشاكل الأخلاقية! ويا لكثرة الأسئلة المتعلقة بمعالجة الميثولوجيا! ويالكثرة شذوذ توزيع الحظ والتعاسة! حتى في اللغة التراجيدية السابقة وجد الكثير من الأشياء الطاردة أو المحيرة على الأقل. واكتشف بصفة خاصة الكثير من الإطناب في وصف العلاقات البسيطة، الكثير من اللغة المجازية والتضخيم في رسم الشخصيات العادية. لقد جلس  يوربيدس داخل المسرح متأملًا طويلَا في قلق، واعترف هو ذاته، كشاهد، أنه لم يفهم هؤلاء الكتاب الكبار الذين سبقوه. لكن بسبب إيمانه بأن العقل هو المصدر الحقيقي لكل المتع والإبداع، لجأ مرغمًا إلى التساؤل عما إذا كان أي كاتب غيره قد فكر بما يفكر به هو الآن، واعترف بانعدام القياس مع ما كتبه. لكن أكثرية الذين درسهم، وأبرز ممثليهم، اكتفوا للإجابة عن تساؤلاته بمجرد الابتسام. ومع ذلك لم يحصل على إجابة شافية، برغم كل شكوكه وكل ظنونه، على التساؤل لماذا كان هؤلاء الكتاب العمالقة على حق. وفيما كان هو غارقًا في هذا الوضع المثير للشفقة هداه تفكيره العميق إلى الشاهد الثاني، الشاهد الذي لم يكن مثله يفقه التراجيديا فاختار أن يتجاهلها. لكن يوربيدس استطاع، بضم استنتاجاته إلى أفكار الشاهد الثاني، ومن خلال موقعه المنعزل، أن يشن هجومًا كاسحًا على أعمال أسخيلوس وسوفوكل - ليس من خلال المناظرات الكلامية بل من موقعه الشعري، كشاعر، متحدًا المفاهيم التقليدية للتراجيديا بما لديه من مفهومات شخصية. ص158، 159، 160

▬ إن يوربيدس هو الممثل صاحب القلب النابض رعبًا والذي يقف شعره خوفًا. وهو يضع الخطة كمفكر من نمط سقراط ويطبقها كممثل شغوف. إنه فنان نقي عندما يضع الخطة ويطبقها أيضا. لهذا تأتي تراجيديا يوربيدس مباشرة، رابطة الجأش، ومتقدة، أي تكون باردة جدا وملتهبة. لكن هذه التراجيديا لا يمكنها بلوغ الأثر الذي تحققه الملحمة الأبولية، لكنها تمتلك القدرة على إحداث قطيعة مع الاتجاه الديونيسي. وفي هذه الحالة يلزمها، لكي تحدث أثرا ما، حوافز جديدة تدفعها، حوافز لا تتوفر في تلك الدوافع الجمالية ولا الأبولية أو الديونسية. هذه الحوافز من طبيعة باردة، أفكار متناقضة، أكثر مما هي ذات طبيعة تأملية، هي عواطف نارية أكثر مما هي نشوات ديونيسية - وهذه الأفكار والعواطف مآثر واقعية، ليست بأي حال من الأحوال منغمسة في فضاء الفن. . ما دمنا عرفنا أن يوربيدس فشل فشلا ذريعًا في مساعيه لبناء التراجيديا على أساس وحيد هو الروح الأبولية، وأن الغايات غير الديونيسية قد ابتعدت في اتجاه نزعة طبيعية لافنية، فقد صار باستطاعتنا أن نناقش ظاهرة السقراطية الجمالية، التي تقوم أساسًا على القانون التالي: "لكي يكون الشيء جميلًا يجب أن يكون مفهومًا" وهو قانون يتوازى مع مقولة سقراط الشهيرة بأن "الفضيلة ملك المعرفة فقط".    ص164

▬ في هذا المجال يتجاوز الفكر الفلسفي الفن ويضطره للتشبث بقوة بغصن الديالكتيك. لقد انحشر الاتجاه الأبولي في قوالب المنطق الضيق. وكان هذا يشبه ما حدث ورأيناه في أعمال يوربيدس، إلى جانب تأويل الديونيسية بمشاعر طبيعية. إن سقراط، البطل الجدلي في الدراما الأفلاطونية، يذكرنا ببطل يشبهه في مسرح يوربيدس، الذي يجبر على الدفاع عن أفعاله بنقاشات وحجج مضادة، وبالتالي يغامر بفقدان تعاطفنا التراجيدي معه. إن الذي يخفق في ملاحظة عنصر التأويل في الجدل، هو العنصر الذي يرقص مهللا لأي نتيجة ولا يمكنه أن يتنفس إلا في الأجواء الصريحة ومن خلال الوعي، هذا العنصر المتفائل، الذي غزا ذات يوم عالم التراجيديا، قد نما شيئًا فشيئًا حتى غطى على أصوله اليوربيدية وأجبره على الانتحار - بانتقاله إلى المسرح البرجوازي. هنا لا بد من الاستشهاد بأقوال سقراط المأثورة: "الفضيلة هي المعرفة، كل الخطاة يأتون من عوالم الجهل، الإنسان الفاضل شخص سعيد". هذه العبارات الثلاث المتفائلة هي التي تحمل موت التراجيديا في طياتها. والسبب هو أن البطل الفاضل يجب أن يكون جدليًا ، يجب أن يكون هناك ضرورة كرابط واضح بين الفضيلة والمعرفة، بين الإيمان والأخلاق. إن عدالة أسخيلوس التصعيدية قد تم تقليصها إلى المبدأ البسيط والجريء، أعني مبدأ "العدالة الشعرية" بما فيه من "عدالة إلهة". ص177، 178

▬ لكن العلم الآن يسير، نتيجة قوة الوهم فيه، بخطًى حثيثة متجاوزًا العقبات لتحقيق غاياته، حيث ينهار التفاؤل اللازم للمنطق. ذلك أن محيط الدائرة العلمية يتشكل من عدد لا يُحصى من النقاط، وحيث يكون مستحيلًا أيضًا معرفة قياس الدائرة بصفة كاملة، فإن الإنسان النبيل والموهوب يصل بكل تأكيد، حتى قبل أن يبلغ منتصف العمر، محيط الدائرة ليجد أنه يقف على الحافة محملقًا فيما لا يمكن التعبير عنه. وإذا ما شاء حظه التعس أن يتفهم هذا الإنسان كيف يلتف المنطق حول ذاته، ويعض ذنبه، يبرز فجر جديد من أشكال المعرفة، المعرفة التراجيدية، شكل معرفي يحتاج منا، إذا أردنا أن نتحمله، إلى الحماية والعلاج .. ص186، 187

▬ يمثل أبولو في نظري تجسيدًا للفكرة العبقرية "مبدأ الفردانية" كسبيل وحيد للبحث عن الخلاص الحقيقي عبر الوهم. أما سحر الفردانية في صيحة انتصار ديونيس الصوفية مقطوعة والسبيل مفتوح للوصول إلى أمهات الوجود، إلى جوهر الأشياء. هذا التعارض الهائل، هذه الثغرة المتوسطة بين الفنون التشكيلية الأبولية وبين الموسيقى الديونيسية، أصبحت واضحة جدًا عند أحد مفكرينا الأعلام إلى حد أنها دفعته إلى القول، دون إشارة من الرموز الإلهية الهيلينية، إن تلك الموسيقى كانت مختلفة في طبيعتها وأصولها عن كل الفنون الأخرى، والسبب هو أن الموسيقى بعكس بقية الفنون لم تكن نسخة مطابقة تمامًا للظواهر، بل كانت نسخة مباشرة عن إرادة الإرادة ذاتها، وهي تكامل بين كل المظاهر الطبيعية في هذا العالم وبين تجسيد للشيء بحد ذاته، أي بالميتافيزيقي. لقد وضع رتشارد فاغنر بصمته موافقًا على هذه الرؤية المهمة للغاية بالنسبة لكل علم الجمال (الذي يشير بمعناه الجدي إلى بدايات علم الجمال)، معتبرًا في مقالته عن بيتهوفن أن الموسيقى تمثل لمبادئ مختلفة كليًا عن مبادئ الفنون البصرية، ولا يمكن قياسها بمقاييس جمالية. مع أن علم الجمال المزيف، إلى جانب الفنون المضللة والمتحللة، قد نما معتادًا على طلب المزيد، على أساس مفهوم الجمال السائد في عالم الفنون البصرية، تلك الموسيقى يجب أن تقدم وقعًا يشبه وقع الأعمال الفنية البصرية - إيقاظ المتعة في الأشكال الجميلة .. ص189، 190

▬ إن الفن الديونيسي بدوره يريد منا أن نقتنع بالمتعة الخالدة للوجود - لكن شريطة أن نسعى لتأمين هذه المتعة فيما وراء الظاهرات وليس في الظاهرات ذاتها. هذا الفن يردنا أن نعتبر بأن كل ما يحدث في الوجود يجب أن يكون معدا لمواجهة مصير مأساوي ما. وهو يجبرنا على أن نتأمل في الأحداث المرعبة لوجود الفرد، لكن دون أن نتجمد خوفًا. إن العزاء الميتافيزيقي ينتزعنا للحظات من لُجة التبدلات الشكلية المضطربة. ونصبح فعلًا ولأمدٍ قصير الجوهر الأول ذاته، ونشعر بالإرادة الجامحة للوجود والاستمتاع بهذا الوجود. عند ذلك نشاهد الصراعات، والعذاب، والتدمير الذي يلحق بالظاهرات كضرورة، بوجود حركة التوالد الأبدي لأشكال الوجود التي تتدافع ليشق طريقه إلى النور، إلى الحياة كحضن للخصوبة الغنية لعالم الإرادة. ص197

▬ تحدثنا حكاية التراجيديا الإغريقية بكثير من الدقة والوضوح أن الفن التراجيدي اليوناني قد خرج بالفعل من أعطاف الموسيقى، من جوهرها. ولأول مرة نتمكن بفهمها من إنصاف المغزى القديم والمذهل للكورس. لكن ينبغي علينا أن نعترف بأن معني الميثولوجيا التراجيدية لم يكن شفافًا من حيث درجة الوضوح الكلي لمفهومه لدى شعراء اليونان قديمًا من حيث درجة الوضوح الكلي المفهومه لدى شعراء اليونان قديمًا، ناهيك عن فلاسفتها. لقد كان أبطال اليونان إلى حد ما يتفوهون بأشياء ويقولون أكثر مما يعملون. لكن الأسطورة لا ترى ما يكفي من التشيؤ objectification لعالمها في علم الكلام. إن بنية المشاهد والصورة الماورائية تكشف عن حكمة أعمق من الحكمة التي يمكن التي يمكن أن يقلها الشاعر نفسه عبر كلماته وأفكاره. ونحن نلاحظ هذا عند شكسبير، حيث هاملت، على سبيل المثال، يقول أكثر مما يفعل. وبالتالي، إن العبرة من شخصية هاملت يمكن أن نأخذها ليس مما يهذر به بالضبط، بل مما هو في التفكير المستغرق الذي يلف أمامه، ومن دراسة المسرحية ذاتها .. فيما يتعلق بالتراجيديا اليونانية، التي نراها مكتوبة فقط ككلام شفوي، فكما قلتُ سابقًا، إن التناقض بين الأسطورة والكلمة يمكن أن يكون مضللا ويقودنا بسهولة إلى الاعتقاد أنها أكثر سطحية وأقل عمقًا مما هي عليه في الواقع، وإلى أن نتوقع أن تكون ذات وقع سطحي أقوى مما كان يفترض، قياسا على شهادات الأقدمين. ذلك أن من السهل جدًا أن ننسى أنه بينما كانت جهود الشاعر تخفق في الوصول  بالميثولوجيا إلى حالة روحية راقية المستوى ومثالية، كان هو ينجح دومًا كموسيقي.. لا شك في أن علينا أن نعيد تركيب قوة الأثر الموسيقي المهيمنة، بطريقة تقترب من الأسلوب المدرسي، حتى نتمكن من إدراك جزء من العزاء الذي لا يُضاهى، ولا بد أنه متوفر في التراجيديا الحقيقية. لكن لا يمكن لنا، إلا إذا كنا من اليونانيين، أن نقدر مدى تأثير تلك الموسيقى الرائعة حق قدرها. بينما في كل الموسيقى اليونانية - لدى مقابلتها مع الموسيقى الأكثر غنى بما لا يقاس، والتي نعرفها - يمكن أن نستمع إلى الأغنية الشبابية فقط التي تبدعها العبقرية الموسيقية، ذات القوة المرخمة. واليونانيون، على حد قول الكهنة المصريين، أطفالٌ خالدون، وهم مجرد أطفال حتى في فن التراجيديا، حيث يجهلون اللعبة التي ابتكروها، والتي سرعان ما ستتصدع وتتفتت. ص198، 199

▬ بينما تبدأ المحنة. القابعة في سكون في رحم الثقافة النظرية بزرع الرعب تدريجيًا في نفوس الإنسان الحديث، وتجبره على اللجوء مكرهًا إلى ما ادخرته ذاكرته من تجارب علها تساعده على إيجاد الدواء الناجع الذي يمكن أن يدرأ عنه مخاطرها عليه، برغم عدم ثقته في هذا الدواء، وبينما يبدأ بتكوين فكرة أولية عن النتائج التي ستترتب على وضعه المأزوم هذا ، فإن الكثير من الأشخاص المعروفين والبارزين عالميًا، كانوا يحتمون بدرع العلم ويستخدمونه للكشف عن قصور المعرفة ونزعاتها، وبذلك بدأوا بكل عزيمة بنفي امتلاك المزاعم العلمية شرعية عامة وأهدافًا عامة. وبهذا السلوك كشف هؤلاء الغطاء عن التضليل القائم على مبدأ السببية الذي يزين له أن باستطاعته تفسير جوهر الأمور الفنية ص209

▬ لقد كانت شجاعة الحكمة الهائلة التي تحلى بها الفيلسوفان "كانت" وشوبنهاور هي التي حملت بحزم مهمة التصدي وتحقيق الانتصار على التفاؤل الذي يكمن في أعماق المنطق، الذي يشكل بدوره أساس ثقافتنا وفي حين اعتقدت هذه النزعة المتفائلة في السابق أن من الحكمة معرفة كل أسرار العالم وفكفكة غموضها، اعتمادًا على مبدأ الشرعية الأبدية غير الضار في ظاهره، وتعاملت مع عناصر المكان والزمان والسببية كقوانين شرطية ومشروعة عالميًا، فقد كشف كانت كيف أن هذه العناصر قد استغلت فقط من أجل تحويل حدود الظواهر، كيف أن كل ما فعلته "مايا"، إلى جوهر فذ وحقيقي للأشياء، فجعلت بذلك المعرفة الحقيقية لهذا الجوهر أمرا مستحيلا جدا. أو على حد وصف شوبنهاور، هي أغرقت الحالم في سبات عميق (انظر: العالم رغبة وتمثل). وقد أسهمت هذه الفكرة في ثقافة أفضّل أن أدعوها بالتراجيدية. وأبرز سمة في هذه الفكرة أن أسمى هدف لها ما عاد كامنًا في العلم، بل في الحكمة، بعيدًا عن تضليل انحرافات العلوم المغرية، وأنها تنظر إلى العالم بأكمله بعينٍ ثابتة، وتسعى إلى احتضان الألم بكل حنو كما لو كان ألمها هي. ص210

▬ هنا يتوجب عليّ أن أضيف توكيدًا توضيحيًا موازيًا لموقفي بأن الأوبرا تقوم على الأساس ذاته الذي تقوم عليه ثقافتنا الألكسندرية. فالأوبرا نبتت من بنات أفكار الإنسان النظري، الإنسان العادي الناقد، وليس الفنان: وهذه إحدى أغرب الحقائق في تاريخ الفنون جميعها. لقد كان المستمعون غير الموسيقيين حقًا هم الذين طالبوا بأن تكون الكلمات قبل غيرها مفهومة لديهم. وبذلك فإن ميلاد الموسيقى من جديد يمكن أن يحصل عندما يتم العثور على طريقة للغناء تكون الكلمات فيها تحلق كنغم مضاف فوق النغم الأصلي، كما يرتقي السيد فوق عبده. فقد كان هناك شعور بأن الكلمات أنبل من النظام الهارموني المصاحب مثلما يكون العقل أنبل من الجسد. ومع هذا، فبمثل هؤلاء الهواة، بمثل هذه الفجاجة البعيدة عن عالم الموسيقى، أصبح سائدًا التعاطي مع البنى الموسيقية والصورة والكلمة في الأيام الأولى لنشأة الأوبرا. وبمثل هذه الروح من الجمال كانت دوائر الهواة الأنيقة بين الشعراء والمغنيين تشجع التجارب الأولى للأوبرا التي يقومون برعايتها.. إن الإنسان غير المتمكن من الفن يخلق لنفسه نوعا من الفن يطابق الوضع الذي يخلقه من لا علاقة له بالفن الحقيقي. لأن هذا الإنسان الذي لا يمتلك فكرة عن مكنونات فن الموسيقى الديونيسية، تراه يحول المتعة الموسيقية إلى عوالم عقلانية من الخطابة التي تجمع بين العبارة والموسيقى الانفعالية على طريقة الأسلوب التمثيلي وإلى شكل حسي من الموسيقى الصوتية. ولأنه مفتقد للرؤية فهو يفرض بالقوة على الفنان الآلي والتزييني ليعمل لحسابه. ولأنه الجوهر الحقيقي للفنان يقع خارج  محيط فهمه تراه يستحضر "الإنسان الأول الفنان" حسب ذائقته الشخصية، ذلك الإنسان الذي يغني وينشد بعاطفة متقدة. إنه يحلم بنفسه في عصر تكون العاطفة فيه كافية لتحقيق الإبداع الفني. الأوبرا تقوم على إيمان زائف بخصوص العملية الفنية، الإيمان الرعوي (الريفي) بأن كل من يمتلك العاطفة فنان. وحسب هذا الإيمان تصبح الأوبرا تعبيرًا عن الهواية في الفن، التي تُملي قوانينها بمقتضى تفاؤل الإنسان النظري  ص216، 217، 218

▬ إن كل من يريد أن يختبر بدقة كم هو قريب في علاقته من المشاهد الجمالي الحقيقي، أو من مجتمع البشر الناقدين على مذهب سقراط، في حاجة فقط إلى أن يسأل نفسه بأمانة عن الشعور الذي يتشكل بداخله كرد فعل تجاه المعجزات التي تعرض على المسرح: ما إذا كان حسه التاريخي الموجه نحو علة "سببية" نفسية محددة بدقة قد تعرض للإهانة، ما إذا كان يقر بالمعجزات، بإرادة خيرة أم لا، كظاهرة يفهمها الأطفال، لكن ليس هو، أو ما إذا كان يستجيب لها بطريقة مغايرة ما. بذلك يمكنه أن يعرف ما إذا كان قادرًا على فهم الأسطورة، باعتبارها صورة مكثفة للعالم الذي يستحيل، كتعبير مختصر للظواهر، أن يتحقق دون معجزة. لكن في جميع الحالات، إن كل الذين عرضوا أنفسهم لاختبار صعب كهذا، سوف يشعرون بانحطاط قيمتهم بسبب الروح النقدية التاريخية المميزة لثقافتنا، حتى أصبح من المستحيل تصديق الحجة على وجود الأسطورة بشكلها الأول بالوسائل البحثية وباللجوء إلى التجريد.. مع ذلك، إن كل إنسان تقريبًا في حاجة إلى أن يسأل نفسه، بعد أن عرض نفسه للنقد القاسي، وسوف يشعر بالامتهان بسبب الروح النقدية التاريخية لثقافتنا التي ترى أنه ليس إلا من خلال الوسائل التعليمية يمكن أن تحقق الأسطورة بشكلها الأول مصداقيتها. مع هذا، من دون الأسطورة تفقد الثقافة برمتها عافيتها وطاقتها الإبداعية الطبيعية. وهذا يعني أن الفضاء المحاط بالأساطير وحده هو الذي يمكن أن يلعب دورا موحدا لحراكه الثقافي بمجمله. إن الأسطورة وحدها هي المخلص لكل طاقات الخيال ومعها الحلم الأبولي من طوافها العبثي. ومن الواجب أن تكون صورة الأسطورة عفاريت حراسة، لا يغيببون عن المكان ولا تراهم العين، عفاريت يتكفلون بتنمية العقل الناشئ، ويقودون عملية تفسير الإنسان لحياته ولصراعاته. حتى الدولة ذاتها ليس لديها من القوانين الشفوية ما هو أقدر من أعراف مؤسسة الميثولوجيا التي تضمن علاقتها بالدين وتعاظمها من خلال عمليات التمثيل الميثولوجي... لنتصور عند هذا الحد، بطريق المقارنة، الرجل المهتم بالتجريد، دون مساعدة الأسطورة، وكذلك التعليم المجرد، والأخلاق المجردة، والعدالة المجردة، والدولة المجردة. دعونا نتخيل عملية الانتقال  غير المشروع، غير المسيطر  عليه للأسطورة الوطنية، للخيال الفني. ولنتخيل أيضًا وجود ثقافة بلا موقع أزلي آمن وقدسي لها، ثقافة محكوم عليها ببذل كل ما لديها من جهد والعيش على فضلات الثقافات الأخرى - هنا بالضبط سوف نعثر على عصرنا الحالي، الذي هو نتاج الفكر السقراطي المنكب على مسألة تدمير الميثولوجيا. وههنا يقف الإنسان، مجردًا من سلاح الأسطورة، وهو يتضور جوعًا إلى الأبد، يهيم وسط العصور التاريخية القديمة، وهو ينبش وينبش بحثًا عن الجذور، حتى وإن كانت هذه الجذور في أعمق أعماق الزمن الغابر.    ... ص246، ..248

▬ هنا يتحتم علينا أن نخطو خطة جريئة نحو ميتافيزيقا الفن، مكررين ما أكدنا عليه سابقًا بأن وجود الكون والعالم يبدو مبررا فقط باعتبارهما ظاهرة جمالية. وبالتالي يجب على الميثولوجيا التراجيدية أن تكون مقنعة لنا بأنه حتى البشاعة والتنافر عبارة عن لعبة فنية، تلعبها إرادة الإرادة مع نفسها في إطار غمرة سعادتها المفرطة السرمدية. لكن هذه الظاهرة البدئية والصعبة للفن الديونيسي، لا يكون مفهومًا ويمكن الإمساك بها  إلا من خلال المغزى الرائع للتنافر الموسيقي، تمامًا كما أن الموسيقى وحدها، التي تأتي في المحل الثاني بعد العالم، يمكن أن تزودنا بفكرة عما يمكن أن نفهمه عن طريق "تبرير وجود العالم على أسس جمالية". إن المتعة التي توفرها لنا الميثولوجيا التراجيدية تصدر عن الأصل ذاته الذي يتيح لنا الاستمتاع باستعياب التنافر الموسيقي. إن الفن الديونيسي، بما فيه من متعة أزلية متاحة حتى في الألم ذاته، هذا الفن هو الحاضنة المشتركة للموسيقى والميثولوجيا التراجيدية. ص257، 258

▬ أيها الأصدقاء، يا من آمنتم بالموسيقى الديونيسية، كلكم تعرفون كم نحن نحب التراجيديا. ففي رحاب التراجيديا التي وُلِدت مجددا من رحم الموسيقى نجد الأسطورة التراجيدية - ومع هذه التراجيديا قد تأملون في الوصول إلى أي شيء ونسيان كل الآلام. غير أن أسوأ هذه الآلام بالنسبة إلينا، في هذا التدهور الذي استغرق زمنًا طويلًا، هو ذاك الذي عاشته الروح الألمانية بعيدة عن موطنها، فكانت خادمًا لأقزام شريرين. وأرجو أنكم تستوعبون ما أقول - كما ستتفهمون في نهاية المطاف ما أطمح إليه من آمال. ص260

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS