علم النفس التطوري (دافيد باس)، ترجمة (مصطفى حجازي)


 

  • السبب الأساسي الذي أدى إلى تنمية دافع للحصول على مكانة لدى الرجال يكمن في أن المكانة الأعلى توفر فرصًا جنسية متزايدة. ص41

• أرى في المستقبلِ البعيد مجالاتٍ مفتوحة لأبحاثٍ أكثرَ أهمية. وسيقومُ علمُ النفسِ على أساسٍ جديد يتمثل في ضرورةِ اكتساب كل قوةٍ عقلية وكل كفاءة بالتدريج. (تشارلز داروين، 1859) ص49

• مع أفول بعض افتراضات "السلوكية" وبزوغ الثورة المعرفية أصبح من الجدير بالاحترام النظر "داخل رأس" الإنسان. لم يعد طرح حالات وعمليات ذهنية داخلية يعتبر "غير علمي". وإنما على العكس أصبح يعتبر ضروري حتمًا. ص101

• على الرغم من أن التطور بالانتقاء الطبيعي يُسمى نظرية، فإن مبادئها الأساسية قد تمَّ إثباتها عددًا كبيرًا من المرَّات - ولم يتم أبدًا إثبات بطلانها - بحيث إنها تُعتَبر من قِبَل معظم علماء البيولوجيا بمثابة واقعة فعلية. ص115

• التطور من خلال الانتقاء الطبيعي هو النظرية العلمية الوحيدة المعروفة التي بإمكانها تفسير التنوع المذهل للحياة التي نراها حولنا راهنًا. ص115

• تتشكل التكيفات بتأثيرٍ من عملية الانتقاء. في كل جيل، يعمل الانتقاء وكأنه مُنخُل، مستبعدًا الملامح التي لا تُسهم في الانتشار، ومبقيًا على تلك التي تُسهم فيه. ص117

• الآلية النفسية المتطورة هي عبارة عن طاقم من الإجراءات داخل المتعضي مصممة لتلقي شريحة خاصة من المعلومات وتحويلها من خلال قواعد اتخاذ القرار إلى مخرجات ساعدت تاريخيًا في حل مشكلة تكيفية. توجد الآلية النفسية في المتعضيات الراهنة لأنها أدت عمومًا إلى حلول ناجحة لمشكلات تكيفية نوعية جابهها أسلاف هذه المتعضيات. ص139

• يكشف تحليل أسنان أسلافنا من البشر، على سبيلِ المثال، معلومات حول طبيعة نظامهم الغذائي. كما يكشف تحليل كسور الهيكل العظمي معلومات حول كيفية موت أسلافنا. حتى بإمكان العظام أن توفر مفاتيح حول أنواع الأمراض التي أصابتهم.. ص 164

• توفر آلياتنا النفسية الراهنة نوافذ لرؤية طبيعة المشكلات التكيفية التي أصابت أسلافنا. ص165

• يدعم تفوق النساء في ذاكرة مواقع الأشياء والمعرفة الواقعية حول النباتات، الفرضية القائلة بأن النساء قد طورن تكيفات متخصصة لجمعِ الطعام - وهي تكيفات تعكس تقسيمًا راسخًا للعمل بين الجنسين. ص203

• ألا يمكن أن نشك بأن مخاوف الأطفال، المستقلة تمامًا عن الخبرة هي الآثار الموروثة للأخطار الواقعية خلال الزمن الوحشي الغابر؟ (داروين) ص212

• تحدد حالات الولع الممكنة للجنس المستثمر - أي الإناث - وإلى درجة خارقة للعادة وجهة تطور النوع. إذ إن الأنثى هي الحَكَم النهائي لتحديد متى ستقترن وبأي وتيرة ومع من. (سارة بلافر هردي) ص237

• لقد تطورت العديد من الرغبات النوعية، نتيجة لمميزات البقاء والتكاثر القوية التي تم إنضاجها من قبل أولئك الأسلاف الذين اختاروا أقرانهم بحكمة. وباعتبار أن البشر المحدثين يمثلون ذرية أولئك الرابحين في اليانصيب التطوري، فإنهم ورثوا طاقمًا نوعيًا من تفضيلات الأقران. ص237

• حين تُعطى الصدارة لدوافع الاقتران من خلال التعرض لصور نساء شابات جاذبات، يحدث شلال من التغيرات النفسية في الرجال بحيث إنهم يثمنون بالتحديد ما تريده النساء ويستعرضونه، وبالتالي فإنهم يستعرضون ما يحتاجه الرجال للنجاح في التنافس على القرين. ص289

• ليس من النادر أن تهرب [النساء] بعيدًا مع عاشق مفضل.. وهكذا نرى أن النساء لسن فعلًا في حالة بالغة الإذلال في ما يتعلق بالزواج كما تقرر افتراضه غالبًا. بمقدورهن غواية الرجال الذين تفضلنهم، وبمقدورهن كذلك رفض أولئك الذين لا يرغبن فيهم، سواء قبل الزواج أم بعده. (تشارلز داروين، 1871) ص351

• تقول أمي إنه أبي. ولكن في ما يخصني، فأنا لا أعرف ذلك. إذ إنه لا يوجد امرؤ يعرف (على وجه اليقين) من أنجبه. (تيليماك بن أدوديسيوس - من ملحمة الأوديسة لهوميروس) ص401

• لماذا توفر الأمهات، في العديد من الأنواع، بما فيها البشرية، رعاية والدية أكبر بما لا يُقاس من رعاية الآباء؟ ص404

• مع أن عدم التأكد من الأبوة لا يحول دون تطور رعاية الذكر الأبوية، إلا أنه يبقى أحد الأسباب الصامدة لنزوع الإناث واسع الانتشار للاستثمار في الذرية أكثر مما يستثمر الذكور فيها. ص406

• تشكل القرابة الجينية منبئًا قويًا بالاستثمار الوالدي وبإساءة معاملة الأطفال. يستثمر الرجال المزيد في تربية أولادهم الجينيين مما يستثمرونه في أولادهم غير الجينيين، ويستثمرون أقل في الأطفال عندما يكون هناك بعض الشك في أبوتهم لهؤلاء الأطفال. ص423

• كيف أصبح بالإمكان أن تتطور الغيرية بين غير الأقارب، بوجود التصميمات الأنانية التي تنزع إلى أن تنتج عن الانتقاء الطبيعي؟ هذا ما يدعوه علماء البيولوجيا التطورية مشكلة الغيرية. ص520

• تقرر نظرية الغيرية المتبادلة بأن التكيفات المكرسة لتوفير فوائد لغير الأقارب، يمكن لها أن تتطور طالما أن تقديم مثل هذه الفوائد سيكون متبادلًا في لحظة ما في المستقبل. ص521

• السببُ الرئيس للعنف، من وجهة نظر تطورية، هي الذكورة. (روبرت رايت، 1995) ص569

• من ضمن أكثر من عشرة ملايين نوع من أنواع الحيوانات الموجودة، بما فيها أربعة آلاف من الرئيسات، تم توثيق نوعين فقط يبديان ائتلافات منسقة بمبادرة من الذكور، تغير على المجالات الحيوية المجاورة، وينتج عنها تهجمات مميتة على أعضاء من نوعهما ذاته وهما: الشمبانزي والبشر. ص570

• يلجأ الذكور أكثر من الإناث، لدى البشر، إلى العدوان الجسدي بغية الاستيلاء على موارد الآخرين. يبرز الفارق بين الجنسين في استعمال القوة الجسمية في سنٍ مبكرة تبدأ من عمر ثلاث سنوات. ص572

• يحط كل من الرجال والنساء من قدر مزاحميهم من الجنس نفسه، طاعنين بمكانتهم وسمعتهم بقصد جعلهم أقل مرغوبية من قبل أعضاء الجنس الآخر. ص573

• الحرب هي نشاط يُمارَس حصريًا من قبل الرجال. ويكون الرجال الآخرون هم الضحايا المستهدفين في معظم الأحيان، ولو أن النساء غالبًا ما يعانين أيضًا. ومع أن حروبًا قليلة تُشَن لمجرد النية الصريحة في أَسرِ النساء، إلا أن كسب المزيد من إمكانات الجماع تعتبر في الأعم الغالب بمثابة مغنم مرغوب للنجاح في الانتصار على العدو. ص600

• سيكون هناك دومًأ معركة بين الجنسين لأن كلًا من الرجال والنساء يريدون أشياء مختلفة. الرجال يريدون النساء، والنساء تريد الرجال. (جروج بورنز) ص625

• معركة الجنسين في كلِ عمر هي إلى حدٍ بعيد معركة حول الجنس.(دونالد سايمونز، 1979) ص625

• قد تكون الخلافات حول تكرار ممارسة الجنس وتوقيته أكثر مصادر الصراع شيوعًا بين الرجال والنساء. ص629

• يتمثل أحد مصادر الصراع الكبرى في أن الرجال يستنتجون أحيانًا اهتمامًا جنسيًا من قِبَل المرأة في حين أنه ليس موجودًا. ص630

• يؤول الرجال إشارات الود البسيط ومجرد الابتسام من قِبَل النساء على أنها تدل على قدر أكبر من الاهتمام الجنسي مما تراه النساء اللواتي يشاهدن الأحداث ذاتها بالضبط. ص630

• يُصَرِّح الرجال عبر كلِ الثقافات بمعاناة أكبر من النساء في الاستجابة لسيناريو الخيانة الجنسية، وتصرح النساء عبر كل الثقافات بمعاناة أكبر في الاستجابة لسيناريو الخيانة العاطفية أو خيانة الحب. ص654

• يتعارك الشمبانزي على السيطرة ويكسب الذكر المسيطر نمطيًا إمكانات وصول جنسي إلى الإناث أكثر مما يكسبه الذكر الخاضع. ص688

• الرجال ذوو المكانة العالية غالبًا متعددي  الزوجات، وذلك عبر التاريخ والثقافات، مما يكسبهم وصولًا جنسيًا إلى نساء متعددات على شكلِ زوجات، وعشيقات، وخليلات. ص696

• قد تؤدي المستويات المرتفعة من التستوسرون لدى الرجال إلى سلوكيات مسيطرة تؤدي بدورها في بعض الثقافات  النوعية إلى مكانة عالية، وفي المقابل يؤدي الارتفاع في المكانة إلى ارتفاع مستويات التستوسترون. ص718

• تتمثل أكثر مظاهر علم النفس التطوري إثارة في أنه يبشر بإطار لتكامل الأدلة والتفسيرات من كل من البيولوجيا، والأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلوم السلوك الأخرى في وصف موحد للسلوك الإنساني.  (بوتر وهيكهاوسن، 2000) ص735

• يبدو علم النفس التطوري أنه ما فوق النظرية الوحيدة القابلة للحياة والتي تتمتع بما يكفي من القوة بحيث تُكامِل كل هذه المذاهب الفرعية. إنها ما فوق النظرية التي تهدف إلى تقديم فهم مُوَحَّد لآليات العقل المميزة لهذا النوع الغريب من الرئيسات منتصبة القامة. ص737

• "اللغة هي قدرة ذات أحجام مذهلة: "إذ بمجرد عمل ضوضاء من خلال أفواهنا، يمكننا بثقة توليد تراكيب دقيقة من الأفكار التي تبرز في أذهان بعضنا بعضًا. ص751

• هل اللغة تَكَيُّف أم مُنتَج ثانوي ؟ ص751

• قد يكون لدى النساء "نظرية في أذهان الرجال" تختلفُ عن "نظريتهن في أذهان النساء" نظرًا لاختلاف أنواع المشكلات التكيفية التي تجابههن تبعًا لما إذا كُنَّ يتفاعلن مع رجلٍ أو امرأة. ص771

• تكشف نماذج الثقافة التي نبدعها ونستهلكها سيكولوجية التطور البشري، ولو أنها ليست تكيفًا بحد ذاتها. ص802

 

◘ ينكبُّ علمُ النفس التطوري على دراسة العقل البشري وآليات عمله. ويهتمُّ، بالمنظور الأكثر اتساعًا، بالإجابة عن أسئلة أساسية من مثل: لماذا يعمل العقل بالطريقة التي يعمل بها؟ وما هي الوظائف التي يقوم بها العقل بناءً لآلية عمله؟ وكيف يتفاعل عمل هذه الآلية مع مدخلات البيئة والمحيط، ووفق أي سياقات وشروط ومثيرات، كي تنتج السلوك البشري الملاحَظ؟ [..] يقوم علم النفس التطوري على مجموعة من المقدمات والمسلمات قال بها كل من دافيد باس، كوسميدس وتوبي. قدّم باس خمسًا منها: 1) يتوقف السلوك الظاهري على آليات نفسية ضمنية، أي أدوات معالجة معلومات يحتويها الدماغ، على صلةٍ تفاعلية مع مدخلات كل من البيئة العضوية الداخلية، والبيئة الإيكولوجية المحيطة التي تطلق نشاط هذه الآليات. تذهب هذه المقدمة على عكس النظرية السلوكية ذات النزعة البيئية المفرطة التي ترد كل سلوك إلى مبادئ التعلم. وهي بالمقابل تُعلي من شأن علم النفس المعرفي وآليات عمل الدماغ البشري. 2) التطور بالانتقاء هو العملية السببية الوحيدة المعروفة القادرة على خلق هكذا آليات عضوية معقدة. 3) تتخصص الآليات النفسية المتطورة وظيفيًا في حل مشكلات تكيفية نوعية جابهها البشر خلال تاريخ التطور المديد. 4) صمم الانتقاء معالجة المعلومات الخاصة بكل هذه الآليات النفسية بحيث تتأثر تكيفيًا بفئات نوعية من معلومات البيئة. 5) يتكون علم النفس البشري من عدد وافر من هذه الآليات النفسية المتطورة والتخصصية التي تكون كل منها حساسة لأشكال خاصة من مدخلات البيئة، وبحيث تنسّق هذه الآليات نشاطها فيما بينها وتتمازج كي تنتج السلوك الظاهري [..] يرى علماء النفس التطوري أن العقلَ البشري الراهن بداراته العصبية وآلياته النفسية المتطورة هو نتاج العصر البلايستوسيني الذي ابتدأ قبل مليون وثماني مائة ألف من السنين وانتهي قبل 12000 سنة خلت، وما جابهه الأسلاف من تحديات بقاء وتكاثر تطلبت نشأة آليات تكيفية لحلِّ مشكلاتها [..] يتفاعل التطور الوراثي المكون للآليات النفسية وداراتها العصبية مع التطور الثقافي الشائع لدى الإنسان العاقل. إنهما متلازمان في تطورهما. وعلى عكس الرأي الشائع في العلوم الاجتماعية، فالثقافة ليست كيانًا مفروضًا من الخارج على الفرد، بل هي مكون أساسي من مكونات الدماغ البشري... تولد الآليات الجينية شروطًا ثقافية قابلة للانتقال بالتعلم من خلال تحديدها لما يمكن أن يتعلمه الإنسان، وكيفية تعلمه تبعًا لبنية الدماغ وداراته العصبية. وبالتالي فهي تحدد قدرة الدماغ على التعلم الاجتماعي والتخزين الثقافي. إلا أن الثقافة ثؤثر بدورها على الموروثات من خلال مبدأ الانتقاء الطبيعي ذاته. فثقافة الرعي وتربية الماشية واستهلاك ألبانها، على سبيل المثال، أدت إلى انتقاء الموروثات التي تسمح بامتصاص اللاكتوز. وبالتالي حين تتشكل هذه الآليات تعود فتحدد بدورها الإدراك الانتقائي لمثيرات البيئة، كما تحدد إمكانات التعلم. فالبشر مثلًا لديهم دارات لتعلم اللغة تسمح للمحيط بتعليمهم لغة نوعية، ولكن ليس لديهم دارات للطيران جسميًا. وهكذا إذًا يتلازم تطور الموروثات والثقافة عبر المسار الوجود البشري. [ملخص مقدمة المترجم ص24 إلى ص31]

 

▬ يُشكل فهم آليات العقل/الدماغ البشري من منظور تطوري هدف الفرع العلمي الجديد الذي يطلق عليه إسم علم النفس التطوري.. يركز علم النفس التطوري على أربعة أسئلة مفتاحية: 1) لماذا صُمِّمَ العقل بالطريقة التي هو عليها - أي ما هي العمليات السببية التي ولِدَ العقل البشري وصممته أو شكلته في شكله الراهن؟ 2) ما هو تصميم العقل البشري - أي ما هي آلياته أو أجزاؤه المكونة له، وما هي طريقة تنظيمها؟ 3) ما هي وظائف أجزائه المكونه له، وما هي بنيتها التنظيمية - أي ما هي الأشياء التي صُمِّمَ العقل للقيامِ بها؟ 4) كيف تتفاعل مدخلات البيئة الراهنة مع تصميم العقل الإنساني، كي تنتج السلوك المُلاحَظ؟ صــ 50

 

▬ مثَّلَ افتقار داروين لنظرية فاعلة في التوريث حجر عثرة كبير بالنسبة للعديد من علماء البيولوجيا. توفرت هذه النظرية حين تم الاعتراف بأعمال غريغور مندل، وتم توليفها مع نظرية داروين في الانتقاء الطبيعي في حركة أُطلقَ عليها تسمية التوليف الحديث. تبعًا لهذه النظرية، لا يتضمن التوريث المزج بين خصائص كلا الوالدين، وإنما هو توريث دقائقي. أي أن، الموروثات، وهي الوحدة الأساسية في التوريث، تأتي على شكل مجموعات متمايزة لا تتمازج مع غيرها (من الوالد الآخر) وإنما تُمرَر بدون تعديل من أسلاف الوالدين إلى الطفل. وفرَّت نظرية التوريث الدقائقي العنصر المفقود في نظرية داروين في الانتقاء الطبيعي. صــ 103

 

▬ البشر هم ثدييات نشأت منذ ما يزيد على 200 مليون سنة خلت. نحن جزء من خط الرئيسات الذي بدأ منذ 85 مليون سنة خلت. أصبح أسلافنا يقفون على ساقين منذ 4.4 مليون سنة خلت، وطوروا أدوات حجرية بدائية منذ 2.5 مليون سنة خلت، وقد يكونون بدأوا اكتشاف النار وإشعالها منذ 1.6 مليون سنة خلت. ومع توسع أدمغة أسلافنا، بدأنا نطور أدوات وتقنيات أكثر إتقانًا، كما بدأنا باستعمار عدة أجزاء من العالم. هناك نظريتان متنافستان حول أصول الإنسان الحديث هما: نظرية استمرارية تعدد المناطق، ونظرية الخروج من أفريقيا. يجادل البعض بأن الأدلة التشريحية، والأحفورية والجينية تدعم نظرية الخروج من أفريقيا، والتي تذهب إلى القول بأن البشر المحدثين أتوا على الغالب من أصل أفريقي، وهاجروا لاحقًا إلى آسيا وأوروبا، حالِّين بذلك محل كل الأجناس البشرية الأخرى بما فيها النياندرتال. بينما يعتقد منظرون آخرون بأن الدليل الجيني يتلاءم مع كلا النظريتين، وأن الأدلة الجينية الأحدث قد ترجح الكفة من جديد نحو تعدد المناطق. ومع أن النايدرتال ازدهر في أوروبا لما يزيد على 170 ألف سنة، إلا أنهم انقرضوا من 30 ألف سنة خلت، مما يتطابق مع قدوم البشر المحدثين على الصعيد التشريحي. ويظل الانقراض المفاجئ للنياندرتال لغزًا علميًا. صــ 105

 

▬ لو تجولتَ حافي القدمين لأسبايع قليلة فإنك ستنمي طبقة ثنفية Calluses على أخمص قدميك تنشط آليات إنتاج الثفن - التي تصنع العديد من الخلايا الجلدية الجديدة عند تكرار احتكاك الجلد بمادة صلبة - لحماية البنى التشريحية والفسيولوجية لقدميك من الأذى. ولكن لو تجولت بسيارتك لعدة أسابيع، فإن عجلات سيارتك لن تزداد سماكة. لماذا يا تُرى ؟ تخضع كل من قدميك وعجلات السيارة لقوانين الفيزياء. فالاحتكاك يؤدي إلى تآكل الأشياء، وليس بنائها. إلا أن، قدميك على العكس من عجلاتك، تخضعان لطاقم آخر من القوانين - أي قوانين الانتقاء العضوي الطبيعي. تمتلك قدماك آليات إنتاج - ثفن بسبب الانتقاء الطبيعي. فالتطور بالانتقاء هو عملية خلاقة؛ وآليات إنتاج الثفن هي المنتجات التكيفية لتلك العملية الخلاقة. وهي توجد الآن، لأن من كانوا ينزعون في الماضي، لامتلاك موروثات، ولو بدرجة متدنية، تهيئهم لتنمية سماكة جلد إضافية نتيجة للاحتكاك، كان لديهم ذلك العنصر الإضافي الذي يساعد في بقائهم، وبالتالي فهم عاشوا كي يتوالدوا أكثر من أولئك الذين يفتقرون إلى هذا الاستعداد المفيد لبقائهم. وباعتبارنا ذرية هؤلاء الأسلاف الناجحين، فإننا نحمل تلك الآليات التكيفية التي أدت إلى نجاحهم. صــ 113

 

▬ هناك ثلاثة منتجات للعملية التطورية: 1- التكيفات، وهي خصائص موروثة ونامية أتت إلى الوجود من خلال الانتقاء الطبيعي، لأنها ساعدت في حل مشكلات في البقاء أو التكاثر أفضل من تصميمات بديلة كانت موجودة لدى أفراد النوع خلال فترة تطورهم؛ الحبل السُري، على سبيل المثال. 2- المنتجات الثانوية، وهي خصائص لا تحل مشكلات تكيف، كما لا تمتلك تصميمًا وظيفيًا؛ وإنما هي حُمِّلَت مع الخصائص التي كان لها تصميم وظيفي، لأنه حدث أن اقترنت مع تلك التكيفات؛ من مثل سُرّة البطن. 3- التشويش، وهي آثار عشوائية ناتجة عن قوى من مثل الطفرات بالصُدفة، من نوع التغيرات المفاجئة وغير المسبوقة في البيئة، أو آثار الصدفة خلال النمو؛ من مثل: الشكل الخاص لُسرة بطن شخصٍ ما. صــ 116

 

▬ لا يُعني مظهر التكيفات النامي بشكلٍ موثوق، أن التكيف يتعين أن يظهر عند الميلاد. إذ تنمو معظم التكيفات، في الواقع، بعد الميلاد بوقتٍ طويل. فالمشي هو خاصية نامية بموثوقية لدى البشر، إلا أن معظمهم لا يبدأ المشي إلا بعد مضي سنة كاملة من العمر بعد الميلاد. كما أن الثديان هما خاصية نامية بموثوقية لدى النساء، إلا أنهما لا ينموانِ إلا عند البلوغ. أما الخصائص العابرة، والمؤقتة، والتي تختل بسهولة بفعل البيئة أو التي لا تظهر إلا لدى قلة من أفراد نوعٍ معين، فإنها ليست نامية بموثوقية، وبالتالي لا تستوفي المعايير التعريفية للتكيفات. صــ 117

 

▬ تُحيل بيئة قابلية التكيف أو EEA إلى التركيبة الإحصائية لضغوطات الانتقاء التي تحدث خلال مرحلة التكيف التطوري المسؤولة عن إنتاج التكيف. وبصيغةٍ أخرى فإن EEA أي بيئة قابلية التكيف التطورية تحيل على صعيد كل تكيف إلى انتقاء القُوى أو المشكلات التكيفية، التي كانت مسؤولة عن تشكيلها، خلال زمن تطوري مديد. على سبيل المثال تحيل EEA العين إلى ضغوط الانتقاء النوعية التي شكل كلًا من مكونات النظام البصري عبر مئات ملايين السنين. بينما تتضمن EEA للتحرك على ساقين ضغوطًا انتقائية ذات مدى زمني قصير، إذ تعود إلى حوالي 4.4 مليون سنة خَلَت. تتمثل النقطة المفصلية في أن EEA لا تحيل إلى زمن أو مكان محددين، وإنما إلى قُوى الانتقاء المسؤولة عن تشكيل التكيفات. وبالتالي فإن كل تكيف يمتلك EEA الفريدة الخاصة به. وتحيل مدة تطور التكيف إلى المدى الزمني الذي تكون خلاله، قطعة قطعة، حتى انتهى إلى أن يميز التصميم الكوني الخاص بالنوع. صــ 118، 119

 

▬ [الآلية النفسية المتطورة هي طاقم من العمليات داخل المُتعضي تمتلك الخصائص التالية: من ص135 إلى ص139]

 

1- توجد الآلية النفسية المتطورة بالشكل التي هي عليه لأنها حلّت تكرارًا مشكلة نوعية في البقاء والتكاثر خلال التاريخ التطوري.

2- الآلية النفسية المتطورة مصممة كي تتلقى شريحة ضيقة من المعلومات فقط.

3- تُعْلِم مدخلات الآلية النفسية المتطورة المتعضي بالمشكلة التكيفية الخاصة التي يواجهها.

4- تتحول مدخلات الآلية النفسية المتطورة من خلال قواعد اتخاذ القرار إلى مخرجات.

5- إما أن تكون مخرجات الآلية النفسية المتطورة إما نشاطًا فسيولوجيًا، أو إعلام آليات نفسية أخرى أو سلوكًا ظاهرًا.

6- تكون مخرجات الآلية النفسية المتطورة موجهة نحو حل مشكلة تكيفية نوعية.

 

▬ هناك توافق واضح على أن أسلاف البشر كانوا يأكلون كل شيء، وأن كلًا من اللحم والنباتات المجمعة كانت تشكل مكونات مهمة من نظامهم الغذائي، وذلك على الرغم من عدم حسم الخلاف حول الموضوع حتى الآن. يوفر الانتشار العالي للصيادين الذكور، والجامعات الإناث بين المجتمعات التقليدية، حتى ولو لم يكن دليلًا نهائيًا، مؤشرًا إضافيًا على أن كلا النشاطين يشكلان جزءًا من النمط البشري في توفير الطعام. صــ 200

 

▬ يغلب أن يطور البشر مخاوف من أخطار كانت حاضرة في بيئة الأسلاف، أكثر من المخاوف من الأخطار في البيئة الراهنة. فالثعابين على سبيل المثال تمثل مشكلة فعلًا. وهكذا بالكاد نسمع عن مخاوف من السيارات، الأسلحة النارية، ومخارج التيار الكهربائي، والسجائر، حيث أنها أخطار جديدة من الناحية التطورية - أي أنها جد حديثة بالنسبة للانتقاء كي يطور مخاوف نوعية بصددها. إن واقعة ذهاب عدد أكبر من ساكني المدن إلى الطبيب العقلي بسبب خوفهم من الثعابين والغرباء أكثر من خوفهم من السيارات ومخارج التيار الكهربائي، تقدم نافذة على أخطار بيئة أسلافنا. صــ 212

 

▬ الانتقاء يكون أكثر زخمًا في مرحلة مبكرة من الحياة لأن أي حدث يحدث مبكرًا يمكن أن يؤثر في مجمل مدى سنوات الشخص المُنجِبة. إلا أنه مع تقدم الناس في العمر، تضعف قوة الانتقاء. وفي الحالة القصوى، فإن ما يحدث لك في سن الشيخوخة وقبل أن تتوفى من المرجح ألا يكون له أثر على قدرتك الإنجابية. مما يعني أن الانتقاء سوف يعطي الأفضلية للتكيفات التي توفر آثارًا مجزية في مرحلة مبكرة من العمر حتى ولو كانت ذات تكاليف عالية في مراحل لاحقة. تتراكم هذه التكاليف في سن الشيخوخة، مما ينتج عنه تدهور في كل أجزاء الجسم في الوقت نفسه تقريبًا. ولهذا المعنى يمكن القول إن المتعضيات "مصممة" كي تموت. صــ 224

 

▬ توفر النتائج من باحثين مستقلين مستقلين دعمًا أوليًا لنظرية دي كاتازارو التطورية في الانتحار. وهناك حاجة لإجراء اختبارات أكثر دقة، وقد تتمثل الخطوة التالية في دراسة استشرافية للناس الذين ينتحرون فعلًا. وعلى كل حال يمكننا بانتظار ذلك، الاستنتاج، ولو نظريًا، بأن هناك شروطًا يمكن أن تدفع إلى انتقاء آليات نفسية قد تحض الشخص على الانتحار. تتمحور هذه الشروط حول الفشل في الاقتران مع الجنس الآخر، وفي تشكيل عبء على الأقرباء الأقربين. ويرجح أن تحدث أفكار الانتحار عندما يجابه الناس هذه السياقات الاجتماعية المهددة للياقة الشخصية. صــ 227

 

▬ لا ينتهي استثمار النساء المبدئي الأكبر في كل مشيج في البويضة. يحدث الإخصاب والحمل، وهما مكونان محوريان من مكونات الاستثمار البشري الوالدي، في أرحام النساء. يمكن لفعل جماع واحد، لا يتطلب من الذكر إلا حدًا أدنى من الاستثمار، أن يُنتج استثمارًا إلزاميًا ومستلهكًا للطاقة لدى المرأة يمتد لتسعة أشهر، ويمنع فرص اقتران أخرى. ويضاف إلى ذلك، انخراط النساء وحدهن في نشاط الإرضاع (الرضاعة من الثدي) التي قد تمتد إلى أربع سنوات في بعض المجتمعات.. ليس هناك قانون بيولوجي في العالم الحيواني يفرض أنه يتعين على الإناث الاستثمار أكثر من الذكور. في الحقيقة يوظف الذكور واقعيًا أكثر من الإناث في بعض الأنواع من مثل جُدْجُدْ مورمون، وفرس البحر الأنبوبي، وذكور الضفادع النشابة السامة. ينتج ذكر جُدجُد المورمون أكياسًا منوية مليئة بالمغذيات. تصبح هذه الأكياس المنوية الكبير نسبيًا ثمينة جدًا بالنسبة للأنثى في المناطق التي يندر فيها الطعام، إلا أنه يصبح من العسير على الذكر إنتاج الكثير منها لأنها تتطلب استهلاكًا مفرطًا للطعام. تتنافس الإناث في ما بينها للوصول إلى الذكور ذوي الاستثمار العالي الذين يحملون هذه الأكياس المنوية الكبيرة. تكون الذكور أكثر انتقائية في الاقتران من الإناث في هذه الأنواع المسماة "ذات الدور الجنسي المعكوس". صــ 239، 240

 

▬ موجز القول، ينجم عن نظرية ترايفرز (1972) في الاستثمار الوالدي والانتقاء الجنسي تنبؤان عميقان: يتمثل أولهما في أن الجنس الذي يستثمر أكثر في الذرية (وهن النساء خصوصًا، وإن لم يكن دائمًا) سيكون أكثر تمييزًا أو انتقائية بصدد التزواج؛ ويتمثل ثانيهما في أن الجنس الذي يستثمر أقل في الذرية سيكون أكثر تنافسية للوصول الجنسي إلى الجنس ذي الاستثمار الأعلى. فلكي تنجب المرأة طفلًا واحدًا يتعين عليها معاناة تسعة أشهر من الحمل، بينما يمكن للرجل أن ينجب هذا الطفل ذاته بقليل من الاستثمار لا يعدو دقائق معدودة. وأما حين يتعلق الأمر بالاقتران طويل المدى أو الزواج، فإنه من الواضح بالقدر ذاته أن كلًا من الرجال والنساء يستثمرون في الأطفال بكثافة، ولذلك تتنبأ نظرية الاستثمار الوالدي بأنه يتعين على كلا الجنسين أن يكونا جد انتقائيين وتمييزيين. صــ 241

 

▬ ورثت النساء الحديثات عن الجدات الأوائل الناضجات الحكمة الخاصة بالرجال الذين توافقن على الاقتران بهم. النساء الجدات اللواتي تزاوجن من دون أي تمييز كن على الأرجح أقل نجاحًا على صعيد التكاثر من أولئك النساء اللواتي مارسن حسن الاختيار. يجلب الاقتران على المدى الطويل معهم كنزًا نفسيًا من الموارد الاقتصادية الملائمة هو مسعى معقد بشكل استثنائي. إنه يتضمن عددًا من التفضيلات التمييزية التي تطابق كل منها مع مورد يساعد النساء على حل مشكلات تكيفية حرجة. قد يبدو بديهيًا أن تبحث النساء عن الموارد في شريك زوجي. ولأنه لا يمكن دومًا تمييز الموارد مباشرةً إلا أن تفضيلات الاقتران لدى النساء مربوطة بصفات أخرى تدل على أرجحية ملكية الموارد، أو الحصول المستقبلي عليها. في الحقيقة، قد تكون النساء أقل تأثرًا بالنقود بحد ذاتها، بل هي قد تتأثر بالصفات التي تؤدي إلى الموارد، من مثل الطموح، الذكاء، والعمر الأكبر سنًا.. تتحرى النساء هذه الصفات الشخصية بعناية كبيرة لأنها تفصح عن إمكانات الرجل. صــ 289، 291

 

▬ ما زالت هناك حاجة لإجراء دراسات حاسمة ونهائية حول ما إذا كان الرجال قادرون على رصد متى تبيض النساء. الدليل المتوفر كافٍ للإحياء بأن هناك تغيرات جسمية ممكنة قابلة للملاحظة على مستوى جسد المرأة وجلدها حين تبيض - وهي تغيرات معروف أنها جذابة جنسيًا للرجال. سنكون قادرين خلال السنوات القليلة القادمة على تحديد ما إذا كانت الحكمة المتعارف عليها - والقائلة بأن الرجال لا يستطيعون رصد متى تبيض النساء - صحيحة أم خاطئة. صــ 324 ، 325

 

▬ [..] أما المشكلة التكيفية الكبرى الثانية فهي مشكلة عدم التأكد من الأبوة. الرجال الذين كانوا لا مبالين تجاه هذه المشكلة التكيفية، عبر تاريخ البشر التطوري، تعرضوا لخطر تنشئة أبناء رجل آخر، وهو ما كان يمكن أن يكون له تكاليف هائلة على صعيد النجاح التكاثري. يُثمِّن الرجال في العديد من البلدان البكارة في العرائس الممكنة، إلا أن ذلك ليس كونيًا. أمَّا الحل الكوني الأكثر ترجيحًا فيتمثل في إعطاء الصدارة لمؤشرات الوفاء الزوجي - أي ترجيح اقتصار إقامة المرأة للعلاقة الجنسية مع الزوج حصريًا. صــ 348

 

▬ تؤكد أربعة مصادر من البيانات السلوكية الفرضية القائلة بأن تفضيلات الرجال للقرين تؤثر على سلوك الاقتران الفعلي. أولها أن الرجال الذين يستجيبون للإعلانات الشخصية يبدون معدلات استجابة أعلى للنساء اللواتي يدعين أنهن شابات وجاذبات جسميًا. وثانيها، أن الرجال عبر العالم يتزوجون فعليًا من نساء يصغرنهم بحوالي ثلاث سنوات؛ وأما الرجال الذين يطلقون ويتزوجون ثانية، فيميلون إلى الزواج من نساء أصغر منهم سنًا، حيث يبلغ الفرق خمس سنوات للزواج الثاني، وثماني سنوات للزواج الثالث. أما ثالثًا، فهو أن النساء يكرسن الكثير من الجهد لتحسين مظهرهن الجسمي للتفضيلات التي يعبر عنها الرجال. وأما رابعها فيتمثل في أن النساء ينزعن إلى الحط من قدر غريماتهن من خلال تبخيس مظهر هاته الغريمات الجسمي، واتهامهن بالإباحية - وهي تكتيكات ذات فاعلية في جعل الغريمات أقل جاذبية للرجال لأنها تتنافى مع التفضيلات التي يتبناها الرجال بالنسبة لقرين على المدى الطويل. صــ 349

 

▬ حجم خصيتي الرجل، بالنسبة لوزن جسمه، هو أكبر بما لا يقاس من حجم خصيتي الغوريلا والأورانج أوتانغ. تبلغ خصيتا الذكر 0.018 في المئة من وزن جسم الغوريلا، و 0.048 في المئة من وزن جسم الأورانج أوتانغ. وعلى النقيض من ذلك، تبلغ خصيتا الذكر البشري 0.079 في المئة من وزن جسم الرجال، أو ما يعادل 60 في المئة أكثر من النسبة لدى الأورانج أوتانغ، وأكثر من أربعة أضعاف النسبة لدى الغوريلا، مقارنة بحجم الجسم. يوفر كبر حجم خصيتي الرجال النسبي أحد الأدلة على أن النساء مارسن أحيانًا خلال تاريخ البشر التطوري، الجنس مع أكثر من رجل واحد خلال فترة أيام معدودة. ولم يكن من المرجح أن يتطور حجم الخصيتين هذا إلا إذا كان هناك تنافس منوي. وهو ما يشير إلى أن كلا الجنسين قد قاما باقتران قصير المدى لبعض الوقت. على أن البشر لا يمتلكون حجم الخصيتين الأكبر من بين كل الرئيسات. حجم خصيتي البشر أصغر بشكل بيّن من حجمها لدى الشمبانزي الذي يتصف بإباحية جنسية عالية، والذي تبلغ نسبة خصيته 0.29 في المئة من وزن جسمه، أي بما يقدر بثلاثة أضعاف النسبة المئوية لدى الرجال. تشير هذه المعطيات إلى أن أسلافنا من البشر نادرًا ما وصلوا إلى حالات الشمبانزي المتطرفة من الانخراط في الجنس العشوائي نسبيًا. صــ 359 ، 360

 

▬ حصلت عدة فرضيات حول الوظائف المتطورة لاقتران النساء قصير المدى على بعض السند التجريبي: (1) تبديل الأقران، (2) استخدام الاقتران قصير المدى لغايات بعيدة المدى، (3) اكتساب موارد، و(4) الحصول على موروثات جيدة أو موروثات أبناء جذابين جنسيًا. وليس هناك ما يلزم بأن يكون لاقتران النساء قصير المدى وظيفة واحدة وحيدة فقط بل يمكن أن يكون له عدة وظائف. فالنساء المقترنات حاليًا برجال ذوي قيمة اقترانية متدنية، على سبيل المثال، قد يستخدمن الاقتران قصير المدى بغية تقدير وتقويم رجل معين كإمكانية مستقبلية طويلة المدى، أو هي تضاجعه بغية تحويل الأمر إلى علاقة أكثر التزامًا. قد تستخدم النساء اللواتي يعشن ظروفًا تتسم بندرة الموارد، أو النساء غير القادرات على اجتذاب قرين طويل المدى، الاقتران قصير المدى للحصول على موارد حيوية. كما أن النساء المقترنات حاليًا برجال ذوي نوعية جينية متدنية، يمكنهن استخدام الاقتران قصير المدى لتأمين موروثات أفضل، وخصوصًا في فترة الإباضة. صــ 388

 

▬ الأمهات، في كل المملكة الحيوانية هن عمومًا "متأكدات" بدرجة 100 في المئة من إسهامهن الجيني في ذريتهن. من الضروري وضع كلمة "متأكدات" بين مزدوجين لأنه لا لزوم لاعتراف واعٍ بتأكدهن من والديتهن. عندما تضع الأنثى مولودًا، أو تبيض بيضة ملقحة، ليس هناك شك بأن ذريتها تتضمن 50 في المئة من مورثاتها. أما الذكور فلا يمكنهم أبدًا أن يكونوا "متأكدين". تعني مشكلة عدم التأكد من الأبوة، أنه من منظور الذكر هناك دومًا بعض الاحتمال أن يكون ذكر آخر قد لقَّح بيوض الأنثى. صــ 405

 

▬ حين يكرس الرجل جهدًا للوالدية، فإنه قد يُستخدم بمثابة تكتيك اقتران أكثر من كونه وسيلة للمساعدة على بقاء الطفل - وهي فرضية تم تطويرها على يد عالمي الرئيسات باربرا سموتس وديفيد غوبرينك (1992). درس مارك فلن (1992) على سبيل المثال، التوظيف الوالدي الذكوري في قرية ريفية في ترنيداد. وجد أنه حين تكون المرأة عازبة ولديها طفل، يتفاعل الرجال مع طفل المرأة بدرجة أكبر قبل زواجهم مما يفعلونه بعد الزواج، وهو ما يوحي بأن الرجال قد يوجهون الجهد نحو الطفل في محاولة لاجتذاب المرأة. صــ 442

 

▬ القرابة الجينية تشكل عامل تنبؤ محوري بالاستثمار من قبل الأقارب. وكلما توثقت القربى، كان الاستثمار أضخم. عندما تكون القرابة الجينية أكيدة يكون الاستثمار في أعلى مستوياته، مع تساوي كل الاعتبارات الأخرى. يتناقص الاستثمار عندما تتعرض القرابة الجينية للشبهة من خلال انعدام يقين الأبوة، أو من خلال وجود والد غير أصيل (زوج أم أو زوجة أب). تحمل نظرية اللياقة المتضمنة عواقب عميقة على فهم سيكولوجية القرابة والعائلة، بدأ الباحثون للتو في استكشافها. صــ 513

 

▬ مفارقة المصرفي: يواجه المصرفيون الذين يقرضون المال معضلة: إذ إن عدد الناس الذين يطلبون قروضًا هو أكبر مما لدى أي مصرف من المال للإقراض. يتعين على المصرفيين أن يتخذوا قرارات صعبة لمن يتعين عليهم إقراض المال. يشكل بعض الناس مقترضين جيدين ويبرهنون عن احتمال عالٍ بأن يسددوا المال المُقتَرَض. بينما أن أُناسًا آخرين يشكلون مقترضين سيئين، وقد لا يكونون قادرين على السداد. تتمثل مفارقة المصرفي في التالي: أولئك الذين هم في أمس الحاجة إلى الاقتراض هم تحديدًا الناس ذاتهم الأقل قدرة على السداد، بينما أن أولئك الأقل حاجة إلى المال هم أفضل المستدينين، وهكذا ينتهي بالمصرف إلى إقراض المال لأولئك الأقل حاجة إليه، ويمنع الاقتراض عن الأكثر حاجة إليه.. تتشابه هذه المعضلة مع مشكلة تكيفية عميقة واجهت أسلافنا. فلدى كل شخص كمية محدودة من العون الذي يمكن تقديمه للآخرين. فعندما يكون أحدهم في أمس الحاجة إلى المساعدة، فإن ذلك يتطابق مع أسوأ إمكانات السداد، لأن من غير المرجح أن يكون قادرًا على المعاملة بالمثل. وعلى سبيلِ المثال، فإذا جُرِحَ أحد أسلافِنا أو مَرِضَ، فإن ذلك هو تحديدًا الوقتُ الذي يكون فيه في أمس الحاجة إلى المساعدة، إلا أنه من غير المرجح أن يكون هو الشخص الذي يجدر أن نصرف عليه وقت مساعدتنا المحدود. وهكذا جابه أسلافنا معضلة شبيهة بمعضلة المصرفي. كان يتعين عليهم اتخاذ قرارات حرجة بصدد من يمدونه بالعطاء، ومتى يمدون الأفراد الآخرين بعطائهم. وكما أن بعض الناس هم أفضل المستدينين تحديدًا بالنسبة للمصارف، كذلك فإن بعض الناس هم أكثر جذبًا لنا بمثابة موضوعات لقدرتنا الطبيعية المحدودة على تقديم العون. صـ 544، 545

 

▬ تم القيام ببعض الأعمال حول وظائف الصداقة من خلال استكشاف منافعها وتكاليفها المدركة. يكون كل من الرجال والنساء صداقات مع الجنس نفسه، وكذلك صاداقات مع الجنس الآخر، إلا أن الدليل يشير إلى وجود فروق جنسية في وظائف الصداقة. يدرك الرجال أكثر مما تدرك النساء أن الحصول على الجنس على المدى القصير يشكل إحدى فوائد الصداقة مع الجنس الآخر. بينما تدرك النساء أن الحماية تشكل إحدى منافع الصدافة مع الجنس الآخر، أكثر مما يدركه الرجال. يدرك كلا الجنسين أن المعلومات عن الجنس الآخر تمثل منفعة مهمة من منافع الصداقة. يتمثل أحد أعباء الصداقة مع الجنس نفسه في التنافس الجنسي الممكن. ويبدو التنافس الجنسي أكثر شيوعًا بين الأصدقاء الذكور عمّا هو بين الصديقات الإناث، مما يمكن أن يرجع إلى رغبة الرجال الأقوياء في الاقتران على المدى القصير، وهو ما يمكن أن يلقي بهم في حمأة الصراع بشكل أكثر تكرارًا. صــ 564 ، 565

 

▬ الرجال هم ضحايا العدوان أكثر بما لا يقاس من النساء، لأن الرجال هم في حالة تنافس مع الرجال في المقام الأول. الرجال الآخرون هم من يشكلون المصادر الأولية للتعارض الاستراتيجي، والرجال الآخرون هم من يعيقون حصولهم على الموارد اللازمة لاجتذاب النساء، والرجال الآخرون هم من يحاولون صد حصولهم على النساء. تذهب الغنائم للمنتصرين. ويبقى الخساسرون بلان قرين يعانون من الجروح، أو حتى الموت المبكر. تنخرط النساء أيضًا في العدوان، وضحاياهن كذلك نموذجيًا من أعضاء جنسهن، ففي الدراسات حول العدوان اللفظي من خلال الحط من قدر المنافسات، على سبيلِ المثال، تشوه النساء من سمعة مزاحماتهن من خلال الطعن في مظهرهن الجسمي وبالتالي في قيمتهن الإنجابية. إلا أن أشكال العدوان المرتكب من قبل النساء، هي نموذجيًا أقل جذرية، وأقل عنفًا، وبالتالي أقل خطورة من العدوان المرتكب من قبل الرجال - وهي وقائع تجد تعليلها في نظرية الاستثمار الوالدي والانتقاء الجنسي. في الحقيقة قد يعمل الانتقاء ضد النساء اللواتي يقدمن على الأخطار الجسمية التي تندرج عن العدوان. تجادل عالمة النفس التطوري آن كامبل بأن النساء تحتجن إلى إعطاء قيمة أعلى لحياتهن الذاتية مما يفعل الرجال تجاه حياتهم، نظرًا لكون المواليد الصغار يعتمدون على الرعاية الأموية أكثر من اعتمادهم على الرعاية الأبوية. وهكذا يتعين أن تعكس سيكولوجية النساء التطورية مخاوف أكبر من الوضعيات التي تشكل تهديدًا جسيمًا متمثلًا في الجروح الجسدية - وهو تنبؤ يجد له سندًا جيدًا من المعطيات التجريبية. صــ 581 ، 582

 

▬ تمثل الغيرة الجنسية كذلك مفتاحيًا للقتل الزوجي، وتشكل على ما يبدو السبب الأكثر شيوعًا عبر الثقافات. فاالرجال الذين يقتلون زوجاتهم أو عشيقاتهم يقومون بذلك نموذجيًا في واحد من ظرفين محوريين: إما ملاحظة خيانة جنسية أو الشك فيها، وكذلك حين تقدم المرأة على إنهاء العلاقة. يمثل أولهما حالة الرجل الديوث (الذي تخونه زوجته)، التي تضعه في خطر استثمار موارده المحدودة في ذرية لا تمت إليه بصلة. ويمثل ثانيهما خسارة امرأة ذات قيمة إنجابية لصالح غريم - وهي أيضًا خسارة مباشرة في سوق اللياقة. لا يحضر هذا المنطق التكيفي بالطبع في أذهان الرجال. إلا أن الرجال يحملون معهم الآليات النفسية التي أدت إلى نجاحات أسلافهم، وتغذي مجموعة من مثل هذه الآليات الغيرة الجنسية والنزعة التملكية للقرينات، وكلتاهما يمكن أن تؤدي إلى العدوان. صــ 597

 

▬ تنبأ علماء النفس التطوري بالصراع بين الجنسين، ولكن ليس لأن الرجال والنساء يتنافسون على موارد التكاثر ذاتها. وإنما، يمكن رد العديد من مصادر الصراع بين الجنسين إلى فوارق متطورة على صعيد الاستراتيجيات الجنسية. يمت واحد من أهم الفروق إلى استراتيجيات الاقتران قصير المدى. فلقد طور الرجال، أكثر بكثير من النساء، رغبة أعمق في التنوع الجنسي. تفضح هذه الرغبة عن نفسها بأشكال متعددة، من ضمنها البحث عن الوصول الجنسي الأسرع، وبشكلٍ أكثر إصرارًا وأكثر عدوانية مما ترغب فيه النساء عادةً. وفي المقابل، تطورت النساء كي تكن أكثر تمييزًا في الاقتران قصير المدى، بحيث تؤخرن نمطيًا الجماع الجنسي إلى أبعد مما يرغب فيه الرجال عادةً. ومن المواضح، أن الجنسين لا يستطيعان إنجاز هذه الرغبات الجنسية المتعارضة في الآن عينه. وهو ما يشكل مثالًا على ظاهرة تُدعى التعارض الاستراتيجي [...] يمثل التحرش الجنسي أحد أشكال التعارض الاستراتيجي في موقع العمل. الخداع في مجال المواعدة هو شكل آخر من التعارض الاستراتيجي. فالرجل الذي يخدع امرأة ما بصدد وضعه الزوجي والمرأة التي تخدع رجلًا ما بصدد سنها يخرقان كلاهما رغبة الجنس الآخر ويمثلان بالتالي أشكالًا من التعارض الاستراتيجي. وتمثل الخيانة الجنسية في نطاق الزواج شكلًا آخر من التعارض الاستراتيجي لأنها تخرق رغبات الزوج الآخر. يشكل كل من الضبط القسري، والتهديدات، والعنف، والشتائم، ومحاولات الحط من التقدير الذاتي للشريك أشكالًا أخرى من التعارض الاستراتيجي في العلاقات طويلة المدى [..] تقوم نظرية التعارض الاستراتيجي على مسلمتين أساسيتين: أولاهما، أنه يتوقع أن يحدث التعارض الاستراتيجي في كل مرة يعتدي فيها أحد الجنسين على رغبات الجنس الآخر؛ كان بإمكان هكذا تعارض أن يمنع تاريخيًا أجدادنا من الإنجاز الناجح لاستراتيجية جنسية مفضلة، وبالتالي كان بإمكانه أن يحد من نجاحهم التكاثري. ثانيًا، تمثل الانفعالات "السلبية" من مثل الغضب، الغيظ، والأسى حلولًا متطورة لمشكلات التعارض الاستراتيجي، حيث تنبه الناس إلى مصادر التعارض، وتطلق أفعالًا مصممة لمجابهتها. صــ 627 : 629

 

▬ ينشد الرجال أحيانًأ الوصول إلى الجنس بالحد الأدنى من الاستثمار. يُضِن الرجال غالبًا بمواردهم، وهم انتقائيون بشكلٍ غير اعتيادي بصدد من سيستثمرون فيه هذه الموارد. إنهم "متحفظون في مواردهم" وغالبًا ما يحتفظون باستثمارهم من أجل القرينات على المدى البعيد. ولأن النساء يتبعن غالبًا استراتيجية جنسية على المدى البعيد، فإنهن غالبًا ما ينشدن الحصول على الاستثمار، أو علائم الاستثمار، قبل قبولهن بممارسة الجنس. ومع ذلك فإن الاستثمار الذي تتوق النساء إليه هو تحديدًا الاستثمار الذي يحرص الرجال على عدم التفريط فيه بأقصى ما يمكنهم. صــ 630

 

▬ في الغزل البشري، تقع أعباء التعرض للخداع بصدد موارد قرين ممكن والتزامه بشكل أشد وطأة على عاتق النساء. فالرجل من الأسلاف الذي قام بخيار رديء لشريك جنسي يتعرض فقط لخسارة شطر ضئيل من وقته، وطاقته، وموارده، ولو أنه يمكن أن يثير غضب زوج غيور أو أب حامٍ. إلا أن المرأة من الأسلاف التي قامت بخيار رديء لقرين عابر، تاركة نفسها تتعرض للخداع بصدد نيّات الرجل على المدى البعيد أو رغبته في تكريس موارده لها، تكون قد عرضت نفسها في نهاية المطاف للحمل ولتربية طفل من دون أي عون. صــ 633

 

▬ يشكو الرجال دومًا من امتناع النساء الجنسي عليهم، ومما يترجم من خلال أفعال من مثل الغواية الجنسية المصحوبة بالامتناع، ورفض الجماع، واستدراج الرجل ومن ثم صده. ينزعج كلا الجنسين من الامتناع الجنسي، وينزعج الرجال بشكل دال أكثر من النساء. يقوم الامتناع الجنسي بعدة وظائف ممكنة بالنسبة للمرأة. تتمثل إحداها في الاحتفاظ بقدرتهن على اختيار رجال ذوي قيمة عالية ممن يرغبون في الالتزام العاطفي والاستثمار المادي. تمتنع النساء جنسيًا عن بعض الرجال وتخصصه بشكل انتقائي لآخرين من اختيارهن. وفوق ذلك، فإن قيام النساء بالامتناع الجنسي يزيد من قيمته؛ حيث يحولنه إلى مورد نادر. وتزيد الندرة من الثمن الذي يرضى الرجال بدفعه للحصول على الجنس. فإذا تمثل السبيل الوحيد لتمكن الرجال من الحصول على الجنس، في الاستثمار المكثف، فإنهم يقومون عندها بهذا الاستثمار. ففي ظروف الندرة الجنسية، من يفشل من الرجال في الاستثمار سيفشل في تأمين النكاح. وهو ما يولد صراعًا آخر بين الرجل والمرأة: إذ يعيق امتناعها استراتيجيته في الوصول الجنسي المبكر مع ما يرتبط بذلك من قيود عاطفية. صــ 637

 

▬ دان بعض علماء النفس التعارض الزائف بين "الثقافة" و "البيولوجيا، وكأن الإثنين كانا بمعنىً ما متنافسين سببيًا. تعكس الأطروحات القائلة بأن "الثقافة تتجاوز البيولوجيا" وأن "لدى الحيوانات غرائز، ولدى البشر ثقافة" هذه الثنائية الزائفة. يوفر علم النفس التطوري موقفًا تفاعليًا حقيقيًا بين أسباب زيف هذه التعارضات. . لا يمكن النظر إلى "الثقافة" بمثابة سبب منفصل لأنها تقوم على أساس من الآيات النفسية المتطورة. صــ صــ 792 ، 793

 

▬ تستجيب كل الآليات المتطور للشروط البيئية: تمثل قزحيات العيون، غدد التعرق، الإثارة الجنسية، والغيرة أمثلة قليلة واضحة. تحيل الثقافة المُستَحضَرة (وهل بخلاف الثقافة المنقولة) إلى ظواهر تنطلق في بعض الجماعات أكثر من سواها بسبب اختلاف الظروف البيئية. يعكس لون الجلد الأكثر سمرة سكان كاليفورنيا من جلد سكان أوريغون، على سبيل المثال، اختلاف مستويات التعرض لضوء الشمس. تفسر مثل هكذا "فروقات ثقافية" ببساطة من خلال استحضار آلية متطورة مشتركة كونيًا متمازجة مع فروق محلية جماعة وأخرى تلعب دور المدخلات على تلك الآلة الكونية. صــ 794

 

▬ تقوم الثقافة المنقولة كذلك على أساس من الآليات النفسية المتطورة التي تحدد ما هي الأفكار التي تكون موضع اهتمام، وترميزها واستعادتها من الذاكرة، ونقلها إلى الأفرد الآخرين. وكما استنتجه بت ريتشاردسون وروب بويد "لا شيء مما يخص الثقافة يكتسب معنى إلا على ضوء التطور" صــ 798

 

▬ لماذا ينخرط الناس في هذا العدد الكبير من الأنشطة التي تبدو أنها ليست على أي صلة كانت مع البقاء والتطور؟ لماذا يصرف الناس الساعات، الأيام، الشهور، والسنوات في خلق الفن، الأدب، الموسيقى، والأحداث الرياضية، واستهلاكها؟ تستحوذ هذه "الهوايات التافهة" ظاهريًا على كامل حياة بعض الناس مما تستدعي هذه النماذج تفسيرًا. تبنى علماء النفس التطوري مقاربتين قاعدتين للإجابة عن هذه الألغاز. يمكن تسمية المقاربة الأولى "فرضية التباهي". تشكل الثقافة، تبعًا لهذه الفرضية، "ظاهرة ناشئة ناجمة عن التنافس الجنسي بين أعداد وفيرة من الأفراد الذين يتابعون استراتيجيات اقتران مختلفة في حلبات اقتران مختلفة" (ميللر، 1998). ينزع الرجال على وجه الخصوص إلى إبداع الفن والموسيقى واستعراضها بمثابة استراتيجية لإذاعة استعراضات التودد إلى تنوع كبير من النساء: "وكما يعرفه كل مراهق، ويتناساه معظم علماء النفس، يزيد الاستعراض الثقافي من قِبَل الذكور من إمكانات الوصول الجنسي.. يمكن لفرضية التباهي أن تعلل العديد من الوقائع المعروفة حول تنميط الاستعراضات الثقافية. يمكنها أولًا أن تعلل الفروق بين الجنسين في إنتاج المنتجات الثقافية. فلقد أنتج الرجال، تاريخيًا، المزيد من الفن، الموسيقى، الأدب أكثر مما أنتجته النساء عبر تنوع واسع من الثقافات. تبعًا لهذا المنطق، لدى النساء الأقل كي تكسبه من الاستعراض الثقافي وذلك ببساطة لأن السعي وراء المزيد من الوصول الجنسي على المدى القصير نادرًا ما يُشكل هدفًا بالنسبة إليهنَّ. يمكن لفرضية التباهي أن تعلل أيضًا التوزيع العمري للاستعراضات الثقافية. العديد من الأعمال الكبرى في الفن والموسيقى أبدعها رجال في حداثة الرشد - أي في الفترة التي يكون فيها الرجال الأشد انخراطًا في التنافس الجنسي ضمن الجنس الواحد. باختصار تبدو فرضية التباهي قادرة على تعليل التوزيع الجنسي والعمري للإنتاج الثقافي. إلا أن فرضية التباهي لا تستطيع تفسير العديد من الوقائع الأخرى حول الفن، الموسيقى، والأدب. أولًا، لا تستطيع أن تفسر محتوى هذه المنتجات الثقافية. لماذا يجد الناس بعض الأغاني مثيرة للمشاعر، ولكنهم يبدون لا مبالاة تجاه أخرى غيرها؟ لماذا تبدو مسرحيات شكسبير ساحرة بالنسبة للبعض، بينما تبدو العديد من المسرحيات الأخرى مملة؟ ولماذا تجتذب بعض الأفلام ملايين المشاهدين، بينما يخبو نجم غيرها في الظلمة؟ يتعين أن تفسر النظرية الكاملة في الثقافة محتويات المنتجات الثقافية، وليس مجرد توزيعها تبعًا للسن والجنس. ثانيًا، لا يمكن لرفضية التباهي أن تعلل كون بعض الناس يصرفون كميات غير اعتيادية من الوقت في الاستماع الانفرادي بالفن، الموسيقى، والأدب، في سياقات لا تتضمن استعراضًا بيِّنًا... يقترح بنكر في مقاربة ثانية لتفسير الثقافة، جوابًا عامًا على هذه الألغاز،  مع أنه جواب تخميني. إنه يجادل بأن الجواب لا يكمن في تكيفات نوعية للفن، الموسيقى، والأدب، وإنما بالأحرى في آليات الذهن المتطورة لأغراض "تدفع الناس إلى الاستمتاع بالأشكال، والألوان، والأصوات، والنكات والقصص والأساطير". يمكن لآلية إبصار اللون المصممة لتحديد موقع الثمار الناضجة، على سبيلِ المثال، أن تنشط بمتعة من خلال إبداع اللوحات الفنية التي تُحاكي هذه النماذج. يمكن استغلال التفضيلات النفسية لمؤشرات خصوبة الإناث في الرسم الزيتي، التصور الفوتوغرافي، السينما، والمجلات الإباحية، بغية لذة محاكاة النماذج التي صممت الآليات في الأصل للاهتمام بها وطلبها. وكما أن المخدرات الاصطناعية يمكن أن تُصَنَّع كي "تحرك" مراكز اللذة لدينا، بالإمكان إبداع الفن، الموسيقى، والأدب كي "تحرك" تنوعًا من الآليات النفسية المتطورة. تعلم البشر أن ينشطوا اصطناعيًا الآليات الموجودة من خلال اختراع منتجات ثقافية تُحاكي المثيرات التي صُممت الآليات من أجلها في الأصل. وباختصار، ليست هذه الأنشطة الثقافية تكيفات، وإنما هي بالأحرى منتجات ثانوية لاتكيفية.. يصوغ بنكر منطقًا مماثلًا للموسيقى: "يخامرني شعور بأن الموسيقى هي عبارة عن حلوى سمعية، حلوى مرهفة معمولة لدغدغة النقاط الحساسة لست على الأقل من ملكاتنا العقلية. من ضمن هذه الملكات العقلية اللغة (من مثل الأغاني الشاعرية)، تحليل المشاهد السمعية (حيث يتعين، مثلًا أن نعزل الأصوات الآتية من مختلف المصادر، على غرار نداء الحيوان في غابة مليئة بالضجيج)، النداءات الانفعالية (من مثل النحيب، البكاء، العويل، الصياح، والُهتاف التي تُستَعمل بمثابة مجازات لوصف المقاطع الموسيقية)، انتقاء السكن (من مثل إمكانية إشارة الرعد، والماء المنهمر، والهدير، وأصوات أخرى إلى البيئات الآمنة أو غير الآمنة)، والضبط الحركي الذي تحتاجه مختلف المهمات، بما فيها الجري والتسوق، العلامات الدالة على النوعية من مثل الحالة الطارئة، التكاسل، والثقة(. وتبعًا لهذه الفرضية، فإن النماذج الموسيقية المولدة للسرور، هي تلك التي تُحاكي اصطناعيًا المثيرات الطبيعية التي صممت آلياتنا المتطورة لمعالجتها [..] وكما لاحظ بنكر "أنه حين نكون مستغرقين في كتاب أو فيلم، نتطلع لرؤية مناظر خلابة، نتسامر مع أناس مهمين، نقع في حب رجال ونساء فاتنين، نحمي أحباءنا، نبلغ أهدافًا مستحيلة، ونهزم الأعداء الأشرار. ليس كل ذلك صفقة سيئة مقابل سبعة دولارات وخمسين سنتًا!". أظهر تحليل لست وثلاثين قصة أساسية شائعة في أعمال أدبية، أنها تندرج ضمن واحد من أربعة مواضيع: الحب، الجنس، التهديد الشخصي، أو تهديد أقارب بطل القصة. تكشف نماذج الثقافة التي نبدعها ونستهلكها سيكولوجية التطور البشري، ولو أنها ليست تكيفًا بحد ذاتها. صــ 798 : 802

 

▬ يمكن تَوَقُّع أن يقوم علم النفس التطوري في نهاية المطاف بإذابة هذه الحدود المذهبية التقليدية. إذ لا يمكن تجزئة الكائنات البشرية بشكل واضح إلى عناصر خفية من مثل الشخصية، الاجتماعي، النمائي والمعرفي. فلقد أُتْبِعَت الفروق الفردية المستقرة تقليديًا إلى فروع شخصية، إلا أنها غالبًا ما تضمنت توجهات اجتماعية، وكان لها سوابق نمائية خاصة، كما أنها منغرسة في آليات معرفية خاصة. ولقد اعتبر التفاعل الاجتماعي والتبادلية تقليديًا بأنهما يمتّان إلى علم النفس الاجتماعي. إلا أن الآليات الكامنة وراءهما تتمثل في أدوات معالجة المعلومات ذات المسارات النمائية. كانت التغيرات السريعة التي تحدث أثناء البلوغ تشكل دائرة النفوذ التقليدية لعلماء نفس النمو. إلا أن الأفراد يتفاوتون في بداية البلوغ، كما أن العديد من أكثر التغيرات أهمية خلال البلوغ هي اجتماعية. إنّ العديد من الحدود المذهبية التقليدية من منظور علم النفس التطوري، ليست اعتباطية فقط، بل هي مضللة، ومعيقة للتقدم العلمي. إنها تتضمن حدودًا تفصم الآليات بأساليب اعتباطية وغير طبيعية. بينما توفر دراسة السيكولوجية البشرية من خلال المشكلات التكيفية وحلولها - مما يمثل المبدأ الناظم لهذا الكتاب - وسائلًا أكثر طبيعية "لربط الطبيعة عند مفاصلها" ، وبالتالي اختراق الحدود المذهبية الراهنة. صــ 802، 803

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

فلسفةُ العلومِ الاجتماعية (إسماعيل عبد العزيز)


 

• يشير مصطلح العلوم الاجتماعية أو ألإنسانية إلى مجموعة العلوم التي تتخذ الإنسان موضوعًا للدراسة، بهدف الكشف عن أبعاده المختلفة، النفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، أو التي تشكل الظواهر الإنسانية مجال بحثها. ص2

• هل يمكن صياغة خطاب علمي حول الإنسان، وبالتالي التنبؤ بسلوكه والوصول إلى قوانين عامة حوله؟ وإلى أي حد يمكن أن تكون مناهج العلوم الطبيعية صالحة لاستخدامها كنموذج لتفسير الظواهر الاجتماعية؟ وبأي معنى نتحدث عن موضوعية في ظل وضع يكون الدارس فيه طرف في الظاهرة المدروسة؟ ص72

• إلى أي حد يمكن تطبيق المنهج التجريبي في العلوم الاجتماعية؟ ألا تطرح عوائق ابتسمولوجية عندما نكون أمام السلوك الإنساني الذي يتميز بالوعي؟ وكيف نتحدث عن موضوعية في ظل صعوبة عزل الذات عن الموضوع في مثل هذه الدراسة؟ ص73

• ألا يؤدي تَشَيُّء الظواهر الإنسانية، سواءً كانت اجتماعية أو إنسانية، إلى افتقارها وإفراغها من محتواها الحقيقي؟ أليس لهذه الظواهر أسباب باطنية وذاتية، مثلما أن لها أسباب خارجية وموضوعية؟ ألسنا في حاجة إلى تفهم الظواهر الإنسانية بدلًا من الاكتفاء بتفسيرها؟ ص129

 

▬ إذا كان من الممكن أن تختلف العلوم الاجتماعية عن بعضها في  زاوية المعالجة التي ينظر إليها أي متخصص، وفي كيفية الحل والعلاج، إلا أن العلوم الاجتماعية لا تنفصل عن علم الاجتماع، الذي اخذ في التطور، بعد أن حقق استقلاله الذاتي، بفعل تعقد الحياة الاجتماعية. فتشعب إلى ميادين متعددة، يشمل كل منها جانبًا من جوانب الحياة الاجتماعية. وفي نطاق هذا التخصص لم يفقد علم الاجتماع ارتباطه الوثيق بالعلوم الاجتماعية الأخرى، فبقيت بينه وبينها اهتمامات مشتركة، وموضوعات متماثلة، نظرًا لاهتمامه بدراسة السلوك الاجتماعي الإنساني. ويعتبر علم الاجتماع من  أكثر العلوم اتصالًا وتداخلًا مع غيره من العلوم الاجتماعية الأخرى. ويشبه علم الاجتماع في أهميته للعلوم الاجتماعية أهمية الرياضيات بالنسبة للعلوم الطبيعية. لذا فإنه إذا كانت العلوم الاجتماعية تشترك في دراسة سلوك الإنسان في المجتمع، فمن الطبيعي أن يكون هناك بعض التشابه والتداخل بين مجال الدراسة في علم الاجتماع ومجالات الدراسة في  العلوم الاجتماعية الأخرى مثل؛ علم النفس، والأنثروبولوجيا، وعلم الاقتصاد، وعلم السياسة.. صــ 13 ، 14

 

▬ وتأكيدًا على أهمية الفلسفة بالنسبة للعلوم الاجتماعية أو الإنسانية ذهب الفيلسوف ميرلوبونتي إلى "عدم وجود أي عداوة بين المعرفة العلمية والمعرفة الميتافيزيقية؛ نظرًأ لأن الثانية تضع الأولى أمام المهام المكلفة بها. فالعلم بدون الفلسفة يجهل ما يتحدث عنه، والفلسفة بدون دراسة منهجية للظواهر، لن تصل سوى إلى حقائق صورية أو شكلية". ولذلك يقول لوسيان غولدمان: "إن الفلسفة تقدم بالفعل حقائق عن طبيعة الإنسان، وكل محاولة ترمي إلى إقصائها من مجال  المعرفة، لابد أن نعكس سلبًا على فهم الظواهر الإنسانية. وفي هذه الحالة سيكون لزامًا على العلوم الإنسانية، أن تصبح فلسفية بالضرورة كي تكون علمية". ولهذا يصعب على من ينشغل بنشأة وتطور العلوم الإنسانية أو الاجتماعية في الغرب، أن يعثر على عالم واحد في هذا الميدان، سوءا كان من الرواد الأوائل أم المعاصرين، لا ينطلق في فرضياته ونظرياته وأبحاثه العلمية، من رؤية فلسفية معينة. صــ 18

 

▬ إذا كانت العلوم الاجتماعية تدرس في نطاق اختصاصها الظاهرة فقط، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو قانونية، فإن علم الاجتماع يدرس العلاقات المتبادلة وأشكال التفاعل بين هذه الظواهر.  فعلم الاجتماع لا يهتم بالظاهرة الاقتصادية في حد ذاتها، بل يهتم بها بوصفها ظاهرة اجتماعية توجد في المجتمع، وأنها ترتبط بغيرها من الظواهر الأخرى بأشكال من التفاعل والعلاقات المتبادلة. وبالتالي  تسعى فلسفة العلوم الاجتماعية إلى تجاوز تقسيم الواقع الاجتماعي إلى أجزاء منعزلة، وهو التقسيم الذي تصطنعه العلوم الاجتماعية المحدودة. ولذلك فإنه إذا كان هذا التقسيم للعلوم الاجتماعية قد فرضته ظروف التخصص، فإن المهمة الاساسية لفلسفة العلوم الاجتماعية، تصبح متمثلة في إعادة الربط والتأليف بين ظواهر الحياة الاجتماعية المختلفة. صــ 41

 

▬ هناك العديد من التعريفات التي تحاول أن تصف بدقة الظواهر الاجتماعية، وتحاول وضع مفهوم محدد لها. ومن هذه التعريفات ما ذهب إليه "دور كايم" في تعريفه للظاهرة الاجتماعية، حيث يعرفها بأنها "كل سلوك يجب أن يعم المجتمع بأسره". وهذا يعني أن الظاهرة الاجتماعية عبارة عن نماذج من العمل والتفكير والإحساس التي تسود مجتمعنا، ويجد الأفراد أنفسهم مجبرين على اتباعها في أعمالهم وتفكيرهم، بل وتفرض أيضًا على أحاسيسهم؛ مثل اللغة، والعادات الاجتماعية، والنظم الاقتصادية والدينية.. صــ 42

 

▬ ولهذا فإنه إذا كانت السوسيولوجيا مثلًا استطاعت تقليد النموذج التجريبي، فإنها اصطدمت بخصوصية الظاهرة الاجتماعية المتميزة بتفردها وتعدد أبعادها، ويأتي على رأسها بعد الحرية، الذي يعتبر نقيضًا للحتمية، فضلًا عن وجود مجموعة من العوائق التي تحول دون نجاح مناهج العلوم الطبيعية بالنسبة للعلوم الاجتماعية، وعلى رأسها صعوبة تحقيق الموضوعية، نظرًا لأن مسألة الملاحِظ والموضوع الملاحَظ في العلوم الطبيعية ليس هي نفسها في العلوم الاجتماعية، نتيجة لتدخل الوعي، ولهذا يقول ليفي شتراوس "إن الوعي هو بمثابة العدو الخفي لعلومِ الإنسان". صــ 73، 74

 

▬ على الرغم من صعوبة الإحاطة بالتطورات الدقيقة للنظرية الاجتماعية وبروادها، إلا أنه لو أن النظرية توقفت عند حدود التيار الوضعي التقليدية، لما أمكن لها أن تتقدم قيد أنملة، لا سيما في ضوء العولمة ومنتجاتها من التقنية المعلوماتية الهائلة، والتي تمثل تحديًا غير مسبوق للعلوم الاجتماعية، فالمجتمع الذي نعيش فيه هو مجتمع يشهد تغيرات في الدقيقة وليس في الحقب أو السنوات، فهو مجتمع سريع التطور والتغير والتبدل، ولذلك فإننا لا ندري كيف يتأتى للنظرية الاجتماعية أن تتولد بهذه السرعة من التغير، ولو كان بمقدورنا أن نصف على الأقل نمط الحياة الذي نعيش فيه لما استطعنا أن نفعل ذلك.. ومن خلال ما سبق يمكن القول أن هناك مشكلات تواجه الدارسين للنظرية الاجتماعية سواء كان ذلك على مستوى التطبيق أو التغيير والتحليل ويمكن أن يكون العامل الرئيس في ذلك هو أن بعض النظريات تحاول أن تصل إلى المستوى الذي وصلت إليه النظرية في العلوم الطبيعية من حيث الدقة والتحديد والتجريب والتنبؤ والعمومية، علاوة إلى أن النظرية في علم الاجتماع مازالت تعاني من مشكلات أيديولوجية ومنهجية وليس هناك اتفاق عام حول نظرية اجتماعية شاملة... فالخصائص الجوهرية للظواهر الطبيعية تتصف بالعمومية والديمومة رغم التفاوت في الزمان والمكان، أما الظواهر الاجتماعية فليس لها خصائص جوهرية ثابتة، وذلك نتيجة للمتغيرات التي تؤثر فيها. والتي تؤثر بالتالي على دراسات الباحثين في العلوم الاجتماعية، وقضية تبنيهم للنظرية الملائمة للموضوع. صــ 86، 87

 

▬ يرى فوكو أن ما منع العلوم الإنسانية من التحول إلى علوم حقيقية، على شاكلةِ العلومِ التجريبية، هو عجزها عن إنتاج معرفة وضعية تجريبية حول الإنسان، فصحيح أن هذه العلوم لم تنشأ إلا لحظة خضوع الإنسان لأول مرة لإمكانية معرفة وضعية، أي بالتزامن مع ميلاد ونشأة العلوم التجريبية، إلا أنه على الرغم من هذه النشأة المتزامنة، وعلاقة الجوار مع بقية العلوم، لم تستطع العلوم الإنسانية إنتاج معرفة وضعية حول الإنسان. لذا فإن السؤال الذي يفرض نفسه علينا الآن هو؛ إذا كانت العلوم الإنسانية علمًا حقيقيًا، وإذا لم تكن فلسفة صريحة فماذا عساها أن تكون إذن؟ صــ 120

 

▬ يعتبر ميرلوبونتي أن التجربة الذاتية ذات أهمية كبرى في دراسة الظاهرة الإنسانية، بحيث أن كل معرفة يتوفر عليها الفرد ويكونها عن العالم، إنما هي معرفة ناتجة عن احتكاك الذات بهذا العالم، ومدى تفاعلها داخله، والذي يختلف من شخصٍ لآخر حسب التجربة الفردية. ولهذا يخلص ميرلوبونتي إلى اعتماد المنهج التجريبي في دراسة الظاهرة الإنسانية هو حذف ونسيان للعالم المعيش، وللتجربة الذاتية ولذلك ينبغي العودة إلى الإنسان واعتباره مولدًا للمعنى. ونتيجة لهذا كله، تساءل البعض عن المنهج الذي يمكن للعلوم الاجتماعية أو الإنسانية أن تتنازل من خلاله موضوعها. إذا كان موضوعها هو الظاهرة الاجتماعية أو الإنسانية، وهي ظاهرة فريدة ومتميزة عن الظاهرة الطبيعية، فهل يمكن للعلوم الاجتماعية الإنسانية أن تدرس موضوعها باستخدام منهج التفسير السائد في العلوم التجريبية، أم أنها مطالبة بابتكار منهج يلائم خصوصية الظاهرة الاجتماعية الإنسانية؟ وهل المنهج الملائم للظاهرة الإنسانية هو منهج التفسير أم منهج الفهم؟ وما هي المرتكزات والخصائص التي تميز كلا المنهجين؟ صــ 127 ، 128

 

▬ إذا كان منهج التفسير يسمح برصد المحددات الموضوعية، فإن المحددات والعوامل الذاتية تحتاج إلى منهج آخر مغاير هو الذي يُسمى بمنهج الفهم. وهذا ما يتجلى في عبارة ديلتاي الشهير: "إننا نفسر الطبيعة، لكننا نفهم ظواهر الروح". لذا فإنه إذا كان الموضوع في العلوم الطبيعية ماديًا ومعزولًا عن الذات فإن الموضوع في العلوم الاجتماعية الإنسانية مرتبط بالذات وجزء لا يتجزأ منها. ولهذا يبدو أنه لا يمكن تفسير الظواهر الاجتماعية أو الإنسانية وإجراء التجارب عليها، بل لا بد من تفهمها عن طريق منهج الفهم الذي يعتمد على الحدس والاستبطان والتأويل والفهم. ومن هنا فهدف المنهج التفهمي هو إدراك دلالات الأفعال عن طريق ربطها بالمقاصد والنوايا الذاتية لأصحابها والفاعلين لها، ولذك فهو منهج يعتمد على البداهة والحدس؛ فنحن نفهم بعض الحوادث بالبداهة كأن ندرك أن الشخص يكون غاضبًا حينما يتم الاعتداء عليه، أو أن نتبين رفضه من خلال قسماته الجسدية. فما يكون بديهيًا يكون واضحًا ويحتم إدراكه بشكل مباشر، دون الحاجة إلى تفسيره بالاعتماد على طراق وإجراءات موضوعية. صــ 130



▬ إن الخاصية الأساسية لما بعد الحداثة هي التعددية، والتي تتمثل في تعددية الثقافات والتقاليد المجتمعية، والأيديولوجيات، وصور الحياة، والنظريات، والأنساق الفكرية، والمعايير...إلخ. حيث تتسم الأشياء في عالم ما بعد الحداثة بطبيعة تعددية، ولا يمكن ترتيبها في تسلسل زمني تطوري، كما يظهر بعضها على أنه متفوق على البعضِ الآخر، كذلك لا يمكن تصنيف بعض الأشياء باعتبارها صحيحة أو خاطئة، أو باعتبارها حلولًا صحيحة أو خاطئة لمشكلات معينة، أي بمعنى أنه لا يمكننا بل يستحيل تقييم أي معرفة خارج سياق الثقافة، والتقليد، والتي تعطي لهذه المعرفة معنى، وبالتالي ليس ثمة محاكاة ومعايير للصحة  والصدق تصلح للتطبيق خارج سياقها الأصلي، ولهذا تصبح مشكلة عالم ما بعد الحداثة هي تحقيق الاتصال والفهم المتبادل بين الثقافات، والتأكيد على النسبية وتبديد أحلام العمومية الحداثية. صــ 184

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

الأخلاق المهنية (أخلاق العمل) (رجاء أحمد علي)

• العلاقة بين الأخلاق العملية والنظرية وثيقة إلى حدٍ بعيد، فإذا كانت الأخلاق العملية تتمثل في القواعد التي تقوم عليها الأعمال الإنسانية لتكون صالحة، فإن الأخلاق النظرية أو الفلسفة الخلقية تهتم بدورها في إيضاح الأسس أو المبادئ التي تقوم عليها هذه القواعد ورسم المثل الأعلى للسلوك الإنساني كما يجب أن يكون.
• أخلاقيات المهنة بمثابة ميثاق او وثيقة تحدد المعايير الأخلاقية والسلوكية المطلوب أن يتبعها أفراد المهنة.

▬ العمل أوسع وأشمل دلالة من الهنة. فالعمل يطلق على الفعل اتخذه سبيلًا وحيدًا لكسبه ام لا، وسواء أتقنه الإنسان أو لم يتقنه، فهذا يطلق على كثير من الأعمال التي لا تحتاج إلى مهارة وتدريب كأعمال النظافة في الشوارع وأعمال الحفر وغير ذلك. أما المهنة: فهي عمل يحتاج إلى إتقان ومهارة وتدريب عملي بالإضافة إلى الدارسة النظرية، فالمهنة عمل لكنه متخصص في مجال معين فالتعليم مهنة والطب مهنة والكيمياء مهنة والهندسة مهنة وذلك لأنها تخصص في مجال معين يحتاج إلى علم ومهارة تخص هذا المجال. والعمل والمهنة كلاهما يحتاج إلى مجهود بدني أو عقلي أو كلاهما معًا (البدني والعقلي) ويهدف من وراء هذا المجهود إضافة وإنتاج ومنفعة لذلك العمل المنسوب إليه. صــ 28

▬ اهتم مفكرو الإسلام بالحاكم اهتمامًا عظيمًا ويظهر ذلك في الكتابات السلطانية التي تركوها ومن هؤلاء الغزالي الذي نرى من جانبه هذا الاهتمام والذي ظهر في أكثر من مؤلف له منها التبر المسبوك، وعرض فيه للأخلاق التي يجب أن يتحلى بها الحاكم. يظهر اهتمام الغزالي بالجانب الأخلاقي واضحًا في الأخلاقيات التي وضعها للمعلم والمتعلم فكل منهما لا بد أن يتحلى بالأخلاقيات كي يكون ناجحًا في مهنتة وظهر هذا واضحًا من خلال نصحه الذي قدمه في رسالة "أيها الولد". صــ 120

▬ تعددت الكيانات القانونية المنظمة لأداءات القائمين على الجامعة ومن ثم كان ضروريًا أن نتعرف على الفرق بين الميثاق الأخلاقي وقانون تنظيم الجامعات. يُعرف الميثاق الأخلاقي بأنه أكثر تفصيلًا من تلك المبادئ والقواعد التي يتضمنها القانون، فقانون الجامعات يتضمن عددًا من النصوص الهامة بشأن أخلاقيات المهنة، لكن تلك النصوص كلية تحتاج إلى تفصيل لها، وهذا يمكن أن يُفصله ويناقشه الميثاق، فعلى سبيلِ المثال: تنص المادة (96) على أنه على أعضاء هيئة التدريس التمسك بالتقاليد والقيم الأصيلة والعمل على بثها في نفوس الطلاب، وعليهم ترسيخ وتدعيم الاتصال المباشر بالطلاب ورعاية شئونهم الاجتماعية والفنية والثقافية والرياضية من خلال الريادة ونظم الأسر. تنص المادة (103) على أنه لا يجوز لأعضاء هيئة التدريس إعطاء دروس خصوصية بمقابل أو بغير مقابل. تنص المادة (110) أن كل فعل يزري الشرف ويمس النزاهة يوجب عزل صاحبه. هذه المواد وردت بالقانون لكن كل منها يحتاج إلى تفصيل، فلم يحدد القانون ماذا يقصد بالتقاليد والقيم الأصيلة، حرم الدروس الخصوصية فما هو الموقف من مجموعات التقوية بالكليات؟ ما هو الفعل المزري.. كل هذا يوضح من خلال الميثاق. صــ160


▬ تعد مهنة الإعلام من أهم المهن وأكثرها خطورة على حياة الأفراد وكثيرًا ما يستخدم الإعلام الصورة، تلك الصور التي تعد صانعة الأحداث فبها يمكن تفكيك وتركيب ما يريد ومن ثم تطورت وسائل الإعلام تطورًا سريعًا ومتلاحقًا في الآونة الأخيرة، الأمر الذي جعل من الصعوبة التحكم فيها ومن ثم كانت هناك ضرورة ملحة لوضح ميثاق شرف لهذه المهنة لا سيما وأننا نجد أن هناك خلطًا بين وظيفة الإعلامي وصانع الثقافة على الرغم من أن لكلٍ منهما وظيفة خاصة به ولابد أن نضع في الاعتبار الفرق بين الأنواع المختلفة للإعلام، فمنه ما يعرف بالإعلام التقليدي وهناك الإعلام الإلكتروني وإذا كان هناك قد تم وضع ميثاق شرف للإعلام التقليدي إلا أنه من الصعوبة التحكم في النوع الثاني من الإعلام أو فرض ميثاق شرف له وذلك لتطوره السريع. صــ 194

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

مشكلات الفكر العربي المعاصر (مصطفى النشار، رجاء أحمد علي)


▬ إن التخلص من وهم المعجزة الغربية في مجالات العلوم المختلفة إنما ينبع من الإيمان بأن العلم في مختلف فروعه إرث بشري شارك في صنعه كل البشر وكل العلماء في مختلف الحضارات البشرية عبر تطورها الطويل، والإيمان في ذات الوقت بأن استنبات التكنولوجيا والتقدم العلمي داخل كل مجتمع إنما ينبغي أن يتم بآليات وعقليات تراعي ظروف هذا المجتمع ومشكلاته الخاصة في كل مجالات الحياة. صــ 5

▬ لا يوجد نظام الحكم الأمثل بصورة مطلقة، إنما النظام السياسي الأمثل دائمًا هو ذلك الذي يتلاءم مع البيئة السياسية القائمة ويلبي رغبات وطموحات شعب معين في حقبة زمنية معينة في ضوء عقائد هذا الشعب وأخلاقياته بل وعاداته وتقاليده. إن لكل شعب ثقافته الخاصة، وتجربته السياسية المتميزة عبر تاريخه، وعليه أن يستثمر ذلك في تطوير نظامه السياسي دون تقليد أعمى للتجربة الغربية التي قد تكون ملائمة فقط لأصحابها وتحقق أهدافهم وطموحاتهم. وعلى الغربيين في المقابل أن يكفوا عن فرض رؤيتهم السياسية والاقتصادية على الشعوب والثقافات الأخرى التي قد تكون أعرق في خبراتها وجديرة بأن تصنع بنفسها ما تريده من نظام سياسي ونظام اقتصادي يكفل لها الاستقرار ونموذج التقدم الذي تنشده. صــ 11، 12

▬ لقد نشأ الفكر العربي المعاصر نتيجة اللقاء الحضاري بين الحملات الاستعمارية الأوروبية لبلادنا العربية منذ الاحتلال الفرنسي لمصر في نهاية القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، ونتيجة للصدمة الحضارية التي نتجت عن إدراك العرب لمدى التقدم الغربي والتخلف العربي انقسموا لثلاث فرق متناحرة فيما عرف بقضية الأصالة والمعاصرة التي شكلت الوهم الأول الذي لا يزال يشغل المفكرين العرب حتى الآن، وفي ثنايا ذلك بهروا بالحضارة الغربية ووقعوا في وهم تفوق الحضارة الغربية (المعجزة الغربية) ووهم التنمية والتقدم على الطريقة الغربية ووهم أن الديمقراطية هي النظام السياسي الأمثل. وهذه الأوهام الأربع التي ندعوا للتخلص منها حتى يمكن أن نبدأ عصر نهضتنا الجديد الذي ينبع حقًا من ذاتية العرب وهويتهم الفكرية والحضارية المستقلة والتفاعل تفاعلًا إيجابيًا مع كل عناصر التقدم في عصرنا الحالي. صــ 19

▬ لقد آن الأوان إذن أن نتجاوز كل المشاريع الفكرية العربية المعاصرة سواء ارتمت في أحضان الفكر الغربي وحاولت استنباته في البيئة العربية وهي غير بيئته ولن ينبت الزرع قويًا ومثمرًا حقًا في بيئة غير بيئته، أو عادت إلى التراث لتنهل منه وتتصور أنه يمكن أن يعود بحذافيره لنحياه في عصرنا، إذ لا يمكن لعقارب الساعة أن تعود إلى الوراء وأن يحيا المعاصرن حياة أسلافهم بقضها وقضيضها مهما حاول من يزال يحاول استعادة الماضي في الحاضر. كما أن التوفيق بين هذين البديلين ووضعهما إلى جوار بعض يعد تلفيقًا لا قيمة له ومضيعة للوقت في استجلاء قيم الماضي التي نريد أن نستعيدها لأنه حتى لو نجحنا في استجلائها وأردنا النهوض من خلالها فلن تكون مثلما كانت ولن تعود بنفس صورتها القديمة دافعة للتقدم بصورته المعاصرة.. ولكل ذلك أقول ببساطة أن التفكير في المستقبل والانشغال بقضاياه بعيدًا عن الإلتفات إلى الوراء هو ما سنصنع به ومن خلاله التقدم دون أن ننسلخ عن تاريخنا وهويتنا ودون أن نذوب في حضارة ليست حضارتنا. إننا سنصنع مستقبلنا بقيم العصر وآلياته في ذات الوقت الذي لا نملك فيه الإقلاع عن ذاتيتنا وهويتنا، والمسألة هنا ليست مجرد كلام نظري، بل هي واقع نعيشه ونسعى لتحقيق التقدم في إطاره؛ فالوعي بالتاريخ ليس مجرد وعي نظري، بل قد يكون وعي كامن في الذات يوقظه متطلبات اللحظة الراهنة في علاقتها بما تريد تحقيقه من تقدم في المستقبل، وأنا سأظل أنا؛ أنا الذي أعيش اللحظة وأنا الذي يرسم الطريق لصناعة الغد بآليات الحاضر الأكثر تقدمًا وفعالية بصرف النظر عن مصدرها ومن أبدعها!! تلك هي القضية وذلك هو التحدي. إنه التفكير في المستقبل ممتلكين لإرادة التحدي ولإرادة صنع التقدم. صــ 40 ، 41

▬ إن هذه الدعوة للإستفادة من الحضارة الغربية الحديثة عند طه حسين لم تكن تعني كما ادعى خصومه الارتماء في أحضان الحضارة الغربية والذوبان فيها، وإنما كانت تعني في جوهرها رفض الإشكالية التي تمثلت في ازدواجية الأصالة والمعاصرة، فلسنا في واقع الأمر مخيرين بين إما....أو، وإنما نحن أمة لها أصالتها وتاريخها وثقافتها وهويتها التي لا يمكن أن تضيع إذا ما استفادت من حضارة العصر وتشربت عوامل تقدمها وهضمتها لتكون جزءًا من هذا العصر الذي نعيشه. إن طه حسين في اعتقادي الشخصي لم يقع في فخ إشكالية إما التمسك بالتراث والأصالة وإما الارتماء في أحضان الغرب المعاصر، لأنه وهو يدعو إلى الاستفادة من وسائل الحضارة الغربية لم ينس أبدًا أنه إنسان مصري-عربي-مسلم- له هويته المستقلة ولغته العربية رمز هذه الهوية، ودينه الإسلامي، دين العلم والمدنية وليس دين التخلف والتبعية. صــ 175


▬ يعد مالك بن نبي من أهم المفكرين العرب المعاصرين حيث يمتلك رؤية واضحة لأسس البناء الحضاري الثلاث: الإنسان - التراب - الوقت، وإذا ما نجح الإنسان في استنهاض دافعية البناء الحضاري وهي - في رأي ابن نبي - عادة ما تكون دافعية دينية، واستغل عنصر التراب أي ثروات أرضه وعنصر الوقت الذي يعني استغلال كل لحظة في البناء والعمل الإيجابي، سيكون صانعًا للنهضة الحضارية بحق. واعتبر ابن نبي أن الأمة قادرة على بناء مثل هذه النهضة الحضارية بتغليب الأفكار على الأشياء وبالتوفيق مع روح العصر مع الحفاظ على أصالة الأفكار وامتلاك القدرة على التخطيط الدافع للفعالية الاجتماعية. صــ 206

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

فلسفة اللغة والأدب (سعيد توفيق)

• كل تفكير تأملي يكون شعرًا، وكل شعر يكون بدوره نوعًا من التفكير (مارتن هيدجر)
• تجربة الشاعر مع اللغة تجربة يشعر فيها الشاعر بحضور اللغة عندما تفر كلماتها منه باستمرار، وعندما يفتش عنها دومًا ويلاحقها كي يستنطقها، أي يتيح لنا أن تتحدث. ص23
• إننا إذا أردنا أن نفهم هيدجر حقًا، فإننا ينبغي أن نتجاوز  مفهومي العقل واللاعقل أو التعقل واللاعقلانية معًأ ليصبح الفهم في مجال الفهم التعاطفي، أي الفهم الذي يحب أن يبقى بقرب الأشياء والموجودات، لينصت إلى نداء الحقيقة والوجود الذي يتجلى في هذه الموجودات من خلال اللغة. ص39
• إن الروح الصوفية تنظر إلى اللغة نظرة خاصة مغايرة، نظرة تؤمن بأن الكلمة أو الإسم ذاته له قدرة خاصة. ليس المتصوفة فحسب، بل والشعراء والفلاسفة ممكن أن يكون إنتاجهم مشبعًا بتلك الروح الصوفية. ص145

▬ إن الصعوبات التي تكتنف فهم هيدجر - لغةً وفكرًا - ترجع إلى طرائقنا ومناهجنا التقليدية في فهم اللغة بوجةٍ عام، وإلى الأسلوب المتوارث الذي نفهم به لغة الخطاب الفلسفي باعتباره خطابًا يتوخى الدقة والوضوح، واجتناب الغموض وعدم التناقض، واستخدام لغة منطقية تتعامل بالمفاهيم المتعلقة أو التصورات المجردة. وهذا الأسلوب المعتاد للغة الخطاب الفلسفي سوف يبدو على النقيض تمامًا من أسلوب الخطاب الفلسفي لدى هيدجر، وسيحول دون فهم لغة هذا الخطاب سواءً كان يتعلق بسياق أطروحاته عن اللغة ذاتها أو بأي سياق آخر. ويمكن هنا أن نسوق الأمثلة التالية من عبارات هيدجر التي تتردد كثيرًا في سياقات مختلفة من كتاباته: "إننا نعرف العدم" ، "إن ماهية الحقيقة هي حقيقة الماهية" ، "إن شيئية الشيء هي الأسلوب الذي به يتشيأ"... إن اعتياد لغة الخطاب الفلسفي التقليدي هو ما سيعوق فهم مثل هذه العبارات الهيدجرية ليس فحسب بالنسبة للقارئ أو المتلقي العادي، وإنما أيضًا بالنسبة لبعض الفلاسفة أنفسهم ممن يشاركون في تعضيد هذا الخطاب التقليدي. وسوف نُحاكم لغة هيدجر هنا باعتبارها كلامًا خلوًا من المعنى، أو خلط فكري وإسراف في الغموض غير المبرر على أفضل تقدير. صــ 4، 5

▬ نتساءل مع هيدجر: هل "المنطق" هو الوسيلة الوحيدة لبلوغ مطابقة الفكر للحقيقة؟ وهيدجر ينبهنا إلى أنه يضع كلمة "المنطق" بين شولتين ليبين لنا أن "المنطق" ما هو إلا تفسير واحد لطبيعة التفكير. والتفكير المنطقي مضاد للتفكير في الروح الإنساني والوجود، فهو مجرد تفكير حسابي يقوم على ملاحظة وعد الموجود باعتباره شيئًا جزئيًا يضاف إلى شيء جزئي آخر. وفي مقابل هذا التفكير يوجد نوع آخر من التفكير الذي يسميه هيدجر "التفكير الأساسي" من حيث أنه تفكير ينشغل لا بالموجود وإنما بحقيقة الوجود.. الوجود الذي يكون أقرب إلى الإنسان من أي موجود. وهذا التفكير الأساسي في الوجود الذي ينشغل به الوجود الإنساني الأصيل، هو يبتعد بطبيعته عن أي "حساب" ولا يستطيع أي "منطق" أن يدرك حقيقته. صــ 7

▬ هذه التفرقة بين الكلام والقول، أو بين اللغة التي تقول من خلال الكلام المنقول (أي المنطوق والمتخذ مظهرًا صوتيًا)، واللغة التي تقول من خلال الكلام اللامقول (أي من خلال الكلام المسكوت عنه) هذه التفرقة قد أكد عليها جادامر أيضًا في مقاله عن "الصورة الصامتة" في فقرة تستحق الاقتباس برمتها: "عندما نقول إن شخصًا ما يكون صامتًا speechless، فإننا لا  نعني بذلك أنه لا يكون لديه شيء يُقال. بل الأمر عل العكس من ذلك، فإن هذا الصمت هو في الحقيقة نوع من الكلام. وفي اللغة الألمانية نجد أن كل stumm (صامت) لها صلة وثيقة بالكلمة stammlen (يتمم أو يتلعثم). ومن المؤكد أن حيرة المتمتم لا تكمن في أنه لا يكون لديه شيء ما ليقوله. فهو بخلاف ذلك يريد أن يقول الكثير جدًا في الوقت نفسه، ولا يكون قادرًا على أن يجد الكلمات التي يعبر بها عن الثروة الضاغطة من الأشياء التي تدور بذهنه. وبالمثل، فإننا عندما نقول إن شخصًا ما قد أصابه بكم أو ران عليه الصمت فإننا لا نعني ببساطة  أنه كف عن الكلام. فندما نحتار في أن نجد الكلمات المعبرة على هذا النحو، فإن ما نريد أن نقوله يكون بالفعل قد أصبح قريبًا منا على نحو خاص باعتباره شيئًا ما يكون علينا أن نبحث عن كلمات جديد له".. وإذا كان القول لا يوجد فقط في الكلام الذي يقال، وإنما في الكلام الذي لا يقال، أي الذي يبقى في اللاتحجب، باعتباره سرًا غير قابل للإظهار، فإن ذلك يعني أن ماهية اللغة عند هيدجر لا تكمن في مجرد الكلام المنطوق، وإنما في القول. وعلى هذا، فعندما يقول هيدجر أن اللغة تتحدث، فإنه يعني ذلك أن اللغة تتحدث بوصفها قولاً، أي باعتبارها تقول. وفي عملية القول هذه نجد هناك شيئًا يكون حاضرًا أو غائبًا، يظهر ذاته أو يتوارى. وفهم هذه العملية هو ما يمكن أن يقودنا إلى الطريق لفهم حقيقة اللغة " فمن خصوصية اللغة أن تخفي ذاتها في ذلك الأسلوب الذي به يتيح القول لأولئك الذين ينصتون إليه أن يصلوا إلى اللغة. صــ 15، 16

▬ إن كل ما نعرفه عن خبرة اللغة الآن هو أنها الخبرة التي تكشف فيها اللغة عن ماهيتها باعتبار أن اللغة هي التي تتحدث، وأننا نحن الذين نتحدث من خلالها، وأن هذا التحدث هو في حقيقه قول وإفصاح، أي إظهار؛ وبالتالي فإننا عندما نتحدث اللغة نرى أنفسنا كموجودات بشرية، بل نرى الوجود نفسه. فأين، وأنى لنا أن نلقى هذه الخبرة باللغة على نحوٍ جلي؟ أين تتجلى لنا حقيقة اللغة باعتبارها قولاً وإظهارًا.. إظهارًا لأنفسنا وللوجود الذي يكتنفنا مثلما تكتنفا اللغة؟ إن إجابة هيدجر هي: في الشعر والتفكير الشعري. ولهذا يمكن أن نتساءل: كيف ولماذا تتحقق حقيقة أو ماهية اللغة في الشعر؟ وبتساؤل آخر: كيف يمكن أن تضيء خبرة الشعر خبرة اللغة؟ إن معاناة خبرة اللغة - كما اتضح لنا - يعني أن تنصت إلى اللغة ذاتها عندما تتحدث، وأن نصبح مكتفين في وجود اللغة... في حضور اللغة ذاتها. وهذا لا يمكن أن يحدث عندما نتحدث لغة الحياة اليومية، وإنما عندما "تجلب اللغة ذاتها إلى اللغة": فنحن في لغة الكلام اليومي نتحدث عن أشياء بواسطة اللغة، سواء كنا نتحدث عن جملة من الوقائع، أو عن حدث ما، أو سؤال أو مسألة تشغل اهتمامنا. ولكن في  مثل هذا الاستخدام للغة لا يكن أن تجلب اللغة ذاتها إلى اللغة، أي لا يمكن أن تتكشف لنا طبيعة للغة باعتبارها كيانًا له حضوره الخاص الذي يكتنفنا، بل إن طبيعة اللغة تتراجع هنا عندما  نتحدث اللغة (على هذا النحو). فمن العجيب أن اللغة تتحدث ذاتها كلغة عندما لا نستطيع أن نجد الكلمة الملائمة لشيء ما يشغلنا، يحبطنا أو يشجعنا.. فعندئذ نترك ما يجول بخاطرنا لا منطوقًا دن أن نهبه فكرًا صحيحًا، ونمر بلحظات نشعر فيها بحضور اللغة ذاتها التي مستنا عن بعد وبشكلٍ عابر. وهذه الخبرة التي يبقى فيها شيء ما لامنطوقًا ومحتاجًا إلى اللغة التي تمنحه أو تمنع عنه الكلمة الملائمة، هي خبرة الشعر أو الشاعر. صــ 21، 22

▬ ما المقصود بخبرة لشعر هنا؟ إننا نعلم أن هيدجر يستخدم كلمة الشعر بمعنيين: الشعر بمعناه الواسع أو الماهوي Poetry، والشعر  بمعناه الضيق الذي يشير إلى "قرض الشعر" أو "فن القصيد Poesy وعلى هذا، فعندما يتحدث هيدجر عن خبرة الشعر، فإنه يعني في المقام الأول خبرة ممارسة التفكير الشعري الذي يكون ماثلًا في كل فن وكل تفكير أصيل باعتباره عملية جلب وإظهار الموجود على مجال "الانفتاح"؛ فكل فن يكون شعرًا بعذا المعنى الماهوي الواسع للشعر، تمامًا مثلما أن كل فن يكون لغة بالمعنى الواسع الماهوي للغة الذي لا تكون فيه اللغة مجرد أداة للتوصيل، وإنما عملية كشف وإظهار من خلال اللاتحجب والتحجب، ومن هنا أيضًا فإن فن شعب ما  يكشف عن لغة هذا الشعب في التعبير عن عالمه وإظهاره. فالفن يكو شعرًا بهذا المعنى الواسع الذي  تتحقق فيه ماهية اللغة والشعر. صــ 23

▬ ومن هنا كانت أهمية الدور الفينومينولوجي الذي اضطلع به ميرلوبونتي ليبين كيف تتم عملية الاتصال في إطار سابق على الذاتية والموضوعية، وقد وجد ميرلوبونتي هذا التفسير من خلال موقف حي معيش للبدن يلتحم فيه الفكر باللغة، والمعنى بالكلمة، والإيماءة بالدلالة.. ليست هناك كلمات يمكن أن ننظر إليها بدون معناها، وليست هناك معانٍ اصطلاحية كما لو كانت معاني مثالية توجد في قاموس مثالي، فالحقيقة أن الكلمات تكتسب معانيها في استعمالنا اليومي، فالكلمات هي تعبيرات بدنية مخصبة بمعانيها، وليس هناك قاموس لهذا. فعلاقة الكلمات بمعانيها ليست من قبيل علاقة التناظر correspondence التي تعرف في المنطق بإسم "علاقة واحد إلى واحد". one  to one relation ومن هنا يتضح لنا الخطأ الذي يقع فيه الدارسون المبتدئون، حينما يحاولون تعلم لغة أجنبية بالإلتجاء إلى قاموس ذي لغتين. فليس يكفي - على سبيل المثال - أن نربط كلمة فرنسية بكلمة إنجليزية حتى نفهم، ففم اللغة الفرنسية يعني الاستجابة للكلمات على النحو نفسه الذي يستجيب به متحدثو  الفرنسية الأصليون. صــ 57

▬ وليس في وسعنا - ولا هدفنا - أن نتابع تحليلات ميرلوبونتي العديدة للغة، وإنما يهمنا فقط أن نبين كيف يفهم ميرلوبونتي الخبرة الجمالية على أساس من فهم خبرة اللغة كخبرة بتعبير إيمائي محسوس لا يختلف عن سائر الإيماءات البدنية. ويمكن تلخيص الإيماءات عند ميرلوبونتي على النحو التالي: 1- إن الإيماءات باعتبارها مرئية ومسموعة، فإنها تُدرَكُ حسيًا، لأنها فعل من أفعال البدن، والمرء يقصدها أيضًا من خلال خبرة البدن. 2- إن التعبير الإيمائي، هو تعبير لا يكون فيه المعنى منفصلًا عن الإيماءة، بل مباطنًا فيها،  فالمعاني ليست أفكارًا متمثلة، وإنما أفكار مجسدة في - ومتزامنة مع - إيماءات أو وسائط تعبيرية محسوسة. 3- إن معاني الإيماءات لا يمكن فهمها، إلا داخل موقف كلي معيش. صــ 60

▬ ينظر ميرلوبونتي إلى فعلِ الاتصال اللغوي على أنه فعل بدني، وليس فعلًا من أفعال التفكير، فالفكرُ يكون في الحديث نفسه، في الكلمات المنطوقة، لأن العلاقة بين الفكر والكلمات المنطوقة، ليست علاقة خارجية فالكلمة هي جزء من عالمي اللغوي، وجزء من الوسائل التي يستعين بها البدن في الاتصال بعالمه، أو كما يقول ميرلوبونتي. ونلاحظ من هذا أن "مشكلة علاقة الإشارة بدلالتها" هي عند ميرلوبونتي نفس "مشكلة البدن بالذهن"، ولذلك فإن معالجته تعد واحدة في الحالتين، فكما أن الوعي يكون متجسدًا في البدن، ويكون كلاهما مظهرين مرتبطين لأسلوب حضور الإنسان في العالم، كذلك فإن الكلمة والفكر الذي تعنيه أو تشير إليه يكونان مرتبطين معًا، فالكلمة تحمل معناها في باطنها كما تبطن إيماءات البدن دلالاتها في تجسيد نمط سلوكي أو شعوري معين. فالإيماءة اللغوية - شأنها شأن إيماءات البدن الأخرى - هي تعبير محسوس عن معنى يُدرَك بشكلٍ سابق على الوعي التأملي. صــ 62

▬ لم تكن أطروحة موت المؤلف، التي صاغها بارت في مقال له يحمل العنوان ذاته، سوى انعكاس لمناخٍ عام شاع فيه فكرة النهايات، وهي الفكرةُ التي ظهرت بوادرها في القرنِ التاسعِ عشر، وانتشرت بقوةٍ في القرنِ العشرين، لتصبحَ تيمة حاضرة باستمرار في فلسفات النصف الثاني من هذا القرن. وقد عكس هذا الانتشار للفكرة شعورًا عامًا لدى الغرب آنذاك بفقدان الثقة في المقولات التي تأسس عليها المشروع الحداثي الغربي، فجاءت فكرة النهايات لتعلن موت تلك المقولات وضرورة استبدالها بمقولات بديلة تصلح لطبيعة تلك المرحلة. ربما بدأت فكرة النهايات في الظهور بعد وفاة هيجل من خلال تلاميذه، فقد قال إيريك فيل: إن هيجل قد وضع للفلسفة نقطة النهاية. وقد أعلن اشبلنجر بعد ذلك صراحةً نهاية الغرب أو أفوله. ثم جاء نيتشه ليزكي تلك الروح عندما أعلن موت الإله كما كتب بنيامين عن نهاية الفن في عصر الإنتاج الآلي، وأسس هيدجر مشروعه الفلسفي على "تقويض الميتافيزيقا" وأعلن فوكو "موت الإنسان" كما أعلن رورتي "نهاية الفلسفة النسقية" وكتب فوكوياما بعد ذلك "نهاية التاريخ" وفي نفس السياق حاول فاتيمو حصر توجهات النصف الثاني من القرن العشرين الفكرية في خمسة مبادئ رئيسة؛ نهاية الفن وأفوله - موت النزعة الإنسانية - العدمية - نهاية التاريخ - تجاوز الميتافيزيقا. وهي كلها تنويع على فكرة النهايات. لا يوجد علم أو فلسفة أو فن بل إعلان النهاية لكلِ شيء، دق أجراس الموت، كما يشير عنوان أحد مؤلفات دريدا. صــ 91 ، 92

▬ يبدو أن كل الطرق لفهم النتاج الفكري لمفكري النصف الثاني من القرنِ العشرين تفضي بالضرورة إلى نيتشه. كان نيتشه يصف نفسه بأنه "ديناميت" والواقع أن هذا الديناميت قد تضاعف حتى انفجر في النصف الثاني من القرن العشرين محدثًا دويًأ هائلًا. لقد قدم نيتشه نقدًا لمفهوم الحقيقة، كان مؤثرًا بقوة في التصور الذي قدمه بارت لطبيعة النص؛ فقد رأى نيتشه أن هناك فهم ميتافيزيقي مضلل لمفهوم الحقيقة، فالشيء الحقيقي هو الخير والعام والواضح والنافع والجميل، وقد سعى الفلاسفة حول هذا الوهم طوال تاريخ الفلسفة محاولين الوصول إلى ما هو حقيقي. لكن السؤال الذي تناساه هؤلاء: من يملك تحديد الحقيقي؟ وما هو هذا الحقيقي؟ وليست المشكلة عند نيتشه متعلقة بالبحث عن الحقيقة أو محاولة الكشف عنها، بل المشكلة أن كلمة الحقيقة نفسها مضللة، فهي تنفي الاختلاف الذي هو من صميم الحياة. ولم يتوقف مفكر من قبل للتساؤل عن كنه الحقيقة، بل كانت كل الأسئلة متمحورة حول كيفية بلوغها أو شروط إمكانها. فكل الفلسفات اعتبرت أن مسألة الحقيقة ليست في حاجةٍ إلى ما يبررها. بل وأكثر من ذلك غدت مسألة الحقيقة هي المنطلق والأساس الذي تتأسس عليه كل فلسفة، وبالتالي أصبحت الحقيقة صنمًا أو إلهًا يقدسه الفكر باحثًا عن كل سبيل لبلوغه. في مقابل هذا الفهم، ينظر نيتشه للحقيقة على أنها حشد من الاستعارات والكنايات التي تكونت عبر التاريخ، وتم التعامل معها بعد ذلك بوصفها بديهيات أو حقائق. إن هذا المعنى النيتشوي لمفهوم الحقيقة سيجد تجلياته في النص البارتي. لهذا نجد بارت يفرق منذ البداية بين الأثر والنص، ويدعو للانتقال من الأول إلى الثاني؛ فالأثر لا يزعج فلسفات الهوية، والتعدد عند تلك الفلسفات هو الشر بعينه، الأثر له معنى متوارث مغلق لا يقبل التجديد، بل يعتبر التجديد فيه نوع من الهرطقة، أما النص فهو متعدد ولا تعني صفة التعدد التي يحوذها النص أنه يتحوي فقط على معانٍ عدة، وإنما يحقق تعدد المعاني ذاته "فالنص ليس تعدد لمعانٍ، بل هو مجاز وانتقال. وبناء على ذلك لا يمكن أن يخضع للتأويل، وإنما لتفجيرٍ وتشتيت. صــ 98 ، 99

▬ إذا افترضنا مع فرويد أن العمل الفني ما هو إلا انعكاس لحياة الفنان وتجاربه النفسية وحياته الشخصية فإن هذا الافتراض يلغي تعددية العمل الفني ويجهض إمكاناته التأويليه، لأنه في تلك الحالة سيكون ثمة معنى واحد للعمل الفني، وسيفقد العمل الفني قيمته وخلوده في الزمن، سيفقد هالته وبريقه إذا شئنا أن نستخدم مصطلحات فالتر بينامين. إذ يكفينا في تلك الحالة أن نعرف الدلالات السيكولوجية للعمل الفني وعلاقتها بحياة الفنان ليترسخ لدينا في نهاية الأمر أننا أحطنا بالعمل الفني في مجمله وأننا لسنا بحاجة للعودة إليه، فقد استنفد غرضه. وهكذا فعل فرويد في تعامله مع دافنشي، فمن منا بعد قراءة هذا التحليل يرغب في العودة إلى دافنشي ورؤية أعماله، فالمعنى قد تم كشفه، وما كان محتجبًا بالنسبة إلينا أصبح الآن واضحًا جليًا. هذا هو الحال إذا اعتمدنا التحليل النفسي للفن كما قال به فرويد وأصحاب نظري التحليل النفسي. صــ 104

▬ إن غاية كل فيلسوف الوصول إلى صياغات شبه رياضياتية. وبعكس ذلك إن حلم الأديب هو أن يحيط الكلمات بهالة من الغموض، ليس ذلك جريًا وراء الغموض، بل لأن دوره يتمثل في تصوير كيف أن كل عاطفة وكل حالة هي متناقضة وغامضة. فإذا ما قرأنا الخلاصة اللاهوتية للقديس توما الأكويني وجدنا أن الله خير والشيطان شرير وانتهى الأمر. لكن لنقرأ الفردوس المفقود لملتون ولنطرح السؤال: هل الشيطان شرير؟ ليس هذا أكيدًا، يجب التعمق في المسألة. وإذا ما طلبنا من ملتون مزيدًا من التوضيح سيجيبنا: لتقرأوا الخلاصة اللاهوتية". يفرق إيكو هنا بين أسلوبين للكتابة، الأسلوب الفلسفي الذي يتخذ من الصياغات الرياضياتية هدفًا له، أسلوب ينشد الوضوح والتميز، يخاطب العقل، يسعى لتحديد المعنى وحصره في أضيق حدود ممكنة. وهذا الأسلوب هو المتبع في الكتابة الفلسفية على مختلف العصور، فهو ذاته الأسلوب الذي عبر به ديكارت وكانط وهيجل ومن قبلهم أفلاطون وأرسطو. هناك بالطبع استثناءات لبعض الفلاسفة الذين حاولوا التعبير بأسلوب مختلف يقع على التخوم بين الأسلوب الفلسفي والأدبي، غير أن هذه المحاولات ليست سوى محاولات فردية ويظل الغلبة في النهاية لأسلوب التعبير الصارم الذي ينشد الدقة ويهدف إلى الوضوح والغموض، ولا يقدم المعاني الجاهزة المباشرة، بل يستفز ملكة التأويل لدى المتلقي ويشحذ قدراته النقدية. جاء بارت إذن ليقول أن النص أنتج في مكان وزمان مجردين، وأن الفنان ما إن يضع فرشاته أو قلمه وينتهي من عمله، فإن مهمته قد انتهت. وبالتالي لن يفيدين كثيرًا أن أقرأ إسم المؤلف على الكتاب. ينتهي دور المؤلف ويكون من باب الخيانة أن يقم بترجيح تفسيرٍ على تفسيرٍ آخر. صــ 107 ، 108

▬ إن العملَ على معنى أو معاني للنص، وفقًا لبارت، لابد أن ينطلق من قاعدة فينومينولوجية، فلا توجد آلة لقراءة المعنى، وليس ثمة خطوات منهجية تفضي إلى نتيجة واحدة، لهذا رفض بارت وصف مقاربته للنص بالمنهج وفضل استخدام كلمة إجراءات لقراءة النص، فالتحليل البنيوي للسرد  ليس فرعًا من فروع المعرفة، كالبيولوجيا وعلم الاجتماع، فهو لا يملك قواعد صارمة تشكل نظامًا ما. كما أن قراءة باحث ما لا تشكل إلزامًا لباحثٍ آخر، وليس بإمكان قارئ أن يتحدث بإسم قارئ آخر. ومن جهةٍ أخرى يظل البحث الفردي على مستوى كلِ باحث في حالة من الصيرورة، إذ أن لكلِ باحث تاريخه الخاص، وليس ثمة وصفة جاهزة للتعامل مع النص". صــ 110

▬ تعددية المعاني لا تشكل - حسب رأي بارت - الجوهر الأساسي للأدب فحسب، وإنما هي المعيار الوحيد للقيمة الجمالية للعمل. فالأدب العظيم هو ذلك الذي يصارع  وبدون هوادة إغواء المعنى الواحد. ومن ناحيةٍ أخرى فإن انفتاح العمل يعني أن القراءة ستتحول إلى عملٍ إبداعي، ليصبح القارئ مبدعًا مشاركًا في النص؛ بمعنى أنه يشارك في إنجاز ما تركه الكاتب "مفتوحًا". وهذه المشاركة تحقق ما يمكن أن نطلق عليه "اللذة الجمالية". فتعدد المعاني يهب اللذة للقارئ، والعكس أيضًا، فإن تأطير النص ليس سوى تقييد لتلك اللذي "فلذة القارئ تبدأ عندما يكون منتجًا، أي عندما يسمح له النص أن يقوم بتشكيل قدراته الخاصة. صــ 112

▬ لكن هل يمكن بالفعل فصل العمل الأدبي، والفني على وجه العموم، عن المحيط الاجتماعي والثقافي السائد في المجتمع والتعامل معه على مستوى الألفاظ والدلالات اللغوية فقط؟ وما قيمة البناء اللغوي إذا كان لا يحيل إلا إلى ذاته؟ يبدو أن هذا ما لم يكن بارت يقصده. فقد كان هدف بارت الرئيس ألا يتم التعامل مع النص الأدبي بفروض مسبقة عن الكاتب والمؤلف وعدم اتخاذ مواقف نفسية من المؤلف قبل الدخول إلى عالمه. إن الفرضية المسبقة تعني أن القارئ لديه فكرة ما يحاول إثباتها والتحقق منها من خلال تعامله مع النص الأدبي، هي أشبه بالنتيجة التي يحاول أن يستقي مقدماتها من داخل العمل، وهذا يفضي في النهاية إلى قراءة أحادية للنص تزعم امتلاك حقيقته واكتشاف غاياته، وهذا الفهم نابع من تصور مؤداه أن ثمة حقيقة كامنة وراء النص، وتلك الحقيقة مرتبطة في الأغلب، بحياة المؤلف أو الإطار الثقافي التي أبدع فيها مؤلفه. هذا الفهم للنص الأدبي وطريقة التعامل معه هو ما جاء بارت ليناهضه من خلال مقولته عن موت المؤلف. فالنص بنية مستقلة بذاته، ودلالته ليست مسبقة بل هي لاحقة، وبالتالي فهو لا يشير إلى الماضي بل إلى المستقل. وبمجرد أن ينتج النص فإنه يترك مداره الخاص وسياقه المرتبط بنشأته حتى يدخل ف مدار آخر وسياق مختلف تمامًا. هذا السياق الجديد هو سياق النصوص الأخرى السابقة عليه والمتزامنة معه، وهذا السياق هو الذي لابد أن يتعامل معه القارئ دون أن يحاول نزعه منه. ولا يعني ذلك أن الوقوف عند حدود الألفاظ والدوال هو المبتغى النهائي للقارئ، إذا أن أطروحة بارت تقطع الطريق أمام الفروض المسبقة التي يدخل بها القارئ على النص لكنها لا تلغي الدلالات المختلفة للعمل الأدبي، فالنص قد يكشف عن أبعاد مختلفة مرتبطة بالواقع والمجتمع، لكن هذه الأبعاد لابد من بنائها واكتشافها داخل النص وليس بصورةٍ مسبقة أو على شكل افتراضاتٍ سابقة يسعى القارئ لإثباتها عبر قراءته. صــ 113، 114

▬ لقد ارتبطت أطروحة "موت المؤلف" عند بارت بفكرةٍ أخرى أشار إليها ضمنًا في مؤلفاته عندما وصف عملية الكتابة بأنها "امتزاج للكتابات"، وأن معنى النص ما هو إلا تعددية لنظمه، وقابليتها اللامتناهية (الدائرية) للنسخ، وهو الوصف الذي أعطته جوليا كريستيفا مصطلح "التناص" وأقره بارت في حينخ. ويعني التناص أن أي نص في النهاية ما هو إلا تجميع واقتباس وتداخل مع نصوص أخرى سبقته "فالكاتب لا يستطيع إلا أن يحاكي حركة سابقة له على الدوام، دون أن تكون هذه الحركة في الأساس أصيلة". ويوضح شلوفسكي هذا بقوله "كلما سلطت الضوء على حقبةٍ ما، ازددت اقتناعًا بأن الصور التي تعتبرها من ابتكار الشاعر إنما استعارها هذا الشاعر من شعراء آخرين وبدون تغيير تقريبًا". فلا يوجد نص أصلي، إنما النص هو تلاقٍ بين النصوص، وكل نص هو امتصاص وتحويل لنصٍ آخر. وفي ضوء ذلك، يكون هدف التفكيك - بحسب دريدا - البحث عن نص داخل نص آخر، وإحالة نص إلى نص، وبناء نص من نصٍ آخر...إلخ. إن التناص نتيجة طبيعية أيضًا لموتِ المؤلف، فالنصوص هي التي تفسر بعضها، ومن ثم وجب إبعاد العوامل الخارجية عن النص، فالسياق الخارجي لا يمكن أن يحدد علاقات النص ودلالته، لأن النص قد تجاوز هذا الخارجي وتحرر عنه واستقل عنه بوجود جديد، ينبني عليه عالم جديد. صــ 115

▬ على الرغم من أن تحليلات بارت بالفعل كان لها الأثر الأهم في أن تخطو الجماليات خطوات متقدمة في نهايات القرن العشرين، خاصةً في مجال النقد الأدبي، إلا أن إعلان بارت موت المؤلف لم يكن مقنعًا بالدرجة الكافية، وأسقط النقد الأدبي فيما أطلق عليه بارت حتمية الشكل، والذي ترتب عليه الاهتمام المفرط بالعلامات والدوال المستخدمة، وما تبع ذلك من الإغراق في التجريد، وافتقاد الشاعرية في التحليل، وصعوبة اللغة المستخدمة. إن من مقتضيات تمام العملية الإبداعية أن تكون هناك صلة نفسية ومعرفية بين أطرافها: المؤلف، النص، القارئ، وذلك يتيح "حرية للقارئ في إعادة بناء النص، وإذا انتفت المسافة النفسية افتقد القارئ القدرة على ممارسة خبرة الإبداع في تذوق العمل الفني وأضحى العمل الفني نوعًأ من التغييب للقارئ، بينما تتيح المسافة النفسية أن يكون حضور القارئ مساويًأ لحضور المؤلف لكي يدير حوارًا معه"، فكيف يحدث ذلك إذا افترضنا موت أحد أطراق عملية الإبداع وهو المؤلف. صــ 121

▬ وبعيدًا عن السيموطيقا نجد بيير بورديو يتخذ موقفًا ناقدًا من هذا الاتجاه وهو بصدد تحليله لحقل الإنتاج الفني. فقد توصل بورديو في كتابه الفن إلى صيغة معتدلة لا تنجرف وراء التحليلات النفسية والاجتماعية، وفي الوقت ذاته ترفض القراءات الداخلية للأعمال الفنية التي تتجاوز الظروف التاريخية التي أنتجتها. فالعمل الفني ليس مجرد تعبير عن عبقرية الفنان، ولا  هو مجرد انعكاس للظروف الاجتماعية والنفسية له، بل يتم إنتاجه من خلال الطابع الثقافي، الذي يعكس الأصل الاجتماعي والمسار الشخصي للفنان، وهو حقل - فضاء منظم من الاحتمالات - يحوي شتى المذاهب والأساليب المتنافسة كما تتحد الاحتمالات ذاتها من قبل التطور التاريخي لذلك الحقل فلا يوجد كاتب (أو فنان) يبتكر ببساطة أسلوبًا فنيًا من عدم، بل هو يختار تكرار ما هو موجود، أو أخذ نوع فني قائم ودفعه إلى اقصاه. لذا فإن كل تصريح يحمل بداخله موقفًا ما من الأعمال القائمة والمواقف الماثلة في الحقل الفني، وتنوع المواقف التي يستطيع أي فنان أن يتخذها في ضوء التاريخ السابق للحقل. وفي رأي بورديو، أن حقل الإنتاج الفني هو عالم من الثورة الدائمة والتمرد على الأساليب القائمة. وأن تفسير هذه الثورة يحتاج إلى فهم الحقل الثقافي بكافة كوناته، خاصةً أن هناك محددات تمارس تأثيرها على العمل الفني وعلى طرق استقباله لا دخل للفنان بها، ومنها الظروف الاجماعية والتاريخية والاقتصادية. صــ 123

▬ وقد اقترح البعض القيام بعملية إزاحة مؤقته لسلطان المؤلف عن النص، ثم يعيده ضيفًأ عليه "إن مفهوم الموت لا يعني الإزالة والإفناء، ولكنه يعني ارتحال القراءة موضوعيًا من حال الاستقبال إلى التذوق، ثم إلى التفاعل وإنتاج النص وهذا يتحقق موضوعيًا بغياب المؤلف، فإذا ما تم إنتاج النص بواسطة القارئ فإنه من الممكن حينئذ أن يعود المؤلف إلى النص ضيفًا عليه. وهذا المعنى نجده عند بارت في أعماله المتأخرة، يقول في مقالة له بعنوان من الأثر إلى النص: "لا يعني هذا أن المؤلف لا يمكن أن يعاود الظهور مجددًا في النص، في نصه، لكنه لو عاد سيعود في صورة مدعو".. أخيرًا،، إن منح القارئ هذه الأهمية لم يكن يتطلب بالضرورة "تهميش المؤلف" واعتباره "آلة ناسخة للكلمات"، فموت المؤلف هو في الأصل تهميش للإنسان ضد الاحتفاء به في الاتجاه الحداثي "فعندما يتم عزل النسق يتم عزل التاريخ أيضًا، فتغدو الأبنية كلية لا زمنية، أو هي أجزاء اعتباطية من عملية تغيير غير تاريخية ومتحولة أبدًا". صــ 124 ، 125

▬ الأديب - خاصةً الروائي - هو الذي يصور لك عالمًا، يأخذك إلى عالمه الرحب الذي سوف تجد نفسك بالتأكيد في شيء منه ربما عايشته يومًا ما أو عايشت شيئًا منه توارى في مملكة الذكريات المطوية، أو تمنيته بالخيال وفي عالم الأحلام. ولكنك في كل الأحوال لن تتمكن من النفاذ إلى هذا العالم ما لم تمتلك مفاتيح فك شفراته، وأولها أن تقرأ دائمًا بين السطور، وأن تعرف لغة الكاتب باعتبارها علامات تؤدي إلى عالمه الخاص القابع هناك. وهو عالم لا يكون معطى لنا على نحوٍ مباشر؛ ولذلك لا يمكن التعرف عليه من ظاهر النص فحسب؛ فاللغة هنا تكون مراوغة دائمًا بحيث تقول شيئًا وتقصد أشياءً. صــ 137، 138

▬ يبين لنا هيدجر أن الإسم ليس مجرد إشارة تعين شيئًا ما؛ فمثل هذه الإشارات إنما هي الأسماء بمعنى الرموز التي نستخدمها في لغة الحياة اليومية والمصطلحات التي نستخدمها في اللغة العلمية. أما حينما تكون اللغة لغةً بحق (كما في اللغة الشعرية أو الصوفية على سبيل المثال)، فإن الأسماء أو الكلمات فيها تستدعي وجودًا أو حضورًا لموجودا بعينها، كما لو كان لها قدرة سحرية أو تعزيمية على استحضار الموجود: فالكلمة هنا لا تشير إلى الخارج، وإنما تجلب الخارج إلى داخل.. تجعل الوجود مباطنًا في الكلمات ذاتها أو بحسب تعبير هيدجر البليغ: "اللغة مسكن الوجود؛ ولذلك فإنه يتوقف وقفة طويلة عند قصيدة شتيفان جئورجه بعنوان "الكلمة" والمؤلفة من سبعة أبيات.. يتوقف بوجه خاص عند البيت السابع والأخير الذي يقول فيه الشاعر: حينما تٌفتَقدُ الكلمة..لايمكن لشيء أن يكون. صــ 146

▬ الشعر والفلسفة أم الفلسفة والشعر؟ هل هناك دلالة للتقديم والتأخير في هذه الحالة؟ أرى أن المسألة هنا هي مجرد المنظور الذي ننظر  منه بحسب الأرض التي نقف عليها، فإذا كانت الفلسفة والشعر أشبه بجبلين يطلان على وادي مشترك بينهما كما صورهما  هيدجر؛ فإن هذا يتوقف على الجبل الذي نقف على قمته.. إذا كنت تنظر إلى الأمر من منظور أرسطو الذي كان يقف على قمة جبل الفلسفة في عصره، ستجد أن الفلسفة هي الاصل والمرجع والمعيار حينما يميز الشعر بقوله: إن الشعر يعبر عن الكلي". ولقد أفاض الفلاسفة في تفسير هذا القول الذي لا يزال صالحًا حتى يومنا هذا؛ لأن الشعر يشارك الفلسفة في أنه يقدم لنا رؤية كلية للوجود، ولكنها مكثفة في اللغة الشعرية؛ فالشاعر لا يعنيه الحدث الجزئي العابر إلا بقدر ما يكون ممثلًا لحالة لها دلالة إنسانية عامة. ولكن الشاعر - في الوقت ذاته - لا يعبر عن هذه الدلالة بلغة التصورات الفلسفية المجردة، وإنما يعبر عنها في طابعها الحسي الملموس الذي يتجسد فيه المعنى والدلالة بلغة لا يمكن استبدالها، أي من خلال الكلمات بصوتياتها وإيحاءاتها التي تؤمئ إلى المعنى دون الإفاضة في شرحه وتفسيره. وإذا كنت تقف على جبل الشعر مثلما وقف حسن طلب وغيره من الشعراء الكبار، فسوف ترى أن الفلسفة لن تعينك بلغتها التقليدية على رؤية المشهد الذي تراه من قمة جبل الشعر. ذلك أن لغة التصورات المجردة لن تعينك على الإمساك بتجربة الحياة في طابعها المحسوس والمعيش والغامض أحيانًا. ولهذا نجد أن بعض الفاسفة قد مالوا إلى التعبير عن رؤاهم الفلسفية بلغة لا تخلو من الحالة الشعرية. ولا شك أن حالة نيتشه جاءت معبرة عن هذا المشهد بصورة إبداعية. كما أن أكثر الفلاسفة صرامةً في صياغتهم للقضايا الفسلسفية، قد وجودا في النهاية أن العالم نفسه أوسع كثيرًا من حدود هذه اللغة المنطقية الصارمة، واكتشفوا بعد طول تأمل أن تجربتنا في فهم العالم تنطوي على مناطق غامضة لها طبيعة صوفية تتجاز حدود معرفتنا المباشرة، ومن ثم لا تستوعبها لغتنا المنطقية. ولا شك أن حالة فتجنشتين قد عبرت عن هذا المأزق على مستوى الدرس الأكاديمي. وإذا كان نيتشه قد تجاوز هذا المأزق بصورة عملية في صياغته لفلسفته، فإن هيدجر قد تمثله وأفصح عنه فلسفيًا، أعني على مستوى الدرس الفلسفي.. وعلى غرار هيدجر و نيتشه  سار فلاسفة عظام من أمثال جاستون باشلار.. ذلك العالم الذي تحول إلى الفلسفة، ولكنه لم يصوغ فلسفته في لغة العلم ولا في لغة الفلسفة التقليدية، وإنما من خلال لغة التأمل الانعكاسي التي تعبر عن خبرات لا يمكن وصفها من خلال لغة العقل أو التصورات المجردة، ولذلك كان يستعين بمقاطع شعرية لشعراء كبار فيما بين ثنايا سرده الفلسفي/الشعري. ويكفي القارئ أن يطلع على ذلك من خلال كتاباته العديدة، وعلى رأسها كتابه الشهير "جماليات الكان". صــ 158 ، 159

▬ البحث عن معنى الشعرية هو بحث في ماهية الشعر، أي في كل ما يجعل أشكال القصيد تشارك في الشعر، وفحواها أن المعنى الذي تومئ له اللغة الشعرية يكمن في اللغة ذاتها بكل صوتياتها وإيقاعاتها وصورها الحسية. والحقيقة أن هذه الشعرية يمكن أن تتجلى عمومًا في سائر أشكال اللغة أو القول؛ ولذلك فإن الحالة الشعرية يمكن أن تتجلى بدرجات متفاوتة في سائر فنون القول بحسب ثقل طرفي العلاقة بين الصوت والمعنى، فكلما كان المعنى مباطنًا  في حسية الكلمة، مال  القول إلى الشعرية. بل إن الشعرية تتجلى أيضًا في سائر الفنون حينما تعمد إلى الإفصاح والقول من خلال لغتها الخاصة المرئية واللامرئية (بالمعنى الواسع للغة هنا)، وبهذا الاعتبار يمكن أن نتحدث عن شاعرية الرواية، بل عن شاعرية الصورة السينمائية على سبيلِ المثال. صــ 166

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS