خوارق اللاشعور (علي الوردي)


• إنّ التقصد والتعمُّل والتكلف والتعجل أمور مناقضة لحوافز اللاشعور ومفسدة لها.. لهذا فإن الحريص المتكالب على شيء يخطيء كثيراً ويصيب قليلاً، وقد يضيع عليه قسط كبير من معالم النجاح. ص15
• لقد روى لنا الثقات قصصاً عديدة عن أفرادٍ كانوا يملكون القوى النفسية بدرجة عظيمة في أوائل حياتهم ثم ضاعت عليهم تلك الملكة بعدما دخلوا المدرسة ومارسوا التفكير المركز والتمرين في أعمالهم العقلية. ص 33
• إننا يمكننا تشبيه العقل البشري بجبل الجليد الطافي في البحار القطبية لا يظهر منه إلا جزء صغير فوق سطح الماء أما الجزء الأكبر فقد انغمس في الماء لا يُرى منه شيئاً. إن أغلب حركات الإنسان وسكناته يسيرها ذلك الجزء المنغمس من العقل. وليس العقل الظاهرة إلا اخدوعة، الغرض منها التضليل والتمويه ووضع الطلاء والزخرفة على حقائق الأشياء. ص 33
• لقد كان القدماء يعتقدون بأن الإنسان حيوان عاقل. والواقع أنه حيوان متحذلق. فهو متعاقل لا عاقل، يتظاهرة بالتعقل وهو في الحقيقة مجنون.. على وجه من الوجوه. ص35
• مما يؤسف له أن المثقفين بيننا قليلون والمتعلمين كثيرون. ومتعلمونا قد بلغ غرورهم بما تعلموه مبلغاً لا يُحسدون عليه. وهذا هو السبب الذي جعل أحدهم لا يتحمل رأياً مخالفاً لرأيه. ص46
• إن الإنسان لا يستطيع أن يتخلص من إطاره الفكري إلا نادراً. فهو فرض لازب عليه. فالإطار شيء كامن في اللاشعور .. والإنسان لا يستطيع أن يتخلص من شيء لا يشعر به. ص48
• ليس العجيب أن يختلف الناس في أذواقهم وميولهم ولكن العجب بالأحرى أن يتخاصموا من أجل هذا الاختلاف. ص51
• إن العقل يقتبس من الحقيقة الخارجية جزءاً ثم يضيف إليها من عنده جزءاً آخر ليكمل بذلك صورة الحقيقة كما يتخيلها. وهذا هو الذي جعل كل فرد منها يحمل معه حقيقته الخاصة كما يحمل حقيبته. ص53
• قيل في أحد الأمثال الغربية: "غيّر معيشة الإنسان يتغير بذلك تفكيره". وهذا صحيح إلى حدٍ بعيد. فالفقير الجائع لا يكاد لا يفهم الحقيقة إلا على شكل رغيف. أما المدلل المتخوم فتراه مستهاماً بالمثل العليا التي لا فائدة منها مثل الجمال الكامل أو الحق المطلق أو ما إلى ذلك من خزعبلات شوهاء. ص54
• يطلب المثالي من خصمه أن يفكر على أساس المنطق لكي يصل إلى الحقيقة، وهو يقصد بالحقيقة حقيقته الخاصة التي تنفعه. ومعنى هذا أنه يريد من خِصمه أن ينحاز إلى جانبه ويكون عوناًً له على الحياة. أما خِصمه فيداور ويراوغ لأنه هو نفسه يحمل حقيقته الخاصة به ويريد الانتصار لها، هكذا ينشأ النزاع وتثور الفتن بين الناس. ص54
• المضحك أن المثاليين يشغلون أنفسهم دائماً بالبحث وبالتساؤل عمن فرق هذه الأمة أو شق كيان ذلك الدين. وتراهم لذلك في سباب متبادل ومشادة لا حد لها. وما دروا أن كل حركة اجتماعية تحوي بذرة انشقاقها في صميم تكوينها. فهي لا تنجح حتى تنقسم. مثلها في ذلك كمثل الأميبة التي لا تكاد تصل إلى حد معين في نموها حتى تنشق إلى أميبتين، وكل واحدة منها تنشق بدورها إذا وصلت في نموها إلى الحد المعين. ص56
• إن المعرفة عند عامة الناس خاضعة للإرادة الحياة وهي مٌسيرة عادة في سبيل المصالح الشخصية والمنافع الخاصة. أما عند العبقري فالمعرفة هي التي تسير الحياة. ص70
• لعلنا لا نغالي إذا قلنا بأن انتصار منطق أرسطو واندحار السفسطة كان من سوء حظ البشرية. فالسفسطة فلسفة لا تخلو من صواب، إذ هي تمثل وجهاً لا بأس به من حقيقة الكون. ص78
• نستطيع أن نعتبر ابن خلدون أنه (هيجل) العرب. ففلسفته الاجتماعية تدور في الغالب حول هذا (الديالكتيك) الذي يقوم على التناقض. وهو بهذا قد نسف القانون الذي آمن به المناطقة القدماء وجعلوه نبراسهم الذي يهتدون به في تفكيرهم. ص88
• إن القوى النفسية تنبثق من أعماق اللاشعور انبثاقاً آنياً مباغتاً، فهي لا تحتاج إلى مقدمات فكرية أو قياسات منطقية. إنها بالأحرى تحتاج إلى خمول أو ذهول لا تكدره أية خلجة فكرية واعية. ص98
• يقول الخبراء في فن الكتابة الحديثة: أكتب أول خاطر يطرأ على ذهنك، ولا تطول فيما تكتب، فإنك ستجد بعد لحظةٍ أن قلمك قد انسابَ في الموضوع انسياباً عجيباً حيث تكتب بلباقة لا عهدَ لكَ بها من قبل. ص104
• إن إهمال الفرد لمفاهيم المجتمع وقيمه هو الذي يدعو المجتمع إلى وصمه بوصمة الجنون. ولو تكاثر المجانين في مجتمع وبقي فيه فرد واحد عاقل لأصبح هذا الفرد هو المجنون وصاروا هم العقلاء. ص107
• إن كل ناجح يصيبه الغرور قليلاً أو كثيراً، ولذا تراه يعزو نجاحه إلى بُعد نظره وشدة سعية وقوة إرادته. والواقع أن للنجاح عوامل أخرى علاوة على هذه العوامل التي يتبجح بهاالناجحون. ص111
• إن الذي يريد أن يرقى إلى منزلة رفيعة وهو غير موهوب بالصفات التي تؤهله لها، يؤذي نفسه أكثر مما ينفعها. إن الإرادة وحدها لا تكفي أبداً لنوال شيء، وربما كانت الإرادة عقبة في سبيل ذلك. فالإنسان ليس بالآلة الطيعة التي يمكن توجيهها في أية ناحية نشاء. ص114
• إن شعار المربين عندنا يدور في معظمه حول عبارة "كن.. ولا تكن" فهم يقولون للطفل: "أنت لا تشابه أولاد الناس.. فاجتهد حتى تكون مثلهم". وهذه طريقة تؤدي إلى الضرر من ناحيتين: فهي تغرز في مخيلة الطفل صورة متشائمة عن نفسه من ناحية، وهي تحرضه على إرادة النجاح من الناحية الأخرى. وهو يصبح إذن ضحية من ضحايا قانون الجهد المعكوس - يريد النجاح في عقله الواعي بينما هو يريد الفشل في عقله الباطن. ص121
• البرهان المنطقي لا يتعدى تأثيره في الغالب حدود العقل الواعي ولذا فهو لا يؤثر في المخيلة إلا قليلاً. أما الكلمات التي نرسلها على البديهة فهي تنغرز بعد تكرارها في اللاشعور وتصبح قوية الأثر في مصيرنا من حيث لا ندري. ص127
• إن القوى النفسية الخارقة أصبحت اليوم من الحقائق العلمية المقررة وقد أخذت التجارب المختبرية تؤيدها تأييداً لا بأس به. ولكن الذي يخشى بعض الباحثين منه هو أن تنتهي بهم هذه الأبحاث إلى اعتناق الأفكار الروحية القديمة التي ناضلوا في القرون الماضية نضالاً طويلاً في سبيل القضاء عليها. ص143
• لقد آن للناسِ أن يدركوا سر الحظِ الذي خَفيَ على الأجيالِ الماضية، وأن يلتفتوا إلى ما تحتوي عليه النفس البشرية من أفانين القوى التي تشتد في عملها كلما غفلنا عنها وتعني بنا متى أهملناها. ص158
• إن العقل الباطن هو عقل الإيمان والعقيدة الراسخة، بينما العقل الظاهر هو عقل التفكير والشك والتفلسف. فإذا أردت استخدام عقلك الباطن استخداماً صحيحاً، في النوم أو غيره، وجب عليك أن تبتعد عن كل ما يدعو إلى التفكير والتدليل والتفلسف. ص174
• إن العقل الباطن لا يعرف البرهان المنطقي ولا يستفيد منه. لا ينفع في العقل الباطن إلا تكرار الفكرة التي لا جدال فيها ولا ريب. ولهذا كثر نجاح البلهاء في الأمور التي تحتاج إلى الثقة ولا تحتاج إلى تالفكير والتدبير. ص176
• يعتقد المتصوفة أن هذه الخوارق التي يقومون بها آتية من صحة عقيدتهم، والواقع أنها آتية من قوة عقيدهم لا صحتها. فقوة العقيدة وعمقها وتغلغلها في اللاشعور هي التي تؤدي إلى ظهور الخوارق. ص185
• إن الصعود في مراقي النجاح لا يعتمد على سعي الفرد وحسن تدبيره دائماً. فالفرد مقيد في هذا السبيل بقيود لا تُحصى. فهو إن استطاع أن يتحرر من قيوده النفسية، مثلاً، وقفت في طريقه القيود الاجتماعية .. ص213
• الإنسان لا يستطيع أن يتجرد في تفكيره تجرداً تاماً إذ هو مقيد بقيود نفسية واجتماعية وحضارية. وهذه القيود لا يحس بها الإنسان حين يفكر، فهي لا شعورية، وهو يعتقد عادة بأنه حر في تفكيره بينما هو في الواقع مقيد في ذلك كل التقييد. ص218
• من المؤسف حقاً أن نرى مدارسنا وكلياتنا تعني، في تربية طلابها، بالشعور وحده وتهمل اللاشعور. وبعبارة أخرى: إنها تربي فيهم العقل الظاهر وتترك العقل الباطن ينمو كما يهوى، وبذلك تخلق في تكوين شخصيتهم دواعي  الازدواج البغيض. ص222
• لعلنا لا نغالي إذا قلنا: بأن المدرسة لا تتقن إلا طلاء الإنسان ولا تزوِّق إلا مظهره، أما لُباب نفسه وأعماق عقله الباطن فالمدرسة لا تمسها إلا قليلاً. ص232

===============================
▬ إن تركيب العقل البشري متماثل في جميع الناس سيان في ذلك بين المتعلمين منهم وغير المتعلمين. فكل إنسان على عقله منظار أو إطار ينظر إلى الكون من خلاله، وهو إذن لا يصدق بالأمور التي تقع خارج هذا الإطار. وكثيراً ما يختلف اثنان على حقيقة من الحقائق: هذا يؤمن بها كأنه يراها رأي العين وذلك ينكر وجودها إنكاراً تاماً. فإذا فحصنا مصدر الخلاف ووجدناه كامناً في الإطار الذي ينظر به كل منهما إلى الحقيقة. إنهما ربما كانا على درجة متقاربة من الذكاء وقوة التفكير ولكن الإطار الذي وضع على عقل كل منهما جعل أحدهما ينظر إلى الحقيقة من زاوية تختلف عن زاوية الآخر.. إن من البلاهة إذاً أن نحاول اقناع غيرنا على رأي من الآراء بنفس البراهين التي نقنع بها أنفسنا. يجدر بنا أن نغير وجهة إطاره الفكري أولاً وإذ ذاك نجده قد مال إلى الإصغاء إلى براهيننا بشكل يدعو إلى العجب الشديد. صـ 13

▬ وإني أود أن أصارح القارىء بأني كنتُ في أيام شبابي ضحية من ضحايا هذا المبدأ السخيف، مبدأ "من جد وجد". فقد كنت أضيع معظم أوقاتي بالكدح والحرص والمثابرة ووضع الخطط ثم محاولة تنفيذها بدقة. وقد وجدت نفسي أخيراً أضعف في معركة الحياة وأقل نجاحاً من أولئك المسترسلين الذين كانوا يسيرون على طبيعتهم من غير تكلف أو حرص أو جهد كبير [..] مما لا ريب فيه أنه ليس هناك حظ بالمعنى الذي يفهمه الناس عادة من هذه الكلمة. إن هناك بالأحرى قوى لا شعورية تنبثق من أغوار النفس ويكون لها أثر لا يُستهان به في نجاح الفرد أو نبوغه أو تفوقه. والفرق الذي نراه أحياناً بين فرد وآخر في مبلغ النجاح رغم تشابههما في السعي والذكاء ناتج في الأغلب من كون أحدهما يسمح لقواه اللاشعورية بالإنبثاق ويستفيد منها في حياته العملية، بينما يكدح الأآخر طول وقته ويجهد نفسه فيكبح بذلك تلك القوى ولا يُصغي لحوادسها وحوافزها، ولذا تراه قد ابتعد رغم أنفه عن طريق النجاح [...] ونحن لا نحاول بهذا أن نستصغر أهمية الإرادة والجهد والسعي أو ننكر أثرها في نجاح الفرد. ولكننا نريد أن نعين لهذه الأمور حدها الذي تقف عنده ونوضح مجالها الذي ينبغي أن لا تتعداه. فهناك أوقات يحتاج فيها الفرد إلى السعي والجهد. وهناك أوقات أخرى تقتضي من الفرد الانسياب والاسترسال واللامبالاة وقلة الحرص. والسعيد هو من استطاع أن يفرّق بين هذه الأوقات وتلك ثم يسلك في كل حين حسبما يقتضيه المقام. صـ 14 ، 15

▬ إن الإطار الفكري الذي ينظر الإنسان من خلاله إلى الكون مؤلف جزؤه الأكبر من المصطلحات والمألوفات والمفترضات التي يوحي بها المجتمع إليه ويغرزها في أعماق عقله الباطن. والإنسان إذن متأثر بها من حيث لا يشعر. فهو حين ينظر إلى ما حوله لا يدرك أن نظرته مقيده ومحدودة. وكل يقينه أنه حر في تفكيره. وهنا يكمن الخطر، فهو لا يكاد يرى أحداً يخالفه في رأيه حت يثور غاضباً ويتحفز للاعتداء عليه. وهو عندما يعتدي على المخالف له بالرأي لا يعد ذلك شيئاً ولا ظلما إذ هو يعتقد بأن يجهاد في سبيل الحقيقة ويكافح ضد الباطل. صــ 47

▬ لقد دل التاريخ على أن كل دين، مهما كان نوعه، لا يكاد ينتشر حتى ينشق على نفسه؛ أي أنه لا يكاد ينتصر وينجح حتى تظهر فيه الفرق المتطاحنة والشيع المتنابذة. وكل فرقة تدعي أنها هي الأحق والأعدل وأنها وحدها الناجية من دون الفرق الأخرى. والعجيب أن نرى المؤرخين يعزون سبب التفرق في دين من الأديان إلى فلان أو فلان من شخصيات التاريخ ثم يأخذون بذمه وصب اللعنات عليه على اعتبار أنه قد فرق الأمة وشق عصا الجماعة. الواقع أن التفرقة طبيعة لازبة من طبائع العقل البشري. والتفرقة لا تبدأ عادة إلا بعد النصر لأن نزاع المصالح يأخذ عند ذلك بالظهور.. فالجماعة تكون في فترة الكفاح الأولى متكتلة لا اختلاف فيها لأن مصلحة الفرد ومصلحة المجموع تكون آنذاك واحدة. أما فإن يبدأ النصر وتنهال الغنائم، وحين يترف بضعة أفراد على  حساب الآخرين، فنجد غول التفرقة قد أخذ يكشر عن أنيابه. صـ 55

▬ منطق أرسطو يريد أن يأخذ  عن الأمور صورة ثابتة مطلقة ويعتبرها نهائية. هذا بينما الحياة في حركة متواصلة والفوتوغراف لا يمثل من حقيقتها إلا لحظة عابرة. فالمنطاقة القدماء قد يحكمون على شيء أنه خير أو أنه شر ويظلون يتدرجون في أقيستهم المنطقية بعدئذٍ استناداً على حكمهم الأول هذا - غير دارين بأن الشيء ربما تغير في طبيعته بعد صدور الحكم عليه، وهو ربما أصبحَ خيراً بعدما كان شراً أو شراً بعدما كان خيراً. إنهم يعتبرون الشيء جاهزاً قد انتهى أمره ولذا يعدون حكمهم عليه نهائياً لا يجوز فيه التبديل. والويل للشعب الذي يحكمه أصحاب هذا المنطق، فالشعب في دأب متواصل وكفاح في سبيل العيش، بينما هم قابعون في أبراجهم العالية يشرفون على الشعب من علٍ ويفرضون عليه أحكامهم الثابتة النهائية. صـ 81

▬ يُقال إن بعض الخطباء  البارعين كانوا إذا وقفوا للخطابة ينسون أنفسهم، ويأخذ العرق بالتصبب منهم حتى في برد الشتاء. وقد سُئل أحد هؤلاء الخطباء مرة عن سر براعته الخطابية، فأجاب: إنه حين يرقى منصة الخطابة لا يدري ماذا سيقول. فهو يصبح في تلك الساعة شبيها بآلة المذياع التي تتلقى أمواج محطة من محطات الإذاعة. إنه آنذاك يدخل في شبه ذهول أو غيبوبة ولعله بهذه الطريقة يجعل ذهنه صافياً مستعداً لتلقي الأمواج النفسية من الحاضرين ويستجيب لها على بديهته التي لا يعتريها التكلف والتصنع.. إن الخطابة الارتجالية أو المحاضرة أو المناظرة أو ما أشبه تحتاج إلى استلهام اللاشعور أكثر مما تحتاج إلى أي شيء آخر.. صــ 101

▬ إن الذين يحرضون أبناءهم على تقليد الغير هم في الحقيقة بدو قد ارتدوا رداء المتمدنين. فالمجتمع البدوي لا يقوم على تنوع الاختصاص إلا قليلاً إذ هو مجتمع غزو وسلب ونهب. والحياة البدوية منصبة في معظمها على تمجيد الشجاعة والكرامة. فالبدوي ينهب الناس من جهة ليبذل ما سلب على ضيوفه من جهة أخرى. ولهذا أصبح من الضروري على الوالد البدوي أن يحرض ولده على تقليد غيره. فثمة اختصاص واحد ينبغي على أفراد القبيلة جميعاً أن يحذقوه. ومن يفشل فيه فقد حق له أن يبتئس وآن له أن يفنى في ذلك المعترك الصحراوي العنيف. يمكن اعتبار الصحراء بمثابة الغربال، إذ لا يبقى فيه إلا من كان قوياً جلداً يأكل ولا يؤكل. وهي كذلك مصنع ينتج نوعاً واحداً من البشر - هم الأبطال الكرام. فالطفل البدوي إذن مضطر أن يكون بطلاً كريماً أو يموت، حيث يأكله غيره من الأبطال الكرام. صـ 123

▬ إن الإبداع الفكري يحتاج، كما لا يَخفى، إلى أن يمر في مرحلتين هما مرحلة الخزن ومرحلة الاجترار. وبعبارة أخرى أن كل مبدع أو مفكر يحتاج في أول الأمر إلى عمل دائب حيث يجمع به المعلومات اللازمة فيخزنها في عقله الباطن لتختمر فيه وتنضج. وهذه هي ما نسميها بمرحلة الخزن. فإن اجتاز المفكر هذه المرحلة، لجأ إلى المرحلة الثانية وهي مرحلة الاجترار حيث تراه قد جلس بعيداً، كالبقرة التي تجتر ما خزنت في كرشها من طعام غير مهضوم، وأخذ يسبح سادراً في خيالات تشبه أحلام اليقظة. إنه يترك عقله الباطن آنذاك هائماً في خيالاته كما يشاء. وحينئذ تنبعث لديه معظم أفكار الإبداع والابتكار والاختراع.. ومثل هذا يُقال عن أي شخص ماهر في مختلف الفنون والحرف والصناعات. فالماهر تراه دؤوباً كادحاً حين يتمرن على فنه ويتعلم مبادئه ولكنه عند الإنتاج ينسى نفسه وينغمر في عمله ويصبح آنذاك كالحالم الذي لا وعي له ولا إرادة. صـ 137

▬ يحاول دعاة الحقيقة في كل حين أن يكاحفوا الأوهام بين الناس، وما دروا أن الوهم ربما كان أنفع من الحقيقة أحياناً. فلو أن الإنسان عاش على الحقيقة وحدها لفني منذ زمانٍ بعيد.. لقد جهزتنا المدنية الحديثة بكثير من الأدوية الناجعة والوسائل المفيدة فأصبحنا نستطيع أن نستعيض بها عن اعتناق الأوهام  والخرافات ولكن ماذا يصنع ذلك الفطري العائش في غابات أفريقيا، أو هذا الريفي الساكن في قرية نائية منعزلة. إنه أمام الأمراض والمخاطر وجهاً لوجه، وهو لا يملك تجاهها أية وسيلة مادية قادرة على وقايته منها. إن من الضرر إذن أن نطلب من هذا الفطري أن يترك أوهامه وخرافاته ويصير واقعياً في تفكيره.. إن الأوهام لها وظيفتها في كثير من الحضارات والمجتمعات، فهي كالدواء في البيئة التي لا دواء فيها، وكالحجر  الصحي بين أولئك الذين لم يعرفوا بعد حقيقة الأمراض ومصدرها الميكروبي. صـ 198


▬ لو درسنا شخصية كل من الناجحين العظام لوجدناها غريبة الأطوار. فهي لا تأخذ قالباً معيناً فتظل فيه زماً طويلاً. كل يوم هي في شأن. وهنا يظهر امتياز الناجح العظيم عن الرجل العادي. فالرجل العادي له شخصية متحجرة لا تتغير ولا تتبدل إلا نادراً. فأنت تستطيع أن تعرفه بسيماه في كل حين. أما الرجل العظيم فتراه جياشاً لا يقر له قرار، فتارة تجده بارداً غير مكترث وتارة تجده جباراً وثاباً يضرب الضربة فلا يثنيها. وهو حكيم أحياناً خرافي أحياناً أخرى، عاقل مرة مجنون مرة. مؤمن في بعض أوقاته، مشكك في أوقاته الباقية.. إن شخصية العظيم في الواقع شاذة. ومن المخجل أن نرى العاديين من الناس يريدون تقليد العظيم ويحاولون أن يكونوا مثله، وشتان ما بين الثرى والثريا. إن العظمة مزيج غريب بين مواهب الشعور واللاشعور. فالعظيم يسعى ويكد، ويدقق ويحقق، حتى إذا دنت ساعة الحسم يضرب ضربته القاصمة التي لا تخضع لتدقيق ولا تحقيق. صــ 206

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

الفلسفة المسيحية (زينب الخضيري، كرم عباس)

• إن الحكمة الإنسانية في هذه الحياة الدنيا هي المجهود الذي يبذله الإنسان لمعرفة الله ولحبه مما يحقق له السعادة، وهي في الحياة الأخرى التأمل الهادىء لله الذي يحقق الغبطة (القديس أوغسطين)
• كما أنه لا يمكن لأحد أن يوجد ذاته بذاته، فكذلك لا أحد يمكنه أن يكون حكيماً بذاته، بل هو يكون كذلك بفضل النور الذي قيل عنه "كل حكمة تأتي من الله". (أوغسطين)
• تختص الحكمة بإدراك الأشياء الخالدة، بينما موضوع العلم هو ما تجعلنا الحواس نحس به، فبينما يختص العلم بمعرفة الأشياء الدنيوية (الزمانية) معرفة عقلانية، تختص الحكمة بمعرفة الأشياء الأزلية معرفة عقلية. (أوغسطين).
• العلم الحقيقي الذي يضع نفسه في خدمة العقيدة "هو معرفة كيف ننقل نفس مضمون الإيمان للنفوس التقية وكيف ندافع عنه ضد النفوس الملحدة.. إن هذا الجنب.. هو الذي ينبغي أن نخصه وحده بكلمة علم كما فعل القديس بولس. (أوغسطين)
• أؤمن لكي أتعقل، ولا أتعقل لكي أؤمن. (القديس آنسلم)
• إن أول مفاتيح الحكمة هو المثابرة على الأسئلة وتكرارها.. لأن الشك يؤدى بنا إلى البحث، والبحث يوصلنا إلى النتيجة. (بيتر أبيلارد)
• إن النظريات اللاهوتية لا تشترك مع النظريات الفلسفية في أي مبدأ من المباديء، فاللاهوت قائم بالفعل على الوحي، وعلى الإلهام لا على العقل. لا يمكننا إذن في الفلسفة أن نناقش المسائل اللاهوتية. (ألبرت الكبير)

==================================
▬ [..] وفي بعض النصوص يكاد أوغسطين يدعو المسيحيين الراغبين في معرفة الحكمة الحقيقية إلى الاعتراض عن العلم الدنيوي لأنه ليس علماً حقيقياً، يقول في الموجز "عندما نتساءل ما الذي يجب أن نؤمن به في مجال العقيدة فإن الأمر لا يتطلب التنقيب في الطبيعة على طريقة من يطلق عليهم اليونان اسم الطبيعيين. لا مجال إذن للخوف ألا يعرف المسيحي بعضاً مما يتعلق بخصائص العناصر وعددها، وبالحركة، وبنظام الكواكب.. وآلاف التفاصيل الأخرى الخاصة بالاكتشافات التي قاموا بها أو التي يتصورون أنهم قاموا بها، لأنهم هم أنفسهم (أي الطبيعيون) لم يكتشوا كل شيء بالرغم من امتياز عبقريتهم. لقد استخدموا لمعرفة بعض الأمور كل الحكمة الإنسانية واستخدموا لمعرفة البعض الآخر التجربة التاريخية، ولكن حتى فيما يفتخرون أنهم عرفوه فإن نصيب الرأي عندهم أكبر من نصيب العلم الحقيقي. صـ 12

▬ علاقة إرادة الله بإرادة الإنسان من أهم قضايا لاهوت التاريخ بشكل عام ومن أهم القضايا الأوغسطينية بشكل خاص. وقد لاحظ أوغسطين أن البشر يميزون بين الخير والشر ولكنهم لا يفعلون الخير دائماً، فأغلبهم يرغب في ذلك ولكنه لا ينجح. وعدد قليل فحسب هو الذي يفعل الخير. وفسر ذلك بأن الأهواء هي التي تعوق تحقيق الإنسان لإرادته وهي التي تكبل حريته. واستنتج أوغطسين من هذه الملاحظة النفسية أن الأهواء لابد وأنها هي التي تحكمت في آدم فارتكب الخطيئة الأولى. والله وحده هو الذي في إمكانه أن يساند الإنسان فيخلصه من هذه الأهواء ويجعله يختار الخير. وهذه المساندة هي ما يسميه الكتاب المقدس باللطف الإلهي. والله يخبرنا بوضوح أنه اختار من ينعم عليهم بلطفه وبالخلاص، وترك الآخرين ليضلوا فيكونوا ملعونين. وهو يعترف أن هذه الأفكار الصادمة لنا مما لا يمكن تعقله وكل ما نستطيع حياله هو الإيمان بها. إن مشكلتي الخطيئة الأصلية واللطف الإلهي من المشاكل التي لا تحتمل التأويل لأن ما ورد بصددها في الكتاب المقدس واضح تماماً. صـ 24 ، 25

▬ لقد ذهب أوغسطين كما سبق أن بينّا إلى أن البشرية انقسمت منذ آدم بالقوة وبدءاً من قابيل وشيث بالفعل إلى نوعين من البشر. نوع يحب الله ويضحي من أجهل بكشل شيء، وهو يكون مدينة الله، ونوع يحب الذات والدنيا ومتاعها، ويضحي من أجلها بكل شيء حتى بالله، وهو يكون مدينة الأرض، ولقد جعل أوغسطين شيئاً رمزياً لمدينة الله بدلاً من هابيل مع أنه الأحق بهذا الشرف، وذلك حتى يضفي معقولية على تأويل التاريخ. فكيف يمكن الإدعاء أن هابيل كان هو رأس مدينة الله وهو الذي قتل من قبل أن ينجب أي لم تكن له ذرية؟ وكان الحل هو جعل شيثاًً الذي أنجبه آدم بعد مقتل هابيل هو رمز هذه المدينة إذ كانت له ذرية يقول "إن سلسلتي الأجيال التي تبدأ الأولى من شيث والأخرى من قابيل تمثلاً بنظاميهما المنفصلين المدينتين المعنيتين هنا، المدينة السماوية الغريبة على هذه الأرض، والمدينة الأرضية التي لا رغبة لها ولا يذوق إلا لمباهج الحياة. والمدينتان متزامنتان في هذه الحياة الدنيا تعايشان زمناً واحداً. هو ما يسميه بالعصر الرديء قاصداً بالطبع عصر ما بعد الخطيئة. يقول" إن كل المساحة الزمانية التي يطلق عليها اسم العصر المليء بوفيات الموتى وميلاد الذين يلونهم تكون مسار هاتين المدينتين". وهما مختلطان بشدة كما سبق أن قلنا عند حديثنا عن استحالة التمييز بينهما في هذه الحياة الدنيا... صــ 46 ، 47

▬ ينطلق القديس أنسلم في بحثه للعلاقة بين العقل والإيمان من المبدأ الأوغسطيني الشهير "أؤمن لكي أتعقل"، فالعقل لاحق عنده على الإيمان، والفهم نتيجة للاعتقاد وليس سبباً له. يقول أنسلم في كتابه العظة: "أعترف يا رب، وأحمدك، أنك خلقت صورتك في نفسي، أتذكرها، وأفكر فيها، وأحبها. ولكن هذه الصورة قد تأثرت واضطربت بسبب أخطائي. باتت غامضة بدخان خطاياي، وأصبحت غير قادرة على أن تفعل ما خُلقت لأجله. وستظل كذلك ما لم تجددها وتصلحها. أيها الرب، أنا لا أحاول أن أصل إلى علوك، لأني لا أستطيع أن أعد عقلي لذلك، ولكني أرغب ببعض الفهم لحقيقتك، تلك الحقيقة التي أعتقد قلبي فيها، وأحبها. وذلك لأني أسعى إلى التعقل كي أؤمن به، ولكن أؤمن لكي أفهم. وفي هذا أؤمن أيضاً بأني "مالم أؤمن فإنني لن أفهم". صــ 68

▬ لقد كان توما الأكويني أكثر إداركاً للمشكلة من أنسلم، وعرف أنه حتى يستطيع الدفاع عن المسيحية، وحتى يستطيع أن يؤسس اللاهوت المسيحي على أسس عقلانية، كان عليه أن يميز بين مجال الإيمان ومجال العقل، بل على العكس، فتلك الحقائق الإيمانية تتجاوز القدرات الطبيعية للعقل البشري بحيث يستحيل على هذا العقل تأسيسها في حدود العقل. ومن هنا انطلق رأي توما الأكويني بأن الفلسفة يمكن أن تكون "خادمة للاهوت". أما أنسلم قد آمن بأن كل ما في العقيدة يمكن البرهنة عليه من خلال العقل، وقال أنه حتى "التثليث" يمكن فهمه بلغة عقلانية. صـ  69

▬ البرهان الأنطولوجي للقديس أنسلم على وجود الله، والتي أيدها البعض وعارضها البعض: لو الوجود الأعظم موجوداً في الذهن فقط، لما استحق كونه وجوداً أعظم، بل لابد أن يكون موجود في الواقع، ولذلك يقول أنسلم "عندما يفكر الرسام مسبقاً فيما سوف يقوم برسمه، فإنه يكون موجود في ذهنه. ولكنه لا يعتقد بأن ما لم يرسمه بعد موجود بالفعل. ولكن عندما يقوم برسم اللوحة، فإن ما رسمه يوجد في عقله، ويفهم أن ما أنتجه موجود الآن. ولذلك، فإن حتى الأحمق، يجب أن يكون مقتنعاً أن الوجود الذي لا يمكن تصور وجود أعظم منه، يمكن الاعتقاد بوجوده على الأقل في ذهنه، لأنه حينما يسمع هذا فإنه سوف يفهمه، وأي شيء يتم فهمه يكون موجوداً في الذهن. ولكن من الواضح أن الوجود الأعظم الذي لا يمكن التفكير في وجود أعظم منه لا يمكن أن يوجد في العقل وحده، لأنه كما هو موجود في العقل بالفعل، يمكن الاعتقاد أنه موجود في الواقع أيضاً، فهذا أعظم".  وإذا قلنا عن كائن إنه موجود في الخارج إلى جانب وجوده في الذهن، فإن هذا القول يضيف إلى الكائن صفة كمال أكبر. فإذا نظرنا إلى الفكرة التي في ذهننا عن الكائن الذي لا يمكن أن يتصور أكبر منه، وجدنا أننا إذا قلنا إنه موجود في الذهن فحسب لكان هذا الكائن أقل كمالاً من كائن آخر موجود في الذهن وموجود في الخارج. ومعنى هذا وجود كائن أكمل من أكبر كائن يمكن أن يُتصور، وهذا خلف. إذن فالكائن الذي لا يمكن أن يُتصور أكمل منه لابد أن يوجد في الخارج أيضاً وهذه الفكرة التي لدينا عن أكبر كائن يمكن أن يُتصور هي حقيقة مطابقة لموجود حقيقي هو الله. وعن هذا الطريق نستطيع أن نقول إن الله موجود. صــ 78

▬ يشار إلى أبيلارد بوصفه صاحب النزعة العقلية الأعنف في تاريخ اللاهوت المسيحي، فقد وثق بالعقل ثقة مطلقة، ورأى أن كل عقائد المسيحية بلا استثناء يمكن فهمها في حدود العقل، أو وفقاً لسياق عصره، تعريضها للجدل، وقد أدى هذا الإخضاع للعقائد المسيحية للعقل، أن تتعرض العقائد المسيحية الثابتة - في عصره - إلى هزة عنيفة بسبب آرائه. وإن كان القديس توما الأكويني - صاحب اللاهوت الطبيعي والمذهب العقلي في المسيحية - قد استثنى بعض عقائد المسيحية من التبرير العقلي، فإن أبيلارد لم يستثنِ أية عقيدة أو حقيقة مسيحية إلا وعرضها للجدل، وخرج فيها برأي جديد. وهذا ما أدى إلى تعريضه لمساءلة مجمعين، والحكم في نهاية الأمر بالتزام الصمت من جانب الباب نفسه... ويعتمد أبيلاد في موقفه على العلاقة بين العقل والإيمان على مبدأ أن الحق لا يمكن أن يناقض الحق، وهو نفسه المبدأ الرشدي الذي وجد أعظم تعبير له بعد ذلك عند القديس توما الأكويني في القرن الثالث عشر. صــ 97

▬ كثيراً ما كان ينتهي ألبرت الكبير في فلسفته إلى نتائج تتعارض بشدة مع العقيدة وعندئذ كان يقول أن ما يقدمه في كتبه الفلسفية لا يعبر عن فلسفته الشخصية فما هو إلا مجرد عارض لآراء الفلاسفة، أما فلسفته فالبحث عنها يكون في كتبه اللاهوتية. رأينا ونحن بصدد معالجة مشكلة التوفيق عنده أن هذا الموقف يحير دارس فلسفته. ومن الموضوعات الهامة التي تعارضت مع أفكاره فيها مع ما جاء في العقيدة مسألة أصل المخلوقات أو أصل العالم. فبينما تؤكد العقيدة المسيحية أن المخلوقات بتعددها قد خُلقت دفعة واحدة ومباشرة بواسطة خلق الله، فإن ما يسميه ألبرت بالفلسفة المشائية (وهي الأرسطية المتأثرة بالأفلاطونية المحدثة) ترى أن الكثرة توجد في الكون بواسطة معلول أول هو العقل الأول. تمسك آلبرت كمسيحي بما جاء في العقيدة وعرض من ناحية أخرى فلسفة المشائين مدعياً أنه مجرد عارض لها ولا يعني هذا أنه يؤمن بها. صــ 125

▬ يمكننا الوقوف على نظرية توماس الأكويني فيما يتعلق بالعلاقة بين الفلسفة والدين لابد من الوقوف في رأيه بالنسبة لمصادر المعرفة أو الحقيقة عند كل من الفيلسوف واللاهوتي المتفلسف. إن مصدر الحقيقة الوحيد عند الفيلسوف هو العقل. أما اللاهوتي فلديه مصدران للحقيقة، العقل، والإيمان بالحقيقة الموحية من قبل الله والتي تعد الكنيسة هي مفسرتها. إن الفلسفة هي البحث عن الحقيقة بواسطة العقل، أما اللاهوت فيعتمد على معطيات مستقلة عن العقل، أي على معطيات لا يمكن للعقل تعقلها إذا ما عرفها كما لا يمكن البرهنة عليها، وهذا مما يحول تماما دون امتزاجها. فبينما تستنبط الفلسفة براهينها من مهايا الأشياء وبالتالي من علل الأشياء ذاتها، يعتمد اللاهوت على العكس دائماً في براهينه على العلة الأولى لكل الأشياء، أي على الله.. ميز توماس إذن بين مجالي الفلسفة والدين (أو علم اللاهوت) وبالرغم من هذا رأى أن هناك مجالاً مشتركاً بينهما ألا وهو اللاهوت الطبيعي أو ما نسميه نحن بمبحث الإلوهية الميتافيزيقي، وإن اختلفا في المنهج. إن الفلسفة تبدأ من عالم الخبرة لترتفع بالعقل حتى تصل إلى معرفة الله، وما تتوصل إليه من المعرفة بالله هو القدر الذي يمكن أن يعرف به الله من قبل المخلوقات. أما علم اللاهوت المقدس فيبدأ من الله كما كشف هو عن نفسه. والمنهج الطبيعي للاهوت هو البدء بمعرفة الله، من حيث هو في حد ذاته، ليمكن معرفة المخلوقات بعد ذلك، بدلاً من الصعود من معرفة المخلوقات إلى معرفة الله كما تفعل الفلسفة (الميتافيزيقا). صــ 143 ، 144

▬ ذهب القديس توماس إلى أنه لا يمكن البرهنة على قدم العالم، فهل خطى خطوة للأمام وحاول البرهنة على حدوث العالم وهو الموقف الذي يتخذه عموماً الأوغسطينيون؟ لا، بل رأى القديس توماس أن هذا الموقف غير مقبول منطقياً! إن خلق العالم في الزمان لا يمكن استنتاجه بالضرورة لا من النظر في العالم ذاته، ولا من النظر في إرادة الله، إلا أنه يمكننا الاعتقاد، حتى إذا لم نستطع البرهنة على ذلك، أن العالم قد بدأ لأن العقيدة تقول لنا ذلك، لقد وقف إذن القديس توماس موقفاً وسطاً بين الرشديين الذين يؤكدون قدم العالم، وبين الأوغسطينيين الذين يؤكدون حدوثه بأن قال بإمكانية بدء العالم في الزمان وبإمكانية قدمه أيضاً.. فلسفياً بالطبع، ويمكننا تلخيص موقف القديس توماس كالآتي: إن الفلسفة إذا كانت عاجزة عن البرهنة على ما تؤكده العقيدة أي عن إثبات أن له بداية فإنها تستطيع مع ذلك أن تهدم البراهين التي قدمها بعض الفلاسفة على قدم العالم. صــ 156

▬ يطلق القديس توماس الأكويني على علاقة الله بمخلوقاته اسم المشاركة ولا تفترض هذه الفكرة أي معنى من معاني وحدة الوجود بل هي على العكس تستبعد ذلك تماماً. فالمشاركة تعني الخير الذي يربط الخالق بالخليقة كما تعني في نفس الوقت الفارق بينهما والذي حال دون اندماجهما. وقد توحي المشاركة لأول وهلة بأن الخليقة تشارك الله في الوجود، إلا أن هذا ليس صحيحاً، لأنها في الحقيقة تعني استمداد الخليقة لوجودها من الخالق، مما يدل على أن الخليقة ليست هي الخالق، بل هي أقل مرتبة منه. إن العالم يوجد دون أن يحدث أي تغيير في الماهية الإلهية، وهو لم يصدر عن الله بحكم الضرورة الطبيعية بل يصدر عنه نتيجة لإرادته وتعقله .. إن الله يعلم كل آثاره الخارجية أو كل مخلوقاته قبل أن يخلقها وفق إرادته. وعلاقة المشاركة هي علاقة المخلوقات بالله وليست علاقة الله بمخلوقاته لأن ذلك مستحيل حقيقة وإن كان ممكناً "اعتبارياً" كما يقول القديس الأكويني. صــ 166

▬ كان المذهب الأرسطي في رأي سيجر دي برابانت هو المذهب الفلسفي الذي يقدم الحقيقة العقلية المطلقة، ولذا يمكننا القول أن سيجر كان الوحيد من بين كل مؤلفي القرن الثالث عشر الذي قدم لنا فكر أرسطو الحقيقي بدون خلط، وبدون تشويه، وبدون حذف. كانت الأرسطية في كتابات ألبرت الكبير وبالذات في كتابات توماس مصطبغة بصبغة أفلاطونية محدثة. وقدر جردها هذان اللاهوتيان من العديد من قضاياها الأساسية، مما جعلها تبدو وكأنه في الإمكان التوفيق بينها وبين تعاليم الكنيسة الكاثوليكية. أما سيجر وأمثاله الذين انتموا لمدرسة ابن رشد فقد رجعوا للأرسطة الخالصة.. ونعتقد أن سيجر كان يؤمن بضرورة الفصل التام بين الفلسفة والدين وقد أخذ هذا الموقف بلا شك عن ابن رشد، وكان هدفه الحقيقي معالجة الموضوعات الفلسفية بعيداً عن أي تأثير ديني. صــ 178


▬ يختلف سيجر في موقفه من العلاقة بين الفلسفة والدين عن ابن رشد. إن سيجر لم يلجأ للتوفيق بين الفلسفة والدين على أساس أنهما تعبيران مختلفان عن حقيقة واحدة. بل فعل ذلك وهو يؤمن بأن التعارض بينهما إذا وُجد فهو تعارض حقيقي. وأن الحقيقة الوحيدة في هذه الحالة هي الفلسفة، إلا أنه كان لابد من التوفيق بين المجالين حتي لا يصيبه بطش رجال اللاهوت. لقد آمن كل من سيجر وابن رشد بأرسطو إيماناً مطلقاً، ولكن بينما استطاع ابن رشد أن يخلص فكر المعلم الأول من براثن علماء الكلام، وأن يفرض فكره بفضل التوفيق المعتمد على التأويل، اختار سيجر موقفاً سلبياً تماماً وهو التراجع الظاهري عن  فكر المعلم كلما دعت الحاجة لذلك... صــ 182

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

فلسفة السياسة (مصطفى النشار، أيمن احمد)


نقد رسل المذاهب السياسية المختلفة وخاصة الماركسية التي أهملت الفرد رغم أن أحداث التاريخ الكبرى قامت على أكتاف الأفراد، والفرد الذي يشعر بالظلم في النظام الاشتراكي يصعب أن يشتكي طالما أن خصمه ممثلاً في الدولة رغم ذلك تكم غاية الدولة في حماية الأفراد ومنحهم أكبر قدر من الحرية، ومع ذلك تظل الدولة قوة رهيبة تهدد الفرد، لا مناص من انضمام الفرد بإرادته إلى هيئات مختلفة تقوم بتحقيق مصالحه وتقتصر وظيفة الحكومة على القيام بدور الوسيط المنظم بين هذه الهيئات المختلفة والتي قد تتمثل في النقابات ويرى هذا النظام متحققاً في انجلترا. وبالرغم من دفاع رسل عن الديمقراطية إلا أنه ينقد سلبياتها، فقد تشعر الديمقراطية الفرد بقدر فعال من القوة السياسية لو كان المجتمع صغيراً، أما إذا كبر المجتمع فقد الفرد هذا الشعور، وفقد النظام الديمقراطي أهميته، وكأن الفرد هو الميعار لنقد النظم السياسية. صــ 187


جاري البحث عن بقية الفقرات...

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

الإنسان يعصي.. لهذا يصنع الحضارات (عبد الله القصيمي)


• إننا جميعاً ننكر على الآخرين أخطاءهم أو كثيرا من مواقفهم وشهواتهم، ولكننا إذا كنا في مثل ظروفهم فعلنا جميع الأشياء التي ننكرها عليهم بنفس الشهوات والنيات والتفاسير والمنطق، بل وبنفس الإعلان والجرأة والافتضاح.
• إن الفرق بين النبي وأعدائه كالفرق بين ذاته وذواتهم أو صحته وصحتهم أو مولده ومولدهم أو تاريخه وتاريخهم. إنه كالفرق بين الصخرة والصخرة أو بين النبتة والنبتة. إنه فرق وجود وكينونة لا فرق حب وتقوى أو ذكاء أو طهارة أو شموخ.
• إننا قد نقول الحقيقة جداً لأننا نرفضها جداً. إننا قد نقول الحقيقة والصدق بكل الإعلان والجسارة لأننا نرفضهما ونخرج عليهما بكل الإعلان والجسارة.
• كيف يمكن أن يكون الإله محتاجاً إلى أية لغة؟ إن احتياجه إلى أية لغة وإلى ممارسة أية لغة هجاء أليم له. إن معرفة اللغات والتكلم بها والاستمتاع إليها وقراءتها لسيت أخلاق أو مستويات إله.
• إن ذاتي جهاز هائل لصناعة الأسئلة ولصياغتها ولإغرائها بالتجمع فيها ولدعوتها إليها وللترحيب بها وللبحث عنها ولإطلاقها على كل الاتجاهات والأشياء، وبكل الأساليب وعلى جميع المستويات..
• إنك لن تتساءل دون أن تُحدّق أو ترفض أو تنكر أو تتناقض أو تشمئز أو تبغض أو تعجز عن الفهم أو التسويغ أو الاحتمال أو التقبل، أو دون أن تخاف أو تشك أو تغضب. وهل يمكن أن تكون كل هذا أو بعضه دون أن تكون ممارسا لكل أساليب العدوان أو لبعض أساليبه؟
• إن الاقتناع بالأجوبة المصنوعة أسلوب تاريخي عالمي من أساليب البحث عن السلامة والأمن.
• إنّي لستُ نسبياً ولا معلماً يسكتان كل التساؤلات بسطوة الآلهة والمذاهب، ولكنني إنسان يحول كل شيء إلى تساؤلات تتصاغر أمام أصغرها أشرس الآلهة والمذاهب. إنني لستُ نبياً ولا معلماً يسكتان كل تساؤل بسطوة الآلهة والمذاهب وبسطوة السلاح..
• إنني لا أضع التفاسير، ولكنني أبطل ما وضع منها. إنني لا أشيد الهياكل ولكنني أهدم ما شيد منها..
• إنني لا أشكر من أوجدني، لأنه لم يوجدني لأنه يحبني، أو لأنه يختار لي، أو لأنه يستجيب لما أريد. ولكنه أوجدني لأنه يتعزى ويتداوي من آلامه وفراغه بإيجادي.
• إن الأذكياء والأغبياء يتساوون أو يشتركون في تصديق الأكاذيب، بل قد يتفوق الأذكياء في هذا التصديق، لأن سلوكهم الذهني يكون أكثر وأقوى حماسا واستقبالاً وتلمساً، وأكثر حركة، وأقدر على الحركة..
• إن أي نبي أو معلم لو عاد اليوم لكان مستحيلاً أن يكون صيغة كاملة لوجوده القديم. إنه لن يريد ذلك ولن يستطيعه.
• إن الأغبياء والكاذبين والتافهين ليكتبون التاريخ كما يكتبه العباقرة والقديسون والعظماء، أو أكثر وأشمل واقسى.
• إن الأمان والاستقرار الدائمين لهما أقسى عذاب تعاقب به الحياة نفسها وتعاقب به الإنسان.
• إن أعلى المعلمين أو الزعماء صوتاً ووعظاً ضد الشهوانية ليس أقل شهوانية أو إحساساً بها من أشرس الذئاب جوعاً وافتراساً.
• إن اختلاف الحشرات في سلوكها لا يعني اختلافها في نياتها. وكذلك اختلاف الناس في سلوكهم.
• إن صورة إلهك هي أنت في أضخم وأجمل صورة تتمناها لذاتك.
• إن أهلَ كل مذهب أو نظام أو دين أو معسكر يرديون أن يكونوا هم الثيران والتيوس وأن يكون كل ما سواهم هم البقر والمعيز، بل إنهم ليعتقدوا أن الأمر كذلك.
• إن وجود الإله الذي يتقبل الصلوات والدعوات والمطالبات ويستجيب لها لعقدة لا مثيل لها في سخفها. إن ذلك هو الجنون.
• كيف تقبل أن يكون في بيتك أو في معبدك أو في تصورك إله يستجيب لك ولا يستجيب لأعدائك بقدر ما يستجيب لك؟
• هل يوجد شيء غير الجنون ليكون العقل خادماً له، تابعاً له، حارساً له؟ هل يوجد شيء غير الجنون ليهبه العقل صداقته وولاءه وإخلاصه المميت المهين؟ هل يوجد شيء غير الجنون يستطيع العقل أن يهبه نفسه وأن ينفق عليه موهبته ويصرف إليه حماسه واهتماماته؟
• أيها الإنسان، أيها الإله، إنّا نريدك مهذباً ورحيماً وتقياً، لهذا نريدك خارجاً على أقوالك وتعاليمك، نريدك عاصياً لحوافزك ونياتك وأهدافك.
• إننا لو نتصور أن أية عيون في كل تاريخ الكون وفي كل تاريخ العيود قد تفجر فيها من الذنوب والقبائح وأهوال الجحيم مثلما يتفجر في عيني ذلك الكائن الفلكي الذي هبط أو سقط - بالافتراض- إلى هذه الأرض ليكون محكوماً عليه بمواجهة الإنسان. إن مواجهة الإنسان لا تطاق أهوالها لولا التعود عليها.
• ما أصغر الإنسان في المعبد، ما أقصره وما أجهله وما أتفهه وما أهونه أمام آلهته، يبكي ويدعو ويركع..
• إن فرض التلاؤم يحمي أبشع وأكبر الغباوات والتفاهات والفضائح والطغيان والهوان الوذنوب والدمامات والمظالم والحقارات والآلام والعفونات من أن تكون مرفوضة أو مقاومة أو منقودة أو محتجاً عليها أو مشمأزاً منها، بل يحميها من أن تكون مرئية أو مسؤولة أو صانعة للتساؤل.
• إننا بتلاؤمنا لا نكون موتى فقط، بل نكون أكثر موتاً وأبشع موتاً من الموتى. إن الموتى يصبحون عاجزين عن المقاومة وعن جميع أساليب الرفض. أما المتلائمون فإن عجزهم عن الرفض وعن المقاومة هو بعض ما يكونون أو أصغر ما يكونون.
• أيها الإنسان .. أنت قاتل، قاتل لنفسك لنفسك، ولكل أفرادك، ولكل من يعايشونك أو يمارسونك بالرؤية والمواجهة والتفكير. أنت لا تكون إلا قاتلاً، لا تكون إلا قاتلاً مقتولاً. أنت قاتل لأنك فارض للتلاؤم، ومقتول لأنك مفروض عليك التلاؤم. أنت أبداً قاتل مقتول.
• إن خروجك في سلوكك على المجتمع شيء لا تستطيعه، ولعلك أحياناً لا تستطيع إرادته. وإن خروجك في فكرتك أو في مذهبك أو في اعتقادك على سلوكك شيء يشقيك ويؤنبك، وقد يهجوك ويحولك إلى متهم.
• إنك لا تعتقد ما يعتقده الناس من أديان أو مذاهب أو تعاليم أو أخلاق لأنك مقتنع به أو فاهم له أو حتى مفكر فيه أو متصور أو محترم له، بل لأنك محكوم عليك بالتلاؤم معهم في سلوكهم وحماقاتهم وفي مبادتهم لأوثانهم.
• لقد كان الإيمان من الداخل يهبك الراحة والرضا عن النفس أكثر مما يهبك ذلك النفاق.
• إن توحد مذهب المجتمع أو توحد دينه أو الهه أو زعامته أو تعاليمه وتقاليده لا يؤكد حقيقة فكرية، بل يؤكد سلوكاً جماعياً محتوماً أو مفروضاً.
• إن ضرورة التوافق أو التوحد من الآخرين أو مع المجتمع هي أقوى وأشمل وأخلد وأشهر الأعداء لحرية الإنسان.
• في كل التايخ كان التلقين أقوى وأذكى وسائل الإقناع. إنه أقوى وأذكى من كل منطق. إن البشر لم يجدوا أو يواجهوا منطقاً له العالمية التي لمنطق التلقين.
• إن قوة التلقين ليست إلا تعبيراً عن قوة الحاجة إلى التلاؤم والتوحد مع الجماعة في تفاهاتها.
• إن قيمة جماعية الغباء لا تساوي أكثر من قيمة جماعية السلوك المواقف. إن الغباء الذي تؤمن به الجماعة يتحول إلى قيمة لأنه يتحول إلى تفسير وتسويغ وتمجيد للسلوك الجماعي الغبي أو العدواني أو الفاضح أو التافه.
• إن الإنسان ليس كائناً يفكر ويقتنع ثم يقتنع بأنه قد اقتنع، ولكنه كائن يتلاءم. إن تلاؤم الإنسان واحتياجه إلى التلاؤهم هما الهزيمة الشاملة الدائمة العالمية لذكائه ولكبريائه ولتفكيره ولحريته ولشجاعته وقوته وموهبته.
• إن اللاهوتية ليست هي فقط لاهوتية الدين والسماء. إنها أيضاً لاهوتية المذاهب والقوميات والنظم والنظريات. ولا توجد فروق بين هذه اللاهوتيات في احتياجها إلى ممارسة الأكاذيب والنفاق والهوان والخداع والغوايات والتفاهات..
• إن الرأس الإنساني هو الكائن المحارب عالمياً وأبدياً مع الاختلاف المحتوم والتفاوت المحتوم في أساليب محاربته. ولكن هل يوجد من يحاربونه أو يعادونه كالطغاة والمعلمين، لأنه أي الرأس الإنساني لا يعادي ولا يحارب أي قوم مثلما يحارب ويعادي الطغاة والمعلمين؟
• إن السيف النبي أكثر عدواناً ووقاحة وأكبر ذنباً من لسيف اللص أو السيف القاتل أو السيف القاطع للطريق..
• إن السيف هو أفجر وأوقح وأقوى المفكرين والفلاسفة والأنبياء والمعلمين والقديسين والخطباء، وأقدرهم على الإقناع في كل التاريخ. إنه النبي الذي لا مثيل لمعجزاته في القدرة على الإقناع.
• إن هزائهم الآخرين هي التي تهب انتصاراتهم قيمها وتفاسيرها المذهبية والدينية والنفسية والفكرية.
• ما أكثر الأنبياء والمعلمين الذين جاءوا ليبكوا آلامهم وهمومهم بعيون وقلوب الآخرين. ما أكثر الذين يركبون عيونهم في وجوه الآخرين.
• إن عينيك مفتوحتان ومسددتان إلى الخارج. إن ذلك يعني أنه قد أريد منهما ولهما أن تريا الأعداء والخصوم وكل الآخرين وكل الأشياء الأخرى أكثر مما أريد منهما ولهما أن ترياك أنت.
• ما هذا النبي أو الزعيم أو الكاتب أو المعلم الذي يجيء ليعلم قوماً أو قومه كيف ينتصرون أو يتفوقون على قومٍ آخرين؟ ما أخلاقه أو دينه أو شهامته أو ذكاؤه..
• إن عبقرية أي إنسان ومزاياه لا تساوي أكثر من قدرته على العصيان ومن إرادته وممارسته له ومن أساليبه المختلفة في ممارسته له. إن إبداع أي مجتمع في ألف عام لا يساوي أكثر من عصيان هذا المجتمع في نفس هذه المدة. إن أي إبداع وتجاوز ليس إلا عصياناً ما. إن عصيان الإنسان هو تخطي ما كان، هو تخطي قدرة الطبيعة.
• إن إلهك ليفرض عليك أن تحول كل المخالفين إلى رعايا له. إنه يلزمك أن تتحول إلى حاشد قطعان لتتجمع في محرابه أو في مجزره. إن عليك أن تجعل القطعان له.
• إن قليلاً من الناس ليعصون بأفكارهم أعنف مما يعصي الأتقياء أو الأكثرون بأعضائهم وشهواتهم.
• إن الإنسان كائن لا بد أن يعصي بكل اتجاهاته وتفاسيره ومعانيه. إنه أكثر الكائنات وأوسعها عصياناً، مهما كان أكثرها تعاليم ضد العصيان، ومهما كان عدد أربابه وأنبيائه وكتبه المنزلة.
• لعل الفرق بين المعصية وأخرى ليس أقل من الفرق بين الإنسان والإنسان الآخر، أو بين العبقرية والتفاهة، أو بين الحضارة والبدواة.
• إن الإيمان بالأديان أو بالآلهة الكاملة ليس إلا محاولة من محاولات الاعتقال أو التحديد لطموح الإنسان ولاحتمالات وطاقات التحديق والتحليق والتخطي فيه.
• لقد استطاع الإله والدين أن يعيشا بين المؤمنين بهما لأنهما كانا يعيشان فوق منابرهما وفي كتبهما المقدسة فقط، لا  في حياة ولا في أخلاق ولا في نيات أولئك الذين يعيشان في أفواههم وتعاليمهم وصلواتهم.
• إن الإنسان هو الذي يهب أربابه ومذاهبه وأديانه وأفكاره أخلاقها بقدر ما يهب بيوته وأزياءه أشكالها ونماذجها وألوانها وحدودها. إن الإنسان هو البدء لجميع كينوناته الاعتقادية والمذهبية والفكرية والدينية. إنه هو البدء لأربابه ولكل أخلاق ومستويات واحتياجات ذاته.
• إن أي مفكر أو معلم أو مصلح قد ينفصل عن مجتمعه وعن عصره ليكتب ذاته وعنها، وليحولها إلى تعالم وأفكار، وإلى ألهة وأديان.
• إن مرض المعلم أو النبي المريض ليصبح معنى من معاني تعاليمه ونبواته، وكذلك صحته، وكذلك قوته وضعفه، وكذلك ذكاؤه وغباؤه. إن آلام ذاته تتحول إلى آلام في تعاليمه. إن آلام النبي الذاتية تتحول إلى آلام وتشوهات في أخلاق الهه.

=================================
▬ إن الاشتغال بالتطهير الذاتي للنفس أو للنيات، أو بالدعوة إلى هذا التطهير، أو بتجريم أهواء النفس أو النيات، أو بمحاسبتها على اتجاهاتها ومجاعاتها وتقلباتها... إن الاشتغال بذلك ليس إلا أسلوباً من أساليب الدعوة للأعضاء المحرمة المخفاة خجلاً منها إلى التطهر والتحرر من أخلاقها وضروراتها ووظائفها ومن إحساسها بنفسها وبضغوطها ومن نياتها ونداءاتها غير المهذبة وغير الملتزمة بالحياء أو بالوقار والتهذيب أو بالأديان أو بالمذاهب أو بالتعاليم أو بأوامر الزعماء وخطبهم المتوترة المهددة البليغة. إن الاشتغال بذلك أو بالدعوة إليه ليس أذكى أو أفضل من الاشتغال بدعوة الحشرات إلى أن تكون أكثر نظافة أو استتاراً أو حياء أو شهامة أو تقوى. إذن أليس جميع الدعاة وواعظي الأعضاء بأن تتطهر من جوعها وشهواتها ونياتها هم وعاظ ودعاة حشرات؟ صـ 141

▬ هل يمكن أن تتصور قاتلاً وعابثاً ولئيماً وسخيفاً وقاسياً وحقوداً، وأن تروي عنه صفاته هذه مادحاً هو بها نفسه، ومادحاً أنت له بها، مادحاً أنت لها كصفات أعظم وأنبل وأرحم إله تتمناه؟ هل يمكن أن تتصور إلهك كذلك ثم تكون أنت شيئاً طيباً أو رحيماً أو عظيماً أو ذكياء أو صديقاً أو متسامحاً أو ذا نموذج نفسي نظيف كريم سوي؟ هل يمكن أن تكون خيراً ثم تختار إلهك شريراً، أو أن تكون سعيداً ثم تختاره شقياً، أو ذكياء ثم تختاره بليداً، أو متحضراً متقدماً ثم تختاره بدوياً متخلفاً؟ [..] إن حديثك عن إلهك وعن نبيك وعن قائدك وزعيمك وعن بطلك ومعلمك هو - بأسلوب ما وتفسير ما - حديث عنك، عن مستواك وعن قدرتك وشهوتك وإرادتك ومما تتمنى أن تكون وأن تجد أن حديثك هذا هو حديث عنك في كل معانيك أو في أحد معانيك. إنك تصلي وتضرع إلى إلهك بمستواك لا بمستوى إلهك. إنك ترى إلهك برؤيتك لوجودك لا برؤيتك لإلهك. صـ 192

▬ كيف رأيته كل العقول: كيف أمكن أن يتفق الناس الكثيرون جداً المختلفون المتفاوتون جداً في جميع مستوياتهم وظروفهم العقلية والثقافية والعلمية والنفسية والأخلاقية والتاريخية والميلادية بل وفي أهوائهم وهمومهم ومصالحهم ومواجهاتهم وتجاربهم؟ كيف أمكن أن يتفق كل هؤلاء على الاقتناع بإله واحد أو بنبي واحد أو بزعيم أو بمذهب أو دين واحد أو بأعداد هائلة من المعتقدات المتنافرة المتنافية المتناقضة البليدة الهمجية التي ترفض كل العقول منطقها وترفض كل العيون دمامتها وترفض كل الاخلاق والحضارات وحشيتها؟ كيف أمكن أن ترى عيون كل هؤلاء الناس هذا الإله أو هذا النبي أو هذا الزعيم أو هذا القديس أو هذا البطل أو هذا الدين أو هذا المذهب بكل هذه المزايا والأخلاق والتفوق والقوة والمجد والخلود؟ كيف أمكن أن يروه جميعاً نفس الرؤية الواحدة؟ كيف توحدت كل عيونهم في عين واحدة وعقولهم في عقل واحد ونماذجهم في نموذج واحد؟ لقد توحدوا في إيمانهم ورؤاهم لأنهم لا بد أن يتوحدوا في مواقفهم وسلوكهم، ولم يتوحدوا في مواقفهم وسلوكهم لأنهم متوحدون في إيمانهم أو رؤاهم... صــ  307

▬ إن الناس لم يتحولوا إلى موكب بليد ذليل وراء أي نبي ليؤمنوا بمعجزاته ولنبوته وليصنعوا له الانتصارات والمعجزات مثلما فعلوا وراء السيف. إن السيف هو أوقح الأنبياء والمعلمين والزعماء وصناع المذاهب والتعاليم والمعتقدات ولكنه أصدقهم وأقواهم منطقا وأكثرهم اتباعاً. إنه الكذاب الذي لا يوجد أصدق منه والفاجر الذي لا مثيل له في تقواه الدينية والمذهبية والأخلاقية والنفسية. إن البشر لم يجدوا في أكذب كاذب أصدق الصادقين وفي أفجر فاجر أتقى الأتقياء مثلما وجدوا في السيف. لقد كان السيف هو العقول والآذان والعيون التي رأي بها الناس والتي سمعوا وصدقوا كل فنون ومستويات الجمال والصدق والذكاء والتهذيب والإعجاز التي وجدوها في أربابهم وأنبيائهم وزعمائهم وفي سائر من علموهم المذاهب والأديان والتعاليم... من هذا النبي أو الزعيم أو الكاتب الذي يجيء ليعلم قوماً أو ليعلم قومه كيف ينتصرون أو يتفوقون على قوم آخر؟ ما أخلاقه وما دينه وما شهامته وما ذكاؤه؟ هل يوجد في بذاءات البشر أو في ذنوبهم مثل أن يوجد فيهم من يذهبون يعلمونهم كيف ينتصر أو يتفوق بعضهم على بعذ؟ كيف استطاع البشر أن يتقبلوا زعماءهم ومعليمهم وكتابهم وقادتهم؟ إن هؤلاء الذين يعلمونهم كيف ينتصر ويتفوق بعضهم على بعض وهم الذين يمتدحون لهم هذه الوقاحة وهذا العدوان البذيء؟ إن السيف هو الواضع لصفات الإله المفسر لها. إنه المدرس للإله صفاته وأخلاقيه.. صــ 347

▬ إن المتدينين المؤمنين بالإله الشامل الكامل أو بالمعتقدات الشاملة الكاملة لن يستطيعوا أن يكونوا عالميين أو إنسانيين في أخلاقهم أو في أفكارهم أو في معاملاتهم أو في مشاعرهم أو في نياتهم أو في أمانيهم أو في تفاسيرهم للأشياء أو لأنفسهم أو للآخرين. إنهم لن يستطيعوا أن يروا الأشياء والناس، وأن يقرؤوها ويقرؤوهم، وأن يفهموها ويفهموهم، وأن يحسدوها ويحسدوهم بيعيونهم وعقولهم وأحاسيسهم، بأحجامهم وأحجامهم، وبتفاسيرها وتفاسيرهم، وباحتياجاتها واحتياجاتهم، وبنصوصها ونصوصهم... إنهم لن يروا الناس أو يفهموهم بعيون كونية أو طبيعية، وبمنطق كوني أو طبيعي. إنهم لا بد أن يروهم ويفهموهم ويفسروهم خارج الكون، أي خارج الطبيعة وخارج الإنسان. إنهم لا يستطيعوا أن يكونا كونيين أو عالميين أو إنسانيين في رؤاهم أو في أفكارهم أو في همومهم أو في أحاسيسهم أو في رضاهم وغضبهم أو في حبهم وبغضائهم... إنهم لا بد أن يتحولوا إلى حدود ومقاسات معادية لكل من ليسوا على مقاسات أربابهم وأنبيائهم وأديانهم ونصوصهم التاريخية المحفوظة. إنهم لا بد أن يتشوهوا وأن يرفضوا ويعادوا ويتهموا كل من ليس في أنفسهم وأخلاقهم وعقولهم من ضيق وضعف وأوهام ونصوص تقرؤها وتحفظها وتفسرها أبلد وأضعف المحاريب والمنابر، تتلقاها عن أضعف وأصغر الشفاه والعقول والأخلاق والشخصيات. صــ 383


▬ إن كل صاحب عقيدة أو دين أو فكرة لابد أن يكون عاصياً. إن أشد الناس عصياناً هم أقواهم إيماناً واعتقاداً، هم أقواهم عقائد وأكثرهم عقائد. إن كل عقيدة وفكرة لا بد أن تهان ويعتدى عليها بعصيانها وبالعجز عن التوافق معها وبالكذب عليها وبها. ولهل البشر لا يعتدون على شيء أو يحقرون شيئاً أو يكذبون على شيء مثلما يفعلون ذلك بمعتقداتهم وأفكارهم. إن الإلتزام السلوكي خاضع لظروفه وضروراته، وليس خاضعاً للإلتزام الإعتقادي. لهذا فإنه محكوم عليك أن يكون عصيانك لعقائدك أشد كلما كانت عقائدك أقوى، لأن عجزك عن الإلتزام سلوكياً بالعقائد القوية والكثيرة سيكون أكثر من عجزك من الإلتزام أي سلوكياً بالعقائد الضعيفة والقليلة. إنه لا شيء يعصي ويخرج عليه ويعجز عن التوافق معه مثل العقائد القوية الكثيرة، أو مثل المعلمين المبالغين في تقواهم التعليمية. صــ 384

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS