تخليص الإبريز في تلخيص باريز (رفاعة الطهطاوي)




الكتاب يعبر عن آراء مؤلفه..

اسم الكتاب : "تخليص الإبريز، فى تلخيص باريز" أو "الديوان النفيس، بإيوان باريس"
الكتاب ربما لا يشكل قيمة كبيرة لك الآن - فى عصر التقدم والإنترنت - ولكن اذا اسقطَّ ذلك على مقاييس عصره حيث لم يكن تعليماً وقتها سوى الأزهر مع مستو متدنٍِ من المعارف والعلوم بصفة عامة، وكانت ام الفضائل وقتها ان تتعلم فقه اللغة العربية وتحسن قراءة القرآن .. ستجد عبارات فى الكتاب مثل "أمريقة" يقصد بها أمريكا، و اللغة "اللاطينية" يقصد اللغة اللاتينية ، والقاسوليقية، يقصد "الكاثوليكية" ... وقد ركزت على الجانب العلمى دون غيره، وكذلك بعض المعالم الثقافية، واهملت جوانب أخرى مثل العلوم العسكرية، وبعض الأحداث الخاصة والشخصية كالمراسلات، والثورة التى حدثت وقتها فى فرنسا والتى ادت الى رحيل الملك شارل العاشر فى 1830،.. الخ

فى بعثة ارسلها محمد على باشا - والي مصر - سنة 1826 الى فرنسا، إقترح عليه الشيخ حسن العطار أن يقوم بالإشراف على هذه الرحلة تلميذه (رفاعة الطهطاوى) ليقوم بدور الواعظ، ولكنه - اى رفاعة الطهطاوى - لم يكتف بدور الواعظ فقط، فولعه الشديد بالعلوم والفنون جعله يهتم إهتماماً بالغاً بترجمة الكتب العلمية من الفرنسية - بعد تعلمه اياها - الى العربية، وقد حُصرت عدد الكتب التى ترجمها هو وتلامذته فوجد انها تخطت الألفي كتاب، تتحدث عن مصنفات مختلفة فى شتى العلوم والفنون.. وقد طلب منه شيخه،الشيخ حسن العطار، أن يدون ما يلاحظه أثناء بعثته الى باريس من معالم حضارية، ثقافية، علمية...إلخ

------- فقرات ما جاء فى الكتاب --------

♦ ... ومع ذلك كله تعلم أنه يمكن أن أقسام الدنيا الخمسة يصح تفضيل بعضها على بعض، ويعنى تفضيل جزء بتمامه على الآخر بتمامه، بحسب مزية الإسلام وعلقاته، فحينئذ تكون "آسيا" أفضل الجميع، ثم تليها "أفريقية" لعمارها بالإسلام والأولياء والصلحاء، خصوصاً بإشتمالها على مصر القاهرة، ثم تليها بلاد "أوربا" لقوة الإسلام، ووجود الإمام الأعظم، إمام الحرمين الشريفين، سلطان الإسلام فيها، ثم بلاد الجزائر البحرية؛ لعمارها بالإسلام أيضاً مع عدم تبحرها فى العلوم كما هو الظاهر، فأدنى الأقسام بلاد "أمريكة"؛ حيث لا وجود للإسلام بها أبداً، هذا ما يظهر لي، والله أعلم بالصواب . صـ30

♦ ثم إنه يوجد فى مدينة مرسيليا كثير من نصارى مصر والشام الذين خرجوا مع الفرنساوية حين خروجهم من مصر، وهم جميعاً يلبسون لبس الفرنسيس، وندر وجود أحد من الإسلام الذين خرجوا من الفرنسيس؛ فإن منهم من مات، ومنهم من تنصر، والعياذ بالله، خصوصاً المماليك، الجورجية والجركسية، والنساء اللواتى أخذنهن الفرنسيس صغار السن، ويقال إنه كان ولاه الفرنسيس بمصر (أغاة إنكشارية) فى أيامهم، فلما سافروا تبعهم، وبقى على إسلامه نحو خمس عشرة سنة، ثم بعد ذلك تنصر، والعياذ بالله، بسبب الزاوج من نصرانية، ثم مات بعد قليل، ويقال .... صـ61

♦ أعلم أن الباريزيين يختصون من بين كثير من النصارى بذكاء العقل، ودقة افهم وغوص ذهنهم فى الغويصات، وليسوا مثل النصارى القبطة، فى أنهم يميلون بالطبيعة الى الجهل والغفلة، وليسوا أسراء التقليد أصلاً، بل يحبون دائماً معرفة أصل الشىء والإستدلال عليه، حتى إن عامتهم أيضاً يعرفون القراءة والكتابة، ويدخلون مع غيرهم فى الأمور العميقة، كل إنسان على قدر حاله، فليست العوام بهذه البلاد من قبيل الأنعام كعوام أكثر البلاد المتبربرة .. صـ83

♦ ومن طباعهم المهارة والخفة، فإن صاحب المقام قد نجده يجرى فى السكة كالصغير، ومن طباعهم أيضاً الطيش والتلون، فينتقل الإنسان منهم عن الفرح إلى الحزن وبالعكس، ومن الجد إلى الهزل وبالعكس، حتى إن الإنسان قد يرتكب فى يوم واحد جملة أمور متضادة، وهذا كله فى الأمور الغير المهمة، وأما فى الأمور المهمة، فآراؤهم فى السياسات لا تتغير، كل واحد يدوم على مذهبه ورأيه، ويؤديه مدة عمره، ومع كثرة ميلهم إلى أوطانهم يحبون الأسفار، فقد يمكثون السنين العديدة والمدة المديدة، طوافين بين المشرق والمغرب، حتى إنهم قد يلقون أنفسهم فى المهالك، لمصلحة تعود على أوطانهم يحبون السفر .. صـ84

♦ وليس عندهم المواساة إلا بأقوالهم وأفعالهم، لا بأموالهم، إلا أنهم لا يمنعون عن أصحابهم ما يطلبون استعارته لا هبته إلا إذا وثقوا بالمكافأة، وهم فى الحقيقة أقرب للبخل من الكرم، وقد ذكرنا علة ذلك فى ترجمتنا "مختصر السير والعوايد فى ذكر الضيافة" فى الواقع، حقيقة السبب فى ذلك هو أن الكرم فى العرب . ومن أوصافهم توفيتهم غالباً بالحقوق الواجبة عليهم، وعدم إهمالهم أشغالهم فإنهم لا يكلون من الأشغال سواء الغنى والفقير، فكأن لسان حالهم يقول " إن الليل والنهار يعملان فيك فأعمل فيهما .. ومن المركوز فى طبعهم حب الرياء والسمعة، لا الكبر والحقد، فهم كما يقولون فى مدح أنفسهم : أخلص قلوباً من الغنم عند ذبحها، وإن كانوا عند الغضب أشد إفتراساً من النمور، فإن الإنسان منهم إذا غضب قد يؤثر الموت على الحياة، فقل أن يفوت زمن يسير من غير أن يقتل إنسان نفسه خصوصاً من داء الفقر أو العشق. ومن طباعهم الغالبة: وفاء الوعد، وعد الغدر، وقلة الخيانة .. ومن طباعهم الغالبة الصدق، ويعتنون كثيراً بالمروءة الإنسانية، قال بعضهم فى مدحها : المروءة اسم جامع للمحاسن كلها. ومن الصفات التى يقبح وصف الإنسان عندهم" كفر النعم، مثل غيرهم. فيرون أن شكر المنعم واجب، وأظن أن جميع الأمم ترى ذلك - وإن كانت قد تفقد هذه الصفة عند أفراد، فهو خروج عن الطبع، فهى كشفقة الوالد وبر الولد، فإنهما قد يختلفان فى بعض الأفراد، مع أنهما صفتان جبليتان، عند سائر الأمم والملل.. ومن خصالهم أيضاً : صرف الأموال فى حظوظ النفس، والشهوات الشيطانية، واللهو واللعب، فإنهم مسرفون غاية السرف.ثم إن الرجال عندهم عبيد النساء، وتحت أمرهن؛ سواء كن جميلات أم لا. قال بعضهم: إن النساء عند الهمل معدات للذبح، وعند بلاد الشرق كأمتعة البيوت، وعند الإفرنج كالصغار المدلعين .. ولا يظن الإفرنج بنسائهم ظناً سيئاً أصلاً، مع أن هفواتهم كثيرة معهم، فإن الإنسان، ولو من أعبائهم، قد يثبت له فجور زوجته، فيهجرها بالكلية، وينفصل عنها مدة العمر. والتفريق بينهما بهذه المثابة يكون عقب الأشهاد، تتلوث فيها الذرية بالفضيحة وإن كانت بدون لعان، ولا تعرض للأولاد، وهذا يقع كثيراً فى العائلات الكبيرة والصغيرة، ويشهد مجلس المرافعة الخاص والعام، فلا يعتبر الآخرون بذلك، مع أنه ينبغى الإحتراس منهن كما قال الشاعر : لا يكن ظنك إلا سيئاً // بالنساء إن كنت أهل الفطن -- مارمى الإنسان فى مهلكة// قط إلا ظنه الظن الحسن ... ومن الأمور المستحسنة فى طباعهم، الشبيه حقيقة بطباع العرب: عدم ميلهم إلى الأحداث، والتشبب فيهم أصلا، فهذا أمر منسي الذكر عندهم، تأباه طبيعتهم وأخلاقهم، فمن محاسن لسانهم وأشعارهم أنها تأبى الجنس فى جنسه، فلا يحسن فى اللغة الفرنساوية قول الرجل: عشقت غلاماً؛ فإن هذا يكون من الكلام المنبوذ المشكل؛ فلذلك إذا ترجم أحدهم كتاباً من كتبنا يقبل الكلام إلى وجه آخر .. ومن خصالهم الردئية: قلة عفاف كثير من نسائهم كما تقدم. وعدم غيرة رجالهم فيما يكون عند الإسلام من الغيرة بمثل المصاحبة والملاعبة والمسايرة، ومما قاله بعض أهل المجون الفرنساوية: لا تغتر بإباء امرأة إذا سألتها قضاء الوطر، ولا تستدل على عفافها، ولكن على كثرة تجربتها. انتهى. كيف والزنا عندهم من العيوب والرذائل، ولا من الذنوب الأوائل، خصوصاً فى حق غير المتزوج، فكأن نساءهن مصداق قول بعض الحكماء : لا تغتر بإمرأة، ولا تثق بمال وإن كثر، وقال آخر: النساء حبائل الشيطان .. ومن عقائدهم القبيحة قولهم: إن عقول حكمائهم وطبائعييهم أعظم من عقول الأنبياء وأذكى منها . ولهم الكثير من العقائد الشنيعة كإنكار بعضهم القضاء والقدر، مع أن من الحكم العاقل من يصدق بالقضاء، ويأخذ بالحزم فى سائر الأشياء، وإن كان لا ينبغى للإنسان أن يحيل الأشياء على المقادير أو يحتج بها قبول الوقوع .. ومنهم جماعة يعتقدون أن الله تعالى خلق الخلق، ونظمهم نظاماً عجيباً، فرغ منه ثم لا يزال يلاحظهم بصفة له تعالى، وتسمى صفة العناية والحفظ، تتعلق بالمكان إجمالاً.. ثم إن لون أهل "باريس" البياض المشرب بالحمرة، وقل وجود السمرة فى أهلها المتأصلين بها، وإنما ذلك لأنهم لا يزوجون عادة الزنجية للأبيض أو بالعكس، محافظة على عدم الإختلاط فى اللون؛ لا يكون عندهم ابن أمه .. بل لا يعدون أنه قد يكون للزنج جمالاً أصلاً، بل غيره عندهم من صفات القبح، فليس لهم فى المحبة مذهبان .. على أنه لا يحسن عند الفرنساوية استخدام جارية سوداء فى الطبخ ونحوه؛ لما ركز فى أذهانهم أن السود عارون عن النظافة اللازمة .. ونساء الفرنساوية بارعات الجمال واللطافة، حسان المسايرة والملاطفة، يتبرجن دائماً بالزينة، ويختلطن مع الرجال فى منتزهات. وربما حدث التعارف بينهن وبين بعض الرجال فى تلك المحال، سواء الأحرار وغيرهن، خصوصاً يوم الأحد الذى هو عيد النصارى، ويوم بطالتهم، وليلة الإثنين فى (البالات) والمراقص ..  واما الرجال فإنهم بين هؤلاء وهؤلاء، عبيد النساء فإن الإنسان يحرم نفسه وينزه عشيقته، وأما الخيل فإنها تجر العربات ليلاً ونهاراً على أحجار أرض "باريس" خصوصاً إذا كانت المستأجرة للعربة إمرأة جميلة، فإن (العربجي) يجهد خيله ليوصلها إلى مقصدها عاجلاً؛ فالخيل دائماً معذبة بهذه المدينة .
صــ85 ، 86، 87، 88 ، 89 ، 90 ، 91

مقتطفات من خلال كتابته لمواد الدستور فى باريس وقتها..

♦ قوله فى المادة الـأولى: سائر الفرنسيس مستوون قدام الشريعة، معناه سائر من يوجد فى بلاد فرنسا من رفيع ووضيع لا يختلفون فى إجراء الأحكام المذكورة فى القانون، حتى إن الدعوى الشرعية تقام على الملك وينفذ عليه الحكم كغيره، فأنظر إلى هذه المادة الأولى، فإنها لها تسلطاً عظيماً على إقامة العدل وإسعاف المظلوم، وإرضاء خاطر الفقير بأنه كالعظيم؛ نظراً إلى إجراء الأحكام.

♦ ومن الأشياء التى ترتبت على الحرية عند الفرنساوية أن كل إنسان يتبع دينه الذى يختاره يكون تحت حماية الدولة ويعاقب من تعرض لعابد فى عبادته. ولا يجوز وقف شىء على الكنائس أو إهداء شىء لها إلا بإذن صريح من الدولة. وكل فرنساوي له أن يبدى رأيه فى مادة السياسات، أو فى مادة الأديان، بشرط أن لا يخل بالانتظام المذكور فى كتب الأحكام . صـ116

معالم- ثقافات-عادات وتقاليد

♦ وكما أن باريس نظيفة فهى خالية أيضاً من السُميات، بل ومن الحشرات فلا يسمع بأن إنساناً فيها لدغته عقرب أبداً، وتعقد الفرنساوية تنظيف بيوتهم وملابسهم أمر عجيب، وبيوتهم دائماً مفرحة بسبب كثرة شبابيكها الموضوعة بالهندسة وضعاً عظيماً يجلب النور والهواء داخل البيوت وخارجها وظرفات الشبابيك دائماً من (القزاز) حتى إذا أُغلقت فإن النور لا يحجب أصلاً، وفوقها دائماً الستائر: للغنى والفقير، كما أن ستائر الفرش التى هى نوع من الناموسية غالبة أهل باريس . صــ124

♦ وعادة الفرنساوية الأكل فى طباق كالطباق العجمية أو الصينية، لا فى آنية النحاس أبداً، ويضعون على (السفرة) دائماً قدام كل إنسان شوكة وسكيناً ومعلقة، والشوكة والملعقة من الفضة، ويرون أن من النظافة (أو الشلبنة) ألا يمس الإنسان الشىء بيده، وكل إنسان له طبق قدامه، بل وكل طعام له بطق، وقدام الإنسان قدح فيصب فيه ما يشربه من (قزازة) عظيمة موضوعة على (السفرة) ثم يشرب فلا يتعدى أحد على قدح الآخر . صـ126

♦ ومن غرائب الأشياء أن فيها التحيل على عدم عفونة الأشياء التى من شأنها العفونة؛ فمن ذلك ادخار اللبن بكيفية خاصة خمس سنين من غير تغير، وإدخار اللحكم طرياً عشر سنوات، وإدخار الفواكه لوجودها فى غير أوانها، ومع كثرة تفننهم فى الأطعمة والفطورات ونحوها، فطعامهم على الإطلاق عديم اللذة، ولا حلاوة صادقة فى فواكه هذه المدينة - يقصد باريس - إلا الخوخ .. وأما خماراتها فإنها لا تُحصى؛ فما من حارة إلا وهى مشحونة بهذه الخمارات ولا يجتمع فيه إلا أراذل الناس وحرافيشيهم مع نسائهم، ويكثرون الصياح وهم خارجون منها بقولهم ما معناه: الشراب، الشراب! ومع ذلك فلا يقع منهم فى سكرهم أضرار أصلاً .. قد اتفق لي ذات يوم وأنا مار فى طريق "باريس" أن سكران صاح قائلاً: يا تركي، يا تركي، وقبض بثيابى، وكنت قريباً من دكان يباع فيه السكر ونحوه فدخلت معه، وأجلسته على كرسي. وقلت لرب الحانوت على سبيل المزح: هل تريد أن تعطيني بثمن هذا الرجل سُكْراً أو نُقَلاً؟ فقال صاحب الحانوت: ليس هنا مثل بلادكم، يجوز التصرف فى النوع الإنساني، فما كان جوابي له إلا أنني قلت: إن هذا الشخص السكران ليس فى هذا الحال من قبيل الآدميين، وهذا كله والرجل جالس على الكرسي، ولا يشعر بشيء، ثم تركته بهذا المحل وذهبت . صــ127 ، 128

♦ ومن خصال النساء أن يشبكن بالحزام قضيباً من صفيح من البطن إلى آخر الصدر؛ حتى يكون قوامهن دائماً معتدلاً لا اعجواج به، ولهن كثير من الحيل. ومن خصالهن التى لا يمكن للإنسان أن لا يستحسنها منهن عدم إرخائهن الشعور؛ كعادة نساء العرب، فإن الفرنسيس يجمعن الشعور فى وسط رءوسهن، ويضعن فيه دائماً مشطاً ونحوه، ومن عوائدهن فى أيام الحر كشف الأشياء الظاهرية من البدن؛ فيكشفن من الرأس إلى فوق الثدي، حتى إنه يمكن أن يظهر ذلك من الأمور المخلة عند أهل هذه البلاد، ولكن لا يمكن لهن أبداً كشف شىء من الرجلين، بل هن دائماً لا بسات للشرابات، الساترة للساقين، خصوصاً في الخروج على الطرق، وفى الحقيقة سيقانهن غير عظيمة أصلاً، فلا يصلح لهن قول الشاعر : لم أنسه إذ قام يكشف عامداً//عن ساقع كاللؤلؤ البراق ** لا تعجبوا إن قام فيه قيامتي//إن القيامة يوم كشف الساق .   وملابس الحزن عند الفرنسيس هى علامة حزن تلبس مدة معلومة، ولها محل معلوم؛ فالرجل يضع علامة الحزن فى (برنيطته) مدة معلومة، والمرأة فى ثيابها والولد على فقد أبيه أو أمه يلبس علامة الحزن ستة أشهر، وعلى فقد الجدة أربعة أشهر ونصفاً والزوجة على فقد الزوج سنة وستة أسابيع، وعلى فقد الزوجة ستة أشهر، وعلى فقد الأخ أو الأخت شهرين، وعلى فقد الخال، والخالة، والعم، والعمة ثلاثة أسابيع، وعلى فقد أولاد الأعمام والعمات والأخوال والخالات أسبوعين . صـ130

♦ ومن المتداول عند الفرنساوية استعمال الشعور العارية لنحو الأقرع وردىء الشعر، بل قد يستعملونها فى اللحى والشارب للتقليد، وقد شاعت عندهم تلك العادة من زمن "لويز الرابع عشر" ملك فرنسا؛ حيث إن هذا الملك كان يلبسها، ولا يخلعها من رأسه أصلاً إلا عند النوم، وما زالت إلى الآن مستعملة، لكن للأقرع أو ردىء الشعر، ومن الغريب أنها تُستعمل الآن فى مصر بين نساء القاهرة . صـ131

♦ والغالب أن الجلوس للنساء ولا يجلس أحد من الرجال إلا إذا اكتفت النساء، واذا دخلت امرأة على أهل المجلس، ولم يكن ثم كرسي خالٍ قام لها رجل وأجلسها، ولا تقوم لها امرأة لتجسلها، فالأنثى دائماً فى المجالس معظمة أكثر من الرجل، ثم إن الإنسان إذا دخل بين صاحبه، فإنه يجب عليه أن يحيي صاحبة البيت قبل صاحبه، ولو كبر مقامه ما أمكن، فدرجته بعد زوجته أو نساء البيت . صــ136

♦ ومن المواسم العامة عندهم أيام تسمى (الكرنوال) وتسمى عند قبطة مصر أيام الرفاع، وهى عدة أيام يرخص لسائر الناس فيها سائر التقليدات والتشكلات، فيتشكل الرجل بشكل امرأة، والمرأة فى صورة رجل، ويتراءى (الخواجة) فى صورة راع ونحو ذلك، وبالجملة فيباح سائر ما لا يضر براحة المملكة وإنتظامها .. صـ138

♦ أعلم أن مدينة باريس هى اعظم مدن الإفرنج التى يرحل اليها الغرباء، لتعلم العلوم خصوصاً العلوم الطبية، وقد ينتقل اليها المرضى من بلاد بعيدة للبحث عن تداويهم فيها، والعلوم الطبية التى تسمى أيضاً علم الحكمة هى: علم الطب والجراحة والتشريح وفن (الفسيولوجيا) ومعرفة داء الإنسان من حاله، وسياسة الصحة لحفظها، وتطبيب الحيوانات وغير ذلك .. صــ143

♦ ثم إن أعظم التجارات وأشهرها فى "باريس" معاملات الصيارفة، والصيارفة قسمان: صيارفة المملكة أو (الميري)، وصيارفة "باريس"، ووظيفة صيارفة الدولة بالنسبة للتجارة أن يضع الناس ما يردون وضعه، ويأخذون كل سنة ربه المعين فى قانونهم، فلا يعد عندهم هذا الربح ربا إلا إذا زاد عما فى القانون، وللإنسان أن يأخذ ما وضعه من المعاملة عن صيارفة الدولة متى أراد، ومثل ذلك صيارفة "باريس" فإنهم يأخذون ويعطون الأموال بالمرابحة، وهم يعطون الربح ازيد مما تعطيه صيارفة بيت المال الذين هم صيارفة المملكة، ولكن المال الموضوع عند ثيارفة المملكة آمن من الوضوع عن صيارفة الدولة، فإن ما ياخذونه يكون ديناً على الدولة، والدولة دائماً موجودة . صــ167 ، 168

♦ ومن جملة أسباب غنى الفرنساوية أنهم يعرفون التوفير، وتدبير المصاريف، حتى إنهم دونوه، وجعلون علماً متفرعاً من تدبير الملكية، ولهم فيه حيل عظيمة على تحصيل الغني، فمن ذلك عدت تعليقهم بالأشياء المقتضبة للمصاريف، فإن الوزير مثلاً ليس له أزيد من نحو خسمة عشر خداماً، وإذا مشى فى الطريق لا تعرفه من غيره، فإنه يقلل أتباعه ما أمكنه داخل دراه وخارجها وقد سمعت أن قريب ملك الفرنسيس المسمى: الدوق "درليان" وهو الآن السلطان الذى هو من أعظم الفرنسيين مقاماً، واكثرهم غنى، له من الأتباع وسائر من طرفه من العساكر ونحوها (البستانجية) والخدم وغير ذلك نحو أربعمائه نفس لا غير، والفرنساوية يستكثرون ذلك عليه، فأنظر إلى الفرق بين باريس ومصر؛ حيث العسكرى بمصر له عدة خدم . صــ172

♦ قد تقدم لنا فى الشرطة أن دين الدولة هو دين النصارى "القاثوليقية" وقد بطل هذا الشرط بعد الفتنة الأخيرة، وهم يعترفون للبابا الذى هو ملك رومة بأنه عظيم النصارى وكبير ملتهم، وكما أن الدين القاثوليقي هو دين الدولة الفرنساوية كذلك هو دين غالب الناس عندهم، وقد يوجد "بباريس" الملة النصرانية المسماة: "البروتستانتية" وغيرها، ويوجد بها كثيرٌ من اليهود المستوطنين، ولا وجود لمسلم مستوطن بها . صــ173

♦ ومن الخصال الدميمة: إن القسيس يعتقدون أنه يجب على العامة أن يعترفوا لهم بسائر ذنوبهم؛ ليغفرها لهم، فيمكث القسيس فى الكنيسة على كرسي يسمى كرسي الإعتراف، فسائر من أراد أن تُغفر ذنوبه يذهب إلى كرسي الإعتراف، داخل باب بينه وبين القسيس حائل كالشبكة، فيجلس، ثم يعترف أو يذهب إلى الإعتراف يكون من النساء والصغار، .. صــ174

\\من خلال ما كتب عن علومهم وحكماءهم .. وما جاء معبراً عن رأيه هو، وليس معنى كتابتىي اننى متفق على مجمل ما جاء فى محتوى النص ..\\

♦ وإنما نقول هنا : إن كتب الفلسفة بأسرها محشوة بكثير من هذه البدع، فسائر كتب الفلسفة يجري فيها الحكم الثالث، من الخلاف الذى ذكره صاحب متن السلم فى الإشتغال بعلم المنطق. فحينئذ يجب على من أراد الخوض فى لغة الفرنساوية المشتملة على شىء من الفلسفة أن يتمكن من الكتاب والسنة، حتى لا يغتر بذلك، ولا يفتر عن إعتقاده، وإلا ضاع يقينه، وقد قلت جامعاً بين مدح هذه المدينة وذمها :
أيوجد مثل "باريس" ديار ** شموس العلم فيها لا تغيبُ
وليل الكفر ليس له صباح ** أما هذا وحقكم عجيب!
ومن جملة ما يعين الفرنساوية على التقدم فى العلوم والفنون سهولة لغتهم وسائر ما يكملها، فإن لغتهم لا تحتاج إلى معالجة كثيرة فى تعلمها، فأى إنسان له قابلية وملكة صحيحة يمكنه بعد تعلمها أن يطالع اى كتاب كان؛ حيث إنه لا التباس فيها اصلاً، فهى غير متشابهة، وإذا اراد المعلم أن يدرس كتاباً لا يجب عليه أن يحل ألفاظه أبداً، فإن الألفاظ مبنية بنفسها، وبالجملة فى لا يحتاج قاريء كتاب ان يطبق ألفاظه على قواعد أخرى برانية من علم آخر، بخلاف اللغة العربية مثلاً، فإن الإنسان الذى يطالع كتاباً من كتبها فى علم من العلوم يحتاج أن يطبقه على سائر آلات اللغة، ويدقق فى الالفاظ ما أمكن، ويحمل العبارة معاني بعيدة عن ظاهرها. وأما كتب الفرنسيس فلا شىء من ذلك فيها، فليس لكتبها شراح ولا حواش إلا نادرة، وإنما قد يذكرون بعض تعليقات خفيفة تكميلاً للعبارة بتقييد أو نحوه ... ثم إن الفرنسيس يميلون بطبعهم إلى تحصيل المعارف، ويتشوقون إلى معرفة سائر الأشياء؛ فلذلك ترى أن سائرهم له معرفة مستوعبة إجمالاً لسائر الأشياء، فليس غريباً عنها، حتى إنك إذا خاطبته تكلم معك بكلام العلماء، ولو لم يكن منهم؛ فلذلك ترى عامة الفرنساوية يبحثون، ويتنازعون فى بعض مسائل علمية عويصة، وكذلك أطفالهم فإنهم بارعون للغاية من صغرهم، فالواحد منهم كما قال الشاعر :
عشق المعانى الغر وهو مراهق ** وافتض أبكار الفنون وليدا
فإن قد تخاطب الصغير الذى خرج من سن الطفولية عن رأيه فى كذا وكذا، فيجيبك بدلاً من قوله لا أعرف أصل هذا الشيء بما معناه "الحكم على الشيء فرع عن تصوره" ونحو ذلك، فأولادهم دائماً متأهلون للتعلم والتحصيل، ولهم تربية عظيمة، وهذا فى الفرنسيس على الإطلاق ... صـــ 178 ، 179

♦ ومما يُستغرب: أن فى رجال العسكرية منهم من طباعه توافق طباع العرب العربا فى شدة الشجاعة الدالة على قوة الطبيعة، وشدة العشق الدالة ظاهراً على ضعف العقل، مزاجهم كالعرب فى الغزل بالأشعار الحربية، وقد رأيت لهم كلاماً كثيراً يقرب من كلام بعض شعراء العرب مخاطباً لمحبوبته بقوله:
ولقد ذكرتك والوغي بحر طغي**والنقع ليل والأسنة انجم
فحسبته عرساً ونحن بروضة**وأنا وأنت بظله نتنعم
وقول آخر :
ولقد ذكرتك والرماح نواهل**مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها**برقت كبارق ثغرك المبتسم صـ180

♦ اعلم أن من عادة الفرنساوية ان لا يكتفوا فى العلم بمجرد شهرة الإنسان بالفهم، أو الإجتهاد، أو بمدح المعلم فى المتعلم، بل لا بد عندهم من أدلة واضحة محسوسة تفيد الحاضرين فى الإمتحان قوة الإنسان والفرق بينه وبين أمثاله، وهذا إنما يكون بالإمتحانات العامة يحضرها العام والخاص، بدعوة مثل دعوة الولائم عادة. وهناك إمتحانات خاصة، وهى أن يمتحن المعلم تلامذته كل أسبوع أو شهر؛ ليعلم قوة زيادتهم فى ذلك الأسبوع أو الشهر، ولكتب مفاد ذلك إلى آبائهم، فكنا فى البنسيونات بهذه المثابة، وكل سنة يصنع معنا الإمتحان العام بحضور اعيان الفرنساوية .. صــ227

♦ أعلم أن الإفرنج قسموا المعارف البشرية إلى قسمين: علوم وفنون فالعلم هو الإدراكات المحققة المذكورة بطريق البراهين، وأما الفن فهو معرفة صناعة الشيء على حسب قواعد مخصوصة . ثم إن العلوم تنقسم إلى رياضية وغيرها، وغير الرياضية تنقسم الى طبيعيات وإلهيات. والعلوم الرياضية هى: الحساب، والهندسة، والجبر، والمقابلة. والعلوم الطبيعية هي: تاريخ الطبيعيات، وعلم الطبيعة، وعلم الكمياء... صــ265

♦ ثم إن الإفرنج كما يطلقون الكلمات على قواعد اللغة الفرنساوية، ويسمون ذلك إعراباً نحوياً، يطبقونها على قواعد المنطق ويسمون ذلك [إعراباً ] منطقياً، فإذا أراد إنسان إعراب "زيد فاضل" إعراباً نحوياً، فإنه يقول مثلاً: زيد مبتدأ وفاضل خبره، أو نحو ذلك مما يليق بقواعد نحوهم، وإذا أراد أن يعرب إعراباً منطقياً فإنه يقول: زيد موضوع، وفاضل محمول، وهذه القضية قضية شخصية، ويفعلون ذلك فى سائر الجمل . صــ285

بعد سرده لمقولات آرسطوطاليس العشر ..

♦ فهذه المقولات العشر التى ذكرها أرسطو، وعدت من الأمور الخفية، والإفرنج يقولون إنه ليس فى معرفة هذه المقولات كبير الفائدة، بل معرفتها مضرة لشيئين: الأول أن الإنسان يظن أنها مبنية على حكم عقلي ومحصور بحصر إستدلالي، مع أنها ليست إلا إصطلاحية جعلية، حصرها بعض الناس فى هذه الأقسام ليظهر بها الرياسة على غيره، مع أنه يوجد فى ذلك الغير من يمكنه أن يحصرها حصراً جديداً، كما فعل ذلك بعض الناس من أنه حصر المقالات سبعة، وسماها المواد العقلية .. صــ288

♦ أعلم أن "الأرتيماطيقي" وهو أحد العلوم الرياضية الخالصة؛ وذلك لأن حكماء الإفرنج قسموا الرياضيات إلى خالصة وغير خالصة أو مختلطة، فالرياضيات الخالصة هى علم الحساب الغباري، والهوائي وعلم الجبر، والمقابلة وعلم الهندسة، ونحو ذلك واما الرياضيات المختلطة فهى: علوم الحيل، وفن تحريك الأثقال ونحوها، والرياضيات الخالصة هى ما تبحث عن الكميات، والأشياء القابلة للزيادة، والنقصان، والرياضيات المختلطة هى ما يدخلها أشياء خارجية من علم الطبيعة وغيره .. والحساب أهم العلوم الرياضية وقد دلت كتب التواريخ على أن واضع هذا العلم أهل برور الشام، يعنى: الصوريين، وقدماء أهل مصر - يعنى أن هاتين الأمتين هما أول من جمع الأعداد والحساب، ونظامهما فى عقد الترتيب، حتى إن فيثاغورث الحكيم رحل من بلاد ليونان على مصر، فتلقى فيها هذا العلم، ومما اشتهر بين السلف أن علم الحساب من مخترعات الصورتين ويقال  انهم أيضاً من إستعمال القوائم والدفاتر، والظاهر أن الأصابع هو أول الطرق التى استعملها الإنسان فى الحساب، وأن ذلك هو السبب فى كون أول عقد العدد هو عقد العشرات، والثانى عقد عشرات العشرات التي هي المئات، والعقد الثالث عقد عشرات المئات أو الأولف وهكذا؛ لأن الأصابع عشرة، فكان الإنتقال من عقد إلى آخر من عشرة إلى عشرة، ولما كانت الأصابع لا تكفي إلا فى تمييز عشرة عشرة احتاج الأمر إلى طريقة أخرى، وعلامات اخرى فاخذوا صغار الحصى، وحبوب الرمل والمقح ونحوها، واستعملوها لضبط المعدودات، كما هو الآن عند بعض همل أمريكة، وبعض همل غيرها من أقسام الأرض، حتى إن بعض قدماء الأمم الماضين لا يوجد فى لغاتهم ما يمكن التعبير به عما فوق العشرات، فإنهم كانوا يعبرون عن مائة وسبعة وعشرين مثلاً، بقولهم سبعة وعشرتان وعشرة عشرات؛ وذلك لأن الأقدمين كانوا يذكرون العدد الأصغر قبل الأكبر، فيبتدئون بالآحاد ثم بالعشرات ثم بالمئات، وهكذا ... صــ291 ، 292

♦ قال السيوطي فى منتهى العقول: إنه يتعجب من قول العلماء: إن أعجب ما فى مصر الأهرام، مع أن البرابي بالصعيد أعجب منها، والبرابي هي المشهورة عند العامة بالمسلات، ولغرابتها نقل منها الإفرنج اثنتين إلى بلادهم: إحداهما نُقلت إلى رومة فى الزمن القديم، والأخرى نُقلت إلى باريس فى هذا العقد . صــ299

♦ هذا حاصل ما لخصته، حسب الإمكان، فلم يبق علينا حينئذ إلا ذكر خلاصة هذه الرحلة، وما دققت فيه النظر وأمعنت فيه الفكر، فأقول: ظهر لي بعد تأمل فى آداب الفرنساوية وأحوالهم السياسية أنهم أقرب شبهاً بالعرب منهم للترك، ولغيرهم من الأجناس، وأقوى مظنة القرب بأمور، كالعرض والحرية والإفتخار، ويسمون لعرض شرفاً، ويقسمون به عند المهمات، وإذا عاهدوا عاهدوا عليه، ووفوا بعهودهم، ولا شك أن العرض عند العرب العرباء أهم صفات الإنسان كما تدل على ذلك أشعارهم، وتبرهن عليه آثارهم ... صــ301

♦ وحيث إن كثيراً ما يقع السؤال من جميع الناس على حالة النساء عند الإفرنج كشفنا عن حالهن الغطاء، وملخص ذلك أيضاً : إن وقوع اللخبطة بالنسبة لعفة النساء لا يأتى من كشفهن أو سترهن، بل التربية الجيدة والحسيسة ... الخ، بالإمكان متابعة البقية من صـ303

----- انتهى .. -----

يصعب علينا الآن بالفعل أن نتخيل نوع العالم الذى جاءه رفاعة الصغير يوم مولده، كانت قد مرت ثمانية قرون تقريباً منذ بدأت سيطرة الأجناس الآسيوية، المتخلفة حضارياَ وثقافياً، على مصر والوطن العربي: من الأكراد والشركس والتركمان والمغول والأتراك، جاءوا قادة عسكريين، ومماليك وغزاة فاتحين، وكانوا محاربين عظماء، ولكنهم أيضاً أصحاب تخلف حاضري وثقافي عريق، وبحكم سيطرة السياسة القائمة على القهر، وبحكم غربتهم عن لغة الثقافة العربية ووصولهم إلى السيطرة دون سند أوليّ من "مؤسسات" هذه الثقافة - إلا الأسانيد الشكلية - وبحكم قسوتهم الأصلية وقسوة النظام الإجتماعي السائد، فقد ترابطت هذه العوامل لكي تُفرض على مصر، وعلى الوطن العربي كله ستراً من التخلف والفساد العقلي والأخلاقي أصبح فيما بعد مضرب الأمثال. والقصص التى تُروى عن ذلك ليست لها نهاية، كما أن ذلك التخلف قد إحتوى فى مضمونه نسياناً كاملاً للتراث الحضاري والثقافي العظيم الذى ازدهر حتى قبل وصول "الآسيويين" بعشرات قليلة من السنين، إن علماء الأزهر الذين ظنوا أن العلماء الفرنسيين يستخدمون نوعاً من السحر فى معامل الكمياء لكي يخدعوهم، وأقر مؤخرتهم الكبير "عبد الرحمن الجبرتي" بأنهم يأتون أعمالاً:"لا تسعها عقول أمثالنا" هؤلاء العلماء كانوا جديرين بأن يظنوا نفس الظنون بأسلافهم العظماء من الفلاسفة ولعلماء العرب، من أمثال الفارابي وابن سينا أو الكِندي أو ابن الهيثم أو البيروني .. هذا إذا أُتيح لهم أن يسمعوا عن تلك الأسماء.

ويصبح رفاعة، الأزهري الذكي، تلميذ حسن العطار الذى تفتحت آفاق خياله وعقله بأحاديث أستاذه عن حضارة الغرب، يصبح موظفاً فى الدولة الجديدة، إماماً وواعظاً فى إحدى وحدات الجيش الجديد، ومن هنا تبدأ رحلة الخلق الجديد .. لقد كان من الممكن ان يعود رفاعة الطهطاوي من باريس إلى القاهرة مثلما ذهب، مجرد إمام وواعظ فى إحدى وحدات الجيش، وكان يمكن أن يعود، حتى بعد إنضمامه إلى البعثة كدارس وليس كمجرد إمام وواعظ، كواحد منها، وواحد من الذين درسوا معه ومن بعده فى عواصم أوربا، فيتحول إلى مجرد أداة تكتيكية متوسطة الإعداد، تؤدى خدمة معينة لجيش محمد علي ودولته ثم تنتهى مثلما انتهت دولة محمد علي وانتهى جيشه بعد هزيمته أمام القوى الأوربية التى افزعها تقدمه فاتخذت ضده وضد مصر، أو ضد عمله على إنعاش السلطة العثمانية فى الحقيقة.

لقد انتهت "أسطورة" محمد علي بهزيمته وإجباره على قبول شروط أوروبا وباشوات السلطنة المتواطئين ضده، وجاء بعده وبعد موت ابنه ابرهيم باشا، حفيده الخديوي عباس، صورة من الولاة القدماء تخلفاً وجهلاً وقسوة وغباء وحرصاً على التخلف والجهل والغباوة، وتُغلق مدرسة الألسن وكل ما انشأه رفاعة وتلامذته من المدارس ومؤسسات الدولة المتدينة التى تحايلوا لخلقها مستفيدين من طموح محمد علي، ومن الضرورات على خلقها وفرضها على الدولة وعلى المجتمع كله ذلك الطموح.. وينفى رفاعة إلى السودان. فكيف تبدو أسطورة محمد علي، إلا لوناً من الذكريات يتبادلها المشايخ والموظفون والضباط القدماء المسرحون من الجيش المتضائل.. لولا الكتب الألف التي كان رفاعة وتلاميذته قد نقلوها إلى العربية فى كل الفنون والعلوم وطبعوها، فوزعت بين مئات البيوت وألوف الأيدى..

ولم يعد فى وسع الخديوي المتخلف الغبي لا أن "يغلقها" كما اغلق مدارس رفاعة، ولا أن ينفيها مثلما نفى المعلم الأول الذي إختارها بنفسه وأشرف على ترجتمها، وراجع الكثير منها، وتلقى بديه أول نسخة منها جميعاً طوال سبعة عشر عاماً ؟ ويتكرر نفس الموقف أثناء سنوات تحرير الوالي سعيد الذى جاء بعد عباس، ثم أثناء حكم إسماعيل، حتى بلغت تلك الكتب أكثر من ألفين.

لقد اكتشف خطورة ذلك القيد الثقيل على العقلية العربية منذ تعليم الفرنسية فى الشهر الأول من إقامته فى باريس، وبدأ منذ ذلك الحين، فى الصفحات الأولى من كتابه الأول "تخليص الإبريز" محاولة التخلص من ذلك القيد؛ سعياً إلى دقة التعبير وتطابقه مع حقائق الأشياء ومع جوهر المعاني التى يريد التعبير عنها .. إن هذا الصراع الكبير من أجل تحرير اللغة، ومن أجل تحريرها من "التقديس" من أجل إثرائها بالمفردات والمصطلحات وأساليب التعبير، إنما تكشف عن إدراكه؛ لأن اللغة وعاء للثقافة والحضارة جميعاً، وأنه دون إعداد هذا الوعاء، لكي يكون مستعداً للإتساع والتشكل بأشكال ما يحتويه، فإنه لا أمل فى تطور حقيقي لعقل أمته، والتالي لحياتها .


  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

0 التعليقات:

إرسال تعليق