منهج البحث التاريخي (حسن عثمان)





♦ من الصفات الواجب توافرها فى المؤرخ - كما فى غيره من الدارسين - أن يكون محباً للدرس جلداً صبوراً، فلا تمنعه وعورة البحث ولا المصاعب والعقبات عن مواصلة العمل، ولا توقفه ندرة المصادر، ولا يصرفه عن عمله غموض الوقائع والحقائق التاريخية وإختلاطها أو إضطرابها . وينبغى عليه أن يقضى الشهور والسنوات وهو يعمل ويرتحل من بلد الآخر، فى وطنه وفى كل مكان يمكن أن يعثر به على ما يفيده. وينبغى عليه ألا يتسرع أو يقتضب تعجيلاً لنيل منفعة، لأن هذا سيكون على حساب العلم والحقيقة التاريخية .
وينبغى على المؤرخ أن يكون أميناً شجاعاً مخلصاً، فلا يكذب، ولا ينتحل، ولا ينافق أصحاب الجاه والسلطان، ولا يُخفى الوقائع والحقائق التى قد لا يعرفها غيره فى بعض الأحيان، والتى قد لا ترضيه أو لا ترضى قومه، إذ أنه لا رقيب عليه غير ضميره. ومن يخرج على ذلك لا يمكن أن يعد مؤرخاً. ولا ريب أن الكشف عن عيوب الماضى وأخطائه تفيد إلى حد كبير فى السعى إلى تجنب عوامل الخطأ فى الحاضر، وعدم الكشف عنها يُعد تضليلاً وبعداً عن التبصر والمصلحة الوطنية. وقد يكون إخفاء الحقيقة التاريخية عملاً وطنياً فى بعض الظروف، كما تفعل كل الأمم، ولكن لا بد من ظهور الحقيقة بعد زوال الضرورة التى دعت إلى إخفائها، حتى يمكن إستخلاص أكبر قسط من الحقيقة التاريخية. ولا يمكن أن يُكتب التاريخ بغير التوصل الى الوقائع الصحيحة .
ويلزم للمؤرخ أن تتوفر له ملكة النقد، فلا يجوز له أن يقبل كل كلام أو يصدق كل وثيقة أو مصدر بغير الدرس والفحص والإستقراء، فيأخذ الصدق، أو أقرب ما يكون إليه، ويطرح جانباً ما ليس كذلك. وإذا أعوزت المؤرخ ملكة النقد سقطت عنه صفته، وأصبح مجرد شخص يحكى كل ما يبلغه على أنه حقيقة واقعة. وليس بهذا يُدرس أو يُكتب التاريخ . صــ18 ، 19

[العلوم المساعدة]

♦ من الضرورى للمؤرخ أن يكون واسع الثقافة، عارفاً بالعلوم المتصلة بدراسة التاريخ وكتابته. ويمكن أن تسمى العلوم اللازمة للمؤرخ - أو لغيره من الدارسين والباحثين بالنسبة لموضوع كل منهم - بالعلوم المساعدة أو العلوم الموصِّلة . صــ25

♦ من ضمن هذه العلوم (المساعدة) : اللغات - الفيلوجيا - الخطوط - الوثائق - الأختام - الرنوك - النيمات - الجغرافيا - الإقتصاد - الأدب - فنون الرسم والتصوير والنحت والعمارة - الفنون الموسيقية - التاريخ - طائفه من العلوم الأخرى - الإرتحال والسفر .

♦ ومن المفيد أيضاً إن لم يلم الباحث فى "التاريخ" بطائفة أخرى من العلوم المساعدة. فيلزمه أن يدرس شيئاً من المنطق الذى يفيده فى بنائه التاريخى. وكذلك يفيده الإلمام بتقسيم العلوم فى أن يفهم موضع التاريخ من سائر العلوم. كما ينبغى عليه أن يدرس أشياء من فلسفة التاريخ وآراء المفكرين فيه مثل اشبنجلر ، وبرجسون، وكروتشى، وكولونجوود. وهو فى حاجة كذلك إلى أن يعرف أشياء من علم الآثار، ومن علم الأجناس ومن علم الإجتماع، ومن علم النفس، ومن القانون، ومن النظريات السياسية، ومن علم الإحصاء، ومن الرياضة أو الفلك أو النبات أو الحيوان ... إذا ما عرضت له نواحٍ من هذه المسائل . وإذا لم يكن له بها معرفة سابقة فيمكنه تحصيل القدر الذى يكفيه منها لفهم الموضوع التاريخى الذى يعالجه، حينما يصبح فى حاجة إلى ذلك . صــ50

[إختيار موضوع البحث]

هل ستبحث كـ طالب جامعى ؟ أم كـ باحث فى التاريخ ؟ أم بحث عن بعض القواعد، أم بحث عن بعض الأمثلة .. ؟

♦ ويلاحظ أيضاً أنه من بين التدريبات المفيدة، للطالب فى الدور الأول من دراسته الجامعية، أن يختار كتاباً فى موضوع بعينه - وليكن باللغة العربية فى أول الأمر - ولتكن صفحاته 300 مثلاً - ويلخصه فى 100 صفحة أولاً، ثم يلخصه فى 50 صفحة ثانياً ثم 20 صفحة ثم فى 10 صفحات . ثم يطبق هذا على كتب أخرى أجنبية - ولابد له من أن يُحسن معرفة لغة أجنبية واحدة على الأقل - وسيجد أنه قد أفاد فائدة، وتعلم القدرة على الإستيعاب والتركيز، فضلاً عما يكسبه من المعلومات التاريخية الواردة فى الكتب التى إختارها، وما يجنيه من الصحيلة اللغوية والفكرية، بالقراءة، والترجمة، والإقتباس، والتدرب على الإيجاز والتركيز . صــ55

♦ ولا يجوز للباحث الذى يريد أن يكتب بحثاً علمياً تاريخياً - لا يجوز له أن يتخذ تاريخ الدولة الأيوبية بأكمله موضوعاً للبحث، لأنه موضوع طويل . فالأيوبيون حكموا دولتهم سنة 1196 إلى سنة 1250 م . ودراسة هذه الفترة دراسة عميقة مع كشف حقائق جديدة عنها لا يمكن أن يتم فى سنوات قلائل . وإذا أصرَّ الباحث على القيام بهذه الدراسة فى فترة محدودة من الزمن، فلن يخرج منها بنتيجة أكثر من تلخيص وإقتباس ما هو موجود عن هذا الموضوع فى المراجع السابقة عليه . صــ58

[جمع الأصول والمراجع]

♦ على الباحث الذى يرغب فى الكتابة عن ناحية من تاريخ مصر فى القرن الثامن عشر - مثلاً - ينبغى عليه أن يدرس أولاً بعض المراجع العامة عن تاريخ مصر منذ أقدم العصور حتى عصر دراسته، لكى يفهم أساس تطور هذه البلاد عبر التاريخ. ثم يتجه إلى المراجع التى تبحث فى تاريخ مصر فى أثناء القرن الثامن عشر، ثم يطالع ما كتبه الرحالون الذين زاروا مصر، ويدرس ما دونوه عنها، قبل التغلغل فى الأصول والوثائق التاريخية فى مصر والخارج، وذلك لكى يزداد بالتدريج إقتراباً من الناحية التى يرغب فى الكتابة عنها . صــ67

♦ وليس من الضرورى أن توجد وثائق وافية عن كل حوادث التاريخ، إذ تنطمس آثار كثيرة منها وتزول دلالاته، بتعرضها فى ظروف مختلفة للتلف أو الضياع، مثل ظروف الثورات أو الحرائق أو الرغبة فى التخلص منها وإتلافها عن عمد، حينما تكون فى حوزة من لا يفهم قيمتها التاريخية، أو من يهمه منع تدوال معلومات بين الناس. وبذلك يضيع الكثير منها بالنسبة للتاريخ، وكأن الأفكار والحوادث التى كانت تحملها فى طياتها وثناياها لم تكن فى الوجود . صــ70

♦ ومن الضرورى أن يفهم البحث محتويات ما ينقله، من الوثائق والأصول والمراجع، ويستوعبها أولاً بأول حتى لا تتراكم الأوراق أمامه، ولذلك ينبغى عليه أن يلخص مضمونها فى هوامش الصفحات، لكى تكون واضحة سهلة التناول. ومن المذكرات التى على الباحث أن يدونها أولاً بأول، تعليق أو نقد أو ملاحظة على وثيقة أو مصدر، أو فكرة عن مسألة تفصيلية معينة، أو إشارة إلى أصل تاريخى أو مرجع للرجوع إليهما فى المستقبل . وكثيراً ما تعرض للباحث فى هذا الدور من العمل أو فى الأدوار التالية، آراء ومسائل متشابكة أو غامضة، فعليه أن يسارع بتدوين ملاحظاته عليها حتى لا ينساها . صـ79

♦ ولا ريب أنه من الضرورى للمؤرخ أن يعيش فترة أو فترات من الزمن خلال هذه الذكريات التى تأدت من الماضى إلى الحاضر، وأن تشيع فى نفسه هذه الرؤى وتلك الخلجات التى أحاطت برجال العصر الذى يدرسه، إذ يُصبح بذلك كله أقدر على إستخلاص الحقائق التى تعنيه، وأقرب إلى فهم روح الموضوع الذى يتناوله ويرغب فى الكتابه عنه . صــ80

[نقد الأصول التاريخية]

♦ ينبغى على المؤرخ أن يُلاحظ قبل البدء فى نقد الأصل التاريخى الكتابى المخطوط هل هو فى نفس الحالة التى كان عليها من قبل ؟ ألم يَبلَ ويتآكل؟ ألم تُفقد بعض أجزائه أو تطمس بعض فقراته؟ وذلك لكى يرمِّمه بقدر المستطاع، ويجعله أقوى على البقاء والحفظ .. وهناك عدة مراحل للنقد . فالنقد الظاهرى (external criticism) يتعلق بعدة أمور، مثل إثبات صحة الأصل التاريخى، ونوع الخط والورق، وتعيين شخصية المؤلف وزمان التدوين ومكانه . أما النقد الباطنى (internal criticism) فيبحث فى الحالات العقلية التى مر خلالها كاتب الأصل التاريخى، ويحاول أن يتبين قصد الكاتب بما كتب، وهل كان يعتقد صحة ما كتبه، وهل توفرت المبررات التى جعلته يعتقد صحة ذلك ؟ صــ83

♦ وعلى ذلك تتضح أهمية البحث لمعرفة أكبر قسط ممكن من المعلومات عن كاتب الأصل أو الوثيقة التاريخية. وفى هذه الناحية وغيرها من نواحى نقد الأصول التاريخية، يصبح عمل المؤرخ شبيهاً بعمل القاضى، وإن إختلفت الظروف . فالقاضى يمتاز بأن شهود الحوادث أحياء أمامه - فى الغالب - وينطقون بالحق أو الكذب، ولكن هذا المثول لا يتوفر للمؤرخ، الذى عليه أن ينتقل من الحاضر إلى الماضى بالعقل والنقد والخيال . صــ90

♦ ويلاحظ الباحث عند تحديد العلاقة بين النُسخ المتعددة لمخطوط واحد، قاعدة شبه عامة، وهى أن النُسخ المتشابهة التى تحتوى على نفس المعلومات، واردة بنفس اللغة وبنفس الأخطاء، إما أن تكون قد نقلت جميعها عن أصل أقدم منها أخذ عن الأصل الأول الضائع، وتحتوى على نفس المعلومات ونفس الأخطاء. ولا يُعقل من الناحية السيكولوجية أن عدداً من الناسخين ينقلون مستقلين أصلاً تاريخياً معيناً، ويوردون نفس المعلومات بنفس اللغة وبنفس الأخطاء، بل لابد من أن يوجد بينهم فوارق متنوعة . صــ110

[النقد الباطنى]

♦ وعلى ذلك فمن الضرورى أن تحلل الوثيقة أو النص التاريخى، لمعرفة العمليات التى لم تراع فيها الدقة اللازمة - بقدر الإمكان - حتى لا يأخذ الباحث بما ورد به من المعلومات قبل التثبت من صحتها. فالتحليل (analysis) ضرورى فى نقد الأصول التاريخية . وما من نقدٍ يمكن أن يجرى دون أن يبدأ بالتحليل . ومن أهم واجبات التحليل إسترجاع أغلب العمليات التى قام بها المؤلف، منذ الوقت الذى بدأ فيه بمشاهدة الحادث - إن كان قد فعل ذلك - حتى تحركت يده لتسطير الأصل التاريخى الماثل بين يدى الباحث فى التاريخ. أو على العكس من ذلك، ينبغى أن يسير الباحث إبتداء من الحادث المسجل فى لأصل التاريخى، حتى يصل إلى الوقت الذى شهد فيه المؤلف ذلك الحادث - إن كان قد فعل ذلك. ولا شكل أن ذلك يستغرق الزمن ويقتضى الصبر . صــ117

♦ ويلجأ أكثر الباحثين فى التاريخ دقة ً إلى طريق مختصر، ويركزون عملياتهم فى مجموعتين :
1 - تحليل محتويات الأصل التاريخى بالنقد الباطنى الإيجابى الضرورى للتحقق من معنى الألفاظ ومن قصد المؤلف بما كتبه . 2 - تحليل الظروف التى دُوِّن فيها الأصل التاريخى، بالنقد الباطنى السلبى - الذى سيأتى بعد - والضرورى لإثبات صحة المعلومات المدونة . صــ118

♦ فالنقد الباطنى الإيجابى (hermeneutic) عبارة عن تحليل الأصل التاريخى بقصد تفسيره وإدراك معناه . ويمر ذلك فى دورين : أولاً تفسير ظاهر النص وتحديد المعنى الحرفى له . ثانياً : إدراك المعنى الحقيقى للنص ومعرفة غرض المؤلف مما كتبه . صــ119

\\وفى هذا الصدد - اللغوى - يمكن أن نجمل عدة نقاط هامة منها الفهم المكانى والزمانى للغة، وفهم أسلوب الكاتب اللغوى، وفهم الكلمة ليس بذاتها فقط بل فى السياق التى وجدت فيه ...\\

♦ وعندما ينتهى الباحث من تحديد المعنى الحرفى للألفاظ والتراكيب التى تحتمل الشك فى معانيها، عليه أن يصل إلى معرفة غرض الكاتب والمعنى الحقيقى لما كتبه. فمن الجائز أنه كتب بعض الأساليب والتراكيب غير الواضحة، وفى هذه الحالة لا يؤدى ظاهر النص إلى المعنى المقصود. وتعترض المؤرخ حالات كثيرة من هذا النوع، تحتوى على تشبيه أو مجاز أو إستعارة أو كناية أو رمز أو هزل ومداعبة أو تلميح وتعريض، أو التعبير عن المقصود بطريقة سلبية. ففى هذه الحالة لا يكفى فهم ظاهر النص والمعنى الحرفى للألفاظ، بل لابد من محاولة الوصول إلى المعنى الحقيقى الباطنى الذى قصد إليه كاتب النص التاريخى . صــ121

♦ إن النقد الباطنى السلبى عملية ضرورية لتصفية الحقائق وإستبعاد الزائف منها، بقدر المستطاع. ونظراً لصعوبة النقد الباطنى السلبى فإن بعض الباحثين لم يعنوا به عنايتهم بالنقد الباطنى التفسيرى الإيجابى، وإكتفوا بأن تعرفوا هل كان كاتب الأصل التاريخى معاصراً للحوادث التى كتب عنها، وهل كان شاهد عيان صادقاً فى رواية ما أعتقد أو ما تصوَّر حدوثه ؟ صــ125

♦ يمكن القول أن النقد الباطنى السلبى يؤدى إلى قاعدتين : 1 - الإثبات العلمى لأيه حقيقة تاريخية، لا يمكن أن يتم عن طريق شهود العيان فقط، بل ينبغى أن تتوافر لدى الباحث فى التاريخ الأدلة التى تثبت صحة تلك الحقيقة. وفى بعض الأحوال تُعد أقوال مؤلف بعينه أقوالاً صحيحة، ولكن لا يمكن أن يُتخذ ذلك كقاعدة عامة . 2 - لا يجوز أن يُنقد الأصل التاريخى فى هذه المرحلة كوحدة عامة، بل ينبغى أن تُنقد جزئياته وتفصيلاته وحوادثه المفردة واحدة بعد الأخرى. فنجد مثلاً أن جملة واحدة قد تحتوى على عدة حوادث مرتبطة بعضها ببعض، كما فى حالة عقد البيع، الذى يقتضى من الباحث أن يبحث الزمان والمكان، والبائع والشارى، وموضوع البيع والشراء، والثمن، وشروط البيع ... فهذا المثال الصغير يبين أن النقد الباطنى السلبى يتطلب عدة عمليات، ويستلزم جهداً وصبراً، ولكنه يصبح عملاً مألوف بالتمرين والتدريب العملى . صــ126

♦ وثمة صعوبة أخرى تواجه كاتب الأصل التاريخى والباحث فى التاريخ على السواء. فعلى الرغم من ذكاء الكاتب وعدله وتثبته من الأخبار والمعلومات، وعلى الرغم من عدم إنخداعه وبعده عن أسباب التحيز والهوى، وعلى الرغم من رغبته الصادقة فى قول الصدق والتعبير عن الحقيقة، فإن ما يكتبه لا يدل حتماً على أنه قد طابق ما رغب فى التعبير عنه. وذلك لأن الأمر يتطلب دقة خاصة وملكة أو موهبة تساعده على تدوين الكتابة التاريخية، بما يجعلها أقرب ما تكون مطابقة للحقيقة التاريخية. فكاتب الأصل التاريخى ينبغى أن يكتب بلغة دقيقة تعبر عما شهده بنفسه او ما عرفه، أو ما إستخلصه، بحيث يؤثر فى ذهن القارىء وينقل إله ما أحسه وما عرفه عن ذلك الحادث التاريخى المعين، وتجعله يدرك الأفكار التى قامت فى ذهنه هو عنه. وهذه الدقة فى التعبير ليست أمراً سهلاً كما يتصور بعض الناس، إذ كثيراً ما تعجز اللغة عن وصف الحوادث وعن أداء المعانى وعن التعبير عما يجيش بالصدور . صــ133

♦ ويُلاحظ أن الأساطير من أهم أنواع الروايات الشفوية، وتكثر عند الجماعات الفطرية أو فى البيئات غير المثقفة، مثل بعض القبائل أو سكان الريف أو الجند. ويوجد عصر أساطير فى تاريخ كل أمة مثل أساطير قدماء المصريين وأساطير الفرس والهنود واليونان الرومان والصقالبة والجرمان...وفى عهود الحضارة تستمر الأساطير الشعبية فيما يتعلق بالحوادث ذات التأثير فى أذهان الناس. وحينما تبدأ أمة من الأمم فى تدوين تاريخها لا تنتهى الروايات الشفوية، بل تستمر ولكنها تبقى فى حيز ضيق، وتصبح مقصورة على وقائع لم تدون، لأنها سرية بطبيعتها أو لأن أحداً لم يُعن بتدوينها، وذلك مثل بعض التصرفات أو الأقوال الخاصة، أو بعض تفاصيل الحوادث التى أفلتت من سجل التاريخ. وعلى ذلك تنشأ النوادر أو القصص المسماة بأساطير الجماعات المتحضرة، مثل الإشاعات والأوهام والتفسيرات الخاطئة لبعض الظواهر، والحكايات التى تتركز حول بعض الشخصيات أو الحوادث . صــ135

♦ ومما يفيد فى النقد الباطنى السلبى - أو فى العدالة والضبط - الإلمام ببعض ما أورده ابن خلدون فى مقدمته من الآراء الخاصة بالبحث فى التاريخ فى نطاق دراسته للمجتمع الإنسانى. فهو يحاول أن يتجنب الأخطاء التى يقع فيها المؤرخ. بتحديد العوامل التى تؤدى إلى الوقع فى الخطأ، فيذكر أنه "لما كان الكذب متطرقاً للخبر بطبيعته، وله أسباب تقتضيه، فمنها التشيعات للآراء والمذاهب، فإن النفس إذا كانت فى حال الإعتدال فى قبول الخبر، أعطته حقه من التمحيص والنظر، حتى يتبين صدقه من كذبه. ومن الأسباب المقتضية للكذب فى الأخبار أيضاً الثقة بالناقلين، ومنها الذهول عن المقاصد، ومنها توهم الصدق، ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع، لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع. ومنها تقرب الناس فى الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب، بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك، فيستفيض الإخبار بها على غير حقيقة " . ويروى ابن خلدون أنه لابد للمؤرخ من معرفة طبائع العمران. لأن لكل حادث من الحوادث طبيعة تخصه فى ذاته، وفيما يعرض له من أحواله، فمعرفة طبائع العمران تساعد المؤرخ فى تمحيص الأخبار وفى تمييز الصدق من الكذب. وينبغى أن يكون ذلك سابقاً على التمحيص بتعديل الرواة، ولا يُرجع إلى تعديل الرواة حتى يُعلم أن ذلك الخبر فى نفسه ممكن أو متبع. وما كان مستحيلاً فلا فائدة للنظر فى أمر تعديله وتجريحه. وبذلك يستطيع المؤرخ أن يميز بين الصدق والكذب بوجه برهانى لا مدخل للشك فيه . ومع ذلك فإن ابن خلدون نفسه لم يُراع فى كتابه المسمى "العبر وديوان المبتدأ والخبر" الدقة فى تطبيق آرائه، فوقع فيما دعا إلى تجنبه من عوامل الخطأ والخضوع للمؤثرات المختلفة . ويوضح هذا كله على صعوبة دراسة التاريخ بعامة، وصعوبة النقد التاريخى بخاصة، والذى بغيره لا يمكن أن تتم كتابة التاريخ، على الرغم من محاولة الكاتب وجهده وسعيه إلى بلوغ ذلك. ويتضح بهذا - وبغيره - أن دراسة التاريخ ليست أمراً سهلاً، إذا تقتضى كثيراً من البحث والتحرى والأناة والصبر للوصول بقدر المستطاع إلى الحقيقة التاريخية، كما أشرنا إلى ذلك غير مرة . صــ145

[إثبات الحقائق التاريخية]

♦ ينبغى على الباحث قبل أن ينبذ رواية الواحد أن يحاول العثور على شواهد تؤيدها. والرواية المفردة، مهما كانت صادقة، يحسن ألا تُعد حقيقة نهائية، بل يمكن أن تُستخدم، مع الإعتراف بأنها رواية مفردة، وينبغى الإشارة إلى قائلها أو كاتبها، لأنه هو الذى يتحمل مسؤليتها. ويأخذ بعض المؤرخين أحياناً رواية وردت فى أصل واحد على أنها حقيقة ثابتة، مع أن هذا غير جائز . فمثلاً الحروبة الميدية التى تكلم عنها هيرودوت، لا يمكن أن تكون موضع دراسة ومناقشة، كما هى الحال بالنسبة إلى حوادث الثورة الفرنسية الكبرى، التى شهدها وكتب عنها مؤلفون عديدون، بوجهات نظر متفاوتة . صــ147

♦ ينبغى على الباحث فى التاريخ أن يلاحظ أنه إذا وجدت عدة أصول تقول برأى معين، ووجد مصدر واحد يقول برأى مخالف، فمن الجائز أن يكون الرأى الواحد هو الصحيح. والكثرة العددية لا تحدد حتماً صحة ما تورده، والعبرة قائمة فى نوع هذه الكثرة أو فى نوع الواحد، من حيث صفات الكتّاب وظروفهم ووسائل بحثهم. ولا عبرة بالعدد أحياناً فى بعض المسائل التاريخية . صــ148

♦ ويلاحظ كذلك أن إتفاق الروايات المستقلة لا يكفى وحده لبلوغ الحقيقة التاريخية، وهو يؤدى أحياناً إلى نتائج ليست نهائية دائماً. ولكى يتثبت الباحث من هذه النتائج ينبغى عليه أن يلاحظ التوافق والتآلف والإتساق بين الحقائق التاريخية . فقد يؤكد الكثير من الحقائق بعضها بعضاً، ويوجد بينهما صلة وعلاقة، فتكون مجموعاً متناسقاً يلمع الحق فى ثناياه، وتصبح كالموسيقى التى تُشكل الحانها المتسقة مجموعة من الأنغام التى تؤثر فى نفس المستمع الفنان المتذوق ... صــ151

♦ وبذلك نجد أن هيرودوت قد قدم لنا معلومات متنوعة مستمدة من مصادر مختلفة. فمعلوماته عن التاريخ المصرى القديم لم تزد عن إعتبارها نوعاً من الأساطير والقصص، والتى أوردها لنا كما سمعها، ولكنه لم يأخذها على أنها وقائع مسلم بصحتها، بل أبدى الشك فى بعض نواحٍ منها، وسردها لمن كان مستعداً لتصديقها. ولكن ابتداء من العصر الصاوى، وكلما إقترب كلامه من العصر الذى عاش فيه، نقص لديه عنصر الخيال والقصص وزاد  عنصر الصدق والحقيقة التاريخية . وكذلك نجد وصف هيرودوت لمصر كما شهدها صحيحاً بصفة عامة، بل ونجد معلوماته عن بعض نواح من الديانة المصرية القديمة ومن العادات المصرية القديمة، مطابقة لما توصل إلى إثباته علماء مصر القديمة المحدثين. وعلى وجه العموم يبدو هيرودوت فى كتابته عن مصر، كباحث متحمس محب للحقيقة، وإن لم يَحُلْ ذلك دون وقوعه فى الخطأ، إذ لم يستطيع دائماً أن يميز بين القصص والحقائق التاريخية . صــ155

♦ ويلاحظ فى بعض الأحيان أن الباحث فى التاريخ يُضطر إلى اتباع طريقة رجل القانون. ولا ريب أن هناك أوجه شبه بين عمل الباحث فى التاريخ وعمل القاضى فى كثير من مراحل البحث. وكثيراً ما يحدث أن يدرس الباحث فى التاريخ الظروف التى أحاطت بحادث ما، على نحو ما يفعل القاضى، ويحاول أن يستنبط ما يمكن الوصول إليه من الحقائق . ولنأخذ مثالاً أورده الاستاذ فلنج عن حالة إجرامية . فالنفرض أن شخصاً رمز إليه بـ (أ) كان واقفاً مع (ب) فى غرفة بطبقة عالية. ويخرج (أ) من باب الغرفة الوحيد ويترك (ب) فى داخل الغرفة، ويرى (أ) بعد خروجه شخصاً ثالثاً (جـ) يدخل تلك الغرفة. وبعد قليل يسمع (أ) جلبة وصراخاً وصوت جسم يسقط على الأرض. ويلاحظ (أ) أن (جـ) قد غادر الغرفة مهرولاً وهو فى حالة مضطربة، فيدخل (أ) الغرفة، ويجد (ب) ملقى على الأرض مضرحاً بدمائه وبجانبه مدية عليها آثار الدماء. فالشخص (أ) لم يشهد بنفسه ما حدث داخل الغرفة، ولكن الظروف التى ذكرناها تجعله يستنتج أن (جـ) هو القاتل .
وتبدو المسألة أكثر صعوبة إذا صُوّرت الحالة على الوجه الآتى: توجد غرفة ذات بابين وبها ثلاثة أشخاص (أ ، ب ، جـ) ويلاحظ (أ) أن (ب ، جـ) يتناقشان فى مسألة ما ، فيخرج لبعض شأنه، ويترك (ب ، جـ) بالغرفة. وبعد قليل يسمع جلبة وضوضاء وصراخاً وصوت سقوط جسم، فيدخل ليرى ماذا حدث، فيجد (ب) ملقى على الأرض مطعوناً بمدية غارقاً فى دمائه، ويجد (جـ) ممسكاً بالمدية. هذه الشواهد لا تَثبت حتماً أن (جـ) هو القاتل، إذ أن الغرفة ذات بابين، ومن الجائز أن شخصاً مجهولاً دخل الغرفة من الباب الثانى واعتدى فجأة على (ب) وطعنه بالمدية، وحاول (جـ) الدفاع عن (ب) ولكنه لم يفلح. ولعله قد حاول أيضاً إخراج المدية من جسم (ب) فدخل (أ) الغرفة فوجد المدية فى يد (جـ). ومن الجائز أن القاتل المجهول أسرع إلى الهرب من الباب الثانى. ومن الجائز أيضاً أن (جـ) هو القاتل. ولكننا لا نستطيع أن نستخلص الحقيقة هنا بسهولة، بل لا بد لذلك من إجراء تحقيق دقيق محدد ومتشعب، كفحص آثار البصمات أو تحليل آثار الدم، أو آثار التمزيق فى الملابس، أو غير ذلك من الشواهد إن وجدت .. وإن تفهم هذا المثال وغيره من الحالات الإجرامية، يساعد الباحث فى التاريخ على إستنباط بعض الحقائق التاريخية. فينبغى عليه أن يدرس الأصول والمصادر الماثلة أمامه بهذه الروح الفاحصة، فلا يصدق بسهولة ما يقرأه أو ما يُروى له، ويحاول أن يستخلص من ظروف الحوادث وملابساتها ما يعنيه على أن يصل إلى الحقيقة التاريخية، أو ما يقرب منها . صــ156 ، 157

[بعض القواعد العامة للتركيب التاريخى]

♦ بعد التثبت من صحة الحقائق التى تقدمها الأصول والمصادر التاريخية، ينبغى على الباحث فى التاريخ أن يقوم بسلسلة من عمليات التركيب أو البناء (synthesis) . ودراسة هذه العمليات من أهم المراحل فى الإلمام بمنهج البحث فى علم التاريخ، وهى مرتبطة بنوع المادة التاريخية التى يتوصل إلى جمعها الباحث فى التاريخ . صـ158

♦ ونجد فى علم الحيوان الوصفى مثلاً، أنه يمكن ملاحظة الحيوان وتشريحه، وبعد ذلك يمكن جمع أجزائه وتركيبها وجعلها تكون شكلها السابق على وجه التقريب. فهاتان العمليتان هما التفكيك أو التحليل والتركيب الحقيقيان. ولكن الحال مختلفة بالنسبة لعلم التاريخ، إذ لا يكون التحليل والتركيب فيه شيئاً ملموساً على النحو المشار إليه، بل يكون على سبيل الإستعارة فحسب . صـ160

♦ ويمكن أن تُلخص عمليات التركيب أو البناء التاريخى فى بعض المراحل. وعلى الباحث أن يجمع خلالها العناصر المأخوذة من أصول تاريخية متعددة، ويحاول أن يُكون عنها صورة عقلية تشابه بقدر الإمكان الصورة التى وُجدت فى ذهن شاهد العيان أو كاتب الاصل التاريخى. ثم يقسم الباحث الحقائق إلى مجموعات على أساس من التشابه القائم بينهما، وعلى أساس المسائل المتعلقة بنقطة أو حادث معين. وحينما تصادف الباحث فجوات صغيرة أو كبيرة، فعليه أن يحاول ملأها بالإستنتاج العقلى المستمد من الحقائق التى توفرت لديه، وعليه كذلك أن يستخرج من هذه الحقائق صفاتها العامة، وعلاقة بعضها ببعض، ويؤدى ذلك فى النهاية إلى كتاب التاريخ . صــ162

[تنظيم الحقائق التاريخية]

♦ يصل الباحث فى التاريخ إلى مرحلة تنظيم أو ترتيب الحقائق التاريخية التى تجمَّعت لديه. ومن غير شك ينبغى عليه أولاً أن يُفاضل بينها وأن يستمسك ببعضها ويدع جانباً بعضها الآخر. وفى الواقع أن كل الحقائق التاريخية لها قيمة فى حد ذاتها، ولكن الباحث مضطر إلى إختيار جزء منها لإستخدامه فى كتابة التاريخ، والحقائق التى يتركها جانباً تساعده - وإن لم يُبرزها - على فهم كثير من مسائل التاريخ. ويمكن للباحث أن يختار الحقائق على أساس موضوعه أو إتجاهه إلى الكتابة فى الناحية التى تعنيه، سواء أكانت ناحية سياسية أم إقتصادية أم عسكرية أم دينية أم ثقافية ... صــ165

♦ وعلى ذلك ينبغى أن تٌُدرس الحقائق وتنظم على أساسين : على أساس العناصر المفردة القائمة بذاتها، وعلى أساس عناصرها الجماعية المستمرة . وكلتا الناحيتين ضرورية، إذ لابد من الجمع بين الحوادث العامة والحوادث الخاصة المعينة. فمثلاً لا يمكن فهم تاريخ النظم الفرنسية، إذا إقتصر الباحث على دراسة الحوادث أو التيارات العامة، دون دراسة سقوط الباستيل مثلاً، والعكس صحيح . وينبغى على الباحث فى التاريخ أن يلاحظ أوجه التشابه والخلاف بين الجماعات الإنسانية، ولا يجعل تنظيمه وتقسيمه للجماعات قائمين على التشابه والسطحية، بل ينبغى عليه أن يتبين على وجه الدقة طبيعة كل جماعة بعينها : فما أوجه الشبه بين أفراد الجماعة الواحدة ؟ وما الصلة التى ربطت بينهم ؟ وما الآراء أو العادات التى سادت بينهم ؟ وما أوجه الخلاف ؟ فالبروتستانت مثلاً تجمعهم رابطة واحدة بالنسبة إلى الكنيسة الكاثوليكية، ولكنهم ينقسمون فيما بينهم إلى طوائف من أتباع لوثر أو كلفن أو زِوينجلى ... واللغة الواحدة مثلاً تنقسم إلى لهجاب، ولبعضها قيمة أدبية خاصة، والدولة الواحدة تنقسم إلى مقاطعات ... ففى مثل هذه المسائل يلاحظ الباحث الصفات العامة . وكذلك نجد كثيراً من الحوادث كون فيما بينها وحدة أو رابطة عامة، فضلاً عن ملاحظة الخصائص الجزئية المميزة لكل فرع أو شعبة من هذه الرابطة العامة الجامعة . صــ167

[الإجتهاد]

♦ وللإجتهاد طريقتان، طريقة سلبية وأخرى إيجابية. ولقد عبر المناطقة عن الإجتهاد السلبى بقولهم (السكوت حُجّة). فقد يقال إن الحادث لم يقع لسكوت الوثائق أو المصادر عنه، وإنه لو كان الحادث حقيقياً لسمعنا به أو لقرأنا أخباره. ولكن هذا إستنتاج خطر فى أحوال كثيرة، لأننا لا يمكننا أن نسمع جميعاً بكل الحقائق. وقد تعرض كثير من الأصول التاريخية للتلف أو الضياع، فضاعت معه حوادث التاريخ ... صــ175

♦ أما الإجتهاد الإيجابى فهو محاولة إستنتاج حقيقة أو حادث أو أكثر، بمجرد التثبت من حدوث واقعة معينة. فيبدأ الباحث بحادث ما، ثم يسعى إلى أن يستنتج وقوع حوادث أخرى لم يرد عنها نص فيما تحت يده من الأصول التاريخية. ويمكن أن يقارن الباحث حوادث الحاضر بحوادث الماضى حتى يساعده ذلك فى إستنتاجه. فيجد أن كثيراً من الحقائق أو الحوادث مرتبط بعضها ببعض، وإذا عرفنا حادثاً معيناً، أمكن إستنتاج وقوع حادث آخر، لترتب أحدهما على الآخر، أو لأنهما معاً نتيجة سبب مشترك. وينطبق هذا الإجتهاد على الحقائق التاريخية كافة، على العادات، وعلى المجتمع وتطوره أو تغيره فى شتى النواحى، وعلى الحوادث الفردية، وعلى مسائل السياسة، أو الدين، أو الفن، أو الحياة العقلية ... صــ182

♦ ثم ينبغى أخيراً أن يلاحظ الباحث أن الإجتهاد لا يؤدى دائماً إلى نتائج نهائية ثابتة، ولكنه يؤدى فى الغالب إلى نتائح تقريبية. وأحياناً يمكن ملء بعض الفجوات فى التاريخ عن طريق الإجتهاد، وأحياناً أخرى تبقى بعض المسائل التى لا يمكن الوصول فيها إلى رأى حاسم، ويظل الشك حائماً حولها، وربما يأتى فى المستقبل من يمكنه أن يصل فى شأنها إلى راى أصح أو افضل، بناء على ما قد يُكتشف عنه من الحقائق المجهولة . صــ184

[التعليل والإيضاح]

♦ وقد حاول بعض الباحثين الطبيعين ونحوهم، لمعرفة أسباب الحوادث. فقاموا بمقارنة مجموعات من الحقائق، لإكتشاف أى الحوادث يقع فى نفس الوقت، ويكون الإرتباط بينهما قوياً. فيدرس الباحث مثلاً ناحية من تاريخ النظم أو العقائد، ويقارن بين أوجه تطورها فى عدة مجتمعات، لكى يحدد إتجاه تطورها العام، بقصد الوصول إلى معرفة السبب المشترك الذى يرجع إليه ذلك التطور. وعلى ذلك ظهرت أنواع من الدراسات التاريخية المقارنة، مثل دراسة فقه اللغة المقارن، والأساطير المقارنة، والقانون المقارن، والنظم المقارنة والأدب المقارن .. وحاول بعض الباحثين فى أوروبا إستخدام الإحصائيات فى هذه الدراسة المقارنة زيادة فى الدقة . صــ186

[إنشاء الصيغ التاريخية]

♦ يحتاج التاريخ إلى صيغة وصفية للتعبير عن طبيعة ظواهره المختلفة. وينبغى أن تكون الصيغة التاريخية مختصرة ودقيقة. وقد يوجد التعارض بين الإختصار والدقة. فالأسلوب المختصر ربما يحول دون فهم المراد، والأسلوب المطول ربما يقلل من قيمة التاريخ المكتوب، ويقدم للقارىء ما ليس ضرورياً. فيحسن اتباع طريق وسط بين الطريقين، وذلك بضغط الحقائق أو الحوادث، وبحذف كل ما هو غير ضرورى لإيضاحها. وطبيعة الحقائق ذاتها ربما تجعل هذه العملية صعبة، فالحقائق ذاتها تتفاوت فى دقتها وتركيزها، وتوجد حقائق مطولة مفصلة، وأخرى مقتضبة موجزة، ولا تُعرف تفاصيلها . صــ 191

♦ ينبغى على الباحث أن يستعين فى ذلك بما وصل إليه من التعرف على طبيعة الحقائق العامة، ومدى إنتشارها فى الزمان والمكان، يجمع كل الظواهر المتعلقة بها، وتركيزها، وتمييزها عن غيرها من الحقائق، وبذلك ينتظمها فى بنائه التاريخى. صــ192

♦ وكذلك ينبغى على الباحث أن يعطى الناحية التاريخية التى يدرسها التلوين المناسب، مما يساعد على إبراز صورة صحيحة عنها. ولا يمكن أن يحدد ذلك التلوين بقواعد معينة، والأمر متروك إلى ذوق الباحث وتقديره. فمثلاً عند الكلام عن إنعقاد مجلس طبقات الأمة فى فرساى فى 4 مايو سنة 1789 ، يحسن به أن يذكر جمال الجو فى ذلك اليوم، وتزاحم الجماهير فى الطرق والميادين وفى النوافذ وفى أعلى الدور، وتزيين الشرفات بالسجاجيد، وإصطفاف الجند، وسير الموكب، ووصف فرق الموسيقى، وإبتهاج الجماهير، وإستقبال لويس السادس عشر ومارى أنطوانيت ... فكل هذه التفاصيل تساعد على تلوين الموقف وتصويره ورسم الجو السائد، الذى يجعله أقرب إلى الفهم وأدنى إلى التصور . صــ193

[العرض التاريخى]

♦ آخر مرحلة من مراحل هذا المنهج هى مرحلة العرض التاريخى. وهى ليست أسهل من المراحل السابقة. وبالضرورة لا تصبح كتابة التاريخ سهلة إلا حينما تكون جميع الحقائق ماثلة أمام الباحث مُثبتة مرتبةً معللةً مشروحةً، وعندما يتخيل الباحث موضوع البحث كله كوحدة عامة، ويدرك النسبية لأجزاء البحث المختلفة ويحسن اللغة التى يكتب بها..صـ196

♦ وتوضع المؤلفات التاريخية إما للجمهور وإما للمختصين. فالكتب التى توضع للجمهور يُقصد بها الثقافة العامة، وهى تُعنى بتقديم صورة سهلة واضحة مختصرة عن العصر أو الناحية التاريخية التى تتناولها. ولا تحتوى مثل هذه الكتب على التفصيلات وعلى الإرشادات إلى الأصول والمراجع، وتكتفى بذكر بعض المراجع العامة للرجوع إليها إذا رغب القارىء فى المزيد. ومن الأفضل أن يكتب هذه المؤلفات العامة نفس الباحثين الذين يكتبون للمختصين، إذا اتسع وقتهم لذلك، لأنهم أقدر على فهم دقائق التاريخ وتفاصيله، وهم فى الغالب أقدر على عرضه بصورة عامة واضحة مختصرة ... صــ197

♦ وكذلك ينبغى ألا يكتب الباحث بأسلوب أدبى صرف، لأن ذلك ربما يضطره إلى تغيير الحقائق، وإلى المبالغة فيما يكتبه، لإحداث الأثر المطلوب فى نفس القارىء. وليس المقصود أن يكتب قطعة أدبية مثيرة للعواطف، بل المقصود أن يعرض على القارىء بوضوح النتائج التى وصل إليها. وياحبذا لو كانت للباحث ملكة الكتابة، التى يجمع فيها بين البساطة والدقة وروح الفن لكى يعرض الحقائق والحوادث كما كانت أو كما فهمها، بالصورة التى تجتذب القارىء إلى الإقبال عليه والإفادة بما كتبه ... من نفس الصفحة

♦ ينبغى أن تكون الهوامش جزءاً هاماً فى أسفل الصفحات أو فى نهاية الفصل أو فى نهاية الكتاب، لكى تضبط الوقائع الواردة فى متن التاريخ. وفى المؤلفات المطبوعة التى يعتمد عليها البحث، يلزمه أن يضع اسم المؤلف(اللقب أولاً ثم الإسم أو أول حروفه)، ويضع اسم الكتاب ومكان طبعه وتاريخه، ورقم المجلد إذا كان متعدد المجلدات، ورقم الصفحة. وإذا كان الكتاب المطبوع نادر الوجود، فينبغى ذكر مكان وجوده ورقمه. وإذا كان الأصل التاريخى الذى اعتمد عليه الباحث وثيقة مخطوطة، فينبغى ذكر الأرشيف أو المكتبة التى توجد بها رقم المجلد ورقم الملف ورقم الصفحة، وتاريخ الوثيقة ومكان تدوينها، وعمَّن صدرت وإلى من أرسلت، وبيان ما إذا كانت ورقة نهائية رسمية أو غير رسمية، أو مُسودة، وإذا أمكن معرفة كل هذه النواحى. ولا بد أن تكون هذه المعلومات دقيقة وصحيحة، وألا يحدث بشأنها سهو او إضطراب وخلط، وإلا فلا فائدة منها أصلاً، لان المقصود بذلك أن تتاح الفرصة أمام الإخصائى للرجوع بنفسه إلى بعض هذه الأصول التاريخية، إذا رغب فى التثبت من مسألة معينة - وهذا شىء من حقه - أو إذا رغب فى متابعة البحث فى نفس الموضوع والمزيد فيه . صــ199






  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

4 التعليقات:

غير معرف يقول...

يا الله افدتمونا كثيرا شكرا لكم و جزاكم الله خيرا

Unknown يقول...

نامل المساعده في اعداد ورقة عمل بعنوان المنهجية التاريخية نماءجها

غير معرف يقول...

شكراا والف شكر لكل من وضع معلومة تفيد الطلبة

غير معرف يقول...

شكرا جزيلا

إرسال تعليق