النظرة العلمية (برتراند رسل)


• قد استنفد طاقته، بل لعل  من السخف أن نظن أنه بلغ ذروته. فأغلب الظن أن العلم سيستمر قروناً ليحدث تغييرات تزيد سرعتها على الأيام.
• الذي يعنينا ليس هو تتبع سقطات رجال العلم، فإنما نحن نحاول أن نصف الطريقة العلمية. فالراي العلمي هو ما يوجد سبباً للإعتقاد بصحته، والرأي غير العلمي هو ما يقبل لسبب غير احتمال صحته.
• العبقرية الإغريقية كانت عبقرية قياسية أكثر مما كانت استقرائية، ولذلك لاءمتها الرياضيات كل الملاءمة.
• لم يكن الصدام بين جاليليو ومحكمة التفتيش مجرد صدام بن الفكر الحر والتعصب، أو بين العلم والدين، فإنه صدام بين روح الإستقراء وروح القياس.
• ان العالم الحديث ما كان ليوجد لو أن مئة من رجال القرن السابع عشر قد قتلوا في طفولتهم، وعلى رأس هؤلاء جاليليو.
• إن المعرفة على خلاف أوهام تحقيق الرغبة، أمر عسير المنال. وأيسر اتصال بالمعرفة الحقة يُضعف من شهوة تقبل الأوهام.
• كان نيوتن رجلاً عصبياً، يميل إلى الشجار ويخاف من المعارضة. وكان يكره النشر لأنه يعرضه للنقد. وكان لا بد من أن يحمله أصدقاءه على النشر حملاً..
• لم توضع الجاذبية في مكانها الملائم من الإطار العام لعلم الطبيعة، إلا بفضل نظرية أينشتين العامة في النسبية (1915)، وعندئذ وُجِد أنها أقرب إلى الهندسة منها إلى الطبيعة بالمعنى القديم.
• اصطدم داروين باللاهوت كما فعل جاليليو، وإن كانت نتائج صدامه أقل إفجاعاً. وداروين رجل جليل الخطر في تاريخ الثقافة، وإن كان من الصعب تقدير أهميته من الوجهة العلمية البحتة.
• أرسطو - كما ينبغي أن يُقال - كان من ضمن الكوارث الكبرى التي نزلت بالبشر. فقد ظل تعليم المنطق في معظم الجامعات حتى يومنا هذا مليئاً باللغو الذي مرده إلى أرسطو. (طبعاً يقول ذلك تهكماً، وإلا فأرسطو معروف قدره، وإن أخطأ)
• لقد أخطأ داروين في قوانين الوراثة، فغيرتها نظرية مندل تغييراً كلياً..
• رجل العلم إنما يبحث عن الحقائق ذات المغزى، من حيث تأديتها إلى قوانين عامة، وتكون هذه الحقائق في الأغلب خالية خلواً تاماً من الأهمية الذاتية.
• النظام القياسي مكانه الكتب، أما النظام الإستقرائي فمكانه المعمل.
• إن أعظم الظواهر فائدة قد تكون أمنعها على الملاحظة.
• إن العلم الدقيق تسيطر عليه فكرة التقريب. فإن أخبرك أحد الناس أنه يعرف الحقيقة الدقيقة عن أي شيء، فثق بأنه رجل غير دقيق.
• إن الدور الذي تلعبه الأقيسة والكم في العلم دور كبير جداً، ولكني أظن أنه يبالغ في تقديره أحياناً. إن الأسلوب الرياضياتي أسلوب قوي، ورجال العلم يتلهفون بطبيعة الحال على إمكان تطبيقه أينما وجدوا إلى ذلك سبيلاً..
• واضح إنك لكي تصدق شيئاً خارجاً عن تجاربك الشخصية، ينبغي أن يكون لديك مبرر لتصديقه. والمبرر عادة هو رأي الثقات.
• اللغة العادية غير ملائمة مطلقاً للتعبير عما تقرره الطبيعة حقيقةً، لأن ألفاظ الحياة اليومية غير كافية التجريد.
• إن قوة الإيمان الكاثوليكي حين تدهورت في عصر النهضة، مال القوم إلى أن يملؤوها بالتنجيم والإتصال بأرواح الموتى. وعلى هذا النحو يجب أن نتوقع أن تدهور العقيدة العلمية سيؤدي إلى بعث خرافات ما قبل العلم.
• إني أظن أن الآلات ستبقى بعد إنهيار العلم، كما قد بقي القسيسون بعد إنهيار الدين، ولكن سيكف الناس عن النظر إليها بعين المهابة والجلال.
• بينما العلم من حيث هو بحث عن المقدرة تزداد انتصاراته زيادة مستمرة، فإن العلم من حيث  هو بحث عن الحق قد قتله الشك الذي أنجبته مهارة العلم.
• إنه لتهور طائش أن تُقيم صرحاً للفقه الديني على قطعة من الجهل لعلها لا تلبث أن تُعلم، وإن آثار هذا العمل، إن كانت له آثار، لهي ضارة لا محالة، لأنها تعقد أمل الناس بعدم استحداث كشف جديد في المستقبل.
• قد يكون مبدأ العلية صحيحاً وقد يكون غير صحيح، ولكن الشخص الذي يبتهج بعدم صحته لم يفطن إلى ما يتضمنه عدم صحته من معان. وهو في العادة يستبقي التسليم بكل القوانين التي تلائمه [..] بينما يرفض كل القوانين التي لا تلائمه. ولكن هذه سذاجة، وأي سذاجة..
• الرياضيات البحتة لا تتوقف مطلقاً على الملاحظة، بل هي تختص بالرموز، وبإثبات أن مجموعات مختلفة من الرموز لها نفس المعنى.
• لقد كنت أعرف يوماً فقيهاً دينياً سلفياً متزمتاً ممتاز المعارف فقال لي: "إنه بفضل طول دراسته قد أصبح قادراً على فهم كل شيء عدا السبب في أن الله قد خلق العالم."
• وبوصفي عالماً فأنا أصدق أن نظام الأشياء الحالي لم يبدأ على حين بغتة؟ وإذا تخليت عن صفتي العلمية شعرت كذلك بعدم تقبل لما يتضمنه ذلك من عدم اطراد في الطبيعة الإلهية. ولكن ليس لدي اقتراح يهدي إلى الخروج من هذه الورطة.
• لو صح أن العالم الذي نعيش فيه قد خُلِق وفق خطة، فقد وجب أن نعد نيرون قديساً إذا قورن براسم هذه الخطة.
• لعل الله هو الذي صنع العالم، ولكن هذا لا يعني أننا لا نصنعه من جديد. وهذا الموقف قد اصطدم بالدين التقليدي اصطداماً شديداً  أشد بكثير مما فعلت أي حجج عقلية.
• إن كل التفكير العلمي الحديث - كما ذكرنا - هو في أساسه تفكير في المقدرة، أي أنه لا يستثير من الدوافع الإنسانية الأساسية غير حب التسلط، أو بعبارة أخرى رغبة الإنسان في أن يكون علة لأكثر وأضخم معلومات ممكنة.
• وكان التفكير اليسوعي بطبيعته تفكير تسلط، ولكن على نحو بالغ السذاجة والبساطة، أما التفكير العلمي الحق ففيه دافع التسلط مهذب رفيع.
• العلم بوجه عام شجرة تنمو في تربة الإيمان الحيواني، ولكن يشذبها مقص العقل.
• إن العرب الذين ارتضوا دين محمد لم يكادوا يغيرون من عاداتهم أكثر مما فعل الأمريكيون حين قبلوا قانون فولستيد وحين قررت عشيرة محمد المرتابة أن تؤيده، كان مرجع ذلك إلى قلة ما يطلبه من التغيير.
• إن من أصعب المشاكل التي تواجه الديمقراطية مشكلة إقامة علاقة صحيحة بين العلم والسياسة، وبين المعرفة والسلطة، أو بتعبير أدق بين العامل في حقل العلم، وإدارة حياة المجتمع..
• للتربية هدفان: تكوين العقل وإعداد المواطن. وقد ركز الأثينيون عنايتهم في الهدف الأول، وركز الأسبرطيون عنايتهم في الثاني. وانتصر الأسبرطيون، ولكن خُلِّد ذكر الأثينيين.
• لم يكد العلم يقبض بقوة على التنظيم الإجتماعي، حتى يقبض كذلك غالباً على تلك الجوانب البيولوجية للحياة البشرية، تلك الجوانب التي تركت حتى الآن للتوجيه المشترك بين الدين والغريزة.
• لقد اعتمد الدين التقليدي على الإحساس بعجز الإنسان في وجه القوى الطبيعية، بينما المنهج العلمي يغري بالإحساس بعجز القوى الطبيعية أمام ذكاء الإنسان.
• ... وإن علماء الطبيعة المساكين، وقد هلعوا من الخراب الذي كشفت عنه نظرياتهم، ليدعون الله أن يلهمهم العزاء، ولكن لا بد أن الله على شاكلة خلقه، مجرد وهم من الأوهام..
• لا يكاد يُدرك فشل العلم من حيث هو ميتافيزيقياً، حتى لا يستطاع الحصول على المقدرة التي يمنحها العلم من حيث هو منهج، إلا بشيء شبيه بعبادة الشيطان، أعني بالتخلي عن الحب..

==================================================
▬ لئن بدت الطريقة العلمية معقدة في شكلها النهائي المهذب، فهي في جوهرها غاية في البساطة. فهي تتلخص في ملاحظة تلك الحقائق التي تُمكِّن من يلاحظها من اكتشاف قوانين عامة تسري على حقائق من نفس النوع. فالمرحلتان، وهما الملاحظة أولاً، واستنتاج قانون ثانياً، كلتاهما ضروريتان، وكلتاهما قابلتان للتهذيب إلى غير حد تقريباً، ولكننا نجد أن أول رجل قال (النار تحرق) إنما كان يستخدم الطريقة العلمية في جوهرها، إن كان قد سمح لنفسه بأن يحرق عدة مرات. فهذا الرجل قد مر فعلاً بمرحتلي الملاحظة والتعميم. ومع ذلك فليس لديه ما يتطلبه النهج العلمي، وهو من جهة الإختيار البصير للحقائق ذات الدلالة، ومن جهة أخرى الوسائل المختلفة للوصول إلى القوانين عن طريق التعميم وحده. فالرجل الذي قال إن الأجسام التي لا مسكها شيء في الهواء تسقط فهو إنما قد عمم فحسب، وعرّض قوله لأنه يكذبه المنطاد والفراشة والطائرة، بينما الرجل الذي يفهم نظرية سقوط الأجسام يعرف كذلك لماذا لا تسقم بعض الأجسام استثناء من القاعدة. صــ11

▬ كان العرب أميل إلى التجريب من الإغريق، وبخاصة في الكيمياء، فقد كانوا يأملون أن يحيلوا المعادن الرخصية إلى ذهب، وأن يكتشفوا حجر الفلاسفة، وأن يركبوا إكسير الحياة. وكان هذا من أسباب إقبالهم على البحوث الكيميائية. وقد حمل العرب تقاليد المدنية طوال عصور الظلام، وإليهم مرجع كثير من الفضل في أن بعض المسيحيين أمثال روجور بيكون قد حصّلوا كل المعارف العلمية التي تهيأت للشطر الأخير من العصور الوسطى. ولكن كانت بالعرب آفة تختلف عن آفة الإغريق. فقد كانوا ينشدون الحقائق المنفصلة أكثر مما ينشدون المباديء العامة. ولم يكن لديهم المقدرة على استخلاص قوانين عامة من الحقائق التي اكتشفوها. صــ17

▬ صعد جاليليو ذات صباح إلى قمة برج بيزا المائل، ومعه كرة تزن عشرة أرطال وأخرى تزن رطلاً واحداً. وبينما الاساتذة ذاهبون في وقار وخمول على قاعات محاضراتهم في حضور طلبتهم، إذا استرعى جاليلو انتباههم، ثم ألقى بالثقلين من قمة البرج إلى أقدامهم. فوصل الثقلان في نفس اللحظة تقريباً بيد أن الأساتذة اعتقدوا أن أعينهم قد خدعتهم لا محالة، لأن أرسطو لا يجوز عليه الخطأ [..] كان الرأي الجامعي يمقت اكتشافاته مقتاً شديداً ..   صار جاليليو رجلاً مكروها، وصار يُهزأ به في محاضراته.. وهو مصير ذاقه أينشتين في برلين. فقد صنع منظاراً مقرباً، ودعا الأساتذة لأن ينظروا من خلاله إلى أقمار عطارد. فرفضوا، لأن أرسطو لم يذكر هذه التوابع، فمن ظن أنه رآها فهو خاطيء لا محالة. صــ19 : 20

▬ يبدأ كتاب المبادي الأساسية لنيوتن (principia) بالطريقة الإغريقية الجليلة: فهو يفسر النظام الشمسي كله بإستنباط قياسي رياضياتي بحت من قوانين الحركة الثلاثية وقانون الجاذبية. جاء كتاب نيوتن باهر الجلال، إغريقي الكمال، على عكس أبرع كتبنا في العصر الحديث. وأقرب تواليف العصر الحديث شبهاً بالكمال الإغريقي نظرية النسبية، وإن كانت نظرية النسبية ذاتها لا تصبو إلى نفس هذه المنزلة من الكمال، لأن التقدم يسير في سرعة لا تسمح به..صــ32

▬ إننا لكي نصل إلى قانون علمي يجب أن نمر بثلاث مراحل رئيسية: الأولى ملاحظة الحقائق ذات الدلالة، والثانية الوصول إلى فرض يفسر هذه الحقائق إن صح، والثالثة أن نستنبط من هذا الفرض بطريق القياس نتائج يمكن إختبارها بالملاحظة. فإذا تبينت صحة النتائج. قُبل الفرض مؤقتاً على أنه فرض صحيح، وإن كان ف العادة يحتاج إلى إجراء تعديل فيه فيما بعد، نتيجة لكشف حقائق جديدة. صــ51

▬ الهندسة كانت عند الإغريق، كما ظلت عند المحدثين قبل المائة سنة الأخيرة، دراسة أولية، شأنها كشأن المنطق الصوري، ولم تكن علماً تجريبياً يعتمد على الملاحظة. وقد أوضح لوباشفيسكي في عام 1829 أن هذا وضع خاطيء. وأبان أن صحة هندسة إقليدس إنما يمكن إثباتها بالملاحظة لا بالمنطق. ومع أن هذا الرأي قد وجد فروعاً جديدة في الرياضيات البحتة، فإنه لم يؤتِ ثمره في الطبيعة حتى كان عام 1915 حين تضمنته نظرية أينشتين العامة في النسبية. فظهر الآن أن نظرية فيثاغورث ليست تامة الصحة، وأن الحقيقة التي توحي بها، تتضمن قانون الجاذبية كعنصر من عناصرها أو نتيجة من نتائجها. صــ54

▬ لو أن تلميذاً يتعلم التاريخ فرفض الإيمان بوجود نابليون، لأُنزِلَ به العقاب في غالب الظن، ولعل هذا في نظر صاحب التفكير البراجماتي دليل على وجود هذا الرجل في الماضي، ولكن التلميذ إن لم يكن براجماتياً فقد يقول في نفسه أن مدرِّسه لو كان لديه أي مبرر لإعتقاده بوجود نابليون، لأمكن الإفصاح عن هذا المبرر. وما أقل مدرسي التاريخ الذين أرى أنهم يستطيعون تقديم دليل طيب يثبت أن نابليون لم يكن خرافة. وأنا لا أقول بعدم مثل هذه البراهين، بل أقول إن معظم الناس لا يعرفون ماذا تكون هذه البراهين. صــ65

▬ قد تكون هناك أسس سليمة للإيمان بالإستقراء، والواقع أن أحداً منا لا يتمالك أن يؤمن به، ولكن يجب أن يسلّم - من الجهة النظرية - بأن الإستقراء لم يزل مشكلة منطقية بغير حل. ولكن ما دام هذا الشك يؤثر في كل معارفنا تقريباً، فلنتجاوزه، ولنعترف على الأساس البراجماتي بأن الطريقة الإستقرائية - مع التحفظات اللازمة - طريقة مقبولة. صــ70

▬ إن التجريد البالغ في علم الطبيعة الحديث يجعله صعب الفهم، ولكنه يمنح من يستطيع إدراكه فهماً للعالم من حيث هو كل، وعرفاناً بتركيبه وميكانيكيته، لم يكن يستطيع منحها جهازاً أقل تجريداً. إن المقدرة على استخدام التجريدات هي لباب العقل وكلما زاد التجريد، عظمت إنتصارات العلم العقلية. صــ76

▬ من عجيب الأمور أن رجل الشارع لم يكد يؤمن بالعلم إيماناً كلياً، حتى بدأ رجل المعمل يفقد إيمانه به. فقد كان معظم علماء الطبيعة أيام شبابي لا يخامرهم أدنى شك في أن قوانين الطبيعة تعطينا معلومات حقة عن حركات الأجسام. وأن العالم المادي، يحتوي فعلاً على الوحدات التي تظهر في معادلات رجل الطبيعة. صحيح أن الفلاسفة قد شككوا في هذه النظرة، ولم يزالوا يشككون فيها منذ أيام بركلي، ولكن نقدهم لم ينصب على أية نقطة في عمليات العلم المفصلة، ولذلك أمكن للعلماء أن يتجاهلوا هذا النقد، ولقد تجوهل فعلاً. أما الآن فالأمور تتغير تغيراً تاماً، فقد أتت الآراء الثورية في الفلسفة علم الطبيعة من جانب علماء الطبيعة أنفسهم، وجاءت نتيجة لتجارب أجريت بعناية. والفلسفة الجديدة لعلم الطبيعة فلسفة متواضعة متلعثمة، بينما الفلسفة السابقة كانت متكبرة متسلطة. صــ77

▬ الحق أن العلم يؤدي دورين متميزين تمام التمييز: من حيث هو ميتافيزيقياً من جهة ومن حيث هو إدارك عام مثقف من جهة أخرى. أما من حيث هو ميتافيزيقياً فقد قوضت دعائمه بما أحرز من نجاح. فالأسلوب الرياضياتي في البحث قد بلغ من القوة حداً يستطيع معه أن يجد قانوناً لأشد العوالم تقلباً وتنقلاً. لقد كان أفلاطون وسير جيمس يظنان أنه لما كانت الهندسة تنطبق على العالم، فلا بد أن الله قد صنع العالم على أنموذج هندسي، ولكن رجل المنطق الرياضياتي يظن أن الله ما كان ليستطيع صنع عالم يحتوي أشياء كثيرة، دون عرض على مهارة عالم الهندسة. صــ88

▬ لقد قيل لي أن العذاب إنما يُرسل تطهيراً من الخطيئة، ولكني أجد من العسير عليّ أن أعتقد أن طفلاً في عامه الرابع أو الخامس قد أوغل في الظلم بحيث استحق العقاب الذي ينزل بعدد غير قليل من الأطفال، ويستطيع قديسونا المتفائلون أن يروهم في أي يوم يشاؤون، وهم يقاسون تباريح الألم في مستشفيات الأطفال. وقد قيل لي كذلك أن الطفل وإن لم يكن قد ارتكب خطئاً فاحشاً، فإنه يستحق العذاب عقاباً على آثام والديه [..]  لا يوجد لحسن الحظ برهان على الخطة الإلهية، فهذا على الأقل هو ما لا بد أن نستنتجه من أن المؤمنين بهذه الخطة لم يقيموا عليها أي دليل. وبذلك فقد كفينا مؤونة الوقوف موقف الكراهية العاجزة، الذي كان على كل رجل شجاع رحيم أن يقفه من الطاغية الجبار. صــ120

▬ زارني مرة رجل، وقال لي أنه يرغب في دراسة فلسفتي ولكنه اعترف أنه من كتابي الوحيد الذي قرأه، لم يفهم غير عبارة واحدة، وهو غير موافق على هذه العبارة. فسألته ماذا تكون هذه العبارة، فأجاب بأنها القائلة "بأن يوليوس قيصر قد مات". فسألته طبعاً لماذا هو غير موافق على هذه العبارة، فشد جسمه وأجاب في روح لا تخلو من جفاف "لأني أنا يوليوس قيصر". ولما لم يكن معه سواي في الشقة، فقد عولت على الوصول إلى الشارع بأسرع ما يمكن، لأنه ظهر لي أن رأيه في الغالب غير مستمد من دراسة موضوعية للحقيقة. وهذا الحادث يصور الفرق بين عقائد العقل وعقائد الجنون، فعقائد العقل هي التي توحي بها رغبات تتفق مع رغبات الآخرين والعقائد المجنونة هي التي تؤحي بها رغبات تصطدم برغبات الآخرين. فكلنا يود أن يكون يوليوس قيصر، ولكننا نعترف بأنه لو كان أحد الناس يوليوس قيصر، فغيره من الناس ليس كذلك، لذا يغضبنا الرجل الذي يظن نفسه يوليوس قيصر، فنعتبره مجنوناً، وكلنا يود أن يكون مخلداً لا يموت. ولكن خلود أحد الناس لا يصطدم بخلود غيره، لذا فالرجل الذي يظن أنه خالد، ليس بمجنون، فالأوهام هي تلك العقائد العاجزة عن تحقيق التكيف الإجتماعي الضروري، وغاية التحليل النفسي هي تحقيق التكيف الإجتماعي الذي يحمل على نبذ هذه الأوهام. صــ166

▬ إن العلم يزيد من قدرتنا على عمل الخير والشر جميعاً. لذلك تزيد الحاجة معه إلى كبح الدوافع الهدامة. وإذا قدر البقاء لعالم علمي، فلا بد أن يصبح الناس أسلس قياداً مما كانوا دائماً. فالمجرم البارع يجب ألا يظل ممثلاً أعلى، والخضوع يجب أن يحمد كما يحمد في الماضي. وفي كل ذلك سيكون كسب، وستكون خسارة، وليس في مقدور الإنسان سوى أن ينصب لهما الميزان. صــ198

▬ كان القرن التاسع عشر يقاسي تناقضاً عجيباً بين آرائه السياسية، وسيرته الإقتصادية. فهو في السياسية ينفذ الآراء الحرة للوك وروسو، التي هُيئت لمجتمع من صغار الملاك الزراعيين. وكان شعاره الحرية والمساواة، ولكنه كان في نفس الأثناء يبتكر المنهج العلمي الذي يؤدي الآن بالقرن العشرين إلى أن يدمر الحرية، ويبدل المساواة صوراً جديدة من العظامية. صــ199

▬ إن النزعة إلى البناء العلمي نزعة طيبة إن هي لم تتعارض مع غيرها من النزعات الكبرى التي تضفي القيمة على الحياة، ولكن إذا أُتيح لها أن تكبت كل شيء إلا نفسها، أصبحت صورة قاسية من صور الطغيان. وعندي أن هناك خطراً حقيقياً من أن يتعرض العالم لطغيان من هذا النوع، ولذلك فإني لم أجفل من رسم الجوانب المظلمة من العالم الذي يتوق العلم إلى خلقه، لو انفرد بالسلطة ولم يكن عليه معقب. صــ239

▬ الرغبة في المعرفة لها صورة أخرى، تنتمي إلى مجموعة من العواطف تختلف عن تلك التي أسلفنا تمام الإختلاف. فالصوفي والعاشق والشاعر كلهم ينشد المعرفة - ولعلهم ليسوا من الباحثين النجاحين، ولكن هذا لا يجعلهم أقل جدارة بالإحترام. ففي كل صور الحب نريد معرفة من نحب، لا طلباً للسيطرة، بل التماساً للنشوة التي يبعثها الأمل. "وحياتنا الخالدة إنما تكون بمعرفة الله"، ولكن ليس مرد هذا إلى أن معرفتنا بالله تمنحنا سيطرة عليه. فحيثما ابتعث فينا شيء من الأشياء نشوة أو سروراً أو طرباً، رغبنا معرفة هذا الشيء...لا معرفة علمية قصد إحالته شيئاً آخر، بل معرفة عن طريق البصيرة الجمالية، لأنه بنفسه ولنفسه يُضفي السعادة على العاشق. ويوجد الباعث على هذا النوع من المعرفة في الحب الجنسي كما في صور الحب الأخرى، هذا ما لم يكن الحب جسدياً عملياً خالصاً. وهذا يمكن استخدامه بحق آية على الحب القيم ذي القيمة: فالحب ذو القيمة يشتمل على باعث إلى ذلك النوع من المعرفة الذي ينبت منه الإتحاد الصوفي. صــ240 : 241


▬ لقد كان الإنسان حتى الآن مروضاً لخضوعه للطبيعة. فلما حرر نفسه من هذا الخضوع، بدت عليه نقائص العبد الذي صار سيداً. إن الأمر بحاجة إلى نظرة خلقية جديدة يحل فيه الإحترام لخير ما في الإنسان محل الخضوع لقوى الطبيعة، وإنما يكون المنهج العلمي خطراً حيث يختفي هذا الإحترام. إن العلم الآن وقد أنقذ الإنسان من عبوديته للطبيعة، يستطيع في أن  يشرع في استنقاذه من الجانب الوضيع من نفسه الذي ورثه عن عهد العبودية لقوى الطبيعة. إن الأخطار قائمة، ولكن تفاديها مستطاع، والعقل يقدر أن المستقبل سيضيئه نور الأمل وتشرق عليه شمس الرجاء، على الأقل إلى الحد الذي يخشى معه في المستقبل ظلمة الخوف ورهبة الشر. صــ247

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

0 التعليقات:

إرسال تعليق