سيكولوجية الجماهير (غوستاف لوبون)، ترجمة (هاشم صالح)


• إن معظم القواعد والقوانين الخاصة بحكم البشر وقيادتهم والتي استخلصها ماكيافيلي لم تعد صالحة منذ زمنٍ طويل. وعلى الرغم من مرور أربعة قرون على هذا الرجل العظيم فإن أحدًا لم يحاول إكمال عمله. (في كتابه "علم النفس السياسي")
• لقد كانت الحضارات قد بُنِيتْ ووجهت حتى الآن من قبل أرستقراطية مثقفة قليلة العدد، ولم تُبنَ أبدًا من قبل الجماهير. فهذه الأخيرة لا تستخدم قوتها إلا في الهدم والتدمير. كما أن هيمنتها تمثل دائمًا مرحلة من مراحلِ الفوضى. ص47
• إن معرفة نفسية الجماهير تشكل المصدر الأساسي لرجل الدولة الذي يريد ألا يُحكَم كليًا من قبلها، ولا أقول يَحكُمها لأن ذلك قد أصبح اليوم صعبًا جدًا. ص48
• إن الجمهور النفسي هو عبارة عن كائن مؤقت مؤلف من عناصر متنافرة ولكنهم متراصو الصفوف للحظة من الزمن. إنهم يشبهونَ بالضبط خلايا الجسد الحي التي تشكل عن طريق تجمعها وتوحدها كائنًا جديدًا يتحلى بخصائص جديدة مختلفة جدًا عن الخصائص التي تمتلكها كل خلية. ص56
• إن الظواهر اللاوعية تلعب دورًا حاسمًا ليس فقط في الحياة العضوية أو الفيزيولوجية، وإنما أيضًا في طريقة اشتغال الذهن أو آلية العقل. والحياة الواعية للروح البشرية لا تشكل إلا جزءًا ضعيفًا جدًا بالقياس إلا حياتها اللاوعية. ص56، 57
• إن الفرد المنخرط في الجمهور هو عبارة عن حبة رمل وسط الحبات الرملية الأخرى التي تذروها الرياحُ على هواها. ص60
• إن الإنفعالات التحريضية المختلفة التي تخضع لها الجماهير يمكنها أن تكون كريمة أو مجرمة، بطولية أو جبانة وذلك بحسب نوعية هذه المحرضات. ولكنها سوف تكون دائمًا قوية ومهيمنة على نفوس الجماهير إلى درجة أن غريزة حب البقاء نفسها تزول أمامها. (بمعنى أنها مستعدة للموتِ من أجلها). ص64
• إن الجماهير تشبه الأوراق التي يلعب بها الإعصار ويبعثرها في كل اتجاه قبل أن تتساقط على الأرض. إن دراسة بعض الجماهير الثورية تقدم لنا بعض الأمثلة عن تغير عواطفها وتنوعها وتقلبها. ص65
• الإنسان المعزول يعرف جيدًا أنه لا يستطيع أن يحرق قصرًا أو ينهب مخزنًا، وبالتالي فإن مجرد التفكير بذلك لا يخطر على باله. ولكنه ما إن ينخرط في الجمهور حتى يحس بالقوة الناتجة عن العدد والكثرة. ص65
• الأحداث الأكثر شبهة هي تلك الأحداث التي لاحظها أكبر عدد من الأشخاص. وإذا قلنا بأن حادثة ما قد لوحظت في نفس الوقت من قبل آلاف الشهود، فإن ذلك يعني أن الحادثة الحقيقية هي بشكل عام مختلفة جدًا عن الرواية المنقولة عنها. ص72
• إن بساطة عواطف الجماهير وتضخيمها يحميها من عذاب الشكوك وعدم اليقين. فالجماهيرُ، كالنساء، تذهب مباشرةً نحو التطرف. فما إن يبدر خاطر ما حتى يتحول إلى يقين لا يقبل الشك. والشعور البسيط بالنفور من شيء أو عدم استحسانه يظل في حجمه الطبيعي لدى الشخص العادي، ولكنه يتحول مباشرةً إلى حقدٍ هائج لدى الفرد المنخرط في الجمهور. ص74
• بما أنه لا يمكن تحريك الجماهير والتأثير عليها إلا بواسطة العواطف المتطرفة، فإن الخطيب الذي يريد جذبها ينبغي أن يستخدم الشعارات العنيفة. ينبغي عليه أن يبالغ في كلامه ويؤكد بشكلٍ جازم ويكرر دون أن يحاول إثبات أي شيء عن طريق المحاجّة العقلانية. وهذه هي الطريقة الشعبية التي يستخدمها الخطباء في الملتقيات الشعبية. ص75
• المسرحية التي يتحمس لها الجمهور في بلدٍ ما لا تلقى أي نجاح في بلدٍ آخر أو أنها تلقى نوعًا من الإحترام المحدود لأنها لا تجيش الحوافز القادرة على إثارة حماسة جمهورها الجديد. ص75 ، 76
• إن نزعتي الاستبدادية والتعصب عامتان لدى كل فئات الجماهير، ولكنهما تتجسدان بأنواعٍ ودرجات متفاوتة جدًا. ص76
• الجماهير التي تضرب عن العمل تفعل ذلك من أجل إطاعة الأوامر أكثر مما تفعله من أجل الحصول على زيادة الرواتب. نادرًا ما تكون المصلحة الشخصية محركًا قويًا لدى الجماهير، هذا في حين أنها تشكل المحرك الكلي تقريبًا لدوافع الفرد الواحد. ص79
• لما كانت الأفكار تستعصي على الجماهير إذا لم تتخذ هيئة بسيطة جدًا فإنه لكي تصبح شعبية أن تتعرض لتحويل كامل. وعندما يتعلق الأمر بأفكار فلسفية أو علمية عالية نسبيًا، فإننا نلاحظ  مدى عمق التحويل اللازم لكي تنزل من طبقة إلى طبقة حتى تصل إلى مستوى الجماهير. ص83
• إن الفكرةَ تتعرض لتحولات تجعلها في متناول أيدي الجماهير فإنها لا تفعل فعلها ولا تؤثر إلا بعد أن تدخل إلى اللاوعي وتصبح عاطفة متماسكة أو متينة.. وهذا التحول يكون عادةً طويلًا جدًا، فالأفكار الفلسفية التي أدت إلى الثورة الفرنسية أخذت وقتًا طويلًا قبل أن تنغرس في الروح الشعبية. ص84
• كل ما يؤثر على مخيلة الجماهير يقدم نفسه على هيئة صورة مؤثرة وصريحة مُخَلَّصة من كل تأويل ثانوي، أو غير مصحوبة إلا من قبل بعض الوقائع العجيبة الساحرة: كالنصر الكبير، أو المعجزة الكبيرة، أو جريمة كبيرة، أو أمل كبير.. صــ 88
• إن معرفة فن التأثير على مخيلة الجماهير تعني معرفة فن حكمها. ص89
• الإنسان ليس متدينًا فقط عن طريق عبادة آلهة معينة، وإنما أيضًا عندما يضع كل طاقاته الروحية وكل خضوع إرادته، وكل احتدام تعصبه في خدمة قضية ما أو شخص ما كان قد أصبح هدف كل العواطف والأفكار وقائدها. ص92
• إن الشعبَ عبارة عن كائن عضوي مخلوق من قِبَل الماضي. وهو، ككل الكائنات العضوية الأخرى، لا يمكنه أن يتغير إلا بواسطة التراكمات الوراثية البطيئة. ص101
• الشعب لا يمتلك أبدًا أية قدرة حقيقية على تغيير مؤسساته. لا ريب في أنه يستطيع تعديل اسمها عن طريق إشعال الثورات العنيفة، ولكن المضمون لا يتغير. ص104، 105
• طباع الشعب - وليس الحكومات - هي التي تحسم مصيرها. ص105
• الكلمات ليس لها إلا معانٍ متحركة ومؤقتة ومتغيرة من عصرٍ إلى عصر، ومن شعب إلى شعب. وعندما نريد أن نؤثر على الجمهور بواسطتها، فإنه ينبغي علينا أولًا أن نعرف ما هو معناها بالنسبة له في لحظة معينة، وليس معناها في الماضي أو معناها بالنسبة لأفراد ذوي تكوين عقلي مختلف. فالكلمات تعيش كالأفكار. صــ 118
• قوة الكلمات وتأثيرها من الضخامةِ بحيث أنه يكفي على القادة أن يعرفوا اختيار الكلمات لكي يجعلوا الجماهير تقبل أبشع أنواع الأشياء. ص119
• إن سبب وجود الآلهة والأبطال والشعراء أو مبرر هذا الوجود هو خلع بعض الأمل والوهم على حياة البشر الذين لا يمكنهم أن يعيشوا بدونها. وقد بدا لبعض الوقت أن العلم يضطلع بهذه المهمة. ولكن الشيء الذي حط من مكانته في نظر القلوب الجائعة للمثال الأعلى، هو أنه لم يجرؤ على توزيع الوعود هنا وهناك، كما أنه لا يعرف أن يكذب بما فيه الكفاية. ص121
• لنترك إذن العقل للفلاسفة، ولكن ينبغي ألا نطلب منه ما لا يستطيع: أي أن يتدخل كثيرًا في قيادة البشر وحكمهم. وليس بالعقل، بل غالبًا ضده، أُبدِعَت عواطف كعاطفة الشرف والتفاني والإيمان الديني وحب المجد والوطن. ومن المعروف أنها كانت حتى الآن تمثل أكبر البواعث التي تقف خلف تشييد الحضارات. ص126
• إن دور القادة الكبار يكمن في بث الإيمان سواء أكان هذا الإيمان دينيًا أم سياسيًا أم اجتماعيًا. ص128
• الشيء الذي يهيمن على روح الجماهير ليس الحاجة إلى الحرية وإنما إلى العبودية. ذلك أن ظمأها للطاعة يجعلها تخضع غرائزيًا لمن يعلن بأنه زعيمها. ص130
• في الجماهير نجد أن الأفكار والعواطف والانفعالات والعقائد الإيمانية تمتلك سلطة عدوى بنفس قوة وكثافة سلطة الجراثيم. ص134
• إن التأثير المزدوج للماضي والتقليد المتبادل يؤديان في نهاية المطاف إلى جعل كل البشر التابعين لنفس البلد ونفس الفترة متشابهين إلى درجة أنه حتى أولئك الذين يتوقع منهم أن يفلتوا من هذا التشابه كالفلاسفة والعلماء والأدباء يبدون متشابهين في أسلوبهم ومطبوعين بطابع الفترة التي ينتمونَ إليها. ص135
• إن العدوى من القوةِ بحيث إنها تفرض على البشر ليس فقط بعض الآراء وإنما أيضًا بعض الطرق في الإحساس والشعور. فهي التي تجعل الناس يحتقرون في فترة ما عملًا أدبيا ما، وهي التي تجعلهم بعد بضع سنوات يعجبون بنفسِ العمل، هم الذين كانوا قد تنكروا له واحتقروه. ص135
• يمكنك أن تذل الناس وأن توقع فيهم المجازر بالملايين وأن تقود غزوًا وراءَ غزو، كل شيء مباح لك بشرط أن تملك الهيبة الشخصية والموهبة القادرة على الحفاظ عليها. ص141
• الهيبة التي تصبح عرضة للنقاش لا تعود هيبة. فالآلهة والأشخاص الذين عرفوا المحافظة على هيبتهم لم يسمحوا أبدًا بالمناقشة. فلكي تعجب بهم الجماهير وتعبدهم ينبغي دائمًا إقامة مسافة بينها وبينهم. ص144
• بدءًا من اللحظةِ التي يأخذ فيها الناس بمناقشة عقيدة كبرى ونقدها فإن زمن احتضارها يكون قد ابتدأ. وبما أن كل عقيدة عامة ليست إلا وهمًا فإنها لا تستطيع أن تستمر إلا إذا نجت من التفحص والنقد. ص146
• ليس هناك من طغيان حقيقي أكبر من ذلك الذي يمارس نفسه على النفوس بشكلٍ لاواعٍ لأنه الوحيد الذي لا يمكننا أن نحاربه. ص148
• إنَّ روح العِرق تهيمن كليًا على روح الجمهور. إنها الجوهر القوي الذي يحد من التذبذب والتغير. وتكون خصائص الجماهير أقل حدة وبروزًا كلما كانت روح العِرق أكثر قوة. صــ 159
• إنَّ جرائم الجماهير ناتجة عمومًا عن تحريضٍ ضخم، والأفراد الذين ساهموا فيها يقتنعون فيما بعد بأنهم قد أطاعوا واجبهم. وهذه ليست أبدًا حالة المجرم العادي فتاريخ الجرائم التي ارتكبها الجماهير توضح لنا ما سبق. ص161
• في الجمهور يتساوى البشر كلهم دائمًا. ورأي أربعين عالم من الأكاديمية الفرنسية بخصوص القضايا العامة لا يختلف إطلاقًا عن رأي أربعين سقاءً (أو ناقل مياه). ص180
• إن القادة المحركين، ولنكرر ذلك مرةً أخرى، يتحركون قليلًا جدًا بواسطة العقل والمحاكمة العقلية، وكثيرًا جدًا بواسطة هيبتهم الشخصية. وإذا ما عرَّتهم منها حالة ظرفية ما فإنهم يفقدون كل تأثير ونفوذ. ص185
• إن القادة المحركين في كل العصور، وخصوصًا أولئك الذين برزوا أثناء الثورة الفرنسية، كانوا محدودي العقل جدًا، ومع ذلك فقد مارسوا تأثيرًا كبيرًا. ص189
• نلاحظ فيما يخص المجالس النيابية أن نجاح خطاب ما يعتمد تقريبًا بشكلٍ كلي على الهيبة الشخصية للخطيب، وليس أبدًا على الحجج أو المقترحات التي يحتويها. ص190
• المجالس النيابية المستثارة بما فيه الكفاية والمنوَّمة مغناطيسيًأ تبرز نفس الخصائص كبقية الجماهير. فهي تصبح عبارة عن قطيع غنم متحرك يخضع لكل الدوافع الغريزية. ص192

[أجزاء من مقدمة المترجم "هاشم صالح" لأهميتها البالغة: من ص7 إلى ص34]

♦♦♦ ينبغي التفريقُ هنا قليلاً بين علم النفس الاجتماعي وعلم النفس الجماعي. فالثاني يمكن اعتباره فرعًا من فروع الأول. ذلك أن علم النفس الاجتماعي يدرس العلاقة بين الفرد والمجتمع. ثم إن عمليات دمج الإنسان في المجتمع أو تحويله إلى كائن اجتماعي. إنه يقوم بالدراسة العلمية للفرد بصفته إنسانًا متأثرًا بأفرادٍ آخرين وبالمجتمعِ ككل. وبالتالي فهو يدرس كل المشاكلِ المتعلقة بالتربية والتثاقف والوسط الاجتماعي الثقافي والتمرين الاجتماع وتأثيره على الدائرة العاطفية والسلوكية للفرد. وفيها نجد المفاهيم التي تتضمنها: كمفهوم الدور الذي يلعبه الفرد، ومكانته، ومعايير السلوك الطبيعية أو الشاذة ثم علاقات الأشخاص ببعضهم البعض مع كل عمليات التفاعل والتواصل [..] أما علمُ النفس الجماعي فهو ليس إلا الفرع الأخير من فروع علم النفس الاجتماعي، وكثيرًا ما يدرس كآخر فصل من فصوله، وكأنه شيء مهمل أو ثانوي. ولكن يبدو من الصعبِ في عصرنا هذا إهمال مثل هذا العلم الخطير حيث نجد أن كل شيء يعبر عن نفسه بواسطة الكمية والعدد (كالاقتصاد، والدعاية، والإعلان، والأيديولوجيات السياسية أو الحزبية أو النقابية أو الدينية، ثم الاضطرابات الاجتماعية التي تقوم بها الجماهير، والاضطرابات العمالية أو الطلابية، والثورات، إلخ...). كل هذه الظواهر تندرج تحت إطار علم النفس الجماعي، أو علم نفسية الجماهير وبالتالي فمن الصعب إهمالها أو استبعادها من ساحة الدراسة العلمية. نقول ذلك وخصوصًا أن علم النفس الجماعي سابق من حيثُ المنشأ الزمني على علم النفس الاجتماعي، فهو قد نشأ في القرن التاسع عشر على يد بعض الباحثين الإيطاليين قبل أن يتبلور بشكلٍ علمي على يد غوستاف لوبون. يضاف إلى ذلك أن علم النفس الجماعي أو الجماهيري كان أول من اهتم بمسألة هامة جدًا: هي مسألة تلك الجاذبية الساحرة التي يمارسها بعض القادة أو الديكتاتوريين على الجماهير والشعوب. وعلم النفس الجماعي يفيدنا ويضيء عقولنا عندما يشرح لنا جذور تصرفاتنا العمياء والأسباب التي تدفعنا للإنخراط في جمهور ما والتحمس أشد الحماسة للزعيم، فلا نعي ما فعلناه إلا بعد أن نستفيق من الغيبوبة. وربما جعلنا ذلك أكثر حيطة وحذرًا في "الإنطباح" أمام زعيم جديد قد يظهر [..] إن النفسية الجماعية لفئة ما ليست هي مجموع النفسيات الفردية لأعضائها. كما أن الجماعة ليست محصلة لمجموع الأفراد. وهذا يشبه ما يقوله لوبون عن اختلاف الفرد المعزول أو الواحد عن الجمهور. فما أن ينخرط الفرد في الجمهور حتى يتغير وينصهر [..] يقول الباحث ب.أدليمان: "لقد حلت السياسة محل الدين، ولكنها استعارت منه نفس الخصائص النفسية. بمعنى آخر أصبحت السياسة دينًا معلمنًا، وكما في الدين فقد أصبح البشر عبيدًا لتصوراتهم الخاصة بالذات". ولكننا شهدنا في السنواتِ الأخيرة تجييشًا كبيرًا للجماهير بواسطة الدين أو بالأحرى الأيديولوجيات الدينية في البلدان غير الأوروبية غير المعلمنة [..] الحقائق ليست مطلقة ولا أبدية، وإنما لها تاريخ محدد بدقة، وعمرها قد لا يتجاوز عمر الزهور، أو قد يتجاوز عمر القرون. إن لها لحظة ولادة ونمو وازدهار مثلها مثل الكائنات الحية، ثم لحظة ذبول فشيخوخة فموت [..] علمُ النفسِ يعلمنا أن هناك "روحًا للجماهير" وهذه الروح مكونة من الانفعالات البدائية، ومكرسة بواسطة العقائد الإيمانية القوية. وهي أبعد ما تكون عن التفكير العقلاني والمنطقي [..] هكذا نجد أن الفكرة الأساسية في نظرية غوستاف لوبون بسيطة وواضحة جدًا: فهو يريد أن يقول بأن كل كوارث الماضي القريب التي مُنِتْ بها فرنسا وكل هزائمها والصعوبات التي تواجهها تعود إلى هجوم الجماهير على مسرحِ التاريخ وعدم معرفة مواجهته [..] ومن المعروفِ أن الشيء الذي صعق فلاسفة مدرسة فرانكفورت هو كيف أن الجماهير قد ثارت باسم الفاشية والنازية في أكثر دول أوروبا تحضرًأ ورقيًا: أي ألمانيا. وكان سؤالهم الأساسي: لماذا لم يستطع عصر التنوير أن يمنع ذلك ؟ بمعنى كيف أن البربرية تعود للإنبثاق من جديد حتى بعد التنوير والتحديث وانتصار العلم والتكنولوجيا [..] لولا الحلم والهم لما ثارت الجماهير الجائعة لا في الماضي ولا في الحاضر تحت قيادة الزعماء والمحركين. ولولا الوهم الطوباوي بتحقيق الجنة على الأرض لما ثارت الجماهير العمالية في أوروبا تحت قيادة الأحزاب الشيوعية [..] الجماهير مجنونة بطبيعتها. فالجماهير التي تصفق بحماسة شديدة لمطربها المفضل أو لفريق كرة القدم الذي تؤيده تعيش لحظة هلوسة وجنون. والجماهير التي تصطف على جانبي الطريق ساعات وساعات كي تشهد من بعيد مرور شخصية مشهورة أو زعيم كبير للحظات خاطفة هي مجنونة. والجماهير المهتاجة التي تهجم على شخص لكي تذبحه دون أن تتأكد من هو المذنب هي مجنونة أيضًا، فإذا ما أحبت الجماهير دينًا ما أو رجلًا ما تبعته حتى الموت كما يفعل اليهود مع نبيهم والمسيحيون المتعصبون وراء رهبانهم والمسلمون وراء شيوخهم. والجماهير تحرق اليوم ما كنت قد عبدته بالأمس، وتغير أفكارها كما تغير قمصانها.  ((إلى هناك انتهى تلخيص المقدمة))

▬ إن الكُتَّاب المقربين من بورجوازيتنا الحاكمة والذين يعتبرون أفضل ممثلين لأفكارها الضيقة ووجهات نظرها المحدودة وشكوكيتها المختزلة وأنانيتها المفرطة أحيانًا قد أخذوا يشعرون بالهلع والخوف أمام هذه السلطة الجديدة التي يرونها تبزغ وتكبر أمام أعينهم. وهم لكي يحاربوا هذا الإضطراب الذي يصيب النفوس راحوا يوجهون النداءات اليائسة للقوى الأخلاقية للكنيسة، هذه الكنيسة التي طالما احتقروها في الماضي. وقد أخذوا يتحدثون عن إفلاس العلم ويذكِّرونا بتعاليم الوحي وحقائقه. ولكن هؤلاء المعتنقين الجدد للإيمان ينسون أنه إذا كانت العناية الإلهية قد مسَّتهم أخيرًا، فإنها لا تمارس نفس التأثير على الآخرين غير المكترثين بمشاكل الدار الآخرة. والجماهير التي لم تعد تريد اليوم آلهة كان أسيادها السابقون قد تنكروا لها بالأمسِ وحطموها. صــ 46

▬ إن ذوبان الشخصية الواعية للأفراد وتوجيه المشاعر والأفكار في اتجاه واحد يشكل الخصيصة الأولى للجمهور الذي هو في طور التشكل. ولكن ذلك لا يتطلب بالضرورة الحضور المتزامن للعديد من الأفراد في نقطة واحدة. ذلك أنه يمكن لآلاف الأفراد المنفصلين عن بعضهم البعض أن يكتسبوا صفة الجمهور النفسي في لحظة ما وذلك تحت تأثير بعض الإنفعالات العنيفة أو تحت تأثير حدث قومي عظيمٍ مثلًا. وإذا ما جمعتهم صدفة ما كانت كافية لكي يتخذ سلوكهم فورًا الهيئة الخاصة بأعمال الجماهير. ويمكن لنصف دزينة من البشر أن يشكلوا، في ساعات معينة من التاريخ، جمهورًا نفسيًا، هذا في حين أن المئات من البشر المجتمعين بطريق الصدفة في مكان ما يمكنهم ألا يشكلوه. من جهة أخرى نلاحظ أن شعبًا بأكمله يمكنه أن يصبح جمهورًا بتأثير من هذا العامل أو ذاك بدون أن يكون هناك تجمع مرئي. صــ 54

▬ إن الظواهر اللاوعية تلعب دورًا حاسمًا ليس فقط في الحياة العضوية أو الفيزيولوجية، وإنما أيضًا في طريقة اشتغال الذهن أو آلية العقل. والحياة الواعية للروح البشرية لا تشكل إلا جزءًا ضعيفًا جدًا بالقياس إلا حياتها اللاوعية. والمحلل الأكثر فطنة والمراقب الأكثر ذكاءً ونفاذًا لا يستطيع التوصل إلا إلى اكتشاف عدد ضئيل جدًا من البواعث اللاوعية التي تحركه. فأفعالنا الواعية متفرعة عن جوهر لا واعٍ مُشكَّل من التأثيرات الوراثية بشكلٍ خاص. وهذا الجوهر ينطوي على البقايا اللانهائية الموروثة عن الأسلاف، وهي التي تشكل روح عرق بشري ما. ذلك أنه وراء الأسباب الظاهرية لأعمالنا تربض أسباب سرية مجهولة من قَبَلنا. ومعظم أعمالنا اليومية ناتجة عن دوافع مخبوءة تتجاوزنا. صــ 56، 57

▬ إنَّ أفراد عِرق ما يتشابهون خصوصًا بواسطة العناصر اللاوعية التي تشكل روح هذا العرق. وهم يختلفون عن بعضهم البعض بواسطة العناصر الواعية الناتجة عن التربية ثم بشكل أخص عن الوراثة الاستثنائية. والبشر الأكثر اختلافًا وتمايزًا من حيث الذكاء لهم غرائز وانفعالات وعواطف متماثلة أحيانًا. والرجال الأكثر عظمة وتفوقًا لا يتجاوزون إلا نادرًا مستوى الناس العاديين في كل ما يخص مسائل العاطفة: من دين وسياسة وأخلاق وتعاطف وتباغض، إلخ... فمثلًا يمكن أن توجد هوة سحيقة بين عالم رياضيات شهير وصانع أحذية على المستوى الفكري، ولكن من وجهة نظر المزاج والعقائد الإيمانية فإن الاختلاف معدوم غالبًا، أو قل إنه ضعيف جدًا. صــ 57

▬ القرارات ذات المصلحة العامة التي تتخذها جمعية متميزة من البشر ولكن من اختصاصات مختلفة ليست متفوقة كثيرًا على القرارات التي يتخذها تجمع من البلهاء. ذلك أنه يمكنهم أن يجمعوا هذه الصفات المتدنية التي يمتلكها الجميع. فالجماهير لا تجمع الذكاء في المحصلة وإنما التفاهة. فليس الجميع يمتلك ذكاءً أكثر من فولتير كما يرددون غالبًا. وإنما فولتير يمتلك ذكاءً أكثر من المجموع إذا كان "المجموع" يعني الجماهير. صــ 57، 58

▬ إليكم الآن مجموع الخصائص الأساسية للفرد المنخرط في الجمهور: تلاشي الشخصية الواعية، هيمنة الشخصية اللاواعية، توجه الجميع ضمن نفس الخط بواسطة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار، الميل لتحويل الأفكار المحرَّض عليها إلى فعل وممارسة مباشرةً. وهكذا لا يعود الفرد هو نفسه، وإنما يصبح عبارة عن إنسان آلي ما عادت إرادته بقادرة على أن تقوده. هذا يعني أنه بمجرد أن ينضوي الفرد داخل صفوف الجمهور فإنه ينزل إلى درجات عديدة في سُلم الحضارة. فهو عندما يكون فردًا معزولًا ربما يكون إنسانًا مثقفًا متعقلًا، ولكنه ما إن ينضم إلى الجمهور حتى يصبح مقودًا بغريزته وبالتالي همجيًا. وهو عندئذٍ يتصف بعفوية الكائنات البدائية وعنفها وضراوتها وحماستها وبطولاتها أيضًا. ويقترب منها أكثر بالسهولة التي يترك نفسه فيها عرضة للتأثر بالكلمات والصور التي تقوده إلى اقتراف أعمال مخالفة لمصالحه الشخصية بشكلٍ واضحٍ وصريح. إن الفرد المنخرط في الجمهور هو عبارة عن حبة رمل وسط الحبات الرملية الأخرى التي تذروها الرياحُ على هواها. صــ 60

▬ إن العديد من خصائص الجماهير الخصوصية من مثل سرعة الإنفعال والنَزَق والعجز عن المحاكمة العقلية وانعدام الرأي الشخصي والروح النقدية والمبالغة في العواطف والمشاعر، وغيرها، كل ذلك نلاحظه لدى الكائنات التي تنتمي إلى الأشكال الدنيا من التطور كالشخص المتوحش أو الطفل مثلًا. وهذه المقارنة التشبيهية لا أثيرها هنا إلا عَرَضًا. فالبرهنة عليها تتجاوز حدود هذا الكتاب وإطاره. وسوف تكون بلا جدوى بالنسبة للمطلعين على علم نفس الأشخاص البدائيين، وسوف يكون إقناعها ضعيفًا بالنسبة لألئك الذين يجهلونه. صــ 63

▬ إن خلق الأساطير التي تنتشر بمثل هذه السهولة في أوساط الجماهير ليس فقط ناتجًا عن سرعة كاملة في التصديق، وإنما عن تشويه هائل أو تضخيم هائل للأحداث في مخيلة الأفراد المحتشدين (أي الجمهور). فالحدث الأكثر بساطة يتحول إلى حدث آخر مشوه بمجرد أن يراه الجمهور. فالجمهور يفكر عن طريق الصور، والصور المتشكلة في ذهنه تثير بدورها سلسلة من الصور الأخرى بدون أي علاقة منطقية مع الأولى. ويمكننا أن نتصور بسهولة هذه الحالة عن طريق التفكير بالتتابع الغريب للأفكار الذي يقودنا إليه تذكر حدث معين. والعقل يبين لنا عدم تماسك مثل هذه الصور، ولكن الجمهور لا يرى ذلك. فالواقع إنه يخلط بين التضخيم الذي يلحقه بالحدث وبين الحدث ذاته. وبما أنه غير قادر على التمييز بين الذاتي والموضوعي فإنه يعتبر الصورة المثارة في خياله بمثابة الواقعية والحقيقية، وهذا على الرغم من أنها ذات علاقة بعيدة جدًا مع الواقعة المرئية. صــ 67

▬ ليس من الضروري أن تمضي القرون العديدة على أبطال التاريخ لكي تتشكل أسطورتهم ويتم تحويرها بواسطة خيال الجماهير. فالتحوير قد يتم خلال بضع سنوات. فقد شهدنا بأم أعيننا تحول أسطورة أحد كبار أبطال التاريخ مرات عديدة خلال الخمسين سنة الماضية أو أقل. أقصد بذلك نابليون بونابرت. فقد أصبح نوعًا من الشخصيات المثالية والمحبة للإنسانية والليبرالية في ظل حكم سلالة آل بوربون. لقد أصبح صديقًا للضعفاء والفقراء الذين احتفظوا بذكراه تحت أكواخهم لفترةٍ طويلة بحسب أقوال الشعراء. ولكن بعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ تحولت صورة هذا البطل الطيب القلب والرحيم إلى نوع من المستبد الدموي المبتز للسلطة والحرية والذي ضحى بثلاثة ملايين رجل من أجل طموحاته في السلطة والمجد. ونلاحظ  الآن أن أسطورته قد أخذت تتحول أيضًا من جديد. وبعد أن تمر عشرات القرون على ذكراه، فإن علماء المستقبل سوف يقفون محتارين أمام كل هذه الروايات المتناقضة عنه وربما شكُّوا في وجوده أصلًا، كما نشك نحن أحيانًا بوجود بوذا. ولا يعودون يرون فيه إلا أسطورة شمسية أو نوعًا من التكبير لأسطورة هرقل. وسوف يتعزون بسهولة عن هذه الشكوك لأنهم سيكونون عندئذٍ أكثر دراية بعلم نفس الجماهير، وبالتالي فيلعمون أنه لا يمكن للتاريخ أن يُخلِّد إلا الأساطير. صــ 73، 74

▬ إن الإستبداد والتعصب يشكلان بالنسبة للجماهير عواطف واضحة جدًا، وهي تحتملها السهولة التي تمارسها. فهي تحترم القوة ولا تميل إلى احترام الطيبة التي تعتبرها شكلًا من أشكال الضعف. وما كانت عواطفها متجهة أبدًأ نحو الزعماء الرحيمين والطيبي القلب، وإنما نحو المستبدين الذين سيطروا بقوة وبأس. وهي لا تقيم تلك النصب التذكارية العالية إلا لهم. وإذا كانت تدعس بأقدامها الديكتاتور المخلوع فذلك لأنه قد فقد قوته ودخل بالتالي في خانة الضعفاء المحتقرين وغير المهابين. إن نمط البطل العزيز على قلب الجماهير هو ذلك الذي يتخذ هيئة القيصر. فخيلاؤه تجذبها، وهيبته تفرض نفسها عليها، وسيفه يرهبها. صــ 77

▬ أيًا ما تكن الأفكار التي تُوحَى للجماهير أو تُحَرَّض عليها، فإنه لا يمكنها أن تصبح مهيمنة إلا بشرط أن تتخذ هيئة بسيطة جدًا وأن تتجسد في نفوسها على هيئة صور. وليس هناك أي رابط منطقي من النوع القياسي أو المتوالي يربط هذه الأفكار - الصور فيما بينها. فيمكنها بسهولة أن تحل الواحدة محل الأخرى كزجاجات المصباح السحري التي يسحبها العامل الميكانيكي من العلبة حيث تكون مصفوفة فوق بعضها البعض. وهكذا يمكننا أن نجد الأفكار الأكثر تناقضًا تتابع على الجمهور. وبحسب اللحظات وصدفها فإن الجمهور يتعرض لتأثير إحدى الأفكار المتنوعة والمختزنة في عقله، وبالتالي فهو يرتكب الأعمال الأكثر تناقضًا واختلافًا. فانعدام الروح النقدية لديه لا يسمح له برؤية التناقضات. صــ 82

▬ وهكذا نجد أن الأفراد يبرزون بتناقضاتهم الأكثر وضوحًا وسطوعًأ. وهذه التناقضات ظاهرية أكثر مما هي حقيقية، وذلك لأن الأفكار الوراثية هي وحدها القوية والمهيمنة لدى الفرد الواحد، وبالتالي فهي وحدها القادرة على أن تصبح حوافز مؤثرة فعلًا على سلوكه ومحركة له. وفي حالة واحدة فقط يجد المرء نفسه عن طريق التقاطعات متوزعًا بين دوافع وراثية مختلفة، وبالتالي فإن أعماله يمكن أن تكون متناقضة تمامًا من لحظة إلى أخرى. صــ 83

▬ المُحَاجَّات المتدنية للجماهير مرتكزة على الترابط والضم مثلها في ذلك مثل المحاجات العالية للمثقفين. ولكن الأفكار الموصولة ببعضها البعض ليس بينها إلا روابط ظاهرية من التشابه أو التوالي. فهي تتلاحم على طريقة أفكار الأسكيمو الذين يعرفون عن طريق التجربة أن الجليد يشكل جسمًا شفافًا ويذوب في الفم عندما نضعه فيه. وبما أن الزجاج شيء شفاف أيضًا فإنهم يعتقدون أنه يذوب في الفم أيضًا! أو تشبه "منطق" الإنسان المتوحش الذي يعتقد أنه إذا ما أكل قلب عدو شجاع فإنه يكتسب شجاعته، أو منطق العامل المستغل من قبل رب عمل معين فيستنتج من ذلك أن كل أرباب العمل مستغلون. صــ 85

▬ إن الخيال الخاص بالجماهير، كخيال كل الكائنات التي لا تفكر عقلانيًا، مهيأ لأن يتعرض للتأثير العميق. فالصور التي تثيرها في نفوسهم شخصية ما أو حدث ما أو حادث ما لها نفس حيوية وقوة الأشياء الواقعية ذاتها. فالجماهير تشبه إلى حد ما حالة النائم الذي يتعطل عقله مؤقتًا ويترك نفسه عرضة لانبثاق صورة قوية ومكثفة جدًا، ولكنها سرعان ما تتبخر على محك التفكير. ولما كانت الجماهير غير قادرة لا على التفكير ولا على المحاكمة العقلية فإنها لا تعرف معنى المستحيل أو المستبعد الحدوث. ونحن نعلم أن الأشياء الأكثر استحالة هي عادةً الأكثر ادهاشًا وتأثيرًا. ولهذا السبب فإن الجوانب الساحرة والأسطورية من الأحداث هي التي تدهش الجماهير دائمًا وتؤثر عليها. والواقع أن العجيب الساحر والأسطوري هما الدعامتان الحقيقيتان للحضارة. ونلاحظ أن المظهر قد لعب دائمًا في التاريخ دورًا أكثر من أهمية الواقع. فاللاواقعي يهيمن فيه على الواقعي. صــ 86، 87

▬ يقول نابليون: "لم أستطع إنهاء حرب الفاندي إلا بعد أن تظاهرت بأني كاثوليكي حقيقي. ولم أستطع الإستقرار في مصر إلا بعد أن تظاهرت بأني مسلم تقي. وعندما تظاهرت بأني بابوي متطرف استطعت أن أكسب ثقة الكهنة في إيطاليا. ولو أنه أتيح لي أن أحكم شعبًا من اليهود لأعدت من جديد معبد سليمان"! ربما لم يفهم أي رجل كبير في العالم منذ الإسكندر المقدوني والقيصر كيف ينبغي جذب الجماهير والتأثير على مخيلتها مثلما فهم نابليون. فقد كان همه الأول والدائم الضرب على وترها وإدهاشها. وكان يفكر فيها أثناء انتصاراته وخطبه وخطاباته وفي كل حالاته. وحتى على فراش الموت كان يفكر في الجماهير ومخيلتها. صــ 88

▬ لو أمكن فرض الإلحاد على الجماهير لاتخذت كل ضراوة التعصب الخاص بالعاطفة الدينية، ولأصبحت بسرعة في أشكالها الخارجية نوعًا من الطقس الشعائري. والتطور الأخير للطائفة الوضعية الصغيرة يقدم لنا برهانًا غريبًا على ذلك. فهي تشبه العدمي الذي روى لنا الكاتب العميق دوستويفسكي قصته. فبعد أن أضاءته أنوار العقل يومًا ما، فإنه كسر صور الآلهة والقديسين التي كانت تزين هيكل مصلاه الصغير، وأطفأ الشمعات، وبدون أن يضيع لحظة واحدة فإنه استبدل بالصور الممزقة مؤلفات بعض الفلاسفة الملحدين، ثم أعاد من جديد إشعال الشمعات. لا ريب في أن موضوع عقائده الدينية قد تحول، ولكن هل يمكننا القول فعلًا بأن عواطفَه الدينية قد تغيرت ؟ صــ 94

▬ إن الزمنَ هو الذي يطبخ أراء وعقائد الجماهير على ناره البطيئة، بمعنى أنه يهيئ الأرضية التي سينشأ عليها ويتبرعم. نستنتج من ذلك أن بعض الأفكار التي يمكن تحقيقها في فترة ما تبدو مستحيلة في فترة أخرى. فالزمنُ يراكمُ البقايا العديدة جدًا للعقائد والأفكار، وعلى أساسها تولد أفكار عصر ما. فهذه الأفكار لا تنبت بالصدفة أو عن طريق المغامرة. وإنما نجد جذورها تضرب عميقًا في ماضٍ طويل. وعندما تزهر يكون الزمن قد هيَّأ المجال لتفتحها. وإذا ما أردنا أن نفهم منشأها فينبغي دائمًا أن نرجع في الزمنِ إلى الوراء. فهي بنات الماضي وأم المستقبل وعبدة الزمن دائمًا (أي تابعة له). صــ 103

▬ إن قوةَ الكلمات مرتبطة بالصور التي تثيرها، وهي مستقلة تمامًا عن معانيها الحقيقية. والكلمات التي يصعب تحديد معانيها بشكلٍ دقيق هي التي تمتلك أحيانًا أكبر قدرة على التأثير والفعل. نضرب على ذلك مثلًا الكلمات التالية: ديمقراطية، اشتراكية، مساواة، حرية، إلخ.. فمعانيها من الغموض بحيث إننا نحتاج إلى مجلدات ضخمة لشرحها. ومع ذلك فإن حروفها تمتلك قوة سحرية بالفعل، كما لو أنها تحتوي على حل لكل المشاكل. فهي تجمع المطامحة اللاواعية المتنوعة وتركبها، وتحتوي على الأمل بتحقيقها. فالعقل والمحاجات العقلانية لا يمكنها أن تقاوم بعض الكلمات والصياغات التعبيرية. فما إن تُلفَظ بنوعٍ من الخشوع أمام الجماهير حتى تعلو آيات الاحترام على الوجوه وتنحني الجباه بها. والكثيرون يعتبرونها بمثابة قوة من قوى الطبيعة، أو قوى خارقة للطبيعة. فهي تثير في النفوس صورًا مجيدة وغامضة، ولكن الغموض الذي يظللها يزيد من قوتها السرية. ويمكننا أن نقارنها بتلك الآلهة المرعبة المختبئة وراء خيمة لا يقترب منها الرجل الورع إلا وهو يرتجف مرتعشًا. صــ 116

▬ على الرغمِ من كل هذا التقدم الذي تحقق فإن الفلسفةَ لم تستطع أن تقدم للشعوب أي مثال أعلى قادر على أن يجذبها ويسحرها. وبما أن الأوهام تشكل ضرورة حتمية بالنسبة لها فإنها تتوجه بالغريزة نحو الخطباء البلاغيين الذين يقدمونها لها كما تتوجه الحشرة نحو الضوء غرائزيًا أيضًا. والعامل الكبير لتطور الشعوب ما كان الحقيقة أبدًا، وإنما الخطأ. وإذا كانت الإشتراكية تشهد اليوم ازدياد قوتها وانتشارها لدى الجماهير، فذلك لأنها تشكل الوهم الوحيد الذي لا يزال حيًا حتى الآن. فالبرهنة الرياضية والعلمية على خطئها لا تعرقل أبدًا مسارها الصاعد والمتدرج. وتعود قوتها الأساسية إلى أن المدافعين عنها أو حاملي لوائها هم من الجهلة بواقعِ الأمور، وبالتالي فهم قادرون على توزيع الوعود بتحقيق السعادة للإنسان. إن الوهمَ الإجتماعي يسيطر اليوم على كل أنقاض الماضي المتراكمة، والمستقبل له بدون شك. فالجماهير لم تكن في حياتها أبدًا ظمأى للحقيقة. وأمام الحقائق التي تزعجهم فإنهم يحولون أنظارهم باتجاه آخر، سيدًا لهم، ومن يحاول قشع الأوهام عن أعينهم يصبح ضحية لهم. صــ 122

▬ ما إن يتجمع عدد ما من الكائنات الحية، سواء أكان الأمر يتعلق بقطيع من الحيوانات أو بجمهور من البشر، حتى يضعوا أنفسهم بشكلٍ غريزي تحت سلطة زعيم ما، أي محرِّك للجماهير أو قائد. ونلاحظ أن القائد يلعب  دوراً ضخمًا بالنسبة للجماهير البشرية. فإرادته تمثل النواة التي تتحلق حولها الآراء وتنصهر فيها. والجمهور عبارة عن قطيع لا يستطيع الإستغناء عن سيد. والقائد كان غالبًا في البداية شخصًا مقودًا منبهرًا بالفكرة التي أصبح فيما بعد رسولها ومبشرًا بها. فقد غزته وهيمنت عليه إلى حد اختفاء كل شيء آخر ما عداها، وكل رأي معاكس لها يبدو له خطأ وخزعبلات. نضرب على ذلك مثلًا روبسبيير المبهور بافكاره الوهمية، والذي استخدم أساليب محام التفتيش من أجل نشرها. إن القادةَ ليسوا في الغالب رجال فكر، ولا يمكنهم أن يكونوا، وإنما رجال ممارسة وانخراط. وهم قليلو الفطنة وغير بعيدي النظر. صـ 127

▬ إن التأكيد المجرد والعاري من كل مُحَاجّة عقلانية أو برهانية يشكل الوسيلة الموثوقة لإدخال فكرة ما في روح الجماهير. وكلما كان التأكيد قاطعًا وخاليًا من كل برهان كلما فرض نفسه بهيبة أكبر. فالكتب الدينية وقوانين كل العصور قد استخدمت دائمًا أسلوب التوكيد المجرد عن كلِ شيء. ورجال الدولة المدعوون للدفاع عن قضية سياسية معينة يعرفون قيمة التوكيد، وكذلك الأمر فيما يخص رجال الصناعة الذين ينشرون سلعهم عن طريق الإعلان. ولكن الإعلان لا يكتسب تأثيرًا فعليًا إلا بشرط تكراره باستمرار، وبنفس الكلمات والصياغات ما أمكن ذلك. كان نابليون يقول بأنه لا يوجد إلا شكلٌ واحدٌ من أشكال البلاغة هو: التكرار. فالشيء المؤكد يتوصل عن طريق التكرار إلى الرسوخ في النفس إلى درجة أنه يُقبَل كحقيقة برهانية. صــ 132، 133

▬ إن الإنسان يشبه الحيوانات فيما يخص ظاهرة التقليد. فالتقليدُ يشكل حاجة بالنسبة له بشرط أن يكون هذا التقليد سهلًا بالطبع. ومن هذه الحاجة بالذات يتولد تأثير الموضة (أو الأزياء الدارجة). وسواء أكان الأمر يتعلق بالآراء أم بالأفكار أم بالتظاهرات الأدبية أم بالأزياء بكل بساطة فكم هو عدد الذين يستطيعون التخلص من تأثيره؟ فنحن نستطيع قيادة الجماهير بواسطة النماذج والموديلات وليس بواسطة المحاجّات العقلانية. وفي كل فترة نلاحظ أن عددًا قليلًا من الشخصيات هي التي تطبعها بطابعها وتؤثر عليها، ثم تقلدهم الجماهير اللاوعية.. صــ 134، 135

▬ إن التاريخ، والتاريخ الأدبي والفني بشكلٍ خاص، هو فقط عبارة عن تكرار لنفس الأحكام التي لا يبحث أي شخص عن مجرد التحقق منها. فكل واحد ينتهي به الأمر إلى تكرار ما سمعه في المدرسة. وتوجد بعض الأسماء وبعض الأشخاص التي لا يجرؤ أحد على المسِّ بها أو بهم. أضرب على ذلك مثلًا أعمال هوميروس. فهي مضجرة جدًا بالنسبة للقارئ الحديث ولكن من يجرؤ على قول ذلك؟ وقصر البارتينون مثلًا ليس في حالته الراهنة إلا أنقاضًا خالية من أيةَ أهمية، ولكنه يمتلك هيبة عالية إلى درجة أننا لم نعد نراه إلا من خلال موكب الذكريات التاريخية التي ترافقه. والخاصية الأساسية للهيبة هي أننا لا نعود نرى الأشياء كما هي عليه في الواقع، فتنشلَّ بذلك قدرتنا على المحاكمة والتقييم. فالجماهير بحاجةٍ دائمًا إلى الأفكار الجاهزة، وكذلك الأفكار بحاجةٍ إليها في الغالب. ونجاح هذه الأفكار مستقل عن جزء الحقيقة أو الخطأ الذي تحتوي عليه. إنه يكمن فقط في هيبتها وحظوتها. صــ 138

▬ إن التقليد هو في الأغلب الأعم لا واعٍ، وهذا هو بالضبط الشيء الذي يجعله كاملًا. فالرسامون المحدثون الذين يقلدون الألوان الباهتة لبعض البدائيين ومواقفهم المتصلبة لا يشكّون مطلقًا بمصدر إلهامهم. فهم مؤمنون بأنهم صادقون في تجربتهم. ولولا أن أحد العلماء الكبار لم يكشف عن هذا النوع من الفن لاستمرينا في النظر إليه من خلال جوانبه الساذجة والمتدنية. وأما أولئك الذين يقلدون المشاهير من المجددين ويغرقون لوحاتهم بالظلال البنفسجية فإنهم لا يرون في الطبيعة ألوانًا بنفسجية أكثر مما كان موجودًا قبل خمسينَ سنة، ولكنهم مُحرَّضون على ذلك من قبل الانطباع الشخصي والخصوصي لفنان عرف كيف يكتسب هيبة وشهرة كبيرة... والهيبة الشخصية تختفي دائمًا مع الفشل. فالبطل الذي صفقت له الجماهير بالأمس قد تحتقره علنًا في الغد إذا ما أدار الحظ له ظهره.. فروبسبيير الذي أمر بقطع رؤوس زملائه وعدد كبير من معاصريه كان يمتلك هيبة شخصية ضخمة. وعندما نقصه بعض الأصوات فقط فَقَدَ رأسَه هو الآخر وتبعته الجماهير إلى المقصلة بنفس اللعنات التي لاحقت بها ضحاياه بالأمس. فالمؤمنون يحطمونَ دائمًا بنوعٍ من الهيجان تماثيل آلهتهم السابقة. صــ 143

▬ لقد أحست الشعوب دائمًا بفائدة تشكيل العقائد الإيمانية العامة وفهمت عن طريق الغريزة أن تلاشيها يعني بداية انحطاطها. والعبادة المتعصبة لروما كانت هي العقيدة الإيمانية التي جعلت من الرومان أسيادًا للعالم. ولكن ما إن ماتت هذه العقيدة حتى انهارت روما. ولم يستطع البرابرة الذين دمروا الحضارة الرومانية أن يتوصلوا إلى بعض التماسك والخروج من حالة الفوضى إلا بعد أن اكتسبوا بعض العقائد المشتركة. صــ 147

▬ يمكن تقسيم فئات الجماهير المختلفة التي نستطيع العثور عليها لدى كل شعب على الطريقة التالية: أ- جماهير غير متجانسة: 1-جماهير مُغْفَلة (كجماهير الشارع مثلًا). 2- جماهير غير مغفلة (كهيئات المُحلَّفين، والمجالس البرلمانية، إلخ...). ب- جماهير متجانسة: 1- الطوائف (الطوائف السياسية، الطوائف الدينية، إلخ..). 2- الزُمَر (زمرة عسكرية، زمرة كهنوتية، زمرة عملية، إلخ..). 3- الطبقات (الطبقة البرجوازية، الطبقة الفلاحية، إلخ..). صــ 158

▬ لا أحد يستطيع أن يجحد أن الحضارات هي من صنع أقلية صغيرة متفوقة تشكل قمة الهرم الإجتماعي. وتتسع طبقات هذا الهرم كلما نزلنا نحو القاعدة ويتوافق ذلك مع تناقض القيمة العقلية لكل طبقة سفلى بالقياس إلى الطبقة العليا حتى نصل إلى القاع. وهذه كلها تشكل الطبقات العميقة لكل أمة. وعظمة حضارة ما لا يمكن أن تعتمد على تصويت العناصر الدنيا من الأمة، فهذه لا تمثل إلا الكثرة العددية. لا ريب في أن تصويت الجماهير لا يزال خطر حتى الآن. فهو الذي جلب علينا غزوات عديدة. وإذا ما انتصرت الإشتراكية فإن نزوات السيادة الشعبية سوف تكلفنا ثمنًا غاليًا أيضًا، بل وأغلى من السابق. صــ 179


▬ الخطيب المجهول يصل إلى البرلمان بخطاب مليء بالحجج العقلانية الجيدة ولكن ليس له أي حظ في أن يُستَمع إليه إذا اكتفى بذلك.. وقد كتب نائب سابق هو السيد ديكوب السطور التالية وقدم لنا صورة عن الخطيب الذي لا يتمتع بهيبة شخصية. قال: "عندما جلس على المنصة أخرج من حقيبته إضبارة ونشرها بتؤدةٍ أمامَه وابتدأ الكلام بكلِ ثقة. وشعر بالزهو لأنه نقل إلى نفوس السامعين تلك القناعة التي تعمر صدره. ثم درس حججه وأعاد دراسته مرارًا وتكرارًا، وكانت مليئة بالأرقام الدقيقة والبراهين. وكان واثقًا من أنه على حق. وكل اعتراض على البراهين التي يقدمها راح يبدو عبثًا لا معنى له. وابتدأ كلامه وكله ثقة بأحقية موقفه وبمقاصد زملائه أيضًا، هؤلاء الزملاء الذين ينتظرون شيئًا واحدًا هو: الإنحناء أمام هذه الحقيقة. وراح يتكلم ويتكلم، ولكنه دهش فجأة لصدور حركة عن القاعة وشهر بالإنزعاج لهذه الضوضاء الصادرة. راح يتساءل: لماذا لا يستتب الصمت؟ لم هذه اللامبالاة العامة تجاه خطابي؟ بم يفكر إذن أولئك النواب الذين يتحدثون فيما بينهم؟ ما الباعث الملح إلى مثل هذا الحد والذي يجعل النائب الفلاني يترك مكانه؟ وهكذا خيم القلق على جبينه، وقطَّب حاجبيه وسكت. ثم شجعه الرئيس فانطلق من جديد ورفع صوته. ولكن إصغاءهم له انخفض أكثر. فشدد لهجته وراح يهيج ويثور، ولم ينفه ذلك في شيء فقد ازدادت الضجة حوله. ولم يعد يسمع حتى نفسه فتوقف من جديد. ولكنه خشي من أن يؤدي صمته إلى إثارة الصرخة المشهورة: أُقفِلت الجلسة! فانطلقَ بقوةٍ من جديد، ولكن الضوضاء أصبحت لا تُحتَمل". صــ 190، 191

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

0 التعليقات:

إرسال تعليق