العالَم ليس عقلاً (عبد الله القصيمي)


|| سيجد القاريء في هذا الكتاب أمثال كلمات : إله ، آلهة، دين ، أديان، نبي ، أنبياء. وقد يشعر أحياناً أنها كلمات لا تحمل الإحترام الواجب لهذه الأسماء، أو أن فيها شيئاً من التهوين والمساس. لهذا ظننت أني ملزم بوضع تصحيح صغير لهذا الذي قد يعد لدى فريق من القراء التباساً. اني لا يمكن أن أعني بالإله أو الآلهة إله الكون وخالقه وواهبنا الحياة  والعقل والنور والخيرات الجمة. وإنما أعنى بذلك الطغاة أو الأصنام أو الأوهام أو النظم الإجتماعية المتأخرة الظالمة المنسوبة إلى الإله. وكذلك أعني بالأنبياء والأديان حيثما جاءت في كلامي غير أديان الله وأنبيائه. هذا تصحيح أسجله على نفسي كاحتياط مبالغ فيه جداً. صــ6 ||
=========================================
• الثوار والدعاة والقادة والفنانون والمفكرون، قوم من المرضى والمتعبين، يعالجون آلامهم بتطبيب الآخرين.
• الذين يخافون على إيمانهم من الكلام، قوم لا يثقون بإيمانهم.
• إن دموع البشر تنصب في عيوني وأحزانهم تتجمع في قلبي وآلالمهم تأكل أعضائي. ليس لأني قديس بل لأني مصاب بمرض الحساسية.
• إني أنقد لأني أبكي وأتعذب، لا لأني أكره أو أعادي. أنقد الإنسان لأني أريده أفضل، وأنقد الكون لأنه لا يحترم منطق الإنسان؛ وأنقد الحياة لأني أعيشها بمعاناه ـــ بتفاهة، بلا شروط، بلا اقتناع، بلا نظرية.
• إن عبقرية الإنسان كلها لا تعني أكثر من تسديد احتياجات وجوده، ووجوده لا يُعني شيئاً. فماذا تعني عبقريته إذن ؟
• إن رغباتنا هي التي تصنع أخلاقنا وأفكارنا، ولكن أخلاقنا وافكارنا لا تصنع رغباتنا. اننا بلا رغبات لا يمكن أن نعمل شيئاً، ومع الرغبات لا يمكن أن نكون أخلاقيين فيما نعمل أو نريد.
• لكي نسلك سلوك الفضلاء لابد أن نكون غير فضلاء. فالفضيلة لا تنتج عن فضيلة! الفضيلة الخالصة ليست شيئاً بل لا توجد فضيلة وإنما توجد تعبيرات فاضلة وأبعد الناس عن الإحساس بالفضائل واحترامها هم أكثرهم اعطاءً لها!
• الذين يرون الكون معقولاً وعظيماً هم يرونه كذلك في جميع احتمالاته. اذن هم في الحقيقة لا يرون شيئاً. انهم كالذين يرون أي بناء عملاً هندسياً عظيماً كيفا كان.
• العقل والأخلاق ليسا غير الإنسان. فإذا قيل العالم أو الكون ليس عقلاً ولا اخلاقاً كان المعنى أنه ليس انساناً. وهو حتماً ليس شيئاً آخر غير الإنسان أنه هو نفسه. انه القصة التي ليس لها مؤلف ولا نموذج ولا مقاييس نقدية، والتي لم يقصد أن يكون لها قراء.
• إن الناقدين لغباء الكون والحياة هم أكثر الناس رؤية لهما واحساساً بهما وتطلعاً اليهما.
• إن عصر الثورات هو عصر الشخصيات المشوهة الخانعة والأخلاق الشاحبة والنفسيات الكئيبة المذعورة العدوانية.
• إن أي تغير أو تقدم في هذا العالم لم تصنعه أو تشارك في صنعه الثورات. فالتقدم كائن سلمي، وهو لا يمكن أن يكون غير سلمي.
• الثائر يحاول أن يغير وضعه بحجة المحاولة لتغيير أوضاع الآخرين. انه يغار لنفسه وينتقم لها ثم يزعم أنه إنما يغار وينتقم للإنسان المظلوم.
• إن قيام ثورة عسكرية في أي مكان يُعني أن يصدم العالم كله بالنبأ الكبير المذهل وهو أن حشرات وذئاباً مدربة على القتال قد استولت على بلد ما لتحكمه نيابة عن الانبياء والعلماء والفلاسفة، أي بأخلاق الأنبياء وعبقرية العلماء وحكمة الفلاسفة!
• الكتَّاب العرب لم يستطيعوا أن يخلقوا مولوداً فكرياً أو أدبياً عربياً، لقد ظلوا مظاهر ولادة ولم يتطورا إلى ولادة!
• إن فرارنا من الفكر المخالف يعني الفرار من مواجهة أنفسنا ومن التعامل بذواتنا ومن النظر إلى عقولنا.
• إن الكاتب يكتب للناس ويتحدث اليهم كما يعاديهم ويسبهم، لا يفعل هذا أو هذا بحثناً عما يريدون أوعما ينفعهم بل استجابة لذاته. وكل انسان يتحرك من ذاته إلى المجتمع لا من المجتمع إلى ذاته!
• إن أية نظرية تجيء من خارج الكون فلا بد أن تكون باطلة في رأينا نحن سكان هذا الكون وفي سلوك الكون نفسه مهما كانت عبقرية، مع أن هذا مستحيل اذ لا يمكن أن نفكر خارج الكون ولا أن توجد أفكار خارجه.
• إن التدين عملية قذف ذاتي، والذين يؤدون أعمالاً دينية يشعرون بالراحة والإرتواء ويظفرون بنوع من الطمأنينة السعيدة، وهم يفسرون هذه الطمأنينة بأنها راحة الضميرالمستقيم ولذة العبادة، مع أن ذلك ليس سوى الإسترخاء الذي يعقب كل عملية إفرازية!
• تغير الطبيعة نفسها دون أن تستطيع نقدها، والإنسان وحده هو الذي ينقد نفسه لأنه ارقى، فنقد الذات هو أعلى مراحل الوجود ــ هو الوجود الإنساني ــ ولعله اسمى فضائله. وتغيير الطبيعة لنفسها نوع من النقد الذاتي، ولكنه نقد عملي. انها تفعل ما لا تستطيع أن تقول!
• كم هم تافهون اولئك الذين لا يجدون من ينقدونهم ولا من يصوبون اليهم الحملات القاسية الغاضبة!
• اللغة مثل الغناء والبكاء، ليست تعبيراً عن الواقع، ولكنها تعبير عن الإنسان، عن أسلوب الإنسان لا عن واقعه. وأية لغة أو توكيدات لغوية لا يمكن أن تكون وسيلة تعارف او ذات دلالة مباشرة على نية القائل وأهدافه. فاللغة أداة توصيل كاذبة دائما!
• لقد ظل البشر دائماً محتاجين إلى آلهة وشياطين وقديسين وفسقة ليكونوا شيئاً يعلقون عليه مشاعرهم المتناقضة المتوترة.
• إنه لولا الحكام والزعماء والمعلمون الخالدون لفقدت الخصومات بين الشعوب أعظم أسبابها.
• إن السعادة هي مقدار التوافق مع الظروف ومع النفس !
• إن الناس لا يقتنعون بالفكرة لأنها صحيحة بل لأنها قد وجدت ظروف الإقتناع، وهم لا يحولون الفكرة التي يقتنعون بها إلى سلوك لانهم اقتنعوا بها بل لأنهم ارادوا ذلك واستطاعوه.
• إن المنطق يُعرف بالحقيقة ولكن الحقيقة لا تُعرف بالمنطق ـــ أي ان الوجود هو الذي يضع  قوانين المنطق وليس المنطق هو الذي صنع قوانين الوجود.
• من الكلام الشائع أن الناس يعتقدون ثم يفكرون، وهذا غير صحيح حتماً، والصحيح أن الناس يعتقدون ثم لا يفكرون، أو يفكرون فيما يجعلهم لا يفكرون، لأنهم بعد الإعتقاد لا يعرضون عقائدهم على الفكر للنقد والإختبار والدراسة.
• الرواية ليست مصدراً من مصادر المعرفة عند المتحضرين. والذين يشيدون معارفهم من الروايات (رواية الحديث مثلاً) المحفوظة لن يشاركوا في بناء الحضارة.
• إن تاريخ الإنسان وحياته في جميع مراحل وجوده تدلل على أن روايات الآحاد وآراءهم  أصدق من روايات الجماهير وآرائها.
• التفكير العربي تفكير لاهوتي ـــ يفسر كل شيء سواء أكان ساراً أم فاجعاً تفسيراً لاهوتياً ثم يحاول أن يعالجه علاجاً لاهوتياً أيضاً !
• المفروض أن يكون الغرض من التعليم أن يُعطي فكراً مناضلاً، يستطيع أن يفهم وينقد ويوازن ويخلق ـــ المفروض أن نقرأ لنفكر وننقد، لا لنؤمن ونختزن، ليست القراءة تسليماً ولكنها مفاوضة، لقد ظلت رسالة التعليم أن تقدم قارئين لا مفكرين ولا ناقدين أومثقفين!
• إن الذين يدافعون عن تخلفهم وهوانهم ومساوئهم الكثيرة بالأعداء الأجانب وبالمؤامرات والغزوات الخارجية هم مخطئون، وما يزعمونه ليس إلا عملية تبرير سخيفة!

========================================
▬ لو ان الإنسان جاء في أحقر حشرة ثم استطاع أن يؤلف لنفسه منطقاً لرأى أنه في صورته هذه قد جاء موهوباً كل ما في الآلهة من قدرة ومن احتمالات عقلية وأخلاقية، وأن القدر قد أشرف بكل خبرته وعبقريته وتجاربه على اخراج هذا الكائن المحظوظ المدلل ليجيء في احسن تقويم. لقد خلقه في ليلة عرس، بعد أن اكتملت فيه كل أدوات الخلق! بل لو أن الإله نفسه جاء نقيض ما هو في تصورنا لما اختلف رأينا فيه. انه اذا ً وهب الموت او الحياة، الفقر أو الترف، الصحة أوالمرض، أنزل علينا المطر أو الصواعق، عاقب المظلوم وحابى الظالم، فعل الشيء ونقيضه. فهو في الحالتين بالغ أوج الكمال والعدل والحب والرحمة. اذن مهما اختلفت صورة الإله في أذهاننا أوسلوكه معنا أو في الكون فحكمنا عليه لن يتغير. اذن فالله نفسه ليس عقلاً ولا أخلاقاً في تصورنا. انه وجود بلا مستوى. صــ22

▬ الكلمات ليست لها في ذاتها دلالة وإنما دلالتها هو ما يعنيه البشر بها. ولهذا فإن الناس قد يعنون بالكلمة الواحدة الشيء ونقيضه. فالحرية قد يعنى بها أضرى صور الاستبداد،والعدل قد يُعنى به أعلى درجات الظلم، والله والدين قد يعنيان في سلوك المتحدثين عنهما وفي تصورهم الخروج على تعاليمهما وارتكاب جميع ما ينهيان عنه باسمهما، والنظام الجمهوري قد يجمع كل ما في النظم الملكية وغير الملكية من كبرياء وفسوق وبلادة ورجعية. ورب رئيس ملكاً هو أكثر من ملكية من جميع الملوك في جميع العصور. صــ31

▬ الثوار دائماً يتحدثون عن نقيض ما يعطون. فهم يتحدثون عن الحرية والإستقامة وهم أقوى أعدائها، وعن الصدق وليس في البشر من يعاقبون الصادق ومن يمارسون الكذب ويجزون الكاذبين مثلهم، وعن مساويء النفاق وهم أحسن من يزرعونه ويستثمرونه ويتعاملون عليه، وعن الرخاء مع أنهم يبتدعون جميع أسباب الأفقار والأزمات والحرمان. ويتحدثون عن العدل والحب وهم يعنون بها تخويف كل الطبقات وتسيخرها وقهرها وسوقها لمصلحة كبريائهم واحلامهم، ويعنون بها كذلك أن يخضعوا جميع تصرفاتهم لإنفعالات الرضا والغضب ولأغراض الطموع والخوف! صــ50

▬ الثورة - أية ثورة - قد تزيل قيوداً لتصنع مكانها قيوداً اخرى جديدة، قد تهدم أصناماً متداعية لتشيد أصناماً فيها قوة واغراء وبريق - تسقط رجالاً قد شاخوا ووهنوا وفقدوا القدرة على الإفتراس والرغبة فيه ليأتي رجال هم أعظم جبروتاً وفتوة وقدرة على الإفتراس ورغبة فيه ـــ رجال فيهم كل معاني الجوع التاريخي الباحث عن الطعام بأقوى شهية وأخبث وأشره معدة! ان كل ثائر يتحول إلى أقسى خصم للثورة والحرية بمجرد انتصاره. فالثورة في ما قبل الثورة فقط. صــ51

▬ إن العقل في ذاته فراغ ليس امراً أو نهياً او قانوناً اوخروجاً على القانون، ليس ذكاء او غباء أو مستوى انسانياً، وهو لا يعرف ما هوالخطأ والشر او الخير والصواب. العقل لا يوجد في ذاته ولا لها ولا يعمل من اجلها ولا يتحدد بها، فحدوده دائماً ليست فيه، وهو لا يفسر اعماله ولا يقومها ولا يوجهها ولا يستهلكها بل، لا يستطيع تصحيحها! وليس الخير والشر أو الحق والباطل هوما نفعله أوما نعلقه، ولكن هو ما نجده ونفعله ونريده او ما لا نجده ولا نفعله ولا نريده. من الممكن دائماً ان يصبح ما هو معقول غير معقول وما هو غير معقول معقول...صــ117

▬ لقد جرب البشر آلهتهم منذ أقدم العصور، وجربوا عقائدهم. وبعد تجاربهم الطويلة وجدوها لا تستجيب لهم ولا تفهمهم ولا تغير من حالهم شيئاً، ولكن مع هذا ظلوا يؤمنون بها ويجربونها ويصلون لها. فلماذا ؟ السبب أنهم لا يجربونها أو يصلون لها لأنهم ينتظرون منها أن تفعل لهم، لقد علموا أنها لا تفعل شيئاً، ولعلها لو كانت تفعل، لكان هربهم منها ومصيبتهم بها أعظم. فمزايا الآلهة في أنها لا تفعل. وهذا هو سبب إيمان المؤمنين بها ورضاهم عنها وتنزيههم لها! صــ174

▬ أنا لا أحب الحقيقة ولا أكرهها، وإنما أحب ما يلائمنى واكره ما سواه. لست أحترم شيئاً أو أدافع عن شيء لأنه عدل أو حق، ولكن لأني أهواه أواستفيد منه أو اعيش فيه أو أدافع عن نفسي وأثني عليها بالدفاع عنه والثناء عليه، أولأني عاجز نفسياً أو اجتماعياً عن الخروج عليه وعن التلائم مع نقيضه! ولهذا فإني لن أعاني اية صراعات نفسية وأخلاقية لكي اختار موقفي حينما تكون نظرياتي وعقائدي وتعاليمي في طريق غير طريق مصالحي وأهوائي! ان افضل انسان لن يجد اية معاناة لكي يطيع ذاته ويعصي مثله! اذا اتبعت الحق أو احترمته فليس لاني فاضل، وإذا اتبعت الباطل أو أحببته فليس لاني شرير، ولكن لأني في الحالتين انسان. أنا أفعل الخطأ بالإصرار والحماس اللذين أفعل بهما الصواب، ولست في الحقيقة افعل هذا ولا هذا، بل أفعل دائماً ذاتي لأني أناني. ومجموع أنانيات البشر الفردية يساوي مجموع فضائلهم الإجتماعية! الحقيقة لا تكون هدفاً، ولكنها قد تكون الطريق إلى الهدف! صــ183

▬ إن الذين يفعلون الصواب لا يفعلونه لأنهم يحترمون المنطق، وان الذين يفعلون الخطأ لا يفعلونه لأنهم يحتقرون المنطق.وليست الحضارة والأخلاق أو فقدهما منطقاً او فقداً للمنطق، ولكنها قدرة وفقد للقدرة! وليس اعظم الناس ابداعاً للحضارة وأخلاقاً هم دائماً اعظمهم منطقاً! ولم يزل الناس مختلفين ويزدادون خلافاً مع انهم يتناقشون ويحتكمون في نقاشهم إلى العقل وإلى الأخلاق في جميع ما يختلفون فيه، ولم يستطع الإحتكام إلى المنطق والأخلاق ان يحسم أو يضعف الخلاف بينهم، بل مظنون جداً ان لم يكن محتوماً حتماً ان هذا الخلاف قد يقل أو يضعف لولا احتكامهم إلى المنطق وتراشقهم به ! وقد كان محالاً دائماً أن يؤدي الصراع الحر بين الأفكار إلى خير أو إلى اية نتيجة طيبة، لا يمكن ان يؤيدي إلى تقارب أو اتفاق أو محبة أو إلى معرفة أو جلاء للحقيقة. ولو أن الناس عقدوا هدنة دائمة بين مذاهبهم وعقائدهم فلم يدخلوها في أية صراعات فكرية او مذهبية، لكانت الإحتمالات أكبر لرؤية الحق واحترامه والإلتقاء عنده، ولكي تهدأ وتتوازن خصوماتهم وتعصبهم لحماقاتهم وأوهامهم، وتشفى نفوسهم من جراحاتها! ان المنطق لا يمكن ان يُعطي حقيقة ولا سلاماً. وكل أنواع السلام والحقائق التي نعيشها ونملكها اليوم لم يصنعها الصراع بين الآراء، وإنما صنعتها الحاجة والعجز والآلية والقانون والتكيف والتجربة! صــ 201 : 202

▬ [..] أما الضعفاء والمتخلفون فلا يريدون أن يسمعوا غير المديح والتدليل، لأنهم يخافون النقد ـــ يخافون النقد لأنهم يخافون التغيير لأنه تعب ومعاناة وخطر. فالذي يقول: أنا كامل ومنزه كأنما يقول: أنا لا أريد أن أتغير لأن التغير ارهاق وخوف، والذي يقول: أنا ناقص كالذي يعترف بأنه في حاجة إلى مزايا أكبر، وأنه شجاع وقوي لا يهاب ولا يحاول ويجرب أن يكون! [..] إرادة النقد مرتبطة بإرادة التغيير، والخوف من التغيير ليس فكرة بل عجز . فالذين يرفضون أن ينقدوا انفسهم اويتغيروا ليسوا فضلاء وإنما هم عاجزون. صــ215 : 216

▬ إني أطلب من المؤمن ألا يرضى عن نفسه كثيراً أو يحتقر من يخالفونه بكبرياء، وأطلب اليه أيضاً أن يعرف أنه لا فرق بينه وبين الزنديق، فكلاهما لا يفعل إلا إرادته. فليس المؤمن فاضلاً أو عاقلاً أو مخلصاً أوخادماً للإله أكثر من الملحد، بل ان الذين ينكرون الآلهة يفهمونها ويحترمونها دون الذين يؤمنون بها! إذ الذين يؤمنون بها لا ينزهونها عن شيء، ويتهمونها بكل اخطائهم ونقصائهم وبما في الكون من أخطاء ونقائص ويلقون عليها بمتاعبهم وعجزهم، فهم يؤمنون بها ليلوثوها لا ليتطهروا بها، وليستخدموها لا ليكونوا لها عبيداً. صــ220

▬ أكثر الناس بعداً عن الصدق اللغوي هم أصحاب المُثل والدعوات، فالمعلمون والدعاة  والكتاب لا يريدون بدعوتهم أن يقولوا الحق أو ينصروه، وإنما يريدون ان يقولوا ما يلائمهم ويريحهم، أو ما يعتقدون أنه يؤثر في الآخرين. وليس في قصدهم ما يلائمهم ويريحهم، أو ما يعتقدون أنه يؤثر في الآخرين. وليس في قصدهم أن يتحروا الصدق، فإذا صدقوا، فلن يكون الصدق هدفهم، ولكنه وسيلتهم إلى هدفهم. فالصدق ضرورة لا رسالة، والكلام بحث عما نحن، لا عما هو واجب أو عما هو أخلاقي. اذا نطق أي قاضٍ في أي محكمة بكلمات الحق أو ما يراه حقاً، فلا ينبغي أن يختلط علينا الأمر، فهذا القاضي حينما حكم، لم يحكم  إلى الحق ولا إلى من يستحقونه، ولم يخطر ذلك على باله، وإنما نظر إلى نفسه، لقد كان يعبر عن ذاته ووضعه، لا عن القانون أو الأخلاق، وكان هذا هو شعوره. ويقول في أسباب حكمه: هذا هو العدل. ولو قال الحقيقة بلغتها لقال: هذا هو أنا أو هذا هو ما لا بد منه بالنسبة لمن هو في مكاني، فالإنسان لا يمكن أن يكون معبراً إلا عن نفسه فقط. صــ237

▬ الذين يقولون لنا أحبوا الناس أواحبوا اعداءكم واخوانكم كما تحبون أنفسكم أو احبوا العدل والحق والصدق ــ هم خطباء ومغنون فقط، إلا إذا كانوا يريدون ان يقولوا لنا كونوا منافقين وتكلفوا الفضيلة تكلفاً وتظاهروا بغير ما في أنفسكم. فالاخلاق في كل العصور، هي اتقان فن التكلف، هي مجموعة أساليبنا المختلفة المتكلفة للتعبير عن أشياء لا نعنيها. حتى الإحسان إلى الآخرين أو الإشفاق عليهم، هو عطف على الذات، لا على الآخرين.! صــ246

▬ لقد احتاج البشر في كل عهودهم إلى ان يؤمنوا بأشياء غائبة، بأشياء فكرية لأنهم محتاجون إلى الإيمان، والإيمان لا يكون إلا بأشياء كاملة منزهة، والاشياء الموجودة لا يمكن أن تكون منزهة ولا كاملة. فعجز الموجود هو الذي أوحى الينا بالإيمان بغير الموجود! ومن اجل هذا فسوف يظل الإنسان دائماً محتاجاً إلى صور شعرية غيبية تهيج خياله وامانيه وتملؤها بالأشباح! صــ297

▬ لو كانت الأديان خاضعة لحكم العقل لضاقت الخلافات بينها وتناقضت أو لتداخلت وتوحدت كلها في دين واحد كالذي حدث في الشئون العلمية والصناعية التي ابتكرها العقل. فالحضارة تتقارب وتتوحد عند سائر الشعوب مهما تباعدت واختلفت في بدايتها. هل اختلف البشر في الرياضيات وفي الكشوف العلمية أو في حجم الشمس أو القمر مثل اختلافهم في اديانهم ومذاهبهم ؟ وكذلك لو كانت الأديان تؤخذ بالعقل والمنطق لوجدنا المؤمنين يخرجون من دين إلى دين بالسرعة والسهولة التي ينتقل بها الناس من فكر إلى فكر ومن فلسفة إلى فلسفة، بل الناس يخشون على أديانهم وعقائدهم من تعريضها للمنطق. وهم يرون الذين يخضعون المعتقدات للتفكير الحر زنادقة، يحاربون ويكرهرون وتجب البراءة منهم! انه توجد معركة واحدة تنتصر فيها الأديان، تلك هي الا تدخل معركة ضد أي خصم من خصومها! صــ330

▬ إن البشر يضعون في اذهانهم صورة للإله لو انها تجسدت كائناً حياً خارجياً مرئياً يعمل في الكون والحياة والمجتمع الذي يعيشون فيه على المكشوف والرؤية، ويعاملهم بالصفات التي تخيلوها وتمنوها له لاصبح لديهم أبشع وأفظع كائن لا يمكن أن يقبلوا التعامل معه ولا ان يكون لهم صديقاً وعليهم حاكماً، ولا أن يكون مجرد مواطن لهم، بل لكان محتوماً ان يحكموا عليه بالإعدام. ولا يوجد بين المؤمنين بهذا الإله على النحو الذي تصوروه من يرضى لنفسه بأن يعيش بالصفات التي اختاروها وألفوها له، أو يرضى بأن يكون إلهاً هذا الإله. صــ366

▬ كل الناس يعبرون عن عقائدهم ومذاهبهم ويفسرونها بإستعداداتهم ورغباتهم لا بنصوص ولا بروح تلك العقائد والمذاهب ـــ بل لا يوجد من يعبر عن دينه أو مذهبه حين يعمل او يفكر وإنما يعبر عن وجوده، فصفات المجتمع هي التي تفسر دينه وتعبر عنه لا روح ذلك الدين ولا نصوصه، كما أنها هي التي تصوغه، اذن فالأديان والمذاهب ليست مذمومة ولا ممدوحة اذا هان اهلها أو عظموا، وكذا اذا انحرفوا أو استقاموا..صــ383

▬ ليس في قوانين الحياة حلال وحرام، جائز وممنوع، وإنما فيها ممكن وغير ممكن، قاتل وواهب للحياة! والفضيلة هي ان يتوافق الإنسان مع الطبيعة لا أن يتجنبها اويخافها أو يعجز عنها أو يحرّمها أو يعبدها! ليست الطبيعة إلها يكون حلالاً وحراماً أو معبوداً، وتقاس فضائلنا وراذائلنا وأخلاقنا بنوع معاملتنا له، ولكنها عمل نتناوله بالقدرة والعجز والرغبة والكره والذكاء والغباء. تحليل الطبيعة وتحريمها واتخاذ نوع التعامل معها مقياساً للإستقامة والضلال ضرب من التأليه لها. فالذين يحللون الأشياء ويحرمونها هم في الواقع مؤلهون لها! وجميع التشريعات التي شرعها الإنسان لنفسه وقسم فيها الحياة إلى محللات ومحرمات وإلى أوامر ونواهٍ بأسلوب الأخلاقية ـــ جميع هذه التشريعات تعبير عن احساس التأليه والعبادة للأشياء! والتحليل اولتحريم ليسا تعبيراً عن فضائلنا ورذائلنا، بل عن خوفنا وعجزنا! واحتياجنا إلى التحريم هو الذ صنع لنا الآلهة والأنبياء والشرائع والكتب المقدسة، لقد أوجدنا الآلهة المحرمة لأننا نريد أن نحرم، ولم نحرم لوجود هذه الآلهة التي تريد أن تحرم. صــ391

▬ ومن المحاكاة التي لا يمكن أن توصف بالذكاء ولا بعمق الدين، ذلك الهوس الإسنادي الذي جعل الكثيرين من عبيد الرواية يحاولون أن يمجدوا أنفسهم بوصلها بأصحاب كتب الحديث المشهورة، فيروي أحد هؤلاء عن شيخه، وشيخه يروي عن شيخه، وهكذا إلى أن تصل مثلاً بالبخاري، والبخاري يروي عن آخر، إلى أن يقول الرواي سمعت أو رأيت الرسول، ويظنون انهم بهذا أخذوا عن الرسول الذي اخذ عن جبريل الذي أخذ عن الله. وهذا نوع من التقليد الذي قد تطير له ألباب الأطفال فرحاً، والطفل يرسل بالونه المملوء بالهواء، فيرتفع فوق راسه، فينفجر بالسرور ويظن أن مجده قد صعد، وأنه قد اتصل بالشمس وبالكائنات العلوية. صــ437

▬ يقول الرواة أنه يوجد حديث متواتر، وأن هذا النوع من الحديث مقطوع بثبوته، ولا يمكن أن يشك فيه، لا على احتمال الخطأ أو الكذب! ولما سُئلوا ما هو الحديث المتواتر قالوا هو الذي يرويه قوم يستحيل أن يكذبوا أو يخطئوا، عن قوم آخرين مثلهم، وهكذا من بداية السند إلى نهايته. وكم ينبغي أو يشترط أن يكون عدد هؤلاء القوم! هذا شيء لا يستطاع تحديده ولا يشترط. أيشترط أن يكونوا عدولا! كلا، بل ولا أن يكونوا مسلمين، اذ لا يشترط غير العدد الذي لم يُفهم ولم يحدد. نعم، وكيف يشترط شرط يشترط الا يكون معلوماً ؟ ان كان الأمر يرجع إلى العدد، فهو غير معروف، وان كان يرجع إلى اطمئنان النفس، فهذا يختلف بإختلاف الناس وإختلاف حالاتهم وتقديراتهم! ان كلمة "يستحيل" ان يكذبوا أو يخطئوا، ليست قانوناً من قوانين الطبيعة، وإنما هي كلمة بشرية تقال وتعتقد تحت ظروف وتصورات بشرية أيضاً...صــ465

▬ [.....] إن تواتر الشيء دليل على أنه خرافة، فالخرافات هي التي تتواتر في الغالب، وهي أكثر تواتراً من الحقائق، لأن الخرافات احتياج للجماهير وهي لا تكلف شيئاً ولا تحتاج إلى عبقرية أو تعب، ثم هي مُرضية لأنها تعبير عن الأماني التي لم تحقق، اذن فالسوق محتاجة إلى الخرافة ومحتاجة إلى تحويل الخرافة إلى تواتر. أما الحقيقة فهي لا تملك هذه المزايا، لهذا لا تَلقى الترحيب الذي تلقاه عدوتها. إن التواتر هو المعنى الكبير للخرافة! انه إحتلام جماعي! والحضارة كلها مناقضة بمتواترات! [..] وإذا رأى أنصار الرواية المتواترة أنه لا بد من الإيمان بها لأنها هي الوسيلة التي عرفنا بها التاريخ وأحداثه وعرفنا بها الأمم والرجال والمدن والمواقع ـــ اذ لا وسيلة أخرى لمعرفة شيء من ذلك غير التواتر ـــ إذا رأى أنصار الرواية المتواترة ذلك: قيل لهم إذا كانت أحداث الحياة والتاريخ لم تُعرف إلا بروايات يرويها قوم بالأسانيد والعنعنات فما الذي يمنع حينئذ من الشك في كل هذ الأحداث أوإنكارها ؟ إذا انكرها منكر فهل نثبتها له بالرواية أو بشيء آخر ؟ إذا كانت الرواية هي الوسيلة الوحيدة لإثباتها فإن الذي ينكرها لن يجد ما يجعله منكراً لحقيقة محتومة، وإذا أمكن إنكار شيء كان الإيمان به جنوناً أو غباء ً. والذي يمكن إنكاره ليس حقيقة، والذين يؤمنون بما يستطيعون أن ينكروه ليسوا عقلاء!. [..] إن التواتر الذي هو موضوع كلامنا هنا يتعلق بأمور غير مرئية ولا موجودة أو حاضرة بل ماضية لا تخضع للتجربة المادية ولا للإمتحان.. [..] والتاريخ ليس كذلك، وإذا كان كذلك فلا آسف على جحوده أو إحتقاره! صــ471

▬ التفكير العربي ينزع إلى التوحيد ـــ توحيد القوى في قوة والتبعات كلها في واحد، وينكر التعدد ويراه ضد الطبيعة والفضيلة. إنه كما وحد الإله وحد كذلك السلطان وجمع لها الحقوق المفرقة وجعله مصدر كل الرغبات والمخاوف، ولم يدع لنفسه شيئاً غير أن يدعو ويرجو، انه يشعر بحاجته إلى أن يظل عبداً أوطفلاً يؤمر وُينهى ويُرعى ويُبسط على ظهره السوط فيبكي ويتألم ـــ هو دائماً في حالة فرار من نفسه. إنه لا يريد ولا يستطيع أن يكون حراً، الحرية صورة أخرى من صور العبودية والعذاب!صــ487

▬ وسوق الفكر العربي أعجب سوق، يوجد فيها كل الناس يروجون ويجيئون ويصرخون ويتساومون ويتعاملون ويبدون كأي قوم في أية سوق، ولكن جميع البضائع التي يتعاملون عليها زائفة! اساطير وأوهام ومبالغات وغرور وتعصب وسباب وحرارة بلا حب، ثم لا شيء يفيد أو يقبض! أحاديث الزعماء والحكام وتعليقات المعلقين من كتاب ومفكرين في الإذاعة والصحافة والكتب، وكل ما يُقال ويُسمع صراخ وأصوات بلا كلام، لا تفسير الموقف، ولا وعي لقضية، ولا احترام لحقيقة، ولا تواضع مع تسامح! نحن، نحن! أما الأعداء، أما الآخرون ! نحن افضل وأقوى وأشرف وأعلم ــــ هكذا نحن دائماً، هكذا كنا، وهكذا كان جدنا وحدنا ــــ جدنا العظيم آدم عليه السلام! أما الأعداء ــــ أما الأخرون فهم تراب في تراب! لم يتغير الطريق ولا السائرون فيه..صــ523

▬ التفكير العربي تفكير اتكالي، هارب من نفسه، وقد كان دائماً يعبر عن هربه بشوقه الأصيل وحماسه المتوتر في بحثه عن الأرباب والخرافات والأكاذيب والعقائد الجاهزة والقياصرة المتألهين ليحكموه ويذلوه ويرهبوه، دون أن يتسامحوا معه أو يحترموا عقله وكرامته، انه يريد أن يؤمن لا أن يفكر ! وهو يهاب الحقيقة، لا يبحث عنها إذا بعدت عنه، ولا يرحب بها إذا واجهته، وأشنع أعدائه هم الذين يبحثون عن الحقيقة أو يحترمونها أو يحاولون أن يدلوه عليها، انهم هادمون خصوم زنادقة! والعرب يرحبون دائماً بمن يبرر لهم أنفسهم وجميع ما لديهم من عقائد وأفكار وأشياء، والخصم البغيض هو الذي ينقدهم أوينقد شيئاً مما يفعلون أو يعتقدون أويملكون.! صــ531

▬ إدراكنا لعبث الوجود أو الحياة لن يقلل من اصرارنا على البقاء، فنحن لا  نبقى ولا نريد البقاء لأننا نعلم شرعية الوجود، بل نبقى بالضرورة كما تبقى النجوم والكوارث، ونحيا بلا حكمة ولا منطق كما نموت كذلك، "لماذا نحيا" يساوي "لماذا نموت" ! نحن نحيا حيث لا نستطيع أن نموت، ونموت حيث لا نستطيع أن نحيا ــــ إننا نحيا بالجاذبية كما نموت بالجاذبية ــــ هكذا قلنا، وهكذا نعيد ما قلناه.! صــ572

محدثاً عن نفسه..


▬ لا تسيئوا فهمه، لا تنكروا عليه أن ينقد أو يتهم أو يعارض أو يتمرد أو يُبالغ أو يقسو. انه ليس شريراً ولا عنيفاً ولا عدواً ولا ملحداً ولكنه متألم حزين، يبذل الحزن والالم بلا تدبير أو تخطيط كما تبذل الزهرة أريجها أو الشمعة نورها! لقد تناهى في حزنه وضعفه حتى بدا عنيفاً. ان كل ما كتبه نوع من الصلاة والبكاء بلغة حزينة صادقة، إنه يصلي ولكن بأسلوب الإنسان المدفون في أعماق نفسه، انه بتمرده وتحديه ليصلي لله صلاة هي أصدق من صلاة جميع المشرعين، وإنه بقسوته على الإنسان ليحترمه ويتعذب له أكثر مما يفعل جميع الشعراء المادحين! انه يصلي لله وللكون وللإنسان ولكن بلغة هي أقوى من كل لغات المعابد، فلا تخطئوا في فهمه، ولا تحقدوا عليه، لا تظلموه، انه باك ٍ وليس لاعناً، انه من ضعفه أمام حبه ليرثي لكل الأشياء، حتى ليرثي للآلهة، انه ليرثي للآلهة ويخجل لها من نفسها! وهذا قمة الضعف أوالحب أو الإيمان، بل قمة العذاب! ليس نقده إلا رثاء للعالم ورثاء لنفسه، بل ليس نقده إلا تمزقاً ذاتياً..صــ578

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

0 التعليقات:

إرسال تعليق