مدخل إلى فلسفة العلم ومناهج البحث (يُمنى طريف الخولي)


• تمثل مناهج العلم بلورة لأساليب التفكير المثمرة، وأنجح السبل التي امتلكها العقل البشري للتعامل مع الواقع والإنتقال من المشاكل إلى حلولها.
• في اللغة العربية العلم ضرب من المعرفة الوثيقة المثبتة تقوم على الإدراك والتعقل وحصول صورة الشيء في الذهن، فنقول: "علمت الشيء أي عرفت علامته وما يميزه".
• يمكن تعريف العلم التجريبي الحديث بأنه: منظومة ممنهجة من الأبحاث التي تُنتج وتعيد إنتاج، وتطور، وتعمم، وتدقق، وتنقح... قضايا ذات مضمون معرفي ومحتوى إخباري ومقدرة توصيفية وقوة تفسيرية وطاقة تنبؤية منصبة على ظواهر العالم التجريبي.
• إذا كان العلم وتطبيقاته التكنولوجية بمثابة فرائد القلائد التي تزين صدر الحضارة المعاصرة، فإن المنهج العلمي هو المنجم الذي نستخرج منه الفريدة. (زكي نجيب محمود)
• الميثودولوجيا كأي فرع من فروع الفلسفة، محاولة للوصول إلى مباديء وتصورات عامة، تنظم إدراك العقل لموضوع معين.
• ينجزالعلم أربع مهام وظيفية هي : الوصف (كيف؟) والتفسير (لماذا ؟) التنبؤ والسيطرة.
• ليس هناك علمان تطبيقي وبحت، بل يوجد العلم وتطبيقه، مثلما توجد الشجرة وثمرتها. (لويس باستير)
• لا تعد النظرية العلمية مقبولة ما لم تضطلع بتفسير قطاع من الظواهر، وأيضاً ما لم تكن قابلة للإختبار التجريبي.
• يتوالى التقدم العلمي أو الثورات العلمية، بينما العلم مسلح باللغة الدقيقة التي تبعد عن الهوى والتحيز أو الأقوال الفضفاضة والملتبسة التي تحدد المعنى وتحتمل أكثر من وجه.
• إن آية العلم الحديث هي التآزر بين وقائع التجريب ولغة الرياضيات.
• يعد  مؤرخو العلم المرحلة السكندرية من أهم مراحل تاريخ العلم، حتى يراها بعضهم تقف قدم المساواة مع مرحلة الثورة العلمية الحديثة في القرن السادس عشر.
• تميزت العقلية الإغريقية بإعلاء قيمة التأمل والإستنباط العقلي الخالص، وتراجع قيمة التجريب.
• إن النسقية موطن لتميز العلم الحديث عن العلم القديم، ويمكن أن تتمثل نقطة التحول في أن العلم في العصر الحديث، أو العلم الحديث قد أصبح نسقاً.
• كان عنوان الكتاب "الأورجانون الجديد" - لفرنسيس بيكون - أي الأداة الجديدة إشارة واضحة إلى أن أورجانون أرسطو قد أصبح أداة قديمة بالية عفا عليها الدهر، والكتاب يقدم الأداة أو الآلة الجديدة المناسبة لإحتياجات العصر، وهي المنهج التجريبي.
• إن أهم المآخذ على منهج بيكون هو أنه لم يفطن لأهمية الفروض، بل حذر منها وأسماها استباق الطبيعة.
• كتاب الطبيعة المجيد مكتوب بلغة الرياضيات. (جاليليو)
• لقد كان مبدأ العلم عنده (جاليليو) هو: لا شيء قابل للمعرفة إلا ما هو قابل للقياس الكمي.
• المنطق عماد الفلسفة على العموم، وعماد أعمدة فلسفة العلم ومناهج البحث على أخص الخصوص، وعادة ما يُنظر إلى مناهج البحث تحديداً على أنها امتداد للمنطق، أو أنها منطق تطبيقي.
• إنها (الرياضيات) تاج العلم الحديث وأقنومه ورمزه المبجل، تتبارى العلوم في الإقتراب منها والتسلح بلغتها.
• لقد كانت ميكانيكا الكوانتم ونظرية النسبية اللتان أبدعهما القرن العشرون هما المخرج من الأزمة. وكان مخرجاً يُعني إنهيار الحتمية الميكانيكية، وبالتالي إنهيار تصور حقيقة أن الكون وطبيعة العلم اللتين ساد الظن بأن نيوتن قد اكتشفهما.
• استفاد العلم الحديث من العلم القديم، ولكنه لم يكن مجرد امتداد له.
• كان الإنتقال من العصر الحديث والعلم الحديث في جوهره انتقال من المنهج الإستنباطي إلى المنهج التجريبي.
• نشأت فلسفة العلم في القرن التاسع عشر معنية بسؤال المنهج أو تدور حول الميثودولوجيا، وكانت قادرة على تقديم وتنضيد الإجابة.
• المنهج في الفلسفة هو فن ترتيب الأفكار ترتيباً دقيقاً بحيث تؤدي إلى الكشف عن حقيقة مجهولة أو البرهنة على صحة حقيقة معلومة.
• لا مبالغة في القول إن أهم إنجازات تراثنا تأتت من مجال المنهج والدراسات المنهجية.
• تنقسم نظرية المنهج العلمي أو الميثودولوجيا إلى: المنهج الصوري والمنهج التجريبي.
• إن الرياضيات ملكة العلوم والمبحث الصوري الرفيع عن شهادة الحواس وجزئيات الواقع.
• إن القضية الرياضياتية هي الكيان الوحيد في عالم العلم الذي ينبثق كاملاً، أو هي الوليد المعجز الذي يولد ناضجاً.
• هكذا كانت الرياضيات دائماً المثل الأعلى لليقين والضرورة والفعل العقلي المنضبط واللغة الدقيقة.
• مشكلة الإستقراء هي مشكلة تبرير القفزة التعميمية من عدد محدود من الوقائع التجريبية إلى قانون كلي عام.
• أنكر هيوم كل وأية فرضية إخبارية أو عبارة متعلقة بالعالم وتكون مستقلة عن الحواس ولا يمكن ردها بشكل ما إلى الإنطباعات الحسية.

==================================
▬ القابلية للإختبار التجريبي هي ذاتها القابلية للتكذيب. فلم يعد فلاسفة العلم الآن يركزون على إمكانية النجاح في هذا الإختبار، أي على إمكانية التحقق التجريبي، بل على العكس، أي على إمكانية التفنيد والتكذيب بالأدلة التجريبية، ويرون بفضل كارل بوبر، أن هذا هو ما يميز القضية العلمية دوناً عن أي قضية تركيبية أخرى. فعبارات العلم التجريبي هي فقط التي يمكن إثبات كذبها، لأنها تتحدث عن الواقع الذي يمكن الرجوع إليه ومقارنتها به، تضع تنبؤات قد تحدث أو لا تحدث. هكذا نجد العلم التجريبي هو فقط الذي يضع عبارات يمكن تكذيبها، فكانت القابلية للإختبار التجريبي والتكذيب هي الخاصة المنطقية المميزة للعلم التجريبي. ونلاحظ أنها القابلية للتكذيب وليس التكذيب بالفعل. التكذيب مجرد إمكانية قائمة في العبارة التي تخضع للإختبار التجريبي المستمر. وحين تفضل في إجتياز اختبار ما ويتم تكذيبها بالفعل، فسوف يتم رفضها لتحل محلها نظرية علمية أخرى أفضل تتلافى مواطن الكذب أو الخطأ لتمثل تقدماً. النظرية الجديدة قابلة بدورها للإختبار التجريبي والتكذيب، لتحمل إمكانية أن يحل محلها يوماً ما نظرية أفضل، وهكذا دواليك في متوالية لتقدم لا يتوقف أبداً. صــ8

▬ تزعم نزعات الإستعلاء  الغربي أن العلم بدأ مع الإغريق من نقطة الصفر المطلق بإهدار تام لدور الحضارات الشرقية القديمة. وعبر فجوة باهتة مظلمة هي العصور الوسطى قام فيها العرب بدور ساعي البريد أو حافظ الأمانة الذي أدخل عليها بعض التجديدات، انتقل العلم من الإغريق إلى أحفادهم وورثتهم الشرعيين في غرب أوروبا. هكذا تبدو قصة العلم من ألفها إلى يائها قصة غربية خالصة! صــ22

▬ لقد سار العلم القديم بمعدلات تقدم متباطئة للغاية، خصوصاً  إذا قورنت بالوضع في العلم الحديث، لأن البحث العلمي ذاته كان نشاطاً مشتتاً  مبعثراً، ملحقاً بالإحتياجات العلمية المباشرة في العهود السحيقة، ثم بالكهنوت  في الحضارات القديمة وبالفلسفة في الحضارة الإغريقية وبالإطار الديني في حضارات العصر الوسيط. وحتى الحضارة الإسلامية التي رأيناها تحمل لواء البحث العلمي آنذاك، لا يمكن فهم الحركة العلمية فيها بصرف النظر عن توجهها نحو الإلهيات، والذي صنع الملامح الخاصة للطبيعات الإسلامية في العصر الوسيط، فلا هي انساقت مع مادية ما قبل السقراطيين المتطرفة ولا مع مادية أرسطو المعدلة، إلى آخر المدى. صــ44

▬ العلوم تختلف في موضوعاتها وطبيعة الظواهر التي تدرسها، وبالتالي تختلف أيضاً في طرائقها سواء أكانت قليلاً أم كثيراً، لأن طريقة البحث لا بد أن تتكيف مع موضوع البحث وطبيعته. لكنها مع هذا الإختلاف تتلقى في أسس عامة يمكن تجريدها من المواقف العلمية المختلفة بإختلاف فروع العلم العديدة، فنجد أسساً منطبقة لا على الفلك دون الفيزياء ولا على علم النفس دون الإجتماع، بل هي منطبقة على كل بحث يستحق أن يسمى علماً. وعلم مناهج البحث هو علم طبائع وقواعد أي بحث طالما هو علمي. صــ76

▬ مرحلة العلم منذ عام 1900 وما تلاه، منذ ان تفجرت ثورة النسبية والكوانتم التي أحدثت انقلاباً في مثاليات المعرفة العلمية، ورأينا كيف يحق اعتبارها أعظم ثورة أنجزها الإنسان وتصاعدت معها معدلات التقدم العلمي بصورة مبهرة حقاً. قد أحدثت انقلاباً جذرياً في مثاليات المعرفة العلمية وفي إبستمولوجيا العلم. وبالتالي واكبها انقلاب مماثل في نظرية المنهج التجريبي بحيث أصبح يبدأ من الفرض العقلي ويهبط منه إلى الملاحظة والواقع التجريبي. فيما يعرف بنظرية المنهج الفرضي الإستنباطي. صــ78 ||نلاحظ أن هذه العملية كانت معكوسة وبشكل أخص في مرحلة العلم الكلاسيكي منذ عام 1600 تقريباً حتى عام 1900 بحيث كان يبدأ من الملاحظة ثم الفرض||

▬ إن الفارق بين البديهيات والمسلمات يتمثل في ان البديهية واضحة بذاتها بينما المسلمة قد لا تكون هكذا. ولكن الوضوح الذاتي أمر نسبي، ما هو واضح بذاته أمام عالم الرياضيات قد لا يكون هكذا أمام طالب يدرس. لذلك يميل فلاسفة المنهج المعاصرون إلى إلغاء الفوارق بين البديهيات والمسلمات والنظر إلى مصادرات النسق الإستنباطي كوحدة واحدة لا تفرق بين البديهيات والمسلمات، في معية التعريقات وحدة أكسيوماتيكية واحدة. صــ81

▬ الرياضياتي له الحق في فرض ما يراه من مصادرات، حتى وإن بدت متنافية مع الواقع التجريبي المحسوس. فقد يسلم بأن السطح مستوٍ كما فعل إقليدس أو بأنه مقعر كما فعل ريمان أو بأنه محدب كما فعل لوباتشفسكي، المهم أن يلتزم بالتعريفات أو المصادرات التي وضعها طوال النسق. هذه المقدمات من تعريفات ومصادرات هي نقطة البدء في الإستدلال، هي المادة الخام لفعل الإستنباط، هي المعلوم الذي سننتقل منه إلى مجهولات. صــ81

إن القضية الرياضياتية هي الكيان الوحيد في عالم العلم الذي ينبثق كاملاً، أو هي الوليد المعجز الذي يولد ناضجا..

▬ الرياضيات تتقدم دائماً وغدها أفضل من أمسها، شأن كل قاطني عالم العلم، فما بالنا بالملكة؟ لكن تقدم العلوم الإخبارية التجريبية يلغي المراحل السابقة من تاريخ العلم، فينسخ الجديد القديم، يكشف للسخرية. أما في الرياضيات فقد تستوعب المناهج المتطورة المشاكل القديمة وتقدم طرقاً أبسط وأعمق لمعالجتها، فضلاً عن فتح آفاق أوسع، لكن طالما ثبتت صحة قضية رياضياتية في إطار نسقها، أي طالما ثبت الإرتباط بين المقدم والتالي فيها، فسوف تظل صحيحة إلى أبد الآبدين، وتتمتع القضية الرياضياتية داخل نسقها بثبات صدق وضرورة منطقية تميزها عن قضايا العلوم التجريبية. ومهما علت الرياضيات في مدارج التقدم لن تسخر من براهين القدامى في العهود السحيقة أو تكشف خطأها فجاة، كما يحدث في العلوم الأخرى. مازال آينشتين منبهراً بنظرية فيثاغورث الموضوعة قبل الميلاد بقرون ويعمل على اساسها. ومازالت هندسة إقليدس نموذجاً لبناء النسق الهندسي. [..] القضية الرياضياتية إذا كذبت كانت متناقضة ذاتياً، وإذا صدقت كانت ضرورية الصدق وكذبها مستحيل إطلاقاً في أية ظروف وشروط (2+2 = 4) لا ترتبط بأية شروط زمانية أومكانية، بل تصدق دائماً وأبداً طالما اتفقنا على معانٍ محددة للرموز : 2 ، 4 ، الجمع ، التساوي، وسائر حدود نسقها الرياضياتي. وبالمثل إنكار أن المثلث شكل محاط بثلاثة أضلاع يعني إنكار أن يكون المثلث مثلثاً!! هكذا كانت الرياضيات دائماً المثل الأعلى لليقين والضرورة والفعل العقلي المنضبط واللغة الدقيقة.. صــ82 : 83

▬ إن هندسة إقليدس ظلت هي النسق الوحيد المطروح طوال ما يربو على ألفين ومائتين عام، وكانت تبدو متوافقة مع خبرة الحس المشترك، فنحن في خبرتنا اليومية العادية نرى السطوح تبدو مستوية ونرى المستقيمين لا يتقاطعان إلا في نقطة واحدة ونرى الخطين المتوازيين لا يلتقيان أبداً.. إلخ. لذلك ساد الإعتقاد ان إقليدس استقى أسس هندسته، أو بالتعبير الميثودولوجي الدقيق نقول استقى مقدمات نسقه الإستنباطي من الخبرة الحسية التجريبية، ثم سار بعد ذلك في المسار الإستنباطي الخالص، مما يعني أن الإستنباط الرياضياتي يرتكز في اصوله على التجريب. [..] ظلت النظرة التي ترى مثل هذه العلاقة بين الإستنباط الرياضياتي والتجريب قائمة حتى كان القرن التاسع عشر، فقد ظهرت الهندسات اللاإقليدية، وظهر التمييز بين الرياضيات البحتة Pure mathematics والرياضيات التطبيقية Applied mathematics. الرياضيات البحتة لا شأن لها إطلاقاً بالواقع التجريبي ولا تلتزم إلا بأصول التفكير الرياضياتي وقواعد المنطق. وتأتي الرياضيات التطبيقية بعد ذلك لتبحث في إحكام السيطرة عليه. وكما يقول دافيد هيلبرت، الرياضيات البحتة غير ذات صلة إطلاقاً بالرياضيات التطبيقية والهندسة الفيزيائية!! إنها لا تصبح تطبيقية إلا بعد إتباع طرق رياضياتية خاصة. أما الرياضيات البحتة في حد ذاتها فلا تلتزم إطلاقاً باية متعينات تجريبية محسوسة. لذلك نتفق الآن على أن مناهج التفكير الرياضياتي في حد ذاتها على أنها لا شأن لها بالتجريب، ومستقلة تماماً عن الخبرات الحسية. صــ83 : 84

▬ بعد سلسلة من إسهامات المناطقة الرياضياتيين أثبت برتراند راسل (1872 - 1970) والفرد نورث هوايتهد (1861 - 1947) أن الرياضيات ترد بأكملها إلى المنطق، الأمر الذي جعل رسل يعبر عن العلاقة بين المنطق والرياضيات بقوله الشهير إنهما لا يختلفان، إلا كما يختلف الصبي عن الرجل، فالمنطق هو صبا الرياضيات، والرياضيات هي رجولة المنطق. [..] وقد أخرجا معاً كتابهما العظيم "برنكيبيا ماتيماتيكا" أو "أصول الرياضيات" عام 1910 - 1913 ليبدأ فيه بثلاثة لا معرفات هي الإثبات والنفي والبدائل، ومنها فقط تمكنا بواسطة التدوين الرمزي من استنباط قواعد المنطق الصوري بأسرها، ثم الرياضيات البحتة بأسرها. وهذا التناول التحليلي للرياضيات الذي ردها إلى المنطق أثبت أنها مثلها مثل المنطق، قضايا تحليلية فارغة من أي مضمون، لا تحمل خبراً عن العالم الفيزيقي المادي. اتضح أن الرياضيات بأسرها لا تُعني إلا اشتقاق النتائج الضروية التي تلزم عن مقدمات معينة. ومقدمات الرياضيات البحتة بأسرها ليست إلا قواعد للإستدلال إنها تحصيلات حاصل المقدم هو ذاته التالي، لكن في صورة اخرى ولا إضافة البتة، لذلك يستحيل ان تقبل الكذب وأن تتعرض للتكذيب، إنها يقينية لأنها لا تمثل إلا إرتباطات جديدة بين مفاهيم معروفة وتبعاً لقواعد معروفة. [..] وعلى الرغم من القبول الذي حظي به إثبات الطبيعية التحليلية للرياضيات، وعلى الرغم أيضاً من تأثيرها العميق والواسع النطاق على الميثودولوجيا وفلسفة العلم والتفكير العلمي في القرن العشرين بأسره؛ وأنه ليس ثمة نتيجة منطقية، كانت ومثمرة مثلها، فإنها مثل كل أطروحة كبرى لم تنج من الإعتراض والنقد والنقاش. [..] ويحمل بنا أن نتوقف عند نقد كورت جودل (1906 - 1978) فقد أخرج في عام  1931 بحثاً بعنوان "حول قضايا غير قابلة للبت صورياً في برنكبيا ماتيماتيكا ومنظومات ذات صلة". صحح فيه أن رسل أعلن بعد هذا بسبع سنوات أنه لا يرى ما يدعو إلى تعديل الأطروحة الأساسية للكتاب وهي أن المنطق والرياضيات متطابقان، إلا أن بحث جودل المذكور حمل مبرهنتين نالتا حقاً بهاء اليقين الرياضياتي حين أثبتت لا اكتمالاً في الانساق الرياضياتية، وتعد "نظرية جودل" بدورها من معالم تطور العقل الصوري في القرن العشرين. [..] برهن جودل في نظريته على أنه في أي نسق صوري يقوم على سلسلة الأعداد الطبيعية التي تبدأ من الصفر توجد قضية أو صياغة formula لا يمكن إثباتها ولا إثبات نفيها، أي غير قابلة للبت أو الحسم صورياً. وينتج عن هذا مبرهنة جودل الثانية التي برهنت على أنه لا يمكن إثبات إتساق النسق الصوري ببرهان من داخله. الإثبات الذاتي للإتساق يقتضي توافر خصائص جوهرية لا يتمتع بها النسق الصوري الملائم لسلسلة الأعداد الطبيعية، وهذا يعني لا إكتمالاً Incompleteness في النسق الصوري. لذلك تعرف مبرهنتا جودل أونظريته باسم "نظرية اللااكتمال". وكان لها بدورها تأثيرها البالغ على القرن العشرين. فقد اشترط جودل صفات جوهرية أخرى في النسق الصوري لكي يكون مكتملاً ومتسقاً ذاتياً، منها أن تكون مسلماته قابلة للميكنة، وقدم جودل عام 1934 تعريفاً فنياً واسعاً لمفهوم الميكنة. فقام آلان تورينج عام 1936 بتصميم ماكينات نظرية معروفة بإسمه :آلة تورينج، تمثل تعريف جودل الأوسع لمفهوم الميكنة. وفي الأربعينات نجح جون فون نيومان (1903 - 1957) وآخرون في تجسيد ماكينات تورينج فعلياً بإستخدام دوائر كهربائية. ومن هنا كانت نشأة الكمبيوتر. فهل كان انهيار اليقين الرياضياتي مثمراً إلى كل هذا الحد ؟! فقد تبدل وضعه تماماً بعد نظرية كورت جودل في اللااتكمال. [..] لم تعد الرياضيات معرفة يقينية، بل محض أنساق صورية تتسم بالقدرة الخلاقة على الترميز والتوليد والتشفير والتوكيد. وهي القدرة التي بلغت ذراها في عملاق العصر وعصور مقبلة أي الكمبيوتر. والرياضيات في كل هذا تعطينا منهج التفكير المختلف تماماً عن المنهج التجريبي، يتآزر ويتلاقح معه في صنع ملحمة العلم العظمى. صــ85 : 87

▬ قانون العلية Law of Causality يعني أن كل ظاهرة لها علة سببتها فتنظم أحداث الكون في تسلسل علِّي. أما قانون اطراد الطبيعية Uniformity of Nature يعني أن ظواهر الطبيعة تجري بشكل مطرد على وتيرة واحدة لا تتغير، ما حدث اليوم سوف يحدث غداً وإلى الأبد. فكل شيء حدث وسوف يحدث هو مثال لقانون عام لا يعرف الإستثناء طالما أنه محكوم بعلاقة علية ضروية. والجدير بالذكر أن هذين القانونين - العلية والاطراد - وجهان لعملة واحدة طالما أن العلية لا تعدو أن تكون التعاقب في الطبيعة، وذلك في إطار مبدأ الحتمية الكونية الشاملة الذي كان خلفية مكينة لتبرير تعميم الوقائع كقانون عملي شامل. صــ88

▬ [..] والخطوة الثانية للمنهج العلمي التجريبي هي التعميم الإستقرائي للوقائع التي لوحظت، فإذا اشتعل الخشب كلما تعرض للهب في سائر الوقائع التي لوحظت، أمكن الخروج بالتعميم  الإستقرائي : الخشب قابل للإشتعال. [..] والخطوة الثالثة للمنهج الإستقرائي الكلاسيكي هي إفتراض فرض يعلل أو يفسر هذا التعميم، كإفتراض أن الخشب قابل للإشتعال لأنه يتحد بالاكسجين. [..] والخطوة الرابعة هي التحقق من صحة هذا الفرض، لا بد ان يكون من الناحية المنطقية قادراً على حل المشكلة المطروحة للبحث ومتسقاً مع ذاته، ومع القوانين العلمية الأخرى المعمول بها. صــ89

▬ لقد كان هيوم شكاكاً كبيراً، يرى ان منهج الشك هوالكفيل بأن يقي الفلسفة مغبة التطرف والحيود والأشكال غير الملائمة للتفلسف. وراح يعرض كل شيء لمنظار الشك، لكي يثبت من أنه مردود إلى إنطباعات الحس، وإلا على أي أساس نفترض ان العلل سيكون لها دائماً المعلولات نفسها؟ أي على أي اساس نفترض مبدا العلية؟ ولا إجابة على هذا السؤال، فنحن لا نجد في انطباعات الحس أبداً هذه العلية، لا أحد رآها اوسمعها أو لمسها. إننا لا نلاحظ إلا تعاقباً بين الاحداث، أما العلية فهي ملاط (=أسمنت) غيبي للربط بين هذه الاحداث، ولا مرد لها إلا العوامل السيكولوجية، تكرار الخبرة الحسية التي تقع فيها (ب) بعد (أ) يخلق عادة لتوقع (ب) كلما شوهدت (أ)، أي إن العلية مجرد عادة نفسية! ليست مبدأ كونياً يصلح على أساس منهج العلم بجلال قدره. صــ91 : 92

▬ الواقع أن مشكلة الإستقراء لم تكن دليلاً على عقم الفلسفة، بل على مدى خصوبتها وثقوب بصرها. لأنه المشكلة جاءت من ظروف حضارية وقصورات أو اوضاع معرفية لها حدودها القاصرة جعلت العقل العلمي يفترض أن الإستقراء التقليدي أي البدء بالملاحظة هو منهج العلم. وتلك هذه المشكلة الحقيقية طالما نبدأ من الملاحظة فلن نجد أي مبرر للقفزة التعميمية. وكان ثقوب النظر في تعيين الخلل الكامن في تصور البدء بالملاحظة. وفيما بعد اتضح أن هذا التصور لا يعبر عن طبيعة منهج البحث العلمي، بل فرضته كما ذكرنا ظروف معينة خاصة بمرحلة الحداثة في القرن السابع عشر وما تلاه. صــ92

▬ لقد رأى آينشتين ان منهج البحث يتلخص في ان يتخذ الباحث لنفسه مسلمات عامة أو مباديء يستنبط منها النتائج، فينقسم عمله إلى جزئين: يجب عليه اولاً ان يهتدي إلى المباديء التي يستند إليها، ثم يتبع ذلك بأن يستنبط من هذه المباديء النتائج التي تترتب عليها. ويؤكد آينشتين تاكيداً حاسماً على أن الوقائع التجريبية بمفردها تظل عديمة النفع للباحث ما لم يهتد إلى قاعدة لإستنباطاته. [..] وصيغت نظرية المنهج التجريبي الحديث الباديء بالفرض فيما يعرف بالمنهج الفرضي الإستنباطي Hypothetical Deductive Method ، يبدأ بفرض صوري عام لا يُشتق من الخبرة ولا يخضع هو ذاته للتحقيق التجريبي المباشر. فليجأ الباحث إلى منهج الإستنباط كي يستنبط منطقياً ورياضياتياً النتائج الجزئية التي تلزم عنه، وهنا يأتي التجريب ودور الملاحظة فيقابل بين النتائج المستنبطة مع الفرض ووقائع التجريب، إن اتفقت معها تم التسليم المؤقت بالفرض وإن لم تتفق يكون تعديله أو الإستغناء عنه والبحث عن غيره. مع ملاحظة أن مصدر الفرض لا يعنينا فقد يأتي به العالم من الحصيلة المعرفية السابقة أومن وقائع التجريب أو من صفاء ضوء القمر أو رؤية وجه المحبوبة، أو من أين تستطيع العقلية المبدعة الخلاقة أن تستلهمه فرضاً. [..] أهم ما يميز هذا المنهج أن الإستدلال الرياضياتي هو عموده الفقري، واحياناً، في نظريات الفيزياء البحت التفسيرية يبدو الإستدلال الرياضياتي أهم من وقائع التجريب ذاتها، فقد ضاعت الحدود بين الرياضيات التطبيقية والفيزياء البحتة. والإستدلال الرياضياتي عملية استنباطية كما رأينا، فلا يعود التجريب مقابلاً تماماً للإستنباط كما كان الحال مع الإستقراء. على أن الإستنباط هنا لا يعود طبعاً إلى القياس الأرسطي، ولا علاقة له بأرسطو ولا حتى في استنباط النتائج الجزئية من الفرض، لأن الإستنباط هناك منطقه هو المنطق الرمزي الحديث الذي تنامى في القرن العشرين، منطق العلاقات. والفروض العلمية الآن لم تعد تحكم وقائع بقدر ما تحكم قوانين وعلاقاتها ببعضها. صــ96 : 97

▬ يوضح بوبر أن البدء بالملاحظة الخالصة فقط ثم تعميمها فنصل إلى قانون اونظرية عامة وبغير أن يكون في الذهن شيء من صميم طبيعة النظرية.. فكرة مستحيلة خلف محال عن طريق التمثيل بأقصوصة عن رجل كرس حياته للعلم فأخذ يسجل كل ما استطاع ان يلاحظه، ثم أوصى ان تورث هذه المجموعة من الملاحظات التي لا تساوي شيئاً إلى "الجمعية الملكية للعلوم بإنجلترا" لكي تستعمل  كدليل استقرائي! وهي طبعاً لن تفيد العلم في شيء، ولن تفضي إلى شيء. [..] وإذا افترضنا كمبيوتر يقوم بدور آلة استقرائية فيجمع المعطيات الحسية المتماثلة ليعممها في قانون، فإن عمله هذا مستحيل بدون فرض مسبق، لا بد قبلاً من برنامج يحدد للكمبيوتر ما هي أوجه التماثل التي يبحث عنها ومتى يأخذ الوقائع التجريبية أوالمعطيات الحسية على أنها متماثلة. صــ98

▬ والواقع أن لا كوبرنيقوس ولا جاليليو ولا نيوتن، ولا أي رائد من الرواد الذين شيدوا صرح العلم الحديث، ولا أي من العلماء الأقل حجماً ولا من العلماء طراً، توصل إلى إنجازاته عن طريق الإستقراء أي عن طريق البدء بالملاحظة ثم تعميمها لكي يصل إلى القانون العلمي، بل جميعهم يبدأ بفرض يستنبط نتائجه ثم يقوم بإختبارها تجريبياً. ولكن بفعل العوامل الداخلية والخارجية لحركة العلم الحديث التي أشرنا إليها ران الوهم الإستقرائي على العقول. صــ99

▬ يقول بوبر إن النزاع الضاري بينه وبين الإستقرائيين يتلخص في السؤال ما الذي يأتي أولاً الملاحظة (حـ) أم الفرض (ض) ؟ وهذا يشبه السؤال التقليدي: ما الذي أتى أولاً الدجاجة (حـ) أم البيضة (ض) ؟ وبوبر يجيب على كلا السؤالين بـ (ض)، نوع اولي بدائي من البيض، وأيضاً نوع اولي بدائي من الفروض هي التوقعات الفطرية التي يولد الذهن مزوداً بها لتمثل أولى تعاملات العقل مع العالم التجريبي، ويمتد إنكار دور الملاحظة الحسية في التوصل إلى الفرض أو القانون حتى أعمق الجذور. [..] طبعاً بوبر فيسلوف تجريبي، لكنه لا يرى الذهن يولد صفحة بيضاء تخطها التجربة كما يدعي التجريبيون المتطرفون أمثال لوك وهيوم، ولا يرى الذهن يولد بأفكار فطرية كما يدعي المثاليون المتطرفون، لكنه يرى الذهن يولد مزوداً بمجموعة من الإستعدادات السيكولوجية والنزوعات والتوقعات الفطرية التي قد تتغير وتتعدل مع تطور الكائن الحي. ومنها النزوع إلى الحب والعطف وإلى مناظر الحركات والأصوات، وأيضاً إلى توقع الإطراد في الطبيعة. والاطراد ليست نتيجة الخبرات المتكررة، بل لوحظت في الحيوانات والأطفال الحاجة إلى إشباع هذا التوقع بأي شكل، وإذا تحطمت بعض الإطرادات المتوقعة يؤدي هذا إلى الشقاء والحيرة وربما حافة الجنون. صــ99

▬ أما إذا سالنا كارل بوبر: ما هي رؤيته الفلسفية لمنهج العلم؟ فسوف تتلخص إجابته في كلمة واحدة هي آلية المحاولة والخطأ، كما رسمها في الصياغة: (م1 ==> ح ح ==> أأ ==> م2) إنها صياغة تضع تخطيطاً لقصتي العلم والحضارة، وقصة الحياة باسرها على سطح الأرض، مثلما تصور الداروينية نشوءها وارتقاءها أو تطورها. ذلك أن بوبر ينظر إلى العلم والمعرفة نظرة واحدة، فليس العلم إلا مرحلة متقدمة من المعرفة، بل من علاقة الكائن الحي مع بيئته ومحاولاته الناجحة للتكيف معها. وأنماط السلوك اياً كانت، سلوك العالم في معمله، أو سلوك الكائن الحي في صراعه مع البيئة من أجل البقاء، أو ما بين هذا وذاك، أي سلوك ليس إلا محاولة لحل مشكلة معينة. والمعرفة بدورها ليست إلا نشاطاً لحل مشاكل معرفية. المشكلة نرمز إليها بالرمز : م. لذلك يبدأ أي موقف بمشكلة محددة لتكن (م1). لتأتي محاولة حلها (ح ح)، لكن لا بد من مناقشة أو إختبار الحل و "استبعاد الخطأ" (أأ) وإلا لن تستمر الحياة، بعد حذف الخطأ يبرز موقف جديد، واي موقف يتحوي على مشاكل، ينتهي إلى مشكلة جديدة (م2)..وهكذا. صــ100 : 101


▬ [..] وبالتالي لا يبحث العلماء عن الإثبات النهائي للصدق. النظرية قد تجتاز كافة اختبارات النقد والتكذيب، فقط لأن العلم لم يتوصل بعد إلى الإختبار الحاسم لها، أي القانون المفند، والباحث يفضل النظرية الأقرب إلى الصدق، ولكنه يعلم انها أيضاً قابلة للتكذيب، إنها موضوع شيق لإختبارات أكثر، أية محاولات تكذيب. وفي اختبارات ومحاولات تكذيب اية نظرية علمية جديدة، يكون عليها أن تنجح فيما نجحت فيه سابقتها، وفيما فشلت فيه ايضاً، فهذا المنهج يعني الترابط المتسلسل بين النظريات، بحيث تكون كل نظرية اقرب إلى الصدق من سابقتها. صــ106

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

0 التعليقات:

إرسال تعليق