فلسفة التذوق الفني (غادة الإمام، بدر الدين مصطفى)

• الفنان يبدأ بالواقع ولكن على النحو الذي يعيد فيه تشكيل وإبداع هذا الواقع من جديد، بحيث يبدو كوجود جديد لم نتلق به من قبل ولن نلتمس له وجوداً خارج الصورة الفنية.
• إنني (كقاريء) أتجه لأقيم في الطوابع الأدبية التي يقدمها الشعراء لي؛ فصورة البيت تطالبني بأن أسكن فيها ببساطة، وبكل الأمان الذي تمنحه تلك البساطة. (باشلار)

============================
▬ إن الفن - كما يرى هيدجر - إبداع أصيل يعبر عن الوجود ويجسده من خلال العمل الفني. ومن ثم، يحاول هيدجر إيضاح كيف يكون الفن في علاقة ضرورية مع الوجود والحقيقة حينما يسهم العمل الفني في تكشف حقيقة شيء ما من خلال ما يسميه بإبداعية العمل الفني Creativity of the work of art. وبالتالي، ينظر للعمل الفني على أنه يقول لنا شيئاً ما له صلة وثيقة بالوجود والحياة، وليس مجرد صياغة أو تشكيل جمالي خالص يخاطب متعتنا الجمالية. صــ 34

▬ ينبهنا باشلار إلى المكانة الخاصة للذاكرة في العملية الإبداعية بوصفها إحدى الركائز الرئيسية في هذه العملية، فهي الوعاء الذي يحوي ماضي الإنسان بكل ذكرياته وأحلامه وصوره المتخيَّلة. فالذاكرة - حقاً - هي جزء من وعي المبدع؛ إذ أنها: "تُمكن المبدع من وصل لحظة الإدراك المباشر باللحظات الماضية التي حملت إليه انطباعات مماثلة. فالشاعر يقوم بتوظيف الماضي والحاضر. بحيث ينطلق من ذكريات طفولته متجهاً نحو المستقبل، أي نحو ما سيأتي، نحو كل ما هو جديد في الصورة الشعرية. صــ 53

▬ إن الأثر الكبير للحب، كما يستشهد باشلار هنا بقول هيتشكوك، هو رد كل شيء إلى طبيعته بالذات، هي كلها طيبة ولطافة وكمال. فالفنان - إذن - حينما يُشكل مادته، فإنه ببساطة يحاول إحياء وبعث أحلامه وذكرياته وصوره المتخيلة في المادة، وكأنه - بذلك - يبعث الحياة في المادة نفسها. هذه المادة التي يجسد من خلالها - ويجلب إليها - حبه للطبيعة ذاتها، وإنصاته إليها، وليس مجرد - كالحال عند الصانع - الانتفاع بها أو استهلاكها. فالحب إذن هو الرابط بين الفنان والمادة؛ بل والفنان والطبيعة. صــ 57

▬ يرى باشلار أنه من الضروي أن يضع المتلقي هذا الوصف للصور الشعرية على محور القصدية، أي أن أهتم باعتباري متلقياً للصورة الشعرية أن أصف ماهيتها بدءاً من الصورة نفسها من خلال الانفتاح عليها والمشاركة في عالمها والإنصات إلى رنينها، حتى ألتحم بعالمها وأشعر بأنه عالمي الخاص بي، والذي ينبع من شعوري بأن الصورة نفسها تخصني إلى حد أن أقول لنفسي: "آه! ليت هذه الصورة التي رأيتها لتكون هي صورتي، حقاً صورتي، ليتها تصبح - وهذا يمثل قمة كبرياء القاريء - عملي!. أي عظمة قراءة لو استطاع القاريء بمساعدة الشاعر أن يحيا القصدية الشعرية!، أو بالأحرى قصدية الخيال الشعري الذي يتجه نحو إبداع كل ما يُجدد وُيثري العالم، ويعيد له نبض الحياة من جديد. فهنا يرى باشلار أن القاريء - كي يكون قارئاً حقاً - ينبغي أن يتخيل ويحلم ويتذكر حينما يقرأ. صــ 80

▬ الشعراء يقنعوننا بأن جميع أحلام يقظة الطفل جديرة بأن نحياها من جديد. وبالتالي فإن المسألة المطروحة هنا هي أننا نستطيع تعميق وإيقاظ حالة طفولتنا من جديد من خلال قراءة الشعراء. وأحياناً بفضل صورة الشاعر وحدها، طفولة تذهب أبعد من ذكريات طفولتنا، وكأن الشاعر يجعلنا نكمل، بل وننهي طفولة لم تنتهِ تماماً، مع أنها طفولتنا نحن. صـ 84

▬ إعتاد ممثلو النقد السيكولوجي أثناء تقييمهم لقصيدة ما - مثلاً - على تحويل الصورة الشعرية إلى صورة عقلية؛ وذلك حينما يحاولون فهمها، وإيجاد سبب لتفسيرها، في حين أن ما يميز الصورة الشعرية بخلاف ذلك - ثراء المعنى، ثقل تعدد المعنى، فإنها - بذلك - لا تتقيد أبداً بالتفسير. أو بمعنى آخر، إن الصورة الشعرية تتميز بأنها متعددة المعاني... في قولنا "إنه يفهم الصورة" وتلك هي المشكلة بالنسبة للمحلل النفسي والناقد الأدبي والسيكولوجي؛ إذ تبقى الصورة الشعرية عنده مجرد "مضمون" يحاول تفسيره، حينما يفسره فإنه يترجم الصورة إلى لغة أخرى، لغات مغايرة عن لغة اللوغوس أو القول الشعري. ومن ثم فلا تصيبنا الدهشة حينما نجد باشلار يصفه بأنه شأنه شأن المترجم، وكل مترجم - بالنسبة لباشلار - خائن. فإنه ينطلق في نقده من أسس ومعايير موضوعية باحثاً عن أسباب إبداع الصورة في نفس المبدع مما يحول بينه وبين الانفتاح على الصورة، والمشاركة في عالمها والإنصات للصوت الشعري المنبعث منها. وهذا ما يرفضه باشلار بشدة. صــ 89

▬ يرى باشلار أن تفسيرات النقد الأدبي السيكولوجي تعد محدودة وآلية؛ إذ أنها تنطلق من تصورات مسبقة تنظر للعمل الفني بوصفه مرآة الحياة؛ وبالتالي ينبغي العودة إلى الحياة عند تفسيرها والحكم عليها. ولهذا، فإن هذا التوجه النقدي يعد - بالنسبة لباشلار - غير منطقي؛ إذا أنه يغفل عن حقيقة بسيطة، ألا وهي أن القصائد - وحقاً، الأدب وكل الأعمال الفنية - قد أٌبدِعت على النحو الذي تمثل فيها انفصالاً عن الحياة، أو بالأحرى تجاوزاً عنها. فإنها - بإيجاز: عمل العبقري.. فالكاتب ينفصل عن كل شيء، يوجد بالفعل، ينفصل عن حياته الباطنية، بقدر ما ينفصل عن أفكاره. صــ 91

▬ لا يريد باشلار الاقتراب من العمل الأدبي بوجه خاص - والعمل الفني بوجه عام - بوصفه انعكاساً لمعاناة الفنان أو مرآة لحياته الشخصية ولسماته السيكولوجية، أو لظروف مجتمعه الأخلاقية والاجتماعية والفكرية. أو بإيجاز، إنه لا يريد أن يكون قارئاً موضوعياً يتعامل مع العمل الفني كموضوع يدرسه من الخارج ويُحكم السيطرة عليه؛ وإنما - بخلاف ذلك - إنه القاريء الذي يتعامل مع العمل الفني بوصفه ذاتاً ينفتح على عالمها ويشاركها حلمها وذكرياتها الماضية، أي أنه لا يفكر - عند الانفتاح على الصورة - في شيء ما آخر سوى الصورة. إنه - بإيجاز - قاريء مغامر يتخيل ويحلم ويتذكر ويكتب وهو يقرأ. صــ 104 ، 105

▬ لو طرحنا على أحد الشكلانيين السؤال التالي: هل الحقيقة هامة للفن بوصفه فناً ؟ لأجاب علينا بقوله: "إن المرء يمكن أن يؤكد على أن أي عمل يظهر على الصورة المعبرة هو عمل فني. ومثل هذه الأعمال فحسب تعد بمثابة أعمال فنية". وفي هذه الحالة بالنسبة للشكلانيين، فكل الحقائق وكل قيم الحياة مهما كان لا يؤخذ بها فنياً؛ إذ إنها تمثل عناصر دخيلة على العمل الفني بوصفه موضوعاً جمالياً، الذي يبقى ويخلد في وجدان الإنسان بفضل العلاقات الكائنة بين العناصر التشكيلية وحدها. فدلالة العمل الفني تكمن في باطنه، فهو لا يمثل شيئاً خارجه.. وتتجلى هذه الرؤية للفن بصورة أوضح في نظرة الشكلانيين للموسيقى؛ إذا أنها مجرد أصوات في حركة لا تعني أي شيء، ولا تشير على الإطلاق إلى أي شيء يقوم خارجها، أي ما تعنيه الموسيقى يكون معنى موسيقياً خالصاً. وبهذا المعنى تكون الموسيقى مجرد تشكيل صوتي زماني خالص. وتتضح تلك الرؤية للموسيقى بصورة واضحة قوية لدى هانزليك في كتابه "الجميل في الموسيقى"؛ إذ يرى أن الجميل في الموسيقى ذو طبيعة موسيقية، وهو يعني بذلك أن الجميل هنا لا يكون متوقفاً على - ولا محتاجاً إلى - أي موضوع خارجي، وإنما هو يتألف برمته من أصوات يتم ربطها فنياً. فالأصوات الموسيقية إذن لها جمالها المباطن فيها، والذي يتبدى في أسلوب تشكيلها: في توافقها وتقابلها، وفي تحليقها واقترابها، وفي قوتها المتزايدة والمتلاشية. ولهذا يرى هانزليك أن: "الموسيقى شكل حي بفضل التراكيب اللحنية". ويعني ذلك أن ماهية الموسيقى هي صوت وحركة، فالتعبير الموسيقي يكمن في لغة التشكيل الجمالي للموسيقى ذاتها، أي في تلك التراكيب الصوتية للموسيقى فحسب. والحقيقة أن الموسيقى لا تعبر عن مشاعر أو انفعالات معينة، فهذه كلها أمور مستقلة عن التعبير الجمالي للصوت الموسيقي. صــ 119، 120

▬ في أوائل الستينيات من القرن العشرين، نشر ليونارد ماير دراسته الشهيرة "نهاية عصر النهضة" التي قال فيها إن مفهوماً جديداً للجمال يولد آنئذ، هذا المفهوم يتنكر لمبدأ الغائية ويكرس فناً لا يهدف إلى شيء. وفي علم الجمال الجديد، حسب ماير، لم يعد الإنسان هو المعيار الذي تقاس به الأشياء والموجودات، لأنه ببساطة لم يعد مركز الكون، كما ذهب فلاسفة الحداثة، ولهذا فإن علينا أن نستعيد إحساسنا بالأشياء من خلال إعادة اكتشاف الواقع والإنصات الجيد للحياة. الاستماع بالصوت كما هو، واللون كما هو، والوجود والموجودات كما هي. وبشر بولادة فن ديمقراطي جديد بوسعه أن يذيب الجدر الغليظة بين الثقافة العليا (الثقافة النخبوية) وثقافة الجماهير (الثقافة الشعبوية) وبوسعه تفكيك الاستقلالية النخبوية للحداثة.. صــ 126

▬ إن الأبنية ما بعد الحداثية، وفقاً لدولوز" لا ترى ضيراً مثلاً في مزج الأفكار المعمارية الحديثة مع الأشكال والرموز التقليدية الغابرة بهدف إحداث نوع من الصدمة والادهاش، وربما المرح والتسلية للرائي. وهو ضرب من الإيمان بأن الجمال قد يتولد من التنافر مثلما يتولد من الاتساق، ومن الفوضى مثلما يتولد من النظام. لقد انعكس التحول الذي حدث في المجالات الثقافية على الناتج المعماري وعلى اهتمام المعماريين، وساهم كل منهما في إثراء الفنون الأخرى، لأن الحواجز بينهما قد سقطت "فاستوعب الخطاب المعماري المعاصر اتجاهات مختلفة نحتية وتشكيلية تنهل من طرز عديدة. ورأى بعض النقاد المعماريين أن التعددية والصخب ما هما إلا تعبير عن تعددية وصخب الأحداث التي بداخل جدران البنايات وفيما حولها. أو هي لون من الديمقراطية وحرية التعبير تسمح لكل معماري أن يطرح أفكاره الخاصة دون الإلتزام بقالب يحده أو نموذج يتمثله، وهو أمر لم يكن بمقدور المعماريين أن يفعلوه في السابق"، وفي سياق مشابه يقول جان نوفيل: "لم يعد المكان يعاش بنفس الطريقة، ولم تعد نفس الأشياء موجودة بالداخل، فاللعب بالمقياس يتم بطريقة مختلفة، ويتم تغيير معناه، فنتمكن انطلاقاً مما كان كبير الحجم غير واضح ووظيفي على نحو خالص، وعبر انحرافات متعاقبة، من إعادة خلق وتجديد لم يكن باستطاعة أي أحد تخيل أنها ممكنة. صــ 155 ، 156


▬ جاء اهتمام فلاسفة مدرسة فرانكفورت - بنيامين وأدورنو على وجه التحديد - انطلاقاً من اهتمام أكبر بما أطلقوا عليه "صناعة الثقافة" والتي مفاداها أن للعوامل الاقتصادية تأثيرها المفرط والخبيث في المجال الثقافي، وأن الثقافة تحولت من كونها مظهر من مظاهر انتشار الوعي إلى مجرد سلعة تُصنع فقط من أجل أهداف محددة تصب في النهاية لخدمة الرأسمالية المعاصرة. فالربح لم يعد عنصراً غير مباشر في إبداع العمل الثقافي.. لقد غدا كل شيء. ولأن السينما في الأساس صناعة رأسمالية تتوجه للجمهور من أجل الربح، بشكل يفوق الفنون الأخرى، فقد كان من الطبيعي أن تمثل نموذجاً جيداً للتطبيق كما ظهر ذلك في أعمال أدورنو وبينيامين... لم يكن هدف أدورنو في كتابته عن السينما وضع نظرية للفيلم أو حتى مناقشة الأبعاد الفلسفية للسينما، إنما تناولها كظاهرة ثقافية تمتلك القدرة على تزييف وعي المتلقي لخدمة مصالح الرأسمالية، لذا يمكن تلخيص موقف أدورنو في الإجابة على التساؤل الآتي: كيف تساهم السينما في اغتراب الإنسان المعاصر وتشيؤه؟ لقد رأى أدورنو أن أخطر سمة تنفرد بها السينما قدرتها الفائقة على تقليص دور المشاهد في إنتاج المعنى وتحويله بالتالي إلى متلقٍ سلبي لسيل الصور المتدفق على الشاشة. فالعمل السينمائي يقلص حجم المشاركة، فهو يُملي على المشاهد ما يريد أن يقوله ويحصره في الإطار الضيق الذي تمثله شاشة العرض. يكون المتلقي همه الأول، أثناء متابعته للعمل السينمائي متابعة لذلك السيل المتدفق للصور المتحركة دون إعطاءه الفرصة للتفكير والتدبر. صــ 194

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

1 التعليقات:

Unknown يقول...

السلام عليكم ممكن اسم دار نشر كتاب فلسفة التذوق الفني

إرسال تعليق