وُعّاظ السلاطين (علي الوردي)


• إن الطبيعة البشرية لا يمكن اصلاحها بالوعظ المجرد وحده. فهي كغيرها من ظواهر الكون تجري حسب نواميس معينة. ولا يمكن التأثير في شيء قبل دراسة ما جُبل عليه ذلك الشيء من صفات أصيلة.
• الغريب أن الواعظين أنفسهم لا يتبعون النصائح التي ينادون بها. فهم يقولون للناس : نظفوا قلوبكم من أدران الحسد والشهوة والأنانية، بينما نجدهم أحياناً من أكثر الناس حسداً وشهوة وأنانية.
• دأب وعاظنا على تحبيذ الحجاب وحجر المرأة، فنشأ من ذلك عادة الانحراف الجنسي في الرجل والمرأة معاً. فالإنسان ميال بطبيعته نحو المرأة، والمرأة كذلك ميالة نحو الرجل. فإذا منعنا هذه الطبيعة من الوصول إلى هدفها بالطريق المستقيم لجأت اضطراراً إلى السعي نحوه في طريق منحرف.
• إنهم يتركون الطغاة والمترفين يفعلون ما يشاؤن. ويصبون جل اهتمامهم على الفقراء من الناس فيبحثون عن زلاتهم وينغصون عليهم عيشهم وينذرونهم بالويل والثبور في الدنيا والآخرة.
• إن الطبيعة البدوية هي طبيعة الحرب. فالبدوي لا يفهم من دنياه غير التفاخر بالقوة والشجاعة والغلبة، وهذه تؤدي عادة إلى حب التعالي والرئاسة والكبرياء.
• إن الواعظ يجعل الناس شديدين في نقد غيرهم، فالمقاييس الأخلاقية التي يسمعونها من أفواه الوعاظ عالية جداً. وهم لا يستطيعون تطبيقها على أنفسهم فيلجأون إلى تطبيقها على غيرهم، وبذا يكون نقدهم شديداً.
• إن الإنسان بوجه عام يحب مصلحته قبل أن يحب مصلحة الغير. فهو إذا رأى المصلحتين متناقضتين آثر طبعاً مصلحته الخاصة، وأهمل المصلحة الاخرى، فالإنسان الفاسد هو كالصالح في ذلك. الفرق بينهما آت من كون أحدهما قد أتاحت له الظروف أن تكون مصلحته مطابقة للمصلحة العامة، فسعى في سبيلها وظن الناس أنه يسعى في سبيلهم فقدروه وكافاوه فانتفعوا به بمثل ما انتفع هو بهم.
• مشكلة الوعاظ عندنا أنهم يحاولون تقويم السلوك بمجرد قولهم للإنسان : كن .. ولا تكن .. كأنهم يحسبون السلوك طيناً يكيفونه بأيديهم كما يشاؤون.
• إن من مفارقات الإسلام أن قد ظهر فيه رجلان متناقضان في كل وجه : أحدهما أسس فيه مُلكاً عظيماً والآخر أسس ثورة طاحنة - هما معاوية وعلي.
• إذا تكاتف السيف والقلم على أمر، فلابد أن يتم ذلك الأمر عاجلاً أو آجلاً.
• لقد افتتح المتوكل عهداً جديداً في تاريخ الإسلام حيث صار الدين والدولة نظاماً واحداً. وأخذ الدين يؤيد الدولة بقلمه، بينما أخذت الدولة تؤيده بسيفها. ورفع الناس أيديهم بالدعاء هاتفين: "اللهم انصر الدين والدولة".
• لعلنا لا نبعد عن الصواب إذا قُلنا بأن النزاع بين الشيعة وأهل السنة اتخذ شكل التعصب لآل النبي من جهة ولأصحاب النبي من الجهة الأخرى. فاهل السنة تعصبوا للأصحاب. بينما تعصب الشيعة للآل. وأخذ كل فريق يُغالي في تمجيد من تعصب لهم.
• كان سلاطين الصفويين لا يختلفون اختلافاً أساسياً عن سلاطين العثمانيين - كلهم كانوا يعبدون الله وينهبون عباد الله. ولم يكن الفرق بينهم إلا ظاهرياً. إذ كان جل همهم منصباً على تشييد المساجد وعلى زخرفة جدرانها وتذهيب منابرها...
• إن الصفويين خدّروا مذهب التشيع وروّضوه كما يُروض السبع الضاري. فأصبح التشيع بهذا الاعتبار كأنه "ثورة خامدة". ولعلنا لا نبعد عن الصواب إذا شبهمنا التشيع في وضعه الحاضر بالبركان الخامد-يخرج منه دخان ضئيل إشارة إلى ما كان عليه في العهود الغابرة من انفجار هدام.
• لقد ذهب علماء الإجتماع الذين بحثوا تاريخ الثورات إلى أن الطبقات المضطهدة كثيراً ما تلجأ إلى اعتناق بعض الخرافات لتحارب بها الحكام الظالمين. ويُطلق على هذه الخرافات اسم الأساطير الإجتماعية Social myths.
• إن الخطر كل الخطر من الخرافة التي يؤمن بها المجتمع ويبذل جهده في سبيل تحقيقها.
• كل حاكم محاط بحاشية تحجب الناس عنه. وهو قد يُخادع نفسه فيخرج إلى الناس يستمع إلى شكواهم. ولكنه لا يستطيع رغم ذلك أن يفهم عن حقائق المجتمع أكثر مما يستسيغه إطاره الفكري الذي صنعه له حاشيته والحافون به.
• ويعم البلاء حين يحف بالحاكم مرتزقة من رجال الدين. فهؤلاء يجعلونه ظل الله في أرضه، ويأتون بالملائكة والأنبياء ليؤيدوه في حكمه الخبيث. وبهذا يُمسي الحاكم ذنباً في صورة حمل وديع.
• إن نظام التصويت الذي تقوم عليه الديمقراطية الحديثة ليس هو في معناه الإجتماعي إلا ثورة مُقنّعة. والانتخاب هو في الواقع ثورة هادئه. حيث يذهب الناس اليوم إلى صناديق الانتخاب، كما كان أسلافهم يذهبون إلى ساحات الثورة، فيخلعون حكامهم ويستبدلون بهم حكاماً آخرين.
• كان السلطان المسلم يأتي إلى العرش عن طريق المرحوم أبيه. فهو لا يعرف من أمور الدولة سوى أن يتمتع بميراث أبيه، ويداري الجلاوزة والجلادين الذين يؤديونه في تدعيم هذا الميراث.
• لقد آن الأوان لكي نحدث انقلاباً في أسلوب تفكيرنا. فقد ذهب زمان السلاطين وحل محله زمان الشعوب. وليس من الجدير بنا، ونحن نعيش في القرن العشرين، أن نفكر على نمط ما كان يفكر به أسلافنا من وعاظ السلاطين.

=========================================
▬ لقد ابتلينا في هذا البلد بطائفة من المفكرين الأفلاطونيين الذين لا يجيدون إلا إعلان الويل والثبور على الانسان لانحرافه عما يتخيلون من مثل عليا، دون أن يقفوا لحظة ليتبنوا المقدار الذي لائم الطبيعة البشرية من تلك المُثل. فقد اعتاد هؤلاء المفكرون أن يعزوا علة ما نعاني من تفسخ إجتماعي إلى سوء أخلاقنا. وهم بذلك يعتبرون الاصلاح أمراً ميسوراً. فبمجرد أن نصلح أخلاقنا، ونغسل من قلوبنا أدران الحسد والأنانية والشهوة، نصبح على زعمهم سعداء مرفهين ونعيد مجد الأجداد. إنهم يحسبون النفس البشرية كالثوب الذي يُغسل بالماء والصابون فيزول عنه ما اعتراه من وسخ طاريء. وتراهم لذلك يهتفون بملء أفواههم : هذبوا أخلاقكم أيها الناس ونظفوا قلوبكم! فإذا وجدوا الناس لا يتأثرون بمنطقهم هذا انهالوا عليهم بوابل من الخطب الشعواء وصبوا على رؤوسهم الويل والثبور. وإني لأعتقد بأن هذا أسخف رأي وأخبثه من ناحية الإصلاح الاجتماعي..صــ5

▬ لقد صار الوعظ مهنة تدر على صاحبها الأموال، وتمنحه مركزاً اجتماعياً لا بأس به. وأخذ يحترف معنة الوعظ كل من فشل في الحصول على مهنة أخرى. إنها مهنة سهلة على أي حال. فهي لا تحتاج إلا إلى حفظ بعض الآيات والأحاديث ثم ارتداء الألبسة الفضفاضة التي تملأ النظر وتخلبه. ويستحسن في الواعظ أن يكون ذا لحية كبيرة كثة وعمامة قوراء. ثم يأخذ بعد ذلك بإعلان الويل والثبور على الناس، فيبكي ويستبكي - ويخرج الناس من عنده وهم واثقون بأن الله قد رضي عنهم وبنى لهم القصور الباذخة في جنة الفردوس. ويأتي المترفون والأغنياء، والحكام فيغدقون على هذا الواعظ المؤمن ما يجعله مثلهم مترفاً سعيداً.. صــ47

▬ إن الواعظين ينظرون في الأمور بمنظار المنطق القديم - منطق الثبات والتصنيف الثنائي. فالحسن حسن على الدوام والقبيح يبقى قبيحاً إلى يوم القيامة. والمنطق الاجتماعي الحديث يستخف هذا الرأي ويعتبره منطق السلاطين والمعتوهين. فالحسن في نظر المنطق الحديث لا يبقى حسناً إلى الأبد. إنه حركة وتغير مستمر. فما كان حسناً بالأمس قد يصبح اليوم قبيحاً. إن المنطق الحديث يدعى "منطق التناقض". فكل شيء يحمل نقيضه في صميم تكوينه. وهولا يكاد ينمو حتى ينمو نقيضه معه. وبذا يصير الشر خيراً بمجرد نموه وتحركه. صــ72

▬ يزعجني بعض رجال الدين حين أراهم يكتبون ويخطبون معلنين للناس أنهم يطلبون الحقيقة المجردة - غير دارين بأنهم يطلبون الحقيقة كما يشتهونها. والإنسان لا يفهم من الحقيقة إلا ذلك الوجه الذي يُلائم عقده النفسية وقيمه الاجتماعية ومصالحة الاقتصادية. أما الوجوه الاخرى من الحقيقة فهو يُهملها باعتبارها أنها مكذوبة أو من بنات أفكار الزنادقة - لعنة الله عليهم.. لا يستطيع أن يدنو من الحقيقة الكاملة إلا ذلك المشكك الذي ينظر في كل رأي نظرة الحياد. إن الشك هو طريق البحث العلمي. ولم يستطع العلماء المحدثون أن يبزوا أسلافهم في البحث إلا بعد أن اتبعوا طريق الشك. أما أولئك المتحذلقون الذين آمنوا بتقاليد آبائهم ثم جاؤونا يتفيقهون بطلب الحقيقة المجردة فهم لا يستحقون في نظر العلم الحديث غير البصاق. إننا لا نلوم رجال الدين على إيمانهم الذي يتمسكون به. ولكننا نلومهم على التطفل في البحث العلمي وهم غير جديرين به. إن الإيمان والبحث على طرفي نقيض. ولا يستطيع المؤمن أن يكون باحثاً. ومن يريد أن يخلط بينهما فهو لاشك سيضِّيع المشيتين. صــ231

▬ إن رجال الدين من الشيعة وأهل السنة يتنازعون على أساس قبلي كما يتنازع البدو في الصحراء. فكل فريق ينظر إلى مساويء خصمه، وكل حزب بما لديهم فرحون. قد يستغرب القاريء إذا علم بأن كلتا الطائفتين كانتا في أول الأمر من حزب واحد، وإن الذين فرقوا بينهما هم السلاطين ووعاظ السلاطين. ففي عهد الدولة الأموية كان الشيعة وأهل السنة يؤلفون حزب الثورة. إذ كان الشيعة يثورون على الدولة بسيوفهم، بينما كان أهل السنة يثورون عليهم بأحاديثهم النبوية - هؤلاء كانوا ينهون عن المنكر بألسنتهم، وأولئك كانوا ينهون عنه بأديهم [...] إن الثورة، بوجه عام، تحتاج إلى نوعين من السلاح، هما سلاح السيف وسلاح القلم. ولم تنجح ثورة في التاريخ من غير أقلام قوية، أو ألسنة، تدعو إليها وتنشر مبادئها بين الناس. فالسيف وحده لا يكفي لتدعي مبدأ من المباديء الثورية. فإذا لم تتبدل القيم الفكرية ويخلع الناس عن عقولهم طابع الخضوع والجمود، عجز السيف عن القيام بثورة ناجحة [...] قلنا في فصل سابق  أن العباسيين لم يكونوا يختلفون عن أسلافهم الأمويين من حيث الترف والطغيان أو من حيث السفك والنهب. إنما اختلفوا عنهم بالمظهر فقط. أولئك كانوا ينفرون من أهل الحديث ويضطهدونهم، وهؤلاء يبجلون ويذرفون الدموع الغزيرة عند حضورهم.  صــ231 : 233

▬ يقول البرفسور ادواردس : "إن الثوار دائماً يعتقدون بأن فساد المجتمع ناشيء عن فساد حكامه. ولهذا فهم يظنون بأن الصلاح الإجتماعي لا يتم إلا بتولي أناس صالحين مكانهم". يبدو أن نظرية ادواردس هذه تنطبق على ما كان قدماء الشيعة يؤمنون به من عصمة الإمام. إذ كانوا يرون فساد الأوضاع الإجتماعية ناتجاً من تحكم الملوك الفاسدين فيها. يروي الشيعة عن أحد أئمتهم أن الله قال: "لأعذبن كل رعية في الإسلام دانت بولاية إمام جائر ليس من الله، وإن كانت الرعية في أعمالها برة تقية. ولأعفون عن كل رعية في الإسلام دانت بولاية إمام عادل من الله، وإن كانت الرعية في أنفسها ظالمة مُسيئة". صــ251

▬ يزور الشيعة قبر الحسين بمئات الألوف كل عام. ثم يرجعون من الزيارة كما ذهبوا-لم يفعلوا شيئاً غير النواح واللطم. إنهم اليوم ثوار خامدون..فقد خدّرهم السلاطين، وحولوا السيوف التي كان يقاتلون بها الحكام قديماً إلى سلاسل يضربون بها ظهورهم وحراب يجرحون بها رؤوسهم. ومن يدري فقد يأتي عليهم يوم تتحول فيه هذه السلاسل والحراب إلى سيوف صارمة من جديد. إنهم لا يحتاجون في ذلك إلا إلى فرد مشاعب من طراز اللعين ابن سبأ (هذا إن لم يكن شخصية وهمية). صــ255


▬ إن العدالة الإجتماعية لا يمكن تحقيقها بمجرد أن تعظ الحاكم أو تخوفه من عذاب الله. فالحاكم قد يخاف الله أكثر منك وهوقد يعظك كما تعظه ويتضرع بين يدي ربه مثلما تتضرع. وأنت لو وعظته ألف مرة لبقي كما كان - يظلم الناس ويقول ساعدني يارب! العدالة ظاهرة إجتماعية لا تتأتى في مجتمع إلا بعد تنازع الحاكم والمحكوم عليه. إن الحاكم لا يستطيع أن يكون عادلاً من تلقاء نفسه، إذ هو قبل كل شيء إنسان، فيه من نقائص الطبيعة البشرية ما في غيره. وهو مهما كان تقياً في أعماق نفسه فإنه لا يفهم العدل كما يفهمه رعاياه القابعون في الأكواخ البعيدة [..] الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان. وصديقك الذي تستعذب حديثه وتستطيب مظهره وأدبه، قد يكون من أظلم الناس إذا تولى زمام الحكم. هو الآن طيب لأنه بعيد من مباهج الحكم. وأنت لا تدري ماذا سوف يفعل إذا جلس على الكرسي وحف به الجلاوزة والجلادون من كل جانب. يقول المثل الإنكليزي: "إذا أردت أن تعرف حقيقة إنسان فاعطه مالاً أو سلطة". صــ262

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

0 التعليقات:

إرسال تعليق