دلالة الألفاظ (إبراهيم أنيس)


• لقد تجنب بعض الباحثين الاعتماد على ألفاظ اللغة في علاجهم للنظام المنطقي في اللغة، واصطنعوا من أجل هذا رموزاً وإشارات أشبه برموز الرياضياتيين ومصطلحاتهم، حتى لا تكون آراؤهم متأثرة بما في دلالة الألفاظ من قصور، وما يكتنفها في كثير من الأحيان من ظلال المعاني التي تختلف باختلاف الناس.
• حين قورنت النصوص القديمة بالنصوص الحديثة تبين للباحثين أن التطور الصوتي في اللغات يميل في غالب الأحيان نحو تيسير النطق بها، والاقتصاد في الجهد العضلي أثناء صدورها.
• مهما يكن من اختلاف وجهات النظر بين المحدثين في تحديد الكلمات أو تعريفها، فإنهم يشيرون في كتبهم إلى اختبار دقيق يمكن أن نتبين منه معالم الكلمة أوحدودها، وذلك بأن يمكن إفرادها بالنطق (أي إمكانية إستقلالها) وحذفها من الكلام أو إقحامها فيه، أو الاستعاضة عنها بأخرى.
• يغالي بعض اللغويين فيتصورون أن هناك ربطاً طبيعياً بين الألفاظ ودلالتها، ولا يخطر ببالهم أن القدرة على استيحاء الدلالات مرجعها إلى ما يكتسبه المرء من ألفاظ معينة، ومن ربطه بين تلك الألفاظ ودلالتها ربطاً وثيقاً.
• بينما تجمع الدلالة المركزية بين الناس، تفرق بينهم الدالة الهامشية، وبينما تساعد الأولى على تكوين المجتمع وتعاونه وقضاء مصالحه، قد تعمل الثانية على خلق الشقاق والنزاع بين أفراده. ولكن الناس في حياتهم العامة يعتمدون على الدلالات المركزية ويكتفون بها عادةً..
• يجمع الباحثون في نشأة الدلالة على أنها بدأت بالمحسوسات، ثم تطورت إلى الدلالات المجردة بتطور العقل الإنساني ورقيه.
• إن الرجوع إلى المعاجم القديمة لا يُجدي كثيراً في البحث عن دلالة الألفاظ وتطور الدلالة. ولذلك من الواجب على الباحث في دلالة اللفظ العربي الرجوع إلى النصوص القديمة في الأدب العربي، والاهتداء بهديها، ودراسة الدلالة على ضوئها.

===========================================
▬ يبدو أن تشابك الكلمات أو تداخلها في الكلام المتصل هو الذي يجعل الطفل في المراحل الأولى يلتقط الكلام ممن حوله في صورة كتل لا انفصام بين أجزائها ويظل الطفل يستعمل تلك الكتل اللغوية زمناً ما، دون تحليل إلى أجزائها أو عناصرها، كلما أراد التعبير عن رغبة له من رغبات الطفولة الأولى. فقد سمعها للمرة الأولى ككتلة متماسكة الأجزاء، فتعلمها هكذا دون تدقيق في تفاصيلها أو تمييز بين عناصرها. ويظل على هذا الحال حتى تتكرر التجارب اللغوية على سمعه في مناسبات متعددة متباينة. قبل أن يقوم بعملية تحليل الكلام إلى أجزائه، ليتبين استقلال الكلمات بعضها عن بعض. وقد كان مما لاحظناه في أطفالنا أنهم تعودوا سماع ذلك السؤال التقليدي حين يقابلون شخصاً ما للمرة الأولى فيسألهم :"اسمك إيه شاطر ؟" وتعلم كل منهم أن يجيب عن اسمه قائلاً : محمد أو علي أو زينب ... إلخ ويتكرر نفس السؤال، ويتكرر معه نفس الجواب. ويحتفظ الطفل في باديء الأمر بصورة تقريبية لهذا السؤال التقليدي دون تمييز بين أجزائه وعناصره. فإذا نطق أمامه أحد الناس بما يشبه هذا السؤال في مجموعه كان يقول مثلاً "سمك ليه ياشافط ؟"، فقد يسارع الطفل إلى الإجابة التقليدية وينطق باسمه. [...] بل لقد أدى الربط الوثيق بين الكلمات إلى خلط بين نهايتها وبدئها في بعض الأحيان، مما ترتب عليه في آخر الأمر ظهور كلمات جديدة في اللغة، مثل الفعل العامي "جاب" الذي قد نشأ عن التعبير القديم "جاء بكذا"، وأن الباء قد اعتبرت نهاية للفعل السابق عليه، وكذلك الكلمة "عقبال" التي يرجح أنها تكونت من الاستعمال القديم عُقبى لكم أو لها أولنا...إلخ اقتربت اللام إلى الكلمة السابقة عليها، وأصبحت تكون جزءاً منها. صــ 40 : 41

▬ ما يمكن أن يتألف من حروفنا الهجائية يتجاوز 12 مليوناً من الكلمات، قرر هذا الخليل من قبل، وتقر صنعه الآن العمليات الحسابية الحديثة. ولكن المستعمل من الألفاظ لا يكاد يجاوز ثمانين ألفاً، فيها يشيع حرف أكثر من حرف، بل قد تختلف فيها نسبة شيوع الحروف على حسب موضعها من الكلمة. فلو أن اللغة كانت تسمح باستعمال كل تلك الملايين من الألفاظ لاشتبهت الحروف بعضها بعضاً في شيوعها، ولا يتكون للغة حينئذ نسيج خاص تتميز به. ولكن اللغة قد تخيرت مجموعات صوتية معينة هي التي اختصتها بالدلالة، وأهملت الكثرة الغالبة. صــ77

▬ هناك أمور ثلاثة يجب التمييز بينها وهي : اللفظ، الشيء، الصورة الذهنية. فكلمة "التفاح" لفظة تتكون من عدة أصوات يعرف دارس الأصوات كيف تصدر من الفم، وصفات كل صوت منها، وما تحدثه من اهتزازات وذبذبات حين النطق بها. و "الشيء" بالنسبة لكلمة التفاح هو تلك الفاكهة اللذيذة المعروفة، أما الصورة الذهنية فهي ما يتصوره كل منا حين يسمع تلك الكلمة. والربط الحقيقي لا يكون إلا بين الشيء وصورته الذهنية، أي أن اللفظ شيء أجنبي عنهما اُتخذ دليلا عليهما أو رمز لهما، ولكنه اكتسب مع الزمن صفة سَمَتْ به فوق اعتباره مجرد رمز من الرموز. صــ102

▬ من الواجب ألا يفوتنا أن الدلالة الحقيقية قد تتعدد، أي أن اللفظ ينحرف من مجاله الحقيقي إلى مجاله المجازي ثم يشيع ذلك المجاز حتى يصبح مألوفاً، ويعد حينئذ حقيقة، وتظل تلك الدلالة القديمة ملازمة للفظ في حدود ضيقة، ويكون للفظ دلالتان أو استعمالان وكلاهما من الحقيقة، غير أن إحدى الدلالتين تكون أكثر شيوعاً من الأخرى، بل قد يصل الأمر إلى أن تصبح الدلالة القديمة من الندرة وقلة الاستعمال بحيث تسترعي الانتباه، وتكاد تعد بمثابة المجاز حين تُقارن بالدلالة الجديدة الشائعة المألوفة.ومثلها حينئذ كمثل الشيخ والشاب كلاهما معروف موجود في بيئته غير أن أحدهما في طريقه إلى الزوال والآخر في عنفوانه. ومن النادر أن يكون للفظ الواحد دلالتان مشهورتان بنفس النسبة في وسط من الأوساط. صــ132 : 133


▬ يبدو أن جو الأمية في شبه الجزيرة العربية، والاعتماد على السمع وحده، قد ربط بين الألفاظ في الكلام المتصل ربطاً وثيقاً، أدى في آخر الأمر إلى ظهور تلك الحركات التي وصلت بين الكلمات، وسُميت فيما بعد بحركات الإعراب. ذلك لأن وحدة اللغة عند الأمي هي الجملة المفيدة، أو العبارة المرتبطة الأجزاء، ولو استطاع الأمي ألا يقف عن الكلام إلا حيث ينتهي غرضه لفعل. صــ206

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

0 التعليقات:

إرسال تعليق