• إنَّ ما
حَدَثَ في القرنِ الماضي "التاسعِ عشر" من تغيراتٍ هائلة لا يُقارن بما
يمكن أن يحدث عندما يتم الاقتناع بضرورة تطبيق المنهج العلمي على القيم. (جون
ديوي).
• أحكام
القيمة أحكام تتعلق بالشروط الحياتية، ونتائج الموضوعات المختبرة والمعيشة؛ فهي
أحكامٌ تتعلقُ بما يجبُ أن يُنظمَ تكوين رغباتنا وعواطفنا ومشاعرنا ومتعنا.
(ديوي).
[البراجماتية]
▬ إذا كانت
النتائج هي ما يجمع بين أقطاب البراجماتية على اختلاف توجهاتهم، فإليها يرجعُ
اختلافهم وتباينهم. فقد كان "شالرلز بيرس" معني بالوظيفة العلمية
للأفكار والتصورات، ومن ثم استبعد النواحي الأخلاقية والجمالية والدينية، أو ما
أسماه بالقيم والعلوم المعيارية واعتبرها أمورًا تتعلق بالمشاعر والانفعالات، ومن
ثم لا يمكن في نظره، تناولها بالمناهج العلمية أو الرياضياتية، وذلك لأن الإنسان
الحكيم عندما يكون بصدد أمور جليلة يتبع حدسه وقلبه ولا يثق في رأسه وفكره.. وعلى
ذلك يُعد "تشارلز بيرس"، في نظرنا، المسؤول عن كل الحركات الوضعية
ونظرتها الضيقة للقيم الإنسانية وذلك لأنه ضيق من حدود استخدام التفكير العلمي،
ولم يمتد به ليشمل أفاق الفاعلية الإنسانية. ولكن وليم جيمس لم يقف هذا الموقف المتشدد.
وإنما نظر إلى الخبرة الإنسانية نظرة أوسع وأرحب، وذلك لأن براجماتية جيمس لا تعني
أكثر من كونها (اتجاه للتوجيه، أي الاتجاه نحو التخلي عن كل الأشياء والمبادئ
والمقولات الأولى والضرورات المزعومة، ثم الاتجاه إلى البحث عن الأشياء والنتائج
والثمار والحقائق الأخيرة، وذلك لأن وليم جيمس بعد أن أوضح وجهة نظر تشارلز بيرس
في أن الأفكار عبارة عن قواعد للعمل والسلوك وأن كل فكرة نكونها لأنفسنا عن موضوع
ما هي فكرتنا عن النتائج الممكنة لهذا الموضوع، أوضح لنا أن الاختيار النهائي للحق
هو السلوك الذي يبعث إليه، فمعنى الفكرة يمكن أن يرتبط بنتيجة معينة في سلوكنا
العملي المستقلبي، ومن ثم فإن وليم جيمس يؤكد على النتائج الخاصة ويحلها محل
القاعدة العامة التي وضعها "بيرس"، فلم يكن جيمس يعنى بالعملي إلا ما هو
"مميز" و "محسوس" وفردي" و "جزئي" و
"فعال" مقابل ما هو "مجرد" وساكن" و "راكد" و
"آسن" فمعنى أي قضية ينبغي أن نحدده في إطار بعض النتائج الجزئية في
خبرتنا العملية المستقبلية سواء كانت هذه الخبرة سلبية أو خبرة إيجابية وفعالة..
وعلى هذا يمكننا أن نقول إن براجماتية وليم جيمس براجماتية "إسمية"،
بينما كانت براجماتية بيرس "عقلية" "منطقية"، فقد كان وليم
جيمس يرى أن الأفكار العامة ليست إلا كلمات أو أسماء ليس لها وجود حقيقي، وإنما
الوجود هو مسمياتها. فالاختيار البراجماتي للأفكار عنده هو "معناها
الجزئي"، وقد استمد وليم جيمس هذه الإسمية من نزعته الإنسانية أو فرديته
الواضحة، فهو لا يعتبر مشكلة الكليات مشكلة علمية أو منطقية ولكنها في المقام
الأول مشكلة إنسانية؛ فهذه الكليات فارغة إذا لم تكن تلخيصًا للجزئيات، فالتصورات
العامة لا تصير ذات معنى، من الوجه البراجماتي إلا إذا كان لها تأثر على خبرتنا؛
فمن صميم المنهج البراجماتي يكون اختبارنا لهذه الأفكار العامة والكلية، وذلك لنرى
ما لها من معانٍ جزئية ملموسة ومحسوسة، فأن نختبر فكرة كلية بأخرى كلية لا ينتهي
بنا إلا لحلول نظرية لا معنى لها.. وإذا كان وليم جيمس قد وسع من نطاق الخبرة، إلا
أنه قد أقام فصلًا مزعومًا بين "المنطق" من جهة و "الخبرة" من
جهةٍ أخرى، وذلك لأنه رأى أن أمور الدين والأخلاق لا نستطيع حسمهما على المستويين
الفكري والنظري فقط، وذلك لأن الإنسان ليس مكتوبًا عليه أن ينتظر دومًا حتى يأتيه
الشاهد والدليل العلمي، وذلك لأن هذا الدليل قد يغيب ولا يأتي قبل قيام الساعة،
ومن ثم أفسح وليم جيمس المجال لما أسماه بإرادة الاعتقاد "The will to believe" أو الرغبة في
الاعتقاد، لأن هناك حالات يتعذر فيها مجيء الحقيقة إلا إذا كان هناك (إيمان
بمجيئها)، فالإيمان أو الرغبة في الحقيقة جزء لا يتجزأ من وجودها.. ص18 ، 19
▬ لقد لعب
كتاب وليم جيمس في "علم النفس" 1890 دورًا أسياسيًا في أداتية جون ديوي،
واعتبره دستور البراجماتية الذي يعتبر عنها حتى أكثر من كتاب (البراجماتية). ومن
الممكن اعتباره، وبدون مبالغة، علامة مميزة في تاريخ الإنسان العقلي، وقد قدم هذا
الكتاب لجون ديوي تصورًا جديدًا للعقل، فالعقلُ، في نظر وليم جيمس، ليس شيئًا
مغايرًا للطبيعية ولا مخالفًا لها، ولا مفروضًا عليها من مصدر يتجاوزها، وإنما
العقل (عملية) وعي موضعية مستمرة يتم عن طريقها التآزر والتفاعل بين (الإنسان)
ومحيطه، فما العقلُ في أساسهِ إلا وظيفة هدفها خدمة الإنسان في علاقته ببيئته
الطبيعية والاجتماعية وهو أداة مثله مثل العين التي ترى والأنف الذي يشم، ولا
نجانب الصواب إذا قلنا أن هذا التصور البيولوجي الذي قدمه (وليم جيمس) للعقل، لم
يؤد إلى تغيرات حاسمة في أفكار (جون ديوي) فقط وإنما كان له تأثير كبير على فلسفة
(جورج هربرت ميد) الذي كان يعتبر وهو أيضًأ (العمليات العقلية) مجرد وظائف في
عملية التكيف المستمرة بين الكائن ومحيطه. صــ 32
▬ إن تطور
(جون ديوي) الروحي يعبر عن فيلسوف أصيل، فأداتيته الطبيعية تطورت عن (بيرس) و
(جيمس) ولكنه تميز عنهما بأنه كان واعيًا بالبعد الاجتماعي للفكر الفلسفي، فلم يكن
مختصًا في المنطق مثل (تشارلز بيرس) ولا مشغولًا بالفلسفة بهدف تهدئة التوترات
الشخصية مثل (وليم جيمس) وإنما كان مهتمًا بالإصلاح والنقد الاجتماعيين، أي أن
(جون ديوي) كان براجماتيًا أكثر منهما، فقد طور نظرية متكاملة في القيم، ولا نبالغ
لو قلنا أنه بالرغم من أصالة وجدة كتابات (بيرس) و (وليم جيمس) إلا أنها تبدو مجرد
إعداد لفلسفة لم تكتمل إلا على يد (ديوي)، وإذا اعتبرنا (بيرس) بطل البراجماتية
المنطقي، وجيمس بطلها الديني، فإن (ديوي) هو بطلها العلمي، وإذا كنا لا نستطيع أن
نفهم البراجماتية إلا في كتابات (ديوي) فإننا لا نستطيعُ أيضًا أن نفهمَ الفلسفةَ
في القرنِ العشرين دون أن نضع البراجماتية في حسابنا. صــ 37
▬ ترى
البراجماتية أن إخفاقنا في تحقق الاتصال بين الأحكام العلمية والأحكام العملية
مرده إلى عدم وجود تنظيم اجتماعي بين العلماء وهذا من جهة وطبيعة أبحاث العلماء
المجردة، ومبالغتهم في التخصص، وقد أدى هذا إلى نعدام الثقة فيما يستطيع العلم أن
يقدمه لنا في نطاق (القيم) و (الغايات)، إلى الحد الذي يضع فيه غلاة (العلمانية)
كلًا من (العلم) و (القيم) على طرفي نقيض، ويزعمونَ أن كلًا منهما يمثل نسقًا
معرفيًا متميزًا عن الآخر، وذلك لأن العلم يدرس (ما هو كائن) بينما تدرس القيم (ما
ينبغي أن يكون)، والمشكلة تظهر بوضوحٍ عندما نعرف أن الأحكام العلمية (تقريرية) Assertive ، ويمكن التأكد منها
بالرجوعِ إلى (الواقع) ، بينما أحكام القيمة تقديرية ومعيارية Normative، فليس لها من ثم صلة
بالمنهجِ العلمي. ولكن (البراجماتيين)، وخلافًا لذلك، يؤكدون على فكرة أن للقيم
(قوة توجيهية وإيعازية). فعنصر (التوجيه) بواسطة فكرة القيمة ينطبق على العلم، كما
ينطبق على كلِ شيءٍ آخر، إذ في كلِ عمل علمي خطوات متتابعة مستمدة من التقديرات
مثل (من الجدير أن نبحث هذه الوقائع كمعطيات أو أدلة)، (من المستحسن محاولة هذه
التجربة أو تسجيل هذه الملاحظة أو التمسك بهذا الغرض أو ذاك)، أو إجراء هذا
الحساب.. وهكذا، فالأحكام العلمية دائمًا مرتطبة بأحكام القيمة، وغير منفصلة عنها
[...] وإذا كانت أحكام القيمة لا تخضع خضوعًا مباشرًا للمنهجِ العلمي، إلا أن هذا
لا يجعلنا نتسرع ونرفضها، لأن في هذا إسرافًا في تطبيق المنهج العلمي وحصره في
نطاق (الكم) فقط، فإبمكاننا دراسة القيم على أساس أنها تعبير غير مباشر عن طواهر
إنسانية مباشرة اندمجت وتداخلت وأنتجت تلك الأحكام، بمعنى أن بإمكاننا أن ندرس
العناصر الأساسية التي أدت إلى إحكام القيمة بالمنهج العلمي، إذا كان من الصعب
دراسة القيمة علميًا بطريقةٍ مباشرة. صـ 69، 70
▬ إذا كان
أقطابُ البراجماتية يتفقون على أن النتائج العملية، على الرغم من اختلافهم في
فهمها، هي التي تحدد معنى التصورات العقلية المختلفة، فإن البراجماتية تصبح، بناءً
على ذلك، (نظرية معيارية)، أعني (نظرية في القيمة)، فهي عبارة عن معيار (قيمي) يتم
على أساسه توجيه سير أفكارنا، كما أنها تبين لنا على أي نحوٍ ينبغي أن نوضح
أفكارنا، ونحكم عليها بالصدق وبالكذب، وبعبارةٍ أخرى، تقدم البراجماتية (معيارًا) يتم
على أساسه تحديد معنى التصورات والفروض المختلفة وتقييم هذه الفروض والحكمِ عليها،
وذلك على ضوء ما يترتب عليها من نتائج وآثار عملية، ومن ثم يمكننا التمييز بين
المشكلات الحقيقية والمشكلات غير الحقيقية (الوهمية)، والإجابات الشافية ذات معنى
والقيمة والأخرى التي تخلو منها، وذلك على مستويات الفعالية الإنسانية، سواء في
مجال الإدارك أو الشعور أو الوجدان، فنحن إذا طبقنا هذا المعيار البراجماتي على
كثيرٍ من المسائل الميتافيزيقية التي يختلف حولها الفلاسفة مثل مشكلة (الوحدة
والكثرة)، والخلاف بين المثاليين والواقعيين حول طبيعة الوجود والخلاف بين
العقليين والتجريبيين حول أداة المعرفة، فإن هذه الخلافات تصبح لا معنى لها، وذلك
لأن المثالي والواقعي، رغم اختلافهما في المذهب، يسلكان حيال العالم سلوكًا
واحدًا، ومع ذلك لا يترتب عليه أي اختلاف في النتائج والآثار العملية، فعلى الرغم
من أن باركلي يؤكد على أن (الوجود إدراك) وزميله الواقعي يصر على أن الوجود موجود
حتى لو لم يكن هناك فعل الإدراك، فالإثنان يتصرفان تصرفات واحدة تجاه العالم
المادي، ولا يترتب على تصرفاتهما أي اختلاف عملي، وذلك لأن باركلي لا يستطيع أن
يعلق نفسه في حبل ملفوف حول عنقه دون أن تزهق روحه، وعلى هذا فإننا نؤكد على أن
البراجماتية في جوهرها ليست إلا نظرية في القيمة، فهي تقدم لنا معيارًا نستطيع على
أساسه أن نحسمَ كل المشكلات والصراعات الفلسفية.. صــ 72، 73
▬ إن كان
"وليم جيمس" قد ساهم في تشكيل الروح الأمريكية، وباتت الفلسفة
البراجماتية العملية السمة المميزة للفكر الأمريكي، فإن "جوزايا رويس"
كان هو الفيلسوف الذي حاول صياغة هذه النزعة العملية صياغة مثالية، فقال بالبراجماتية
المطلقة. ولئن كان "وليم جيمس" قد حاول إحياء هذه الروح بمطق عملي
براجماتي، تمثل فيه الفردية المقام الأول، فلكل فرد معياره الخاص للصدق، وله
تجربته الدينية الخاصة، فإن رويس قد حاول بعث هذه الروح بصهر الشعوب والأجناس التي
كونت المجتمع الأمريكي في وحدةٍ واحدة. وإن كان جيمس قد ربط قيمة الفرد بعمله
ونتيجة هذا العمل في الواقع، فإن رويس قد جعل من مبدأ (الولاء للولاء) مقياسًا
لقيمةِ الفرد. صــ 76
▬ ينتقد
جوزايا رويس نظرية الصدق البراجماتية على أساس أننا إذا قلنا إن صدق الفكرة يتحدد
بالنتائج التي تترتب على الاعتقاد بها فلابد وأن تكون على وعي بمعيار اختيار
النتائج وانتقائها، وذلك لأن هذه النتائج كثيرة كما أنها غير محدودة، وفي حالة
غياب هذا المعيار فإننا سوف نستمر إلى ما لا نهاية، ومن ثم فإننا لن نستطيع أن
نعرف أين ومتى نقف. وبالتالي فإننا إذا لم نكن على علمٍ بالمطلق، فلن يكون
بمقدورنا على الإطلاق أن نحدد الصدق المرغوب فيه، وبالتالي فإن البراجماتية تدفعنا
منطقيًا إلى مذهب المثالية المطلقة absolute
idealism. فجوزايا رويس يتساءَل عن السبب الذي من أجله تعمل الأفكار
الصادقة، وما هو الضمان الذي يكفل لها الاستمرار في العمل؟ فهو يرى أن (الاختبار
أو المحك الإنساني) من ناحية و (الاختيار القائم على الخبرة) من ناحية أخرى،
سيؤديان، بالضرورة، إلى الفشل والإخفاق، فالفكرة الصادقة ينبغي أن تعمل (فعلًا) أو
تعمل (باستمرار)، وعلى نحوٍ دائم، ولكن البراجماتية ليس لديها مكان للمطلق، ومن ثم
فهي، في نظر رويس، تفشل في تزويدنا بنظرية متكاملة في الصدق. فالصدق ينبغي أن يكون
أزليًا ومطلقًا بجانب كونه عمليًا وأداتيًأ، وذلك لكي يكون متسقًا كاملًا.. صــ 81
[الواقعية
الجديدة]
▬ تتخذ
المذاهب المثالية جميعها نقطة بدئها من الذات أو الشعور. وتنظر إلى الذات على أنها
ليست فقط مسؤولة عن إدراك أو معرفة الأشياء بل عن وجوده أيضًا. فالذات عند هذه
المذاهب المثالية بمثابة الشاشة التي ننظر من خلالها لنرى العالم، أو بمثابة
المركز الذي لابد أن نبدأ به لنصل إلى الوجود. لكن الفلاسفة المثاليين كثيرًا ما
بدأوا بالذات وانتهوا عندها أي أنهم كثيرًا ما ضلوا في متاهات الذات، واتخذوا منها
مدار تفكيرهم، ونسوا أو تناسوا أن يفكروا في الوجود الطبيعي الواقعي. وعندما فكروا
في هذا الوجود لم يقدموا لنا عنه إلا صورة باهتة له هي "صورته المعقولة"
التي تختلف دون شك عن "صورته الواقعية".. فكان على الفلاسفة الواقعيين
أن يبدأوا بداية أخرى. فاتخذوا بدئهم من العالم الحسي، أو بمعني أدق من العالم الطبيعي.
ونقول بمعنى أدق لأن البدء بالعالم الحسي لم يؤد إلى نتائج واقعية عند الفلاسفة
التجريبيين الحسيين (الفلاسفة الإنجليز). وذلك لأنهم فهموا الإحساس على أنه
الإحساس الذاتي أو مجموعة التأثيرات الذاتية الحسية. أما البدء بالعالم الطبيعي أو
بالطبيعة عند الفلاسفة الواقعيين فيرجع إلى رغبتهم في تصور الكون على نحوٍ مستقل
عن العقل أو الذات العارفة أو الإحساس الذاتي. وكلها بمعنى واحد أو وسائل مختلفة
لنتيجة واحدة. وهو يمثل كذلك عندهم ضمانًا أكيدًا لعدم الحيدة عن أرض الواقع
الصلبة. صــ 92، 93
▬ لجأ
الفلاسفة الواقعيون إلى وسيلةٍ أخرى يقررون بها استقلال الطبيعة عن الذاتِ
العاقلة. فالعقلُ أو الذات العاقلة عند الفلاسفة المثاليين تؤثر في الوجود الواقعي
عن طريق العلاقات أو الراوابط التي تفرضها على الأشياء المادية وتخلعها عليها،
وتمنحها نوعًأ من الوحدة تنظم كثرتها المادية وتردها إلى ضربٍ من التأليف العقلي.
فالعقل عندهم إذن مصدر وحدة هذا العالم المادي. أما الفلاسفة الواقعيون فلا
يوافقون على منح العقل هذه المهمة: مهمة إقامة العلاقات العقلية بين الأشياء. ومن
أجل ذلك ذهبوا إلى أن العلاقات التي توحد وتربط الأشياء والتي يقول عنها العقليون
أنها تصدر عن العقل، قائمة في الطبيعة قيامًا موضوعيًا بين الأشياء المادية نفسها،
عن طريق ما تستطيع أن تقوم به هذه الأشياء من "تشكيلات" وتنظيمات نابعة
من الطبيعة نفسها. صــ96
▬ بالرغمِ
من التأثير الكبير الذي كان للبراجماتية على الواقعية الجديدة، فإن هؤلاء
الواقعيين قد وجهوا انتقاداتٍ كثيرة لهذه البراجماتية، وفيما يلي نقدم بعض
الانتقادات التي وجهها (مونتاجيو للبراجماتية ونظريتهم في الصدق. يوجه (وليم
مونتاجيو) نقدًا مزودجًا إلى النظرية التي تربط بين (الصدق) و (النتائج)، فهو يرى
أننا إذا قلنا أن القضية يمكن الاعتقاد في صحتها إذا كانت نافعة من الناحية
العملية، أو إذا أدت إلى نتائج ناجحة، فالعقيدة الدينية مثلًا قد يمكن الإيمان
بصحتها على أساس أنها تُمكِّن معتنقيها من إجادة العمل. وهي بهذا المعنى تكون
مفيدة عمليًا. وقد تؤدي إلى نتائج ناجحة في التطبيق، ولكن (وليم مونتاجيو) يعتبر
أن هذا المقياس يعتبر غاية في النقص، فما أكثر الاعتقادات الباطلة التي أحرز بها
كثير من الناس النجاح العملي لفتراتٍ طويل من الزمن، وكذلك ما أكثر القضايا الصادقة
التي تجلب اليأس، بل وفشل الحركة عند بعض معتنقيها.. ويرفضُ (وليم مونتاجيو)
(التوحيد بين اعتبار النتائج مقياسًا لصحة الاعتقاد)، وبين (العملية التي يُقام
بها الدليل على صحةِ القضية)، وذلك لأن هذا يؤدي بالصدق الفعلي إلى أن يُصبح
(مسألة سيكولوجية)، ومن ثم يدخل في نطاق (الخبرة الفردية)، ويصبح (نسبيًأ) عند كل
فرد مرت به التجربة. فقد أجني نتائج ناجحة في اعتقادي بأن القضية صحيحة، ولعل غيري
يجني نتائج ناجحة لاعتقاده في (بطلان) القضية، فهل تكون القضية صادقة وكاذبة في
آنٍ واحد؟.. ولهذا فهو يرفض هذه النسبية ويرى أن صدق القضية أو كذبها يسبق عملية
التحقق على ضوء النتائج.. ولكن هل يقبل البراجماتيون نقد وليم مونتاجيو، وهو
الفيلسوف الواقعي؟ يرى البراجماتيون، أن الواقعيين، الذي ينتمي إليهم وليم
مونتاجيو، يتخذون من (الحقيقة بمعناها المجرد) صنمًا يعبدوه دون أن يختبوره. ولذلك لا يمكن أن يكون له أي فائدة أو معنى. وقد
يعترضون أيضًا بأن الواقعيين إذا كانوا يرون أن الصدق الفعلي هو (علاقة الاتفاق
بين الأحكام والحقائق والوقائع الخارجية)، فينبغي أن يسلموا بأن مثل هذا الاتفاق
لا يمكن أن يحدث إلا على أساس الخبرات الفردية التي تتصل بهذه الحقائق وهذه
الوقائع والتي يعتمد عليها.. ولكن وليم مونتاجيو يُسلم بأن (الاتفاقات) لا يمكن
اكتشافها بغير الخبرة التي تثبتها، ولكنه يرى أنها حين تُكتَشف بهذه الخبرة، فإنها
تقدم على ما يثبت عدم اعتمادها على هذه الخبرة. أعني أنه في لحظة المعرفة نكتشف
استقلال الحقائق والوقائع عن الذات العارفة. ففي حالة كولمبس الذي اكتشف وجود أرض
على الغرب من أوروبا، ونيوتن الذي أثبت فرضية الجاذبية، وفيثاغورث الذي أثبت فرضه
الهندسي، في كل حالة من هذه الحالات، نجد أن الصدق الذي تحقق يكشف، وبوضوح، عن
أمرٍ لم يكن ليعتمد على عملية التحقق. (فوظيفة الخبرة، ووظيفة تحقيق الصدق على
الخصوص، ليست أن نخلق الأشياء والاتفاقات التي عرفناها وأثبتناها، بل أن (تكشف)
لنا هذه الحقائق. صــ 98، 99 ، 100
[المقولات
الجامعة للفلسفةِ الأمريكية المعاصرة]
▬ يجمع
الفلاسفة البراجماتيون والواقعيون في الفلسفة الأمريكية المعاصر على رفض كل صورة
الثنائية Duality
فبدلًا من أن يكون هناك ذات عارفة في مقابل العالم باعتباره موضوعًا للمعرفة، فإنه
عن طريق هذا التفاعل يكون لدينا معابر بين الكائن الحي والبيئة التي يتعيش فيها،
ولكن هذا لا يعني أن الكائن يمثل جانبًا أو طرفًا والبيئة تمثل جانبًا أو طرفًا
مقابلًا، ثم يتوسطهما أو يجمعهما التفاعل باعتباره طرفًا ثالثًا، فالتكامل بين
الإثنين (الكائن الحي وبيئته) أعمق أساسًا من التفرقة أو التمييز الذي لا يحدث إلا
على فترة زمنية، ولا تدل إلا على تفكك جزئي بين ما كان متكاملًا بادئ ذي بدء،
ولكنه تفكك، ولكنه يتمتع بطبيعته الحركية التي تدفعه دفعًا، ما دامت الحياة قائمة،
إلى إصلاح ما فسد. والواقع أن تفاعل الكائن الحي مع بيئته إنما هو المصدر المباشر
وغير المباشر لكل خبرة، كما أن البيئة هي الأصل الذي تنبعث منه الصدمات والمقاومات
والمساعدات والاتزانات التي تكون الصورة حينما تتلاقى مع طاقات الكائن الحي على
أنحاء ملائمة ومناسبة. صــ 104
▬ مقولةُ
الاتصال: تعتبر في نظر الفلاسفة الأمريكان أهم مقولة أو خاصية تميز الخبرة، ومما
لا شك فيه أن هذا يعكس أثر الفيلسوف الألماني هيجل، فما يقصده البراجماتيون بمتصل
الخبرة يتفق إلى حدٍ بعيد مع متصل العقل ومتصل الطبيعة ومتصل العقول في مثالية
هيجل الموضوعية، فالاتصال إذا كان أساس فلسفة (هيجل) فهو أيضًا أساس فلسفة (ديوي)
ولكن إذا كانت تجريبية (ديوي) تؤكد على اختلاف وتنوع الظروف على مسرحِ الأحداث
الطبيعية، فإن البراجماتتين، بهذا المعنى، يختلفون عن (هيجل)، وذلك في تأكيدهم على
(الفردية) و (الأصالة) و (التعدد) و (الكثرة)، وهذه الأشياء إنما تحدث في صميم
عالمٍ واحد، فالطبيعة والخبرة لا تمثلان أشياء منفصلة، مستقلة، تضاف حسابيًا إلى
بعضها بل أن الخبرة هي الصورة التي تفرضها الطبيعة في التفاعلات التي تحدث على
المستوى العضوي أو غير العضوي أو هي هذا الجانب من الطبيعة، والذي تصبح سماته
قابلة للمعرفة والتحديد بفضل افتراض الاتصال. وعلى ذلك فالاتصالُ كما هو أساس
فلسفة هيجل، هو أيضاً أساس في فلسفة البراجماتيين بل أنهم اعتبروه المصادرة الأولى
لنظرية المعرفة البراجماتية، التي تقوم على أساسٍ طبيعي بيولوجي، ويرفض
البراجماتيون وغيرهم من الفلاسفة الأمريكان أي فصل تعسفي بين (الخبرة) و (الطبيعة)
وأي نوع من أنواع الثنائية على أي مستوى، مثل الثنائية القائمة بين الفرد
والمجتمع، وبين (الدافع والنتيجة) و (السلوك والشخصية) و (القيم والوقائع) و
(الوسائل والغايات) و (الواقعي والمثالي) و (القيم الذاتية والقيم الموضوعية) و
(الفنون الجميلة والفنون النافعة) ولكن، برغم ذلك، نجد أن بين البراجماتيين بعض
الخلاف اليسير حول هذه الثنائيات، فتشارلز بيرس نجده يعترف بثنائية (الشعر
والحياة) أو (المنطق والخبرة) وأيضًا وليم جيمس الذي أقر بثنائية (الخبرة والعقل)،
ومن الممكن أن نستمر إلى ما لانهاية في تعداد هذه الثنائيات التي أقحمها الفلاسفة
مثل (أفلاطون قديمًا وديكارت حديثًا - دون وجه حق وبتعسف على الخبرة والطبيعة والحياة
الإنسانية فمزقوا ما كان في الأصل متصلًا)... مما سبق نتبين العلاقة الوثيقة بين
مقولتي (التفاعل) و (الاتصال)، فهما تلتقيان وتتحدان حتى يمكن اعتبار الاتصال
الجانب (الطولي) في الخبرة بينما التفاعل جانبها (العرضي)، فعلى أساس الاستمرار
والاتصال تمتد الخبرة وتتشعب ويتعالق أطرافها، وعلى أساس التفاعل تزداد الخبرة
عمقًا ومعنى، فالخبرة ظاهرة متصلة لا تنقطع نظرًا لأن التفاعل القائم بين المخلوق
الحي والظروف المحيطة به واقعة متضمنة في صميم عمليات الحياة. صــ 109، 110، 111
▬ وعلى هذا
يترتب بعض النتائج التي يأتي في مقدمتها التأكيد على الجانب الزمني Temporal، والدينامي في الخبرة
والطبيعة، فالبراجماتيون والواقعيون وغيرهم من الفلاسفة الأمريكان، يرون أن
الصيرورة والتطور سمات جوهرية في فهمنا للخبرة والطبيعة، وعلى أساسها نرفض كل ما
هو مطلق وخالد وأزلي، ومن ثم تتبدل نظرتنا لقيم الحق والخير والجمال، فبعد أن كانت
صفات الموجود مطلق خالد أزلي تصبح مرتبطة بالأحداث والمواقف المختلفة، فهي بمثابة
(الحد المثالي) لأي موقف، أو (الغاية) التي نضعها نصب أعيننا باعتبارها حلًا
لإشكال، وعلى ذلك ترتبط أحكام القيمة بالتقريرات المقبولة (المؤكدة) Warranted assertibility في أحكام الواقع،
وبهذا التمييز المزعوم بين (القيم) فالقيم الأخلاقية لا تنفصل عن القيم السياسية
والاقتصادية، ولا تنفصل القيم الجمالية عن القيم الأداتية، فعلى أساس مقولتي
(التفاعل) و (الاتصال) تتحقق وحدة القيم. صــ 111، 112
▬ يختلف
الفلاسفة الأمريكان عن الفلاسفة الإنجليز (جون لوك - ديفيد هيوم - وغيرهما) الذين
ردوا الخبرة إلى مجرد مجموعة متفرقة من الحالات العقلية أو الإحساسات والانطباعات
وهو ما يتناقض تمامًا مع ما تعلمناه في (البيولوجيا) التي تكشف لنا عن (كائن) يوجد
في (بيئة) يتفاعل معها بكل الوسائل المتاحة له في (الخبرة) التي هي في جوهرها
عبارة عن مجموعة من الوظائف والعادات لأنواع التَّكَيُّف الفعالة والفعاليات
المتنوعة والملامح التي تميز البيئة في المكان والزمان. صــ 118
[الفن في
الفلسفة الأمريكية المعاصرة]
▬ لعلنا لا
نجانب الصواب لو قلنا أن كتاب جورج سانتيانا "الإحساس الجمالي" وكتاب
جون ديوي "الفن خبرة" هما الكتابان الأشهر والأكثر ذيوعًا في الساحة
الفلسفية الجمالية في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكننا نرى أن كتاب "جون
ديوي" هو، ومن جهة نظرنا" الذي ُعبر وبصدق عن التصور الأمريكي المعاصر
للفن وللخبرة الجمالية، وذلك لارتباط الأفكار التي وردت فيه، وخلافًا لما ورد في
كتاب جورج سانتيانا، بالعلم والتجربة العلمية والخبرة الإنسانية. وإذا كان جون
ديوي هو "فيلسوف الخبرة" فإن فلسفة الفن عنده هي الأخرى فلسفة الخبرة،
ولكن في صورتها المصفاة المكررة.. ولقد ربط جون ديوي بين الفن من جهة وجوانب
الفعالية الإنسانية من جهةٍ أخرى. ولا جدال في أن الفكرة الأساسية في نظرية جون
ديوي الجمالية هي ما أسماه "بالاتصال بين الخبرة الجمالية والخبرة
العادية" وتبعًا لذلك فإن كل من يتصدى للكتابة في فلسفة الفنون الجميلة عليه
أن يعمل على إعادة أسباب الاتصال بين صور الخبرة في حالات تركزها ونقائها.. ألا
وهي الأعمال والمنجزات الفنية من جهة وبين الأحداث والأفعال والآلام اليومية التي
تؤلف صميم الخبرة وذلك من جهةٍ أخرى، والواقع أن قمم الجبال لا تطفوا في الهواء
دون أن ترتكز على أي شيء، كما أنها لا تستند إلى الأرض أو تقوم عليها فحسب، وإنما
هي الأرض نفسها في مظهر من مظاهر فعاليتها، وليست مهمة المشتغلين، بدراسة الأرض
سوى العمل على إيضاح هذه الواقعة، والكشف عما تنطوي عليه من مضمونات عديدة، وثمةً
مهمة مماثلة تقع على عاتق من يتصدى لدراسة الفن الجميل، فنحن إذا أردنا أن نفهم
الظاهرة الجمالية في أسمى صورها، فلابد أن نبدأ بدراستها في شكلها الخام، وهذا
يعني أن الفن ينبغي دراسته في علاقته بصور الفعالية الإنسانية الأخرى وأنماط
الوجود الطبيعي وهذا من ناحية، وأن نوائم بينه وبين ما هو عملي وذهني وهذا من
ناحيةٍ أخرى، وذلك عن طريق تفسير الجمال بأنه "البعد المثالي" أو
"الجانب المصفى" أو "المكرر" للسمات والكيفيات التي نجدها في
الخبرة العادية. صــ 124، 125
▬ إذا كانت
الخبرة عملية process،
وذلك لأن كل ما هو طبيعي عبارة عن (عملية)، فإن ما يظهر لنا على أنه مباشر هو في
الحقيقة "مختار"، تم انتقائه واختياره، وذلك لأن الإدراك نفسه عبارة عن
(عملية تتم فيها الاستجابة لشيء ما متميز في البيئة؛ فليس هناك كائن حي يستطيع أن
يستجيب للبيئة ككل، فالإدراك يلتقط الأشياء التي يستجيب لها، وهو يقوم بتشييد
بيئته، والفنُ خبرة نامية، ومن ثم فإن جوهره هو (العملية) process، ونستطيع أن نقول أن هدف جون ديوي
من كتابه "الفن خبرة" هو أن يقنع القارئ بأنه لا بديل لنا عن الحساسية
المباشرة للأعمال الفنية، وأن التقدير الفني إنما يتضمن الاستجابة الفعالة من جانب
(المدرك) أو القائم بتقدير العمل الفني إذا كان هذا العمل الفني يتضمن معاني خصبة غنية.
صــ 131
▬ إن
الإيقاع rhythm
هو الشرط الضروري الذي لا بد من توفره لقيام الصورة الفنية، وهو موجود في الطبيعة
قبل ظهور الفن بصوره، وإلا لكان شيئًا مفروضًا على المادة من الخارج، وذلك بدلًا
من أن يكون عملية تحقق المادة عن طريقها غايتها في الخبرة، ولا شك أن الإيقاعات
الأولى في الطبيعة ترتبط بالوجود الإنساني، فالشروق والغروب والليل والنهار والمطر
والصحو، في تعاقبها المستمر، إنما هي عوامل تهم الموجودات البشرية مباشرةً، وقد
استطاع الإنسان بعد ذلك، مشاركة الطبيعة في إيقاعاتها، ثم نجح في فرض الإيقاع على
تغيرات كانت تفتقر إليه، ويرى جون ديوي أن مصطلح "القانون الطبيعي" هو
مجرد مرادف للمصطلح "الإيقاع الطبيعي"، فليست القوانين العلمية أكثر من
مجرد صيغ للإيقاعات التي تزخرُ بها الطبيعة. صــ 137
▬ يرى جون
ديوي أن للفن علاقة وثيقة بالحضارة والثقافة، فالفنُ، فيما يرى، كيفية تشيع في أية
خبرة، ولكن الخبرة الجمالية تكون أكثر من مجرد شيء جمالي، لأن فيها جسمًا من
المواد والمعاني، التي لا تعد في ذاتها جمالية، ولكنها لا تلبثُ أن تصبح كذلك
عندما تندرج في حركة إيقاعية منتظمة تتجه نحو التحقق والاكتمال، والمادة ذاتها
(بشرية)، ومن ثم فهي (اجتماعية)، فالخبرة الجمالية مظهر لحياة الحضارة، وسجل لها،
وإحياء لذكراها، ووسيلة للنهوضِ بها، وهي بمثابة الحكم عليها، ولئن كانت هذه
الخبرة نتاجًا يستحدثه الأفراد ويستمتعون به إلا أنهم ليسوا على ما هم عليه في
مضمون خبرتهم إلا بسببِ ارتباطهم بثقافةٍ وحضارة معينة. صــ 150، 151
0 التعليقات:
إرسال تعليق