هذا الكون ما ضميره (عبد الله القصيمي)


• لقد أصبح الإنسان والكون وكل الأشياء سؤالاً دائماً، سؤالاً لا يحتمل أن يوجد له جواب، ولا أن يوجد أستاذ يوجه إليه السؤال وينتظر منه الجواب.
• إن المسؤول عن أخطاء الإنسان الاعتقادية والفكرية هو الكون المتوحش، وموقف الإنسان الأليم الذي لا تكافؤ فيه منه. إنه من جهة محكوم عليه أن يحاول فهم الكون لأنه محكوم عليه بالعيش معه والمواجهة له بكل أساليب المواجهة، ومن جهة أخرى هو عاجز عن فهمه لأنه عاجز أن يهضمه عقلياً أو أخلاقياً، ولأنه غير متكافيء معه بمستوياته المختلفة.
• إن مأساة عقل المؤمن أنه لا يستطيع أن يثبت وجود إله إلا إذا استطاع إثبات عدم الكون.
• إن الكون بكل ما فيه ليس إلا حروفاً وأرقاماً ومواد بناء تلقى إلقاء بلا تدبير ثم نقرؤها مغلوطة، كما هي، ونحول قراءتنا المغلوطة لها إلى أفكار وقوانين بل إلى آلهة وأنبياء وصلوات، بل ليس الكون حروفاً وأرقاماً وإنما هو كتل فقط تلقى إلقاء.
• إنه لا يوجد أي خالق يمكن أن يفتخر بانتساب هذا الوجود إليه.
• إن كل ما في الكون من جمال لا يستطيع أن يكون غفراناً أو اعتذاراً عن أية دمامة يعاني منها أي إنسان، لأن كل ذلك الجمال لن يستطيع أن يجعل دميماً واحداً يشفى من دمامته، أو من شعوره بها، وأن يكون عزاءً أو تعويضاً له عنها.
• إن ألف ابتسامة تواجهنا بها الطبيعة لن تستطيع أن تستر عاهة واحدة توقعها بشيخ أو يتيم أو حيوان بريء.
• إن المؤمنين جداً يمكن أن يتحولوا كافرين جداً تحت الظروف الأخرى المناقضة. والذين يجعلون الناس يؤمنون أو يكفرون بالأرباب والمذاهب والنظم والحماقات أو بنقيضها هم الأنبياء والدعاة والقادة والمعلمون، إن هؤلاء وحدهم هم العارضون في الأسواق لهذه السلع الشريرة.
• إن الإنسان دائماً مصلوب العقل والحرية والشرف تحت أقدام أربابه وعقائده ومذاهبه مهما صلبت مذاهبه وعقائده وأربابه تحت أقدام رذائله وتلوثه النفسي والسلوكي.
• إن العبقرية لا تساوي كل إنسان، بل تساوي أفراداً قليلين يجيئون على غير حساب أو تقدير أو قانون أو منطق، إنهم يجيئون وكأنهم تركيز أو تجميع فذ لملايين الناس أو لعشرات الملايين في فرد واحد.
• إن من أردأ الغباء والطغيان والتوقح أن نجعل تفكيراً ما هو المقياس دون كل الأفكار المخالفة له، وهو المقياس لها جميعاً.
• إن النصوص لغة يفهمها الناس كما يريدون لا كما هي، لأنها لا دلالات ولا تفاسير لها في ذاتها، فهي إذن لا يمكن أن تُعطي معاني محددة أو قاطعة. وإذا كانت النصوص لا يمكن فهمها فالدين كذلك لا يمكن فهمه.
• إنك أيها المؤمن الورع جداً لا تعادي أوتكره المخالفين لك في الدين أو المذهب بقدر تدينك أوإخلاصك لمذهبك أو إلهك، بل بقدر عجزك عن التلاؤم  مع نفسك وظروفك ومع الطبيعة.
• الذين لا يشكون هم الذين لا يرون، ولا يقرؤون، ولا يتحدثون مع أنفسهم ولا مع الآخرين.
• إن اليقين هو الغطاء الذهبي الكثيف الساتر للدمامات.
• إن الرغبة في الشيء - لا الرغبة عن الشيء - هي أحياناً كثيرة سبب تحريمه ومعاداته وتحويل الذم له، والخطابة ضده إلى فضيلة دينية أو إنسانية.
• إن الله لم يهزم في أي مكان، أو أمام أي خصم أكثر مما هزم في العالم العربي، أما زعمائه وحكامه المتألهين.
• إن استهلاك الضعفاء لحضارة الأقوياء يعني الهبوط بها، لأن المستهلك لها يكون حينئذٍ أقل منها في جميع مستوياته وتعبيراته، فيشوهها، ويعني كذلك الهبوط بالمستهلك لها، لأنها لتفوقها عليه ترهقه وتفقده التوازن والوقار، إنها تلزمه بما لا يتقن ولا يستطيع، حينئذٍ يصبح شاذاً عدوانياً صارخاً صاحب اداعاءات عريضة.
• إني لأشعر أحياناً بأني محتاج إلى أن أوهب كل ما في الكون من بلادة حس لكي أستطيع أن أبتلع كل ما في العالم العربي من طغاة ومن طاعة لهم وصبر عليهم، ومن غباء وغرور واعتزاز بهما، ومن عجز وتفاهة وإعلان عنهما، ومن أكاذيب وإهانات ومن استسلام، وهض لكل عذاب وغباء!
• إنه لعجز مذهل أن نحاول تحضير أرضنا بإدخال الحضارة إليها، ثم لا نحاول تحضير أنفسنا أو تصنيع مواهبنا.
• إن جميع المتخلفين الذين فُرضت عليهم حضارة الأقوياء قد أصبحوا يتكلمون اليوم بلغتها وشعاراتها، ويعبرون بموهبتهم العاجزة غير المتحضرة عنها لكي يشوهوها.
• إن الاستعمار لا يمكن أن يُفسر به التخلف أو العيوب، وإنما يُفسر هو بالعيوب والتخلف، إنه نتيجة لتخلف وعيوب سابقة لا خالق لها.
• إن التعليم يجب أن يكون تحويلاً للذات المتعلمة، يحول تفكيرها وأحاسيسها وقدرتها وأخلاقها ورؤيتها للأشياء والناس والآلهة والمذاهب والكون وأحكامها، يحولها إلى وجود إنساني جديد بمقاييسه ونشاطه وكل مستوياته، أي إلى تغيير.
• إن الذين كانوا يتلقون عقائدهم بالتسليم والعجز من غير تجديد أو مقاومة أونقد في عصر الاعتقاد، قد أصبحوا في عصر العلم يتلقون التعليم بالعجز والتسليم أيضاً دون ابتكار أو موهبة أو اجتياز.
• ما أخطر كل من يتعلمون دون أن يصبحوا علماء إذا كان مطلوباً منهم أو مفروضاً فيهم أن يتصرفوا كالعلماء، وأن يواجهوا المشاكل والناس كما يواجهها ويواجههم العلماء.
• إن بضعة علماء مغيرين للحياة، وواهبين لها شيئاً جديداً لأفضل من جميع المعاهد والجامعات التي تعد لتعطي أفواجاً هائلة متلاحقة لتجعلهم من القارئين والمفسرين والمعتقدين الذين يتكلمون ويجادلون ويرفعون أصواتهم كثيراً دون أن يعرفوا أن الكلام لا يساوي دائماً الفهم والذكاء - أن الكلام الكثير لا يساوي دائماً الفهم أو الذكاء الكثير، وأن الكلام بلغة العلماء لا يساوي العلم دائماً.
• ما أسوأ الحمل الذي لا ينتهي بولادة، وأسوأ الولادة التي لا تنتهي بحياة فيها صحة وجمال وذكاء وظروف اجتماعية وإنسانية جيدة، وما أسوأ التعليم الذي لا يكون فيه علم، وأسوأ العلم الذي لا يكون فيه خلق وتغيير ورفض وتجاوز.
• إن التعليم بلا موهبة عملية تشويه للمتعلم، وتشويه للأشياء التي يمارسها المتعلم الذي لا يملك الموهبة ولا الجرأة أو القدرة على الرفض والنقد.
• إن الأقوياء يتمردون على أنفسهم بقدر ما يتمردون على الآخرين وعلى ظروفهم، بل يتمردون على أنفسهم أكثر.
• إن التعبير عن المأساة هو أعمق الفنون الإنسانية، كما أن نفس المأساة هي أعمق فنون الحياة. ولقد كان البشر في كل التاريخ يحولون الدموع والأحزان إلى صلوات، ولم تكن المعابد إلا بيوتاً لمن يريدون أن يبكوا ويحزنوا، لمن يريدون أن يبحثوا عن السرور ممارسة في الحزن والبكاء.
• إني متشائم لأني أحب الأشياء وأصادقها بعذاب، فالذين يحبون ويصادقون بعذاب، يتشاءمون .. إني أحتج حينما يبدو أني أتشاءم!
• اقتلوا هذا الفنان، اقتلوا الفنان الذي يبدع ثم يُعاقِب ما أبدع بالتشويه والتعذيب!

=========================================
▬ إن الإنسان لا يناضل ليكون حرية وجداً وصدقاً، ولكن ليكون قيداً وعبثاً وكذباً ولكن بأسلوب آخر وعلى نحو آخر. والذين يقولون لنا: كونوا بلا قيود أو كونوا صدقاً وجداً إنما يعنون - دون أن يدروا - أن يقولوا: كونوا بلا بوجود. إن القيد والعبث ليسا شيئاً أكثر أوأقل من الوجود، وهما - أي القيد والعبث - لا يفرضان على الوجود، ولا يزيدان أو ينقصان فيه، إنه ليس شيئاً غيرهما وليسا شيئاً غيره، فلا قيد أو عبث بلا وجود، ولا وجود بلا قيد وعبث، بل لا فرق بين وجود ووجود في أنهما لا يكونونا إلا قيوداً وعبثاً. صــ9 

▬ إن برهان الوجود قائم على افتراض العدم، أي عدم الوجود، إننا نذهب نعاني لكي نثبت العدم، ولكن يكون إثبات العدم إثباتاً للوجود. وكيف نستدل على أكبر قضية وجودية بأكبر قضية عدمية أو افتراضية - كيف نستدل على أكبر موجود أو وجود؟ وهل يمكن أن يكون العدم أو افتراض العدم أكبر موضوع من موضوعات الإثبات العلمي؟ وكيف ينحدر منطق الإنسان إلى إثبات أن الكون كان معدوماً، لكي يثبت بذلك أن الله كان موجوداً، أو أنه لا يزال موجوداً؟ إن الله على هذا التقدير لا يمكن أن يكون موجوداً، إلا إذا ثبت أن الكون كان معدوماً، فوجود الإله مشروط بعدم الأشياء التي هي الدليل عليه! وأي تصورلأخلاقية هذا الإله العظيم الذي لا يستطيع أن يكون موجوداً وطيباً إلا إذا كان ما سواه غير موجود؟ صــ32

▬ يقول المؤمنون-والمفروض أنهم ميقتنعون-: إن الكون محكوم بالنظام على أدق وأذكى الأساليب والاحتمالات. ولعل الاقتناع بالنظام الكوني من المعتقدات التي يعد الاختلاف عليها أو الشك فيها من أول ما يرفضه العقل المؤمن، بل ويجفل من مناقشته أو التفكير فيه كموضوع يحتمل الشيء ونقيضه... ما هو النظام ؟ إنها كلمة، وقد تبقى دائماً كلمة فقط مثل أكثر الكلمات الضخمة التي تنطق بحماس وجهر دون أن يبحث لها عن تفسير، ودون أن يكون لها أي تفسير. ولعل الناس لا يبحثون لكلماتهم وشعاراتهم، ولا يريدون أن تكون لها هذه التفاسير، بل لعلهم يرفضون أن تكون لها، ولعلهم لو وجد لها-أي لكلماتهم وشعاراتهم-تفاسير لرفضوها وعجزوا عن الحماس لها والإيمان بها. إن معاني الكلمات والشعارات قتل لها وقيود عليها، وإبطال للسحر القوي فيها، والناس لا يريدون أن تقتل كلماتهم وشعاراتهم، وتوضع عليها القيود، ويبطل سحرها، بأن تكون لها تفاسير، ومعان محددة مفهومة. بل لعل الناس لو فهموا كلماتهم ومذاهبهم التي تحركهم، وتخلق فيهم النشاط والقوة، لقتلوا أنفسهم ووضعوا على خيالهم وحياتهم القيود، وفقدوا السحر الغامض القوي الذي يعيش فيهم، ويعيشون فيه، إذن هم لا يريدون أن يفهموا كلماتهم أو الكلمات التي تُقال لهم، وأعداؤهم هم الذين يحاولون أن يفهمومهم تفاسير ما يقال لهم، أو ما يقولون من شعارات وتعاليم ومذاهب، بصدق وأمانة وذكاء. وإذن هم لا يريدون أن يفهموا لكلمة نظام أي تفسير، ولا يريدون أن يبحثون لهم عن هذا التفسير، بل يريدون أن ينطقوا به، وأن يعتقدوا أنه مفهوم وواضح إلى المدى الذي يجعلهم غير محتاجين إلى فهمه، ولعل أكثر الكلمات وضوحاً في السوق هي التي لا يمكن فهمها، أو هي التي لا معنى لها لتُفهم! صــ36

▬ [...] والتفسير المشهور لهذا التخلف، الذي يكرره دائماً الزعماء والمعلمون والمفكرون والخطباء من فوق جميع المنابر، راضين عنه، مقتنعين به كأحد الاكتشافات العظيمة هو الزعم أن العرب لم يستطيعوا أن يجيئوا في ذكائهم، أو نضالهم متكافئين مع احتمالاتهم وظروفهم المواتية الكبيرة، لأن ظروفاً مضادة معوقة تخنق وتعوق مواهبهم وتعتقل محاولاتهم. ولكن ما هي هذه الظروف التي قهرت أقوى الاحتمالات وأفضل الظروف؟ ما هذه الظروف الشريرة العبقرية التي استطاعت أن تهزم ذكاء العرب وقدرتهم وأخلاقهم، وأن تشوه وجودهم كل هذا التشويه، وان تجعلهم يعيشون وكأنهم لا يحملون أي احتمال لأية موهبة غير موهبة التخلف، غير الموهبة التي تحول أفضل الظروف والإمكانيات إلى هباء؟ أليست القدرة على تحول الشيء الجيد جداً إلى شيء رديء جداً موهبة أيضاً؟ إن هذه الظروف كما اعتادوا أن يعددوها هي الآفات المعروفة على نحو ما في كل مجتمع قديم وحديث. هي الفقر والجهل، وحب الذات والأنانية وفساد الحكام، والاختلافات، والأحقاد المتبادلة، والضلال الروحي، وغير ذلك مما تردده مكرراً المنابر والواعظ بحماس كحماس الخرافة، وإصرار كإصرار الشهوة، وغباء مثل غباء الثوار. وهم يذكرون دائماً الاسعمار الغربي كزعيم شرير لهذه القائمة السوداء من الأسباب والتفسيرات. ولكن أليس هذا كله مظهراً من مظاهر التأخر، وصورة من صوره، وليس سبباً أو تفسيراً من أسبابه أو تفسيراته؟ فالتأخر هو وجود هذه القائمة، أما التقدم فهو الانتصار عليها. فقوم متخلفون لوجود هذه النقائص فيهم، وآخرون مقدمون لأنها ليست فيهم، أي أن قوماً يعيشون بمستويات أقل، فلماذا حدث هذا الاختلاف وما أسبابه...صــ215

▬ هل يجعلنا متحضرين أن يوجد بيننا من يقودون السيارات والطائرات ويدسون أيديهم بين الأجهزة والأزرار المتحضرة، ويديرون أو يملكون المصانع المستوردة، ويطلقون الأسلحة الحديثة على المطالبين بالحرية أو الهاتفين ضد الطغيان والفساد والكذب، أويختزنون مثل هذه الأسلحة، أو يستعرضون الجيوش بالأزياء والأساليب المستعارة التي علمهم إياها أقوام آخرون بارعون جاؤوا إلينا مستوردين مثل السلع، المستوردة، أو ذهبنا إليهم لنتفضل عليهم بأن نقبل أن يعلمونا حضاراتهم، وفنونهم، وبراعاتهم، وكأننا نتصدق عليهم بما يفعلون لنا أو بنا؟ أو بأن يوجد بيننا زعماء يخطبون بلغة وغرور من يملكون كل الحضارة والقوة والعلم والوقاحة؟ إننا لو أدخلنا إلى بلادنا جميع مصانع العالم، واستوردنا كل ما في المادة من طاقة وأسرار، وأصبحنا كلنا جنوداً يحملون أفتك وأحدث الأسلحة المصنوعة لنا أو المستوردة، وأطلقنا أقوى الصواريخ من أرضنا إلى أرضنا، أو من أرضنا إلى سمائنا أي أطلقها لنا قوم آخرون مستوردون، لما ازددنا إلا فقراً وانهزاماً وجهلاً ما لم نتحضر نفسياً وأخلاقياً، أي ما لم تصبح الحضارة فينا قدرة وإلزاماً ومستوى إنسانياً لا نستطيع الانفصال عنه، أو التحرر منه، نعيها ونتكافأ معها ونعانيها ونستطيعها ونعيشها بذكائنا وظروفنا وموهبتنا. إن استيراد الحضارة أو استهلاكها ليس حضارة، بل الحضارة طاقة إنسانية تتفاعل مع الظروف والاحتياجات لتصبح خلقاً من أخلاق مبدعيها. إن الحضارة ولادة وليست تبنياً، إنها ولادة عقلية ونفسية وأخلاقية. نحن في أفضل أحوالنا مستوردون للحضارة مستهلكون لها. صــ221

▬ إن القراءة نوع من العبودية، فالذي يقرأ ليؤمن ويطيع هو عابد مستسلم، وعابدو الأصنام هم قوم قارئون، لقد اكتسبوا آلهتهم وأصنامهم، وفهموا مزاياها وصفاتها بالقراءة والاستماع، وبالتعليم الذي هو قراءة. لقد أعطت القراءة المؤمنة للبشر جميع وثنياتهم، فليس الوثني إلا إنساناً قارئاً، أي متعلماً، والرافض للقراءة والتعليم لا يمكن أن يكون وثنياً لو كان يمكن أن يوجد من لا يقرأ أو يتعلم شيئاً. والقراءة ليست نشاطاً علقياً، بل هزيمة علقية، والعبادة نقل واستجابة وقراءة. ومن عبد صنماً أو شيئاً، فما هو إلا إنسان يحاول باستسلام أن يقرأ رغبة معبوده المنزلة أو الملهمة، ويفرضها على سلوكه ومشاعره وذكاءه. والتحرر من القراءة - أي التحرر من الغباء والتصديق ومشاعر العبادة أمام ما نقرأ - تحرر من الوثنية. إن الوثني يجهل الشمس فيخافها ويركع لها، إنه يقرؤها فقط دون أن يعلمها. إن الذي يشاهد الشمس بانبهار ديني هو كالذي يقرأ كتاباً بمثل هذا الانبهار، أما المتحرر فإنه لا يقرأ الشمس وإنما يفسرها ويسخرها. إن الأغبياء يعبدون الزلازل والأوثان والكتب لأنهم يقرؤون فقط، أي يتعلمون فقط، أما المبصرون فإنهم يقرؤون ويفهمون ويفسرون ثم ينكرون ويغيرون ويتجاوزون ويسيرون فوق التعاليم والعقائد والأموات والكتب إلى ذواتهم. أليس الذي يعبد كتاباً كالذي يعبد قبراً، كلاهما يمجد الموت بالهرب من الحياة؟ إن التعصب للقراءة يعني التعصب للتاريخ، يعني التعصب ضد الحياة والذكاء والحرية. صــ244

▬ إن الشمس - هذا الكائن الأبله الذي هو أكبر وأضخم وأجمل كائن دميم نراه - لو أنها كانت تستطيع الاحتجاج على نفسها، على كينونتها، وعلى سلوكها المثير في بلادته لكان من المحتوم أن تبحث عن بحر كوني يتسع لبدانتها الجوفاء لكي تموت فيه منتحرة غرقاً. لقد ظلت الشمس - مجد هذا الكون الذي نراه - في وقفتها الطويلة الخرساء، وفي دوراتها الغبية المتسكعة، تعرض جسدها المزخرف بيد غير فنان، مثلما تفعل أجهل غانية رخيصة مستهترة، وتبدد طاقاتها التي لا تعرف كيف ولا لماذا ملكتها بلا حساب أو ذكاء أو تدبير، وتواجه الكون والناس والآلهة والحشرات والفراغ الرهيب العقيم، دون أن ترفض، أو تغضب، أو تبكي، أوتحزن، أوتمرض، أو تقاوم، أو تسأل: لماذا أنا، إلى أين أساق، من فعل بي ذلك، لمصلحة من، ما الهدف، ما البداية، ما النهاية، متى الاستراحة، من أين، إلى أين. لقد ظلت الشمس كذلك دون أن تقول شيئاً، أو تفعل شيئاً مضاداً لأنها لم تكن تستطيع، أوتعرف، الاحتجاج والرفض. صــ 300


▬ أيها الواعظون، أيها الواعظون: نعم، إن كل ما في الكون من جمال، ولذات وغناء، ومجد، وصحة، وشباب، وضخامة، ونجوم، وليل، ونهار، لا يمكن أن يكون غفراناً أو اعتذاراً عن أية دمامة، أو عن أي ألم، أوعن أي موقف هوان أو بكاء، أو عن أي مرض، أوعن أية شيخوخة، أو عن أي عبث في هذا العالم. لأن كل ما في العالم من أشياء طيبة أو ضخمة أو ملائمة لن يستطيع أن يجعل دميماً واحداً، أومعذباً واحداً، أو محتقراً واحداً، أومريضاً واحداً، أو شيخاً واحداً، أو باكياً واحداً، يشفي من آلامه أو من شعوره بها، أو يخفف منها. لأن كل ما في العالم من ذلك لن يستطيع أن يكون عزاء أو تعويضا عما يلقى المتألمون. لأن كل سعادة وغناء وجمال وصحة تتحول إلى حد لم فقدوا ذلك، وإلى عدوان عليهم، وتذكير لهم بآلامهم! إن جميع الشموس المضيئة لن تكون تكفيراً عن ظلمة في عين. إن جميع القصور الباذخة لن تكون عذراً عن حقارة في كوخ. إن كل شيء ملائم لنا هو عدوان على نقيضه وحامل لنقيضه. إن الجمال عدوان على الدمامة، وحامل لنقيضه أي لنقيض الجمال أي حامل للدمامة. إن الصحة والشباب والمجد والقوة وكل شيء يلا ئمنا، هو عدوان على نقيضه وحامل لنقيضه. إن الجمال هو أكثر الأشياء الطيبة عدواناً، إنه عدوان على نقيضه وعلى كل المواجهين له والمتعاملين معه! أيها الواعظون، أيها الواعظون: خذوا نصائحكم واعطوني مشاعركم، خذو ذاتي واعطوني ذواتكم. إنكم حينئذٍ لن تعطوني. وإني حينئذٍ لن أكون محتاجاً إلى مواعظكم لكي أكون متفائلاً، لا يجد في الكون أو الحياة أو في الناس ما يصدم منطقه أورؤيته أو يثير أحزانه واحتجاجه! ليتكم أيها الناصحون تجربون معاناه الأحاسيس التي يعانيها من تقسون عليه بنصائحكم. ليتكم ترون آلام الآخرين وأحزانهم، وترون عبث الأشياء وأخطاءها وقسوتها، ليتكم تحسون هذه الآلام والأحزان والأخطاء والعبث والقسوة من داخلكم وبأعماقكم، كما يراها ويحسها من داخله وبأعماقه من تظلمون بنصائحكم وتفاسيركم! ليت هذه الآلام، والأحزان، والعبث، والأخطاء، والقسوة تنصب في عيونكم، وأعصابكم بالعنف الذي تنصب به في عيون وأعصاب من تنصحون! إن الذين يتعذبون باحتجاجاتهم لم يتعلموا عذابهم بالنصائح، إذن كيف يشفون من عذابهم بالنصائح؟ إنهم لم يتعلموا الاحتجاج ضد الآلام والعبث لأنه قيل لهم: احتجوا، إذن كيف يتركون الاحتجاج ضد الآلام والعبث إذا قيل لهم: لا تحتجوا؟ ليته كان ممكناً أن ينتقل كل ما وراء بعض الكلمات من رؤية وحماس وروعة عذاب إلى نفوس وعقول من يتلقون تلك الكلمات، ليته كان ممكناً أن تؤثر فيهم الكلمات الصادقة في عذابها وبلاغة ارتجافاتها تأثيراً مساوياً لما في نفوس وعقول من يطلقونها. ليته كان ممكناً أن ينقل الناس بعضهم إلى بعض! ليت تبادل العيون والأعصاب والرؤية كان ممكناً. ولكن كلا. فالذين يتعذبون بكل عذاب كل الآخرين هل يمكن أن يتمنوا العذاب الأحد، هل يمكن أن يتمنوا للآخرين العذاب الذي يعانون؟ صــ 326 : 328

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS