Pages - Menu

الأربعاء، 26 يونيو 2013

مُلّاك الحقيقة المُطلقة (مُراد وهبة)


• ما هي العلاقة الجدلية بين الحقيقة المطلقة والحقيقة النسبية ؟
• يُمكننا القول بأن العلم من ناحية ما ليس وصفاً للواقع، وإنما هو تأويل للواقع.
• إن الفكرة المحورية في فلسفتي هي النضال ضد الروح الدوجماطيقية.
• كن جريئاً في إعمال عقلك. (عمانوئيل كانط)
• إن الثورة قد تُسقِط طاغية، ولكنها لا تستطيع أن تغير أسلوب التفكير، بل على الضد من ذلك، فإن الثورة قد تولِّد سوء طوية تكبل الدهماء. (عمانوئيل كانط)
• إن التنوير ليس في حاجة إلا إلى الحرية..وأفضل الحريات خلواً من الضرر هي تلك التي تسمح بالإستخدام العام لعقل الإنسان في جميع القضايا. (عمانوئيل كانط)
• وإذا كانت العلمانية تُعني على حد تعريفي لها أنها التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق، فالحاكمية التي يدعو إليها العقاد تقف ضد العلمانية فتعني التفكير في النسبي بما هو مطلق فيتساوى النسبي مع المطلق، أي يتمطلق النسبي فيمتنع تطوره.
• لقد مارس كل من علم اللاهوت وعلم الكلام وظيفة التكفير . فكفر جليليو وقُتل جيوردانو برونو، وكفر ابن رشد، وقُتل الحلاج. بل إن المذاهب في المسيحية كفرت بعضها البعض، وكذلك فعلت الفرق الإسلامية.
• في الحضارة الإسلامية انقسمت المعتزلة إلى عشرين فرقة، وكل فرقة كفرت الأخرى. وكفر الغزالي كلاً من الفرابي وابن سينا، واتُهم ابن رشد بالإلحاد وأُحرقت كتبه لأنه دعا إلى تأويل النص الديني.
• يٌعرف يوسف مراد الفلسفة بأنها "تفكير منظم يحاول التأليف بين جميع العلوم، وتوحيد جميع المعلومات، مهما اختلفت وتعددت، في نظرة شاملة".
• يرى الدكتور زي نجيب محمود أن رجل الشارع جاهل ومتعصب، وأنه مُهيأ لذبح الفلاسفة إذا توهم أنهم خارجون على الدين.
• إن الأصولية الإسلامية تأخذ بحرفية النص الديني فتنفي التأويل عن العقل. وهي لهذا تقف ضد ابن رشد صاحب مقولة "التأويل" في إطار سلطان العقل.
• إنتقد كانط الميتافزيقا التي تدلل على قدرة الإنسان على اقتناص المطلق، بدعوى أنها ميتافزيقا دوجماطيقية تتجاوز الطبيعة إلى ما فوق الطبيعة.
• إن الطبيعة سر مفتوح، ومعناه أن الطبيعة ذاتها غامضة، ولكنها مع ذلك قابلة للفهم. (جوته)
• إن عصر الآلة يُنشد تحويل الإنسان إلى آلة، أما أنا فأنشد إعادة الإنسان الذي تحول إلى آلة إلى حالته الاصلية. (المهاتما غاندي)
• ليس في إمكان أية ثقافة أن تعيش إذا حاولت حذف الثقافات الأخرى. (غاندي)
• وقد عبر كانط عن روح التنوير في مقال له بعنوان "جواب عن سؤال: ما التنوير؟". جاء فيه أن شعار التنوير "كن جريئاً في إعمال عقلك". وفي عبارة أخرى يمكن القول بأن التنوير يُعني ألا سلطان على العقل إلا العقل ذاته.
• الوحدة العضوية بين الفلسفة والنقد هي التي دفعت التنوير إلى إثارة الشكوك في مشروعية الميتافيزيقا، أو بالأدق، في مشروعية المطلق.
• وإذا جاز لنا الإستعانة بمصطلحات داروين يمكن القول بأن المطلقات، في حالة تعددها، تدخل في صراع من أجل الوجود والبقاء للأصلح في نهاية المطاف.
• الجهل عند سيد قطب محصور في عصر النهضة، والإصلاح الديني، والتنوير. وواجب المسلمين المناضلين القضاء على هذه الظواهر الثلاث!.
• والجدير بالتنويه أن نظرية العقد الإجتماعي التي تبناها الشيخ على عبد الرازق وأفضت به إلى إنكار "الخلافة" كانت السبب في مصادرة كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، ومحاكمته وفصله من وظيفته.
• إن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين كانت لا دينية. (على عبد الرزاق)
• ثقافة الذاكرة تركز على التراث كما هو من غير مجاوزة. أما ثقافة الإبداع فتدورعلى مجاوزة التراث، وهذه المجاوزة تستلزم نقد التراث.
• الشك أمر لازم، وإلا لما تطورت الحضارات الإنسانية.
• إذا لم يكن في الإمكان إقتناص المطلق بالحس فهل يمكن اقتناصه بالعقل ؟
• إن مشكلة الحرية تكمن في مبدأ العلية كما هو الحال عند كانط.
• يقرر ابن تيمية بأن التأويل تحريف الكلم عن مواضعه، ومخالف للغة، ومتناقض في المعنى، ومخالف لإجماع السلف.
• واضح من عرضنا لتاريخ كل من مفهومي الكهف والدوجما أن ثمة علاقة عضوية بينهما. وإذا كان ذلك كذلك فهل يمكن الفكاك من هذه العلاقة العضوية، أو بالأدق هل يمكن مجاوزة هذه العلاقة؟
• في عام 1689 نشر جون لوك "رسالة في التسامح" وهو يقصد التسامح الديني بمعنى "أن ليس من حق أحد أن يقتحم، بإسم الدين، الحقوق المدنية والأمور الدنيوية". ومعنى ذلك أن التسامح الديني يستلزم ألا يكون للدولة دين.
• لقد وضع كانط الفلسفة النقدية في مقابل الدوجماطيقية. وكان يقصد بالفلسفة النقدية قدرة العقل على كشف جذور الوهم القائم في تصور إمكان اقتناص المطلق.
• إن تعددية المُطلّقات هي تعددية زائفة، لأن المطلق بحكم تعريفه واحد لا يتعدد، وإذا تعدد، فصراع المطلقات حتمي.
• يقول أرسطو في كتابه "الميتافيزيقا" إنه بسبب الدهشة يبدأ الناس في التفلسف. التفلسف إذن وليد الدهشة. وإذا كانت الدهشة تُعني الشك فالتفلسف إذن وليد الشك.
• "لم أكد أُنهي المرحلة الدراسية التي جرت العادة أن يُرفع الطالب في نهايتها إلى مرتبة عالم حتى غيرت رأيي تماماً لأني وجدت نفسي في ركام من الشكوك والأخطاء بدا لي معها أنني لم أفد من محاولتي التعلم إلا الكشف شيئاً فشيئاً عن جهالتي" (رينيه ديكارت).
• إن العلاقة التقليدية بين المعلم والطالب تدور على تلقين الحقيقة من جانب المعلم، وتذكر الحقيقة من جانب الطالب.
• اتهم بروتاجوراس بالكفر (411 ق.م) لأنه قال بأن "الإنسان مقياس كل شيء" فأُمر الذين اشتروا كتبه بجلبها إلى السوق لكي تُحرق. وقد قيل إنه أُقصي عن أثينا، ولكن قيل أيضاً إنه حُكِم عليه بالموت ولكنه تمكن من الهرب.
• لقد تعطل الإبداع بفعل المحرمات الثقافية وما لازمها من مؤسسات إجتماعية وسياسية فأصبح الإبداع يُعني الخروج على المالوف، وترادف الخروج على المألوف مع ما هو شاذ ومنحرف ومريض، أي مع الجنون.
• إن الإبداع هو أساس نشأة الحضارة الإنسانية.
• يقين كل علم وصحته يرجع إلى معرفة الله الحق بحيث أنني ما لم أعرف الله لا أعرف شيئاً آخر. (رينيه ديكارت)
• الخرافة تتحكم في العقل فتفسده..
-------------------------------------
◙ إن الإنسان بطبيعته حيوان مبدع. ولهذا فأن نفهم معنى كوننا بشراً يُعني أن الإبداع هو المركز. ومع ذلك فإن المنطق الصوري، حتى الآن، عاجز عن إلقاء الضوء على العملية الإبداعية وذلك لسببين: السبب الأول: أن المنطق الصوري أدى دوراً هاماً في القضاء على الوظيفة الإبداعية للعقل إستناداً إلى مبدأ عدم التناقض الذي أصبح معياراً مطلقاً للحقيقة. ومن هذه الزاوية فإن القول بأن نظرية علمية ما هي على صواب يُعني أن التفكير في نقيضها ممتنع. والسبب الثاني: أن ذلك المنطق قد حصر العقل في مجال الحجة، والحجة تفترض أننا على علم بما نريد من الآخر أن يقتنع به. ومن ثم فإن الحجة تحصر العقل في العلاقة القائمة بين الإنسان والآخر وليس بين الإنسان والطبيعية. صــ7

◙ إن اليقين هو السمة السائدة في كتابات العقاد، وهو لا يعرف غيره. فمن أقواله على سبيل المثال : "أعلم علم اليقين أنني أمقت الغطرسة على خلق الله" . و "أعلم علم اليقين أنني اجازف بحياتي ولا أصبر على منظر مؤلم أو على شكاية ضعيف". " والذي أجزم به أن الزمن لا يغير عناصر النفس الأصلية، ولا يزيد عليها ولا ينقص منها". ويقول معلقاً على كتاب "فلسفة الثورة" لعبد الناصر : صواب ولا أشك أن الحركة المصرية لا توصف بأنها تمرد عسكري. وصواب ولا أشك أن الحاضر يعيش ببقية من مساويء العهود الماضية. وصواب كذلك أن الشك آفة معطلة للجهود، معطلة للأفكار والآراء". والعقاد في هذه العبارة، لا يستخدم لفظ "شك" في معناه الإيجابي الذي يعني أنه حافز على إعادة النظر، وحافز على منع الوقوع في براثن الدوجماطيقية، وإنما يستخدمه في معناه السلبي الذي الذي يُعني أنه نقيصه عقلية، وهو لذلك يزعم أنه كان يعلم علم اليقين أنه كان على قرار واضح في كل قضية من القضايا المثارة في عصره حين بلغ سن السادسة عشرة، وهذه القضايا يوجزها في ثلاث : الجامعة الإسلامية، والدولة العثمانية، والحكم الدستوري. وهو مدافع عنها منذ شبابه حتى وفاته. وهو في دفاعه عنها لا ينصت إلى صوت العقل وإنما إلى صوت الشعور. وفي "خلاصة اليومية" يشك العقاد في قدرة العقل على إثبات وجود الله، إذ هذا الإثبات مردود إلى الشعور وليس إلى الفكر. صــ78

◙ وهكذا يمكن القول بأن إعلان سلطان العقل مقولة متعثرة منذ ابن رشد. ولهذا فقد ظل ابن رشد مغترباً عن العالم الإسلامي. فإبن كثير يقول إن علوم الأوائل وهي الفلسفة اليونانية لم يوافق عليها العقل الإسلامي. ومنطق أرسطو توقفت دراسته عند نهاية "التحليلات الأولى"، وأهل السنة قاوموا مدرسة الفارابي. ويذهب على سامي النشار إلى القول بأن الرشدية ترف عقلي لم يؤثر في مجتمع المسلمين. صــ110

◙ وفي بداية القرن السادس عشر أعلن لوثر أحقية الإنسان في "الفحص الحر للإنجيل"، أي الحق في إعمال العقل في النص الديني من غير معونة من السلطة الدينية. يقول: "يرغب الرومانيون في أن يكونوا هم وحدهم المتحكمين في الكتاب المقدس مع أنهم لم يتعلموا شيئاً من الإنجيل في حياتهم العامرة. وهم يفترضون أنهم وحدهم اصحاب السلطان. ويتلاعبون أمامنا بالالفاظ في غير ما خجل أو وجل، وفي محاولة لإقناعنا بأن البابا معصوم من الخطأ في أمور الدين..وإذا كان ما يدعونه حقاً فما الحاجة إلى كتاب مقدس؟ وما نفعه؟ ولهذا فإن دعواهم بأن البابا وحده هو الذي يفهم الإنجيل خرافة مثيرة للغضب". صــ112

◙ لقد تناول الفيلسوف الإلماني العظيم "إيمانويل كانط" هذا السلطان - أي سلطان العقل الإنساني - وأوضحه في مقال له بعنوان: "جواب عن سؤال: ما التنوير؟" نشره عام 1784 في مجلة شهرية في برلين. وفي المقال يعرف كانط التنوير بأنه: "هجرة الإنسان من اللارشد، والإنسان هو علة هذه الهجرة. واللارشد هو عجز الإنسان عن الإفادة من عقلة من غير معونة من الآخرين. وهذا اللارشد هو من صنع الإنسان، عندما لا تكون علته مردودة إلى نقص في الفهم، وإنما إلى نقص في العزيمة والجرأة في إعمال العقل من غير معونة من الآخرين. "كن جريئاً في إعمال عقلك" هو شعار التنوير. ومن هذه الزاوية يُقال عن العقل إنه مستقل وإستقلال العقل يعني أنه عقل ناقد. وهذا هو السبب في تعريف التنوير للفلسفة بأنها العادة المنظمة للنقد. وهذا التعريف لا يساير التعريف التقليدي للفلسفة. صــ123

◙ وكانط يميز بين حالتين : حالة البحث عن إقتناص المطلق، وحالة اقتناص المطلق. الأمر الحاصل أن ثمة محاولات عديدة في البحث عن المطلق. ولكن تصور اقتناص المطلق بطريقة مطلقة يوقع الإنسان في الدوجماطيقية. وهذا هو مغزى قول كانط "لقد أيقظني هيوم من سباتي الدوجماطيقي". ذلك أن الإنسان بمجرد أن يقتنص المطلق فإن هذا المطلق يصبح نسبياً، ويتوقف عن أن يكون مطلقاً. ولهذا فإن عبارة "بروتاجوراس" : "الإنسان هو مقياس الأشياء" مازالت مقبولة حتى الآن. ومع تغيير طفيف يمكن القول "الإنسان هو مقياس المطلق". صــ124

◙ وإذا لم يتحقق الإبداع الجماهيري فمعنى ذلك أن ثمة عائقاً. وهذا العائق لابد أن يكون مضاداً للتنوير. فما هو هذا العائق؟ إنه ما أسميته "المحرمات الثقافية". وقد حاول فلاسفة اليونان مواجهة هذه المحرمات. وكان على قمة هؤلاء سقراط. كان يحاور الجماهير في الأسواق من أجل الكشف عن هذه المحرمات فاتُهم بإفساد عقول الشباب وحُكِم عليه بالإعدام. وإثر هذا الحكم هرب تلميذه أفلاطون من أثينا حيث تم تنفيذ حكم الإعدام. لما عاد إليها بعد عدة سنوات امتنع عن الحوار مع الجماهير، وشيد "أكاديمية" ووضع على مدخلها لافتة مكتوب عليها "لا يدخل هنا إلا كل عالم بالهندسة". ومن يومها والفلسفة معزولة عن رجل الشارع. صــ140

◙ دعت الوضعية المنطقية إلى نظرية فحواها أن الفلسفة لا معنى لها، أي أن الفلسفة، بحكم طبيعتها ليس لها تأثير عملي، ومن ثم فهي عاجزة عن التأثير في الجماهير. وقد نشأت هذه النظرية عند فتجنشتين حين أنكر المشكلات الفلسفية بدعوى أنها ليست علمية وأنها زائفة ووهمية. وقد كانت هذه الفكرة هل الملهم لمدرسة التحليل اللغوي التي تذهب إلى القول بأن الفلسفة مهمتها محصورة في نزع القناع عن الألغاز اللغوية الكامنة في القضايا الفلسفية الكلاسيكية. صــ142

◙ يسخر نيتشه من لفظ "الحقيقة". يقول "نفترض أن الحقيقة إمرأة. فماذا بعد؟ إن الفلاسفة من حيث هم دوجماطيقيون عاجزون عن فهم المرأة. ذلك أن الصلابة التي يتناولون بها الحقيقة سلبتهم القدرة على إقتناص المرأة.والمرأة لم تسمح لنفسها بأن تُقتنص". ولهذا فإن الدوجما تشعر بالحزن واليأس ومن ثم فهي تكاد تلفظ النفس الأخير. وأخطر خطأ دوجماطيقي كان في إختراع أفلاطون لمثال الخير. ومن هنا ينقد نيتشه "جدول القيم" السائد الذي يعبر عن أخلاق المستضعفين، ويؤسس جدولاً جديداً للقيم يستند إلى إرادة القوة، وهذه الإرادة هي الإسم الحقيقي لإرادة الحياة، لأن الحياة لا تزدهر إلا بإخصاء ما حولها. ومتى وضعنا هذا المبدأ انقلبت القيم السائدة رأساً على عقب، فقلب القيم يلزم منه ضرورة. ومع ذلك فإن نيشته يكشف لنا عن صعوبة نقد جدول القيم السائد وقلبه رأساً على عقب لأن السلطة تحافظ على هذا الجدول ولا تسمح أن يكون موضع نقد. فأمام السلطة كأمام الأخلاق يجب ألا نفكر ويجب أن نتكلم قليلاً. ولهذا يقول نيتشه إن كتاباتي لا تتحدث إلا عن غزواتي. صــ151

◙ يقول نيتشه "لقد حررنا أنفسنا من الخوف من العقل، من الشبح الذي هيمن على القرن الثامن عشر: نحن الآن لدينا الجرأة من جديد أن نكون عبثيين وأطفالاً وشعراء. وفي كلمة واحدة نكون موسيقيين". ومعنى هذه العبارة أن ثمة ثنائية حادة بين العقل والإرادة عند نيتشه بينما هي أقل حدة عند وليم جيمس. يقول: "من المشروع لطبيعتنا الإنفعالية بل من اللازم أن تتدخل في حسم الإختيار بين القضايا إذا اقتضى الأمر أن يكون هذا الإختيار أصيلاً إلى الدرجة التي لا يمكن بحكم طبيعته أن يستند إلى أسس عقلية". ولهذا يستعين جيمس بعبارة بسكال المشهور "للقلب حجج لا يعرفها العقل". صــ152

◙ في القرن الثامن عشر ربط كانط ربطاً واضحاً بين المطلق ونظرية المعرفة في كتابه "نقد العقل الخالص". يقول في مفتتحه: "إن العقل محكوم عليه، في جزء من معرفته، بمواجهة مسائل ليس في إمكانه تجنبها. وهذه المسائل مفروضة عليه بحكم طبيعته، ولكنه عاجز عن الإجابة عنها. وهذه المسائل المطروحة بلا جواب تدور على مفهوم المطلق سواء أطلقنا عليه لفظ الله أو الدولة. وقصة الفلسفة، في رأي كانط، هي قصة هذا العجز. ومهما يكن الأمر فإن كانط يميز بين حالتين: حالة البحث عن إقتناص المطلق، وحالة إقتناص المطلق. وثمة محاولات عديدة في تاريخ البشرية لإقتناص المطلق، ولكن تصور إقتناص المطلق بطريقة مطلقة وهم لأن المطلق، بمجرد إقتناصه، يصبح نسبياً ويتوقف عن أن يكون مستوعباً للواقع برمته. صــ167

◙ يقول كانط إن العلة الطبيعية ليست العلة الوحيدة التي تُرد إليها جميع ظواهر العالم، بل من الضروري التسليم أيضاً بعلة حرة لتفسير هذه الظواهر، لأن كل ما يحدث موجب العلة الطبيعية يحدث بعد حادث سابق بعينه، وهكذا إلى غير نهاية. فإذا لم يكن هناك سوى هذه العلة لزم القول بسلسلة لا متناهية من العلل لتعيين كل ظاهرة، ومن ثم يجب التسليم بعلة حرة قادرة على ان تبدأ سلسلة ظواهر تجري حسب القوانين الطبيعية. صــ171

◙ إن المطلع على تاريخ الفلسفة يلحظ أن كانط هو اول من فطن إلى أن العقل ديالكتيكي، بمعنى أنه محكوم بالتفكير في المتناقضات دون القدرة على مجاوزتها على نحو ما أشرنا في مقدمة هذا المقال. وإذا امتنعت المجاوزة امتنع العقل عن الوقوع في براثن الدوجماطيقية، أي في توهم إمتلاك الحقيقة المطلقة. والفضل في ذلك مردود إلى هيوم في تشككه في مبدأ العلية إذ يقول كانط: "لقد أيقظني هيوم من سباتي الدوجماطيقي". كان ذلك في القرن الثامن عشر، أما في القرن العشرين فقد رفض هيزنبرج مبدا العلية بفضل "مبدأ اللاتعيين" الذي ينص على استحالة الدقة في تحديد موقع الجسيم وسرعته في وقت واحد، وعلى أن حاصل ضرب درجة عدم اليقين الخاصة بالموقع في درجة عدم اليقين الخاصة بالسرعة تساوي رقماً ثابتاً. ومن ثم قال هيزنبرج عندما اكتشف هذا المبدأ : "أعتقد أنني قد رفضت مبدأ العلية". صــ175

◙ الأصول الدينية، في جوهرها، تأخذ بحرفية النص الديني ولا تقبل تأويله لأنه، في رأيها، يرقى إلى مستوى الحقيقة المطلقة. ومن هنا نشأت ظاهرة مأساوية جماهيرية اطلقت عليها اسم "مُلاك الحقيقة المطلقة" وهو اسم بديل عن الأصوليين الذين هم بحكم هذه الملكية يطالبون بفرض سلطانهم على جميع مجالات الحياة الإنسانية، ومن يرفض فقتله واجب ووجوبه مردود إلى وجوب الدفاع عن الحقيقة المطلقة خشية إهتزازها كحد أدنى وإنكار كحد أقصى. ديالكتيك الحرية إذن مهدد بالتوقف في هذا الزمان. صــ176

◙ يميز ابن رشد بين تأويل صحيح وتأويل فاسد. والتأويل الفاسد هو الذي لا يتأسس على البرهان. وإذا صرح به نشأ الكفر. وهذا ما حدث عندما أولت المعتزلة والأشعرية الآيات والأحاديث، وصرحوا بتأويلاتهم للجمهور. هذا الإضافة إلى أن تأويلاتهم ليسوا فيها لا مع الجمهور ولا مع الخواص لكونها إذا تؤملت وجدت ناقصة من شرائط البرهان بل إن كثيراً من الأصول التي بنت عليها الأشعرية معارفها هي سفسطائية. أما التأويل الصحيح فهو الذي يستند إلى أهل البرهان، وهم "الراسخون في العلم" ومن ثم فإن ابن رشد يقسم الناس قسمين " الجمهور والراسخون في العلم. وهذه القسمة الثنائية، وإن كانت تقليدية في الفكر الإسلامي، إلا أن القضية الأساسية في منطق ابن رشد. فالمنطق عنده منطقان : منطق الإستقراء ومنطق القياس. منطق الإستقراء هو منطق الجمهور. أما منطق الراسخين في العلم فهو منطق القياس، يقول : "الإستقراء أظهر إقناعاً من القياس إذ كان يستند إلى المحسوس ولذلك كان إستعماله أنفع مع الجمهور، وهو اسهل معاندة. والقياس بعكس ذلك اقل نفعاً وبخاصة عند الجمهور، وأصعب معاندة، ولذلك فإن استعماله أنفع مع المرتاضين في هذه الصناعة". ويقصد بالمرتاضين الراسخين في العلم. صــ180

◙ خلاصة القول أن الفصل بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي وهم، وأن ثمة حضارتين : حضارة إسلامية وحضارة غربية وهمٌ كذلك، بل ثمة حضارة إنسانية تخصبها ثقافات متباينة على قدر ما لدى كل منها من عقلانية لا تقع في براثن الدوجماطيقية فتسهم في دفع مسار الحضار الإنسانية نحو التقدم والسلام. أما ما يبدو اليوم أنه قطيعة بين الإسلام والغرب فمردود إلى تيارات فكرية ترفض التأويل، أي ترفض إعمال العقل في النص الديني، كما  ترفض تطور العلم، ولا ترى في التكنولوجيا سوى السلبيات. وهذه التيارات الفكرية هي على وجه التحديد أصوليات دينية دخلت في صراع مع حضارة العصر فتوقف التقدم وتعثر السلام. صــ182

◙ يقول أرسطو في كتابه "الميتافزيقا" إنه بسبب الدهشة يبدأ الناس في التفلسف؛ فهم يندهشون أصلاً من المشكلات اليومية ثم يتقدمون رويداً رويداً فيواجهون مشكلات المسائل الكبرى مثل ظواهر القمر والشمس والنجوم ونشأة الكون. والذي يندهش يعرف أنه جاهل. وحيث أنهم يندهشون هروباً من الجهل فإنهم يطلبون العلم للعلم وليس لأية غاية نفعية. صــ189

◙ تأسيساً على نظرية المعرفة هذه يمتنع تأسيس المجتمع على مطلق معين، أي على دوجما. ومن ثم تصبح الديمقراطية هي البديل عن الدوجماطيقية. وهذا هو مغزى العلاقة بين الديمقراطية والليبرالية، ولكنها علاقة جدلية، أي علاقة تقوم على وحدة صراع الأضداد. فالليبرالية تعني تحرر الفرد من كل سلطان ماعدا سلطان الفرد على حد قول مِل. أما الديمقراطية فتُعني المساواة بين الأفراد. وهذه المساواة تُعني أن سلطان الفرد محكوم بسلطان الآخر. وبالتالي فالديمقراطية تبدو مناقضة لليبرالية. بيد أن هذا التناقض يمكن رده إلى تصور معين عن المجتمع وهو أنه عبارة عن جملة أفراد، وليس عبارة عن كل عضوي مجاوز لجملة أفراده. صــ196

◙ في العصر اليوناني القديم اتخذ السوفسطائيون من تباين المذاهب والعادات ذريعة للشك. ثم نشأت "المدرسة الشكية" ورائدها سكستوس امبيريقوس وفكرته المحورية أن لكل حجة حجة مضادة لها ومساوية لها في القوة. والنتيجة إمتناع الإنسان عن أن يكون دوجماطيقياً. ثم يستطرد سكستوس قائلاً :"إذا كانت الدوجما تُعني إقرار ما هو غير واضح فليس ثمة مذهب"، لأن المذهب - في رأيه - يعني الإلتزام بمجموعة من الدوجمات المتسقة فيما بينها، وفيما بينها وبين الظواهر. وإذا كانت الغاية من الشك سكينة النفس على حد تعبير سكستوس فإن الدوجما، في هذه الحالة، تقف ضد هذه السكينة. وهذا على غير القول الشائع بأن سكينة النفس ملازمة للدوجما. الدوجما إذن، في معناها الأول، ضد الشك ومع الإلتزام بمذهب، ثم تبلو معنى الدوجما فيما يسمى "علم العقيدة" وهو في المسيحية هلم اللاهوت، وفي الإسلام علم الكلام، فأصبحت للدوجما سلطة تحكم على من يعارضها بالهرطقة والكفرة. وفي العصر الحديث عانت الدوجما من الشك مرة أخرى إبتداء من بيكون وديكارت. أسس بيكون منطقاً جديداً يدور، في جانبه السلبي، على الكشف عن أوهام العقل وهي أربع أوهام : "أوهام المسرح" التي هاجرت من الدوجمات الفلسفية المتنوعة إلى عقول البشر. أما ديكارت فإنه يقول: "لم أكد أُنهي المرحلة الدراسية التي جرت العادة أن يُرفع الطالب في نهايتها إلى مرتبة عالم حتى غيرت رأيي تماماً لأني وجدت نفسي في ركام من الشكوك والأخطاء بدا لي معها أنني لم أفد من محاولتي التعلم إلا الكشف شيئاً فشيئاً عن جهالتي".وبهذا الشك أسس ديكارت منهجاً جديداً يناقض منطق أرسطو. ثم جاء هيوم وتابع كلاً من بيكون وديكارت في ممارسة الشك، ولكنه انصرف في شكه إلى سمة الضرورة في مبدأ العلية. وتأثر كانط بهيوم في هذه المسألة فقال: "لقد أيقظني هيوم من سُباتي الدوجماطيقي". وكانط يُعني بالدوجماطيقية الكف عن كشف جذور الوهم في المفاهيم المتوارثة. وفي القرن العشرين إزداد الشك في الدوجما بفضل نظرية "الكوانتم" التي نشأ عنها مبدأ اللاتعين لهيزنبرج. واللاتعيين يعني عدم اليقين، وبالتالي عدم مشروعية ملكية الحقيقة المطلقة. والنتيجة بزوغ اللادوجماطيقية في مواجهة الدوجماطيقية. صــ203

◙ إن الإنسان، منذ نشأته، ينشد الحقيقة المطلقة بحكم ان العقل الإنساني ينزع بطبيعته نحو توحيد المعرفة الإنسانية. وهو من أجل ذلك يتجول في كل مجال من مجالات هذه المعرفة، ثم هو يضمها جميعاً، ويربط فيما بينها في وحدة عضوية، بحيث لا يتيسر معه فصل عضو عن الكائن إلا بالقضاء عليه كله. ونزوع العقل نحو التوحيد هو، في الوقت ذاته، نزوع نحو المطلق. والإنسان ينشد الحقيقة المطلقة كذلك بحكم إحساسه بعدم السكينة في هذا الكون المجهول. صــ225

◙ في القرن السابع عشر أعلن جليليو إنحيازه لنظرية كوبرنيكوس التي تدور على أن بقاء أكبر الأجرام ثابتاً (الشمس)، على حين تتحرك من حوله الأجرام الصغرى، أكثر تحقيقاً لمبدأ البساطة من دوران الأجرام جمبعاً حول الأرض. فاتُهم جليلو بالخروج على الدين لإنحيازه لنظرية منافية للكتاب المقدس. وحوكم من قبل محاكم التفتيش، أو بالأدق من قبل ملاك الحقيقة المطلقة. صــ227

◙ إن الواقع القادم هو رؤية مستقبلية، أي ايديولوجياً. وإذا تحققت الأيديولوجيا في الواقع غيرت الواقع القائم، بمعنى أنها تُحل محله فتصبح واقعاً قائماً، أي ثقافة. ثم تنزلق الثقافة إلى الماضي فتصبح تراثاً. والتراث قد يتمطلق فيمتنع تغييره، ومن ثم يمتنع تكوين رؤية مستقبلية جديدة فينتفي المستقبل ولا يبقى سوى الماضي من غير فاعلية. وقد لا يتمطلق فيمكن تغييره، وتغييره ممكن بإبتداع رؤية جديدة مستقبلية، أي أيديولوجيا جديدة تتغذى في تكوينها بتأويل التراث. صــ232

◙ إن حادثة إغتيال فرج فودة تنطوي على شيء من هذا الذي كان يفعله سقراط. فقد أسس حزباً أسماه حزب المستقبل. وأغلب الظن أنه قد أسماه هكذا لمواجهة حزب الماضي الذي يرفض التنوير الذي يُعلي من شأن العقل. وكان أثناء ذلك يجوب الشوارع، ويتحدث إلى الجماهير، ويحاورهم، من أجل بث الإستنارة في عقولهم فكان أن صدر حُكم سري بإعدامه، وتم تنفيذه علانية. صـ236

◙ وفي القرن الثاني عشر ألف أبو حامد الغزَّالي كتاباً عنوانه "تهافت الفلاسفة" وضع في نهايته سؤالاً محصوباً بجواب. جاء على هذا النحو: فإن قال قائل : قد فصلتم القول بتكفيرهم ووجوب القتل لمن يعتقد اعتقادهم (يقصد الفلاسفة) أفتقطعون القول بتكفيرهم ووجوب القتل لمن يعتقد اعتقادهم؟! قُلنا : تكفيرهم لابد منه. ثم سكن أبو حامد الغزالي عن إبداء الرأي في وجوب قتلهم. وفي النصف الثاني من القرن العشرين وبعد إنتهاء مسلسل "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ كفره ثلاثة : الشيخ محمد الغزالي والشيخ عبد الحميد كشك والشيخ عمر عبد الرحمن، وتولي ثالثهم الجواب عن الشق الثاني من السؤال المطروح على أبي حامد الغزالي فقال : قتله واجب. وقد كان إلا أنه أُنقِذ. وكان ذلك في الخامسة والنصف من بعد ظهر يوم الجمعة الموافق 14 أكتوبر 1994. صــ238

◙ وبفضل مبدأ عدم التناقض - وهو أساس منطق ارسطو - لم يجرؤ أحد على التفكير في نقيض هندس اقليدس، على الرغم من أن المصادرة الخامسة المعروفة بمصادرة التوازي تنطوي على تناقض لم يستطع علماء الرياضيات رفعه. ومع نشأة الفلسفة الحديثة ظهر منهجان أحدهما من تأسيس بيكون، والآخر من تأسيس ديكارت. أصدر بيكون كتاباً بعنوان "الأورجانون الجديد..العلاقات الصادقة لتأويل الطبيعة" (1620) وهو منطق جديد يضع أصول الإستكشاف العلمي. القسم السلبي منه يدور على مصدر الأوهام الطبيعية في العقل وهي أربع : "أوهام القبيلة" وهي ناشئة من طبيعة الإنسان حيث العقل مرآة كاذبة لأنه يشوه طبيعة الأشياء وذلك بالخلط بين طبيعته وطبيعتها. و "أوهام الكهف"، وتُعني أن لكل فرد كهفاًً يشوه نور الطبيعة بسبب التربية، وبسبب سلطة أولئك الذين يزهو الفرد بهم. و "أوهام السوق" وهي ناشئة من سوء اختيار الألفاظ الذي يُفضي إلى مناقشات بيزنطية. و "أوهام المسرح" تتسرب إلى عقول البشر من قبل معتقدات الفلاسفة. هذا عن القسم السلبي من المنطق الجديد. أما عن القسم الإيجابي منه فهو المنهج الإستقرائي الذي يُنشد التحكم في الطبيعة وإستخدامها في منافعنا. أما ديكارت فقد أصدر كتاباً بعنوان "مقال في المنهج لإجادة قيادة العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم يليه البصريات والآثار العلوية والهندسية، وهي التطبيقات لهذا المنهج"،  (1637). ولهذا المنهج أربع قواعد أهمها القاعدة الأولى "ألا أسلم بشيء إلا أن أعلم أنه حق" ، وقد قيل عن هذه القاعدة إنها قاعدة ثورية لأنها عبارة عن إعلان حرية الفكر، وإسقاط كل سلطة. صــ252

◙ يقول أرسطو في كتاب (المشكلات) ، جــ3 : "كثيراً ما كان مشاهير الرجال في الشعر والفنون مصابين بالجنون أو المرض السوداوي، نافرين من مصاحبة الآخرين غير واثقين بهم. وقد شوهدت مثل هذه الصفات لدى سقراط وأفلاطون وغيرهم وعلى الأخص الشعراء"..ومما دعا أرسطو إلى هذا القول نظرته إلى وظيفة الدماغ، فكان يعتقد أن عضو الفكر هو القلب لا الدماغ، وأن الدماغ لا يعدو أن يكون عنده وظيفة تبريد الحرارة الصادرة من القلب. وعندما يقصر الدماغ عن تأدية هذه الوظيفة يحدث الإحتقان وما يتبعه من هيجان وهذيان. وقد ظلت هذه النظرية الأرسطية تتردد أصداؤها في العصر الوسيط حتى العصر الحديث. ففي عام 1859 نشر "مورو دي تور" كتاباً بعنون: "علم النفس المرضي وعلاقته بالفلسفة والتاريخ" ،جاء فيه أن ما ذهب إليه أرسطو حقيقة واقعية. فالعبقرية ذات منشأ مرض عصبي. يقول: "إن العوامل العضوية الأكثر ملاءمة لنمو الملكات العقلية هي بعينها التي تولد الهذيان. وقد يؤدي التكتل غير العادي للقوى الحيوية في عضو ما إلى نتيجتين متساويتين من حيث إحتمال حدوثهما : زيادة الطاقة في وظائف هذا العضو، وكذلك احتمال أكبر لإصابة هذه الوظائف بالإختلال والإنحراف. ثم يستطرد قائلاً : "العبقرية، أعلى واسمى ما يعبر عن النشاط العقلي، ليست إلا مرضاً عصابياً". 262

◙ إن العقل لا يدرك الوقائع من حيث هي كذلك لأنه إدراكه يحدث تأثيراً في الواقع بحيث يمكن القول بأنه لا يدركها وإنما يؤولها. بيد أن هذا التأويل ليس محصوراً في المجال النظري بل يمتد إلى الممارسة العملية استناداً إلى تعريفنا للإبداع من حيث هو "قدرة العقل على تكوين علاقات جديدة من أجل تغيير الواقع". وهكذا يمكن القول بان العقل، في ضوء التأويل والإبداع، هو "ملكة التأويل العملي المجاوز للواقع". والعقل، هنا ، إيجابي أي له دور فعال في تأسيس المعرفة. وهذا على الضد من سلبية العقل عند كل من ديكارت ولوك وهيوم. فالأفكار الصادقة، عند ديكارت، هي الأفكار الفطرية التي ليست مستفادة من الأشياء ولا مركبة من الإرادة، وإنما هي في العقل على نحو ما نقول إن مرضاً ما فطري في أسرة ما، وهي في عقل الطفل على نحو ما هي في عقل الراشد. والعقل، عند لوك، لوح مصقول لم يُنقش فيه شيء، وأن التجربة هي التي تنقش فيه المعاني والمباديء جميعاً. وكذلك العقل عند هيوم. إنه سلبي لأنه لا يحضر فيه سوى انطباعات حسية. يقول في مفتتح "كتاب الطبيعة الإنسانية" :إن إدراكاتنا برمتها على ضربين متمايزين : إنطباعات وأفكار ، ولا تباين بينهما إلا في الحيوية" ، بمعنى أن الأفكار ليست إلا إنطباعات حسية باهتة. صــ271

◙ صحيح أن فلاسفة اليونان تتلمذوا لكهنة مصر. فقد جاء إلى مصر طاليس وفيثاغورث وأفلاطون. وأفادوا من العلوم العلمية، ولكنهم ابتدعوا ما لم يبتدعه المصريون وهو فكرة "البرهان" التي على أساسها ابتدع أرسطو علم المنطق الذي على أساسه ابتدع اقليدس الهندسة النظرية. وأغلب الظن أن هذا التأسيس النظري مردود إلى عدم اعتقاد اليونانيين الكائنات الفائقة للطبيعة. ولهذا فإن الطبيعيين الأوائل في اليونان لم يتجاوزا الطبيعة إلى ما فوق الطبيعة. فأصل الأشياء الماء عند طاليس، والمادة غير المتناهية عند انكسمندريس، والهواء عند انكسيمانس، والنار عند هراقليطس. وإذا كانت العلمانية هي انتزاع ما هو مقدس مما هو مدني، فالعلمانية كامنة في الحكمة اليونانية وذلك على الضد من الحكمة المصرية التي لم تستطع قبول العلمانية إلا قسراً أثناء حكم إخناتون. صــ301


◙ خلاصة القول اذن أن الأصولية، أياً كانت سمتها الدينية، تمزج المطلق بالنسبي، والحقيقة الأبدية بالحقيقة العابرة، وبذلك تدافع عن حقيقة لاهوتية ماضوية فتعجز عن التعامل مع الوضع الراهن ليس لأنها مجاوزة لهذا الوضع ولكن لأنها تتحدث عن وضع ماضوي فتمنح مصداقية أبدية لرؤية نسبية. وفي هذا السياق تصبح الأصوليات ممهدة لما أسميه "صراع المطلقات". صــ353

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق