• إن علم "تحليل الخطاب" يركز على الدلالات التي يمكن إستنباطها
من الأقوال، لأن تلك الدلالات تمارس تأثيرها على المتلقي سواء كانت دلالات مقصودة
أم كانت غير مقصودة.
• إن عملية النصب الكبرى تلك لم يكن يمكن لها أن تتحقق دون تمهيد الأرض
بخطاب يكرس الأسطورة والخرافة ويقتل العقل.
• حسب طرحه لجوهر العلمانية - والذي قد يُختلف فيه معه - : "ليست في
جوهرها سوى التأويل الحقيقي والفهم العلمي للدين، وليست ما يروج له المبطلون من
أنها الإلحاد الذي يفصل الدين عن الدولة والحياة.
• من أهم مبادي الفكر العلماني أنه لا سلطان على العقل إلا العقل.
• الجميع يتحدثون عن الإسلام دون أن يخامر أحدهم أدنى تردد ويدرك أن يطرح
في الحقيقة فهمه هو للإسلام أو لنصوصه.
• إن آلية "رد الظواهر إلى مبدأ واحد" تكاد تكون آلية فاعلة في
معظم جوانب الخطاب الديني.
• إن هذا الخطاب لا يتحمل أي خلاف جذري، وان اتسع صدره لبعض الخلافات
الجزئية،وكيف يحتمل الإختلاف الجذري وهو يزعم إمتلاكه للحقيقة الشاملة المطلقة ؟
• العلم الإلهي في حقيقته علم إنساني، بمعنى أنه يتحول إلى علم إنساني
بالفهم والتأويل.
▬ إن تحليل الخطاب يهتم أساساً بالبعد التداولي للغة، أي بما تقوم به من
تأثير من خلال الإتصال، وهذا ينفي عنه تماماً التفتيش في النيات والضمائر، أو
الدخول في عالم قبل "القول". ولذلك يسمى نفسه "علم تحليل
الخطاب" وينبو عن إستخدام مصطلح "تحليل الأفكار" لأن هذا الأخير
يوهم الدخول في نوايا المتكلم ويتوهم الوصول إلى المقصد الأصلي قبل الكلام، وهذا
فارق هام جداً يستحق التأكيد والإبراز. صــ28
▬ هذا هو الفارق بين "العقل الغيبي" و "العقل الديني"،
في حين يجد الأول تفسيراً لكل شيء في الإيمان، يسعى الثاني للكشف عن الأسباب
المباشرة للظواهر دون أن يتخلى عن "الإيمان". والواقع أن العقل الغيبي هو
العقل المستريح القابل لأي تفسير يضع يافطة الإيمان. صــ36
▬ أصحاب مقول "القدم" يقفون عن الإلهي ويتصورون للقرآن وجوداً
أزلياً في اللوح المحفوظ خارج التاريخ، أي أن للقرآن وجوداً خارج مصالح البشر
وخارج قوانين علاقتهم الإجتماعية. ومثل هذا التصور ينتج (الكهنوت) بكل تفاصيله
وظلاله الكنسية في العصور الوسطى. صــ48
[الخطاب الديني المعاصر .. آلياته ومنطلقاته الفكرية]
الآليات..
▬ لا يقوم الخطاب الديني بإلغاء المسافة المعرفية بين "الذات" و
"الموضوع" فقط، بل يتجاوز ذلك إلى إدعاء - ضمني - بقدرته على تجاوز كل
الشروط والعوائق الوجودية والمعرفية والوصول إلى القصد الإلهي الكامن في هذه
النصوص. وفي هذا الإدعاء الخطير لا يدرك الخطاب الديني المعاصر أنه يدخل منطقة
شائكة هي منطقة "الحديث بإسم الله"، وهي المنطقة التي تحاشى الخطاب
الإسلامي - على طول تاريخه عدا استثناءات قليلة لا يعتد بها - مقاربة تخومها. ومن
العجيب أن الخطاب المعاصر يعيب هذا المسلك ويندد به في حديثه عن موقف الكنيسة من
العلم والعلماء في القرون الوسطى. صــ78
▬ إن الحديث عن إسلام واحد ثابت المعنى، لا يبلغه إلا العلماء، يمثل جزءاً
من بنية آلية أوسع في الخطاب الديني. وليست هذه الآلية من البساطة والبداهة التي
تبدو بها في الوجدان والشعور الديني العادي والطبيعي، بل نجدها في الخطاب الديني
ذات ابعاد خطيرة تهدد المجتمع، وتكاد تشل فاعلية "العقل" في شئون الحياة
والواقع. ويعتمد الخطاب الديني في توظيفه لهذه الآلية على ذلك الشعور الديني
العادي، فيوظفها على أساس أنها إحدى مسلمات العقيدة التي لا تناقش. وإذا كانت كل
العقائد تؤمن بأن العالم مدين في وجوده إلى علة أولي أو مبدأ أول - هو الله في
الإسلام - فإن الخطاب الديني - لا العقيدة - هو الذي يقوم بتفسير كل الظواهر
الطبيعية والإجتماعية، بردها جميعها إلى ذلك المبدأ الأول. إنه يقوم بإحلال
"الله" في الواقه العيني المباشر، ويرد كل ما يقع فيه. وفي هذا الإحلال
يتم - تلقائياً - نفي الإنسان، كما يتم إلغاء "القوانين" الطبيعية
والإجتماعية، ومصادرة أية معرفة لا سند لها من الخطاب الديني، أو من سلطة العلماء.
صــ81
▬ ورغم هذا الموقف الإنتقائي "النفعي" من التراث - أو ربما بسببه
- لا يتورع الخطاب الديني عن التفاخر بهذا الجانب الذي يرفضه من التراث، ولكن هذا
التفاخر ينحصر في مجال المقارنة بين أوروبا القرون الوسطى وبين حضارة المسلمين،
وكيف تأثرت اوروبا بمنهج التفكير العقلي عند المسلمين خاصة في مجال العلوم
الطبيعية. وليست هذه المباهاة في حقيقتها إلا مبرراً يطرحه الخطاب الديني يسمح
للمسلم بـ"استيراد" الثمرات المادية للتقدم الأوربي والثورة الصناعية
بوصفها "بضاعتنا رُدت إلينا". إننا - طبقاً للخطاب الديني - نسترد ثمرات
"المنهج التجريبي" الذي أخذته أوروبا عن أسلافنا، لكننا لا نأخذ عنها ما
سوى ذلك من "كفر" والعياذ بالله، يقصد العلمانية، ذلك لأن اوروبا قطعت
ما بين المنهج الذي اقتبسته وبين أصوله الإعتقادية الإسلامية، وشردت بعيداً عن
الله في أثناء شرودها عن الكنيسة، التي كانت تستطيل على الناس بغياً وعدواناً بإسم
الله. وهكذا يخضع الإنجاز الأوروبي لمثل ما خضع له التراث من إنتقائية ونفعية.
صــ87
▬ وهكذا فالخطاب الديني حين يزعم إمتلاكه وحده للحقيقة المطلقة لا يقبل
الخلاف في الرأي إلا ما كان في الجزئيات والتفاصيل، وهنا يبدو تسامحه وإتساع صدره
واضحاً ومثيراً للإعجاب، يتسع للتشدد والتنطع، بل وللتطرف، ولكن الخلاف إذا تجاوز
السطح إلى الأعماق والجذور احتمي الخطاب الديني بدعوى الحقيقة المطلقة الشاملة
التي يمثلها، ولجأ إلى لغة الحسم واليقين والقطع، وهنا يذوب الغشاء الوهمي الذي يتصور
البعض أنه يفصل بين الإعتدال والتطرف. صــ90
▬ يبدو إهدار البعد التاريخي في تصور التطابق بين مشكلات الحاضر وهمومه
وبين مشكلات الماضي وهمومه، وإفتراض إمكانية صلاحية حلول الماضي للتطبيق على
الحاضر. ويكون الإستناد إلى سلطة السلف والتراث، وإعتماد نصوصهم بوصفها نصوصاً
أولية تتمتع بذات قداسة النصوص الأولية، تكثيفاً لآلية إهدار البعد التاريخي،
وكلتا الآليتين تساهم في تعميق إغتراب الإنسان والتستر على مشكلات الواقع الفعلية
في الخطاب الديني.صــ95
المنطلقات الفكرية..
▬ إن الإسلام جاء في نظر الخطاب الديني ليحرر الإنسان، لكن فهم هذا الخطاب
للتحرر الذي جاء به الإسلام يتم إختزاله في نقل مجال الحكامية من العقل البشري إلى
الوحي الإلهي : "إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها الثورة الشاملة
على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل
وضع في أرجاء الأرض، الحكم فيه للبشر بصورة من الصور، أو بتعبير مرادف : الألوهية
فيه للبشر في صورة من الصور، ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر ومصدر
السلطات فيه هم البشر هو تأليه للبشر يجعل بعضهم لبعض أرباباً من دون الله".
صــ105
▬ يتفق الخطاب الديني على أن النصوص قابلة لتجدد الفهم وإختلاف الإجتهاد في
الزمان والمكان، لكنه لا يتجاوز فهم الفقهاء لهذه الظاهرة، ولذلك يقصرها على
النصوص التشريعية دون نصوص العقائد، أو القصص، وعلى هذا التحديد لمجال الإجتهاد
يؤسس الخطاب الديني لمقولة صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، ويعارض إلى حد التكفير
الإجتهاد في مجال العقائد أو القصص الديني. صــ118
[التراث بين التأويل والتلوين]
▬ يناقش علماء القرآن الدلالة الإصطلاحية لمفهوم التأويل عادة بمقارنته
بدلالة مصطلح آخر هو "التفسير" ويحددون العلاقة بينهما بأنها علاقة
العام بالخاص، إذ يتعلق التفسيرعندهم بالرواية بينما يتعلق التأويل بالدراية،
وبعبارة أخرى يتعلق التفسير بــ"النقل" في حين يتعلق
"التأويل" بــ"العقل". صــ141
▬ إن تفرقة القدماء بين نمطين من التأويل أحدهما مقبول والآخر مذموم يمكن
أن تمثل - بعد نفي أساسها الأيديولوجي وتأصيل أساسها الإبستمولوجي - أساساً طيباً
لتفرقتنا هنا بين التأويل والتلوين. إن التعامل مع النصوص ،أو تأويلها،يجب أن
ينطلق من زاويتين لا تُغني إحداهما عن الأخرى، خاصة إذا كنا نتحدث عن نصوص تراثية:
الزاوية الأولى، زاوية التاريخ بالمعنى السسيولوجي لوضع النصوص في سياقها من أجل
اكتشاف دلالتها الأصلية، ويدخل في ذلك السياق التاريخي، وبالطبع السياق اللغوي
الخاص لتلك النصوص، والزاوية الثانية زاوية السياق الإجتماعي والثقافي الراهن الذي
يمثل دافع التوجه إلى تأويل - أو بالأحرى إعادة تأويل - تلك النصوص، وذلك من أجل
التفرقة بين الدلالة الأصلية التاريخية وبين "المغزى" الذي يمكن
إستنباطه من تلك الدلالة. صــ142
▬ إن كل الحجج النقلية هي في الحقيقة تركيب للنصوص على فرد معين، وإستعمال
لنص الوحي كنبوة أو توجيه ثم إختيار واقعة تاريخية معين كتحقيق لهذه النبوة،
وتحقيق لهذا التوجيه، ولذلك هطأ في التفسير إذ لا يجوز إسقاط الحاضر على الماضي
وقراءته فيه. صــ159
[قراءة النصوص الدينية]
▬ هناك المظاهر الإطلاقية والقداسة في المحاولات التي تبذل في شكل مؤتمرات
وندوات ومؤلفات موضوعات جميعاً ما يطلقون عليه اسم "الأسلمة" في جميع مجالات
النشاط الإنساني، وإذا كانت الدعوة إلى أسلمة القوانين بالإحتكام إلى الشريعة
الإسلامية أمراً مفهوماً في سياق تاريخنا الثقافي - رغم الخلاف حول مجالات التطبيق
وآلياته - فإن الدعوة إلى أسلمة العلوم والآداب والفنون دعوة ظاهرها الرحمة
وباطنها العذاب. إنها دعوة تؤدي إلى تحكيم الفكر الديني الخاضع لملابسات الزمان
والمكان والموقف الإجتماعي في مجالات فكرية، عقلية وإبداعية، لم تتعرض لها النصوص
الدينية، وإن حاول الفكر الديني دائماً بطرق تأويلية ملتوية أن يستنطق النصوص
الدينية بما يراه في المجالات المشار إليها.صــ198
▬ إن ما نعنيه بالوعي التاريخي العلمي بالنصوص الدينية يتجاوز اطروحات
الفكر الديني قديماً وحديثاً، ويعتمد على إنجازات العلوم اللغوية خاصة في مجال
دراسة النصوص، وإذا كان الفكر الديني يجعل قائل النصوص - الله - محور إهتمامه
ونقطة إنطلاقه فإننا نجعل المتلقي - الإنسان - بكل ما يحيط به من واقع إجتماعي
تاريخي - هو نقطة البدء والميعاد. إن معضلة الفكر الديني أنه يبدأ من تصورات
عقائدية مذهبية عن الطبيعة الإلهية والطبيعية الإنسانية وعلاقة كل منهما بالأخرى،
وبعبارة أخرى نجد المعنى مفروضاً على النصوص من خارجها، وهو بالضرورة معنى إنساني
تاريخي يحاول الفكر الديني دائماً أن يلبسه لباساً ميتافيزيقياً ليضفي عليه طابع
الأبدية والسرمدية في آن واحد. صــ200
▬ إذا كان الفكر الديني الإسلامي ينكر على الفكر الديني المسيحي
"توهم" طبيعة مزدوجة للسيد المسيح، ويصر على طبيعته البشرية، فإن
الإصرار على الطبيعة المزدوجة للنص القرآني وللنصوص الدينية بشكل عام يعد وقوعاً
في "التوهم" نفسه. وينتج في الحالتين عن إهدار الحقائق التاريخية
الموضوعية الملابسة للظاهرة، والتمسك باصلها الميتافيزيقي والإصرار على أنه المفسر
لها والمحدد لطبيعتها. ويعد "التوهم" من ثم حالة فكرية ثقافية تعكس
موقفاً أيديولوجياً في واقع تاريخي محدد. وإذا كان التوهم قد أدى إلى عبادة ابن
الإنسان في العقائد المسيحية، فإنه قد أدى في العقائد الإسلامية إلى القول بقدم
القرآن وأزليته بوصفه صفة قديمة من صفات الذات الإلهية كما سبقت الإشارة، وفي
الحالتين يتم نفي الإنسان وتغريبه عن واقعه لا لحساب الإلهي والمطلق كما يبدو على
السطح، بل لحساب الطبقة التي يتم إحلالها محل المطلق والإلهي. صــ205
▬ إن القول بإلهية النصوص والإصرار على طبيعتها الإلهية تلك يستلزم أن
البشر عاجزون بمناهجهم عن فهمها مالم تتدخل العناية الإلهية بوهب بعض البشر طاقات
خاصة تمكنهم من الفهم، وهذا بالضبط ما يقوله المتصوفة. وهكذا تتحول النصوص الدينية
إلى نصوص مستغلقة على فهم الإنسان العادي - مقصد الوحي وغايته - وتصبح النصوص
الدينية شفرة إلهية لا تحلها إلا قوة إلهية خاصة. صــ206
▬ ومن النصوص التي يجب أن تعتبر دلالالتها من قُبيل الشواهد التاريخي
النصوص الخاصة بالسحر والحسد والجن والشياطين، وقد حاولت بعض التفسيرات الحديثة
والعصرية تأويل الجن والشياطين على أساس من معطيات علم النفس الفرويدي بصفة خاصة
بأنها بعض القوى النفسية، ولكن هذه التأويلات لم تنطلق من أية أسس معرفية عن طبيعة
النصوص، بقدر ما كانت تهدف إلى غايات نفعية لنفي التعارض بين الدين والعلم. إنها
محاولة تلفيقية لا تزال مستمرة في الخطاب الديني وإن إتخذت صيغاً أخرى مثل
"أسلمة العلوم"، والفارق بين هذه الصيغة الأخيرة وبين سابقتها يتمثل في
أن الأخيرة تجعل الإسلام نقطة إرتكازها للتوفيق، في حين كانت الأولى تجعل العلم
نقطة الإرتكاز. صــ212
إن الفرق بين المعنى والمغزى من منظور دراستنا يتركز في بُعدين غير منفصلين
: البعد الأول أن المعنى ذو طابع تاريخي، أي أنه لا يمكن الوصول اليه إلا بالمعرفة
الدقيقة لكل من السياق اللغوي الداخلي والسياق الثقافي الإجتماعي الخارجي. والمغزى
- وإن كان لا ينفك عن المعنى بل يُلامسه وينطلق منه - ذو طابع معاصر، بمعنى أنه
محصلة لقراءة عصر غير عصر النص. وإذا لم يكن المغزى ملامساً للمعنى ومنطلقاً من
آفاقه تدخل القراءة داخل دائرة "التلوين" بقدر ما تتباعد عن دائرة
"التأويل". البعد الثاني للفرق بين المعنى والمغزى - وهو بعد يعد بمثابة
نتيجة للبعد الأول - أن المعنى يتمتع بقدر ملحوظ من الثبات النسبي، والمغزى ذو
طابع متحرك مع تغير آفاق القراءة وإن كانت
علاقته بالمعنى تضبط حركته وترشدها، أو هكذا يجب أن تفعل. صــ221
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق