Pages - Menu

الخميس، 22 ديسمبر 2016

حلم رجل مضحك (فيودور دوستويفسكي) ترجمة (ثائر زين الدين)


▬ أنا رجلٌ مضحك، وهم ينعتونني الآن بالمجنون، وقد كان من شأن هذا النعت أن يكونَ رفعًا من قدري لو أنهم تراجعوا عن اعتباري مضحكًا، كما فعلوا في السابق. لكنني بعد اليوم لن أغضبَ عليهم، فجميعهم لطفاء بالنسبة لي حتى وهم يهزؤون بي، بل لعلهم يصبحونَ أكثرَ لطفًا حينَ يفعلونَ ذلك، ولو لم أكن شديد الحزنِ وأنا أنظرُ إليهم لضحكتُ معهم - ليسَ على نفسي بالطبع - ولكن لكي أُسرّي عنهم، شديد الحزن لأني أراهم يجهلونَ الحقيقة؛ بينما أعرفُها أنا، ما أصعبَ الأمرَ على من يعرف الحقيقةَ وحده، إنهم لن يفهموا ذلك..

▬ كنتُ أسيرُ في الطريق فأُصطدمُ بالناس، والأمرُ ليسَ بسببِ استغراقي في التفكير: فبماذا سأفكر، يومها كنتُ قد توقفتُ عن التفكير في أي شيء: لقد استوت الأمورُ كلها في عيني، وما عدتُ أهتمُ لأمرٍ ولا فكرت في حل سؤال واحد؟ ثم هل كان ثمة أسئلة شغلتني؟ (لم أكن معنيًا بشيء) ولهذا تناثرت الأسئلة مبتعدة.

▬ لقد تصورتُ بوضوحٍ تام أن الحياةَ والعالمَ الآن إنما يتعلقانِ بي، ويمكنني حتى أن أقول: لكأنَ العالمَ قد وُجِدَ لأجلي وحدي، فيكفي أن أُطلَقَ النارَ عليَّ حتى يختفي العالمَ ولا يعودُ موجودًا، على الأقل بالنسبةِ لي؛ ولا أقول الآن أن لا شيءَ سيبقى في حقيقة الأمر للجميع من بعدي أنا، وما أن ينطفئُ وعيي حتى يتلاشى العالم كلهُ في اللحظةِ نفسها كما يتلاشى شبح، لأن كل هذا ينتمي إلى وعيي أنا وحدي، ربما لأن هذا العالمَ كله، والناس كلهم ليسوا سوى (أنا) وحدي [...] المسدسُ يضطجعُ أمامي على الطاولة، ولا بدُّ أنني سأنتحرُ؛ لكن هناك الأسئلة تثيرُ في أعماقي النار وتمنعني من الموتِ قبل أن أحلها [...] إن تلك الحياة التي تعلونَ من شأنها كنتُ سأنهيها بطلقة مُسدس، لكن حلمي، حلمي أنا - فقد حَمَلَ إليّ حياةً جديدة عظيمة متجددة وقوية!

▬ الأحلام، كما هو معروف، أشياءٌ غريبة، بعضها يُعرَضُ لك رهيبًا حادًا وجليًا بكل تفاصيله، كقطعةٍ نقديةٍ تَخرجُ من بين يدي الصائغ. وفي بعض الأحيان تسبحُ عبرَ الزمانِ والمكان ولا تلتقطُ شيئًا. من الجلي تمامًا أن ما يُحرّك الأحلام فينا هو الرغبة وليس العقل، هو القلب وليس الرأس، ورغم هذا فإن عقلي في أحيان كثيرة يلعب دورًا كبيرًا في أحلامي، ويطرحُ أشياءً عجيبة صعبة التفسير!. من ذلك أن أخًا توفي منذ خمس سنوات، وهو يظهر في أحلامي أحيانًا: فيشاركُ في أعمالي، ونشعرُ بمتعةٍ كبيرة، وخلال كل ذلك لا يغيب عن بالي أن أخي هذا ميتٌ ومدفون.

▬ على أرضنا لا نستطيع أن نحب إلا مع الألم والعذاب، وفقط من خلالهما، وإلا فإننا لا نستطيع أن نحب، بل لا نعرفُ حبًا آخر. لهذا أن أطلبُ العذابَ كي أتمكن أن أحب، كم أتعطش في هذه اللحظة أن أقبلَ الأرضَ وأغسلها بدموعي، تلك الأرض التي هجرتها والتي لا أريد، بل لا أستطيعُ العيشَ إلا عليها فقط!

▬ أنا إن خُدِعتُ فليس إلى زمنٍ طويل، لأنني رأيتُ الحقيقة، لقد رأيتُ وعرفتُ أن البشرَ يمكن أن يكونوا رائعين وسعداء دون أن يفقدوا القدرة على الحياة فوق سطح الأرض. أنا أريدُ ولا أستطيعُ أن أصدق أن الشر حالة طبيعية للإنسان، غير أنهم جميعًا يسخرون مني بسبب اعتقادي هذا، ولكن كيف بإمكاني ألا أؤمن بذلك: لقد رأيتُ الحقيقةَ ولم أختلق أمرًا ذهنيًا، لقد رأيتها.. رأيتها، وامتلأت روحي "بأنموذجها الحي" إلى الأبد. شاهدتُها في تجلّيها المطلق، ولم أصدّق أنها لن تتحقق عند البشر. وهكذا، كيف لي ألا أضل؟ وأنحرف، بالطبع سيحدثُ ذلكَ أكثرَ من مرة، وقد أتحدث بكلامٍ غريب، ولكن ليس لوقيتٍ طويل: فالأنموذج الذي رأيته سيبقى معي دائمًا، يُصحح لي ويوجهني..


▬ حلمٌ؟ وما هو الحُلم؟ وهل حياتنا أكثر من حلم؟ وسأقول أكثر من ذلك: فليكن أن كل ذلك لن يتحقق وأن الجنة لن توجد أبدًا (وأنا أفهم تمامًا ذلك) - لكنني رغم ذلك سأنطلق مبشرًأ، فما أسهل الأمر رغم كل شيء: فمن الممكنِ في يومٍ واحد، بل (في ساعةٍ واحدة) - أن يُعاد بناء كل شيء وبالسرعة القصوى؛ وإنما المهم - أن تُحبَّ الآخرين كما تحب نفسك، وهذا الأمرُ الرئيسي الذي لا يعدله أمر: فمتى حققتموه بنيتم الجنة. وبالمناسبة هذه حقيقةٌ قديمة قرأها البشرُ ورددها بلايين المرات. فكيف إذًا يمكن التعايش مع الفكرة التي تقول: "إن وعي الحياة فوق الحياة نفسها، ومعرفة قوانين السعادة هي أعلى من السعادة" - إن ما يجب النضال ضده هي هذه الفكرة بالتحديد! وسأفعل ذلك. ما إن يرغب الجميعُ في شيء حتى يتحقق من لحظتها.

هناك تعليق واحد: