• إنّ التقصد والتعمُّل والتكلف والتعجل أمور مناقضة لحوافز اللاشعور
ومفسدة لها.. لهذا فإن الحريص المتكالب على شيء يخطيء كثيراً ويصيب قليلاً، وقد
يضيع عليه قسط كبير من معالم النجاح. ص15
• لقد روى لنا الثقات قصصاً عديدة عن أفرادٍ كانوا يملكون القوى النفسية بدرجة
عظيمة في أوائل حياتهم ثم ضاعت عليهم تلك الملكة بعدما دخلوا المدرسة ومارسوا
التفكير المركز والتمرين في أعمالهم العقلية. ص 33
• إننا يمكننا تشبيه العقل البشري بجبل الجليد الطافي في البحار القطبية لا
يظهر منه إلا جزء صغير فوق سطح الماء أما الجزء الأكبر فقد انغمس في الماء لا يُرى
منه شيئاً. إن أغلب حركات الإنسان وسكناته يسيرها ذلك الجزء المنغمس من العقل.
وليس العقل الظاهرة إلا اخدوعة، الغرض منها التضليل والتمويه ووضع الطلاء والزخرفة
على حقائق الأشياء. ص 33
• لقد كان القدماء يعتقدون بأن الإنسان حيوان عاقل. والواقع أنه حيوان
متحذلق. فهو متعاقل لا عاقل، يتظاهرة بالتعقل وهو في الحقيقة مجنون.. على وجه من
الوجوه. ص35
• مما يؤسف له أن المثقفين بيننا قليلون والمتعلمين كثيرون. ومتعلمونا قد
بلغ غرورهم بما تعلموه مبلغاً لا يُحسدون عليه. وهذا هو السبب الذي جعل أحدهم لا
يتحمل رأياً مخالفاً لرأيه. ص46
• إن الإنسان لا يستطيع أن يتخلص من إطاره الفكري إلا نادراً. فهو فرض لازب
عليه. فالإطار شيء كامن في اللاشعور .. والإنسان لا يستطيع أن يتخلص من شيء لا
يشعر به. ص48
• ليس العجيب أن يختلف الناس في أذواقهم وميولهم ولكن العجب بالأحرى أن
يتخاصموا من أجل هذا الاختلاف. ص51
• إن العقل يقتبس من الحقيقة الخارجية جزءاً ثم يضيف إليها من عنده جزءاً
آخر ليكمل بذلك صورة الحقيقة كما يتخيلها. وهذا هو الذي جعل كل فرد منها يحمل معه
حقيقته الخاصة كما يحمل حقيبته. ص53
• قيل في أحد الأمثال الغربية: "غيّر معيشة الإنسان يتغير بذلك
تفكيره". وهذا صحيح إلى حدٍ بعيد. فالفقير الجائع لا يكاد لا يفهم الحقيقة
إلا على شكل رغيف. أما المدلل المتخوم فتراه مستهاماً بالمثل العليا التي لا فائدة
منها مثل الجمال الكامل أو الحق المطلق أو ما إلى ذلك من خزعبلات شوهاء. ص54
• يطلب المثالي من خصمه أن يفكر على أساس المنطق لكي يصل إلى الحقيقة، وهو
يقصد بالحقيقة حقيقته الخاصة التي تنفعه. ومعنى هذا أنه يريد من خِصمه أن ينحاز
إلى جانبه ويكون عوناًً له على الحياة. أما خِصمه فيداور ويراوغ لأنه هو نفسه يحمل
حقيقته الخاصة به ويريد الانتصار لها، هكذا ينشأ النزاع وتثور الفتن بين الناس.
ص54
• المضحك أن المثاليين يشغلون أنفسهم دائماً بالبحث وبالتساؤل عمن فرق هذه
الأمة أو شق كيان ذلك الدين. وتراهم لذلك في سباب متبادل ومشادة لا حد لها. وما
دروا أن كل حركة اجتماعية تحوي بذرة انشقاقها في صميم تكوينها. فهي لا تنجح حتى
تنقسم. مثلها في ذلك كمثل الأميبة التي لا تكاد تصل إلى حد معين في نموها حتى تنشق
إلى أميبتين، وكل واحدة منها تنشق بدورها إذا وصلت في نموها إلى الحد المعين. ص56
• إن المعرفة عند عامة الناس خاضعة للإرادة الحياة وهي مٌسيرة عادة في سبيل
المصالح الشخصية والمنافع الخاصة. أما عند العبقري فالمعرفة هي التي تسير الحياة.
ص70
• لعلنا لا نغالي إذا قلنا بأن انتصار منطق أرسطو واندحار السفسطة كان من
سوء حظ البشرية. فالسفسطة فلسفة لا تخلو من صواب، إذ هي تمثل وجهاً لا بأس به من
حقيقة الكون. ص78
• نستطيع أن نعتبر ابن خلدون أنه (هيجل) العرب. ففلسفته الاجتماعية تدور في
الغالب حول هذا (الديالكتيك) الذي يقوم على التناقض. وهو بهذا قد نسف القانون الذي
آمن به المناطقة القدماء وجعلوه نبراسهم الذي يهتدون به في تفكيرهم. ص88
• إن القوى النفسية تنبثق من أعماق اللاشعور انبثاقاً آنياً مباغتاً، فهي
لا تحتاج إلى مقدمات فكرية أو قياسات منطقية. إنها بالأحرى تحتاج إلى خمول أو ذهول
لا تكدره أية خلجة فكرية واعية. ص98
• يقول الخبراء في فن الكتابة الحديثة: أكتب أول خاطر يطرأ على ذهنك، ولا
تطول فيما تكتب، فإنك ستجد بعد لحظةٍ أن قلمك قد انسابَ في الموضوع انسياباً
عجيباً حيث تكتب بلباقة لا عهدَ لكَ بها من قبل. ص104
• إن إهمال الفرد لمفاهيم المجتمع وقيمه هو الذي يدعو المجتمع إلى وصمه
بوصمة الجنون. ولو تكاثر المجانين في مجتمع وبقي فيه فرد واحد عاقل لأصبح هذا
الفرد هو المجنون وصاروا هم العقلاء. ص107
• إن كل ناجح يصيبه الغرور قليلاً أو كثيراً، ولذا تراه يعزو نجاحه إلى
بُعد نظره وشدة سعية وقوة إرادته. والواقع أن للنجاح عوامل أخرى علاوة على هذه
العوامل التي يتبجح بهاالناجحون. ص111
• إن الذي يريد أن يرقى إلى منزلة رفيعة وهو غير موهوب بالصفات التي تؤهله
لها، يؤذي نفسه أكثر مما ينفعها. إن الإرادة وحدها لا تكفي أبداً لنوال شيء، وربما
كانت الإرادة عقبة في سبيل ذلك. فالإنسان ليس بالآلة الطيعة التي يمكن توجيهها في
أية ناحية نشاء. ص114
• إن شعار المربين عندنا يدور في معظمه حول عبارة "كن.. ولا تكن"
فهم يقولون للطفل: "أنت لا تشابه أولاد الناس.. فاجتهد حتى تكون مثلهم".
وهذه طريقة تؤدي إلى الضرر من ناحيتين: فهي تغرز في مخيلة الطفل صورة متشائمة عن
نفسه من ناحية، وهي تحرضه على إرادة النجاح من الناحية الأخرى. وهو يصبح إذن ضحية
من ضحايا قانون الجهد المعكوس - يريد النجاح في عقله الواعي بينما هو يريد الفشل
في عقله الباطن. ص121
• البرهان المنطقي لا يتعدى تأثيره في الغالب حدود العقل الواعي ولذا فهو
لا يؤثر في المخيلة إلا قليلاً. أما الكلمات التي نرسلها على البديهة فهي تنغرز
بعد تكرارها في اللاشعور وتصبح قوية الأثر في مصيرنا من حيث لا ندري. ص127
• إن القوى النفسية الخارقة أصبحت اليوم من الحقائق العلمية المقررة وقد
أخذت التجارب المختبرية تؤيدها تأييداً لا بأس به. ولكن الذي يخشى بعض الباحثين
منه هو أن تنتهي بهم هذه الأبحاث إلى اعتناق الأفكار الروحية القديمة التي ناضلوا
في القرون الماضية نضالاً طويلاً في سبيل القضاء عليها. ص143
• لقد آن للناسِ أن يدركوا سر الحظِ الذي خَفيَ على الأجيالِ الماضية، وأن
يلتفتوا إلى ما تحتوي عليه النفس البشرية من أفانين القوى التي تشتد في عملها كلما
غفلنا عنها وتعني بنا متى أهملناها. ص158
• إن العقل الباطن هو عقل الإيمان والعقيدة الراسخة، بينما العقل الظاهر هو
عقل التفكير والشك والتفلسف. فإذا أردت استخدام عقلك الباطن استخداماً صحيحاً، في
النوم أو غيره، وجب عليك أن تبتعد عن كل ما يدعو إلى التفكير والتدليل والتفلسف.
ص174
• إن العقل الباطن لا يعرف البرهان المنطقي ولا يستفيد منه. لا ينفع في
العقل الباطن إلا تكرار الفكرة التي لا جدال فيها ولا ريب. ولهذا كثر نجاح البلهاء
في الأمور التي تحتاج إلى الثقة ولا تحتاج إلى تالفكير والتدبير. ص176
• يعتقد المتصوفة أن هذه الخوارق التي يقومون بها آتية من صحة عقيدتهم،
والواقع أنها آتية من قوة عقيدهم لا صحتها. فقوة العقيدة وعمقها وتغلغلها في
اللاشعور هي التي تؤدي إلى ظهور الخوارق. ص185
• إن الصعود في مراقي النجاح لا يعتمد على سعي الفرد وحسن تدبيره دائماً.
فالفرد مقيد في هذا السبيل بقيود لا تُحصى. فهو إن استطاع أن يتحرر من قيوده
النفسية، مثلاً، وقفت في طريقه القيود الاجتماعية .. ص213
• الإنسان لا يستطيع أن يتجرد في تفكيره تجرداً تاماً إذ هو مقيد بقيود
نفسية واجتماعية وحضارية. وهذه القيود لا يحس بها الإنسان حين يفكر، فهي لا
شعورية، وهو يعتقد عادة بأنه حر في تفكيره بينما هو في الواقع مقيد في ذلك كل
التقييد. ص218
• من المؤسف حقاً أن نرى مدارسنا وكلياتنا تعني، في تربية طلابها، بالشعور
وحده وتهمل اللاشعور. وبعبارة أخرى: إنها تربي فيهم العقل الظاهر وتترك العقل
الباطن ينمو كما يهوى، وبذلك تخلق في تكوين شخصيتهم دواعي الازدواج البغيض. ص222
• لعلنا لا نغالي إذا قلنا: بأن المدرسة لا تتقن إلا طلاء الإنسان ولا
تزوِّق إلا مظهره، أما لُباب نفسه وأعماق عقله الباطن فالمدرسة لا تمسها إلا
قليلاً. ص232
===============================
▬ إن تركيب العقل البشري متماثل في جميع الناس سيان في ذلك بين المتعلمين
منهم وغير المتعلمين. فكل إنسان على عقله منظار أو إطار ينظر إلى الكون من خلاله،
وهو إذن لا يصدق بالأمور التي تقع خارج هذا الإطار. وكثيراً ما يختلف اثنان على
حقيقة من الحقائق: هذا يؤمن بها كأنه يراها رأي العين وذلك ينكر وجودها إنكاراً تاماً.
فإذا فحصنا مصدر الخلاف ووجدناه كامناً في الإطار الذي ينظر به كل منهما إلى
الحقيقة. إنهما ربما كانا على درجة متقاربة من الذكاء وقوة التفكير ولكن الإطار
الذي وضع على عقل كل منهما جعل أحدهما ينظر إلى الحقيقة من زاوية تختلف عن زاوية
الآخر.. إن من البلاهة إذاً أن نحاول اقناع غيرنا على رأي من الآراء بنفس البراهين
التي نقنع بها أنفسنا. يجدر بنا أن نغير وجهة إطاره الفكري أولاً وإذ ذاك نجده قد
مال إلى الإصغاء إلى براهيننا بشكل يدعو إلى العجب الشديد. صـ 13
▬ وإني أود أن أصارح القارىء بأني كنتُ في أيام شبابي ضحية من ضحايا هذا
المبدأ السخيف، مبدأ "من جد وجد". فقد كنت أضيع معظم أوقاتي بالكدح
والحرص والمثابرة ووضع الخطط ثم محاولة تنفيذها بدقة. وقد وجدت نفسي أخيراً أضعف
في معركة الحياة وأقل نجاحاً من أولئك المسترسلين الذين كانوا يسيرون على طبيعتهم
من غير تكلف أو حرص أو جهد كبير [..] مما لا ريب فيه أنه ليس هناك حظ بالمعنى الذي
يفهمه الناس عادة من هذه الكلمة. إن هناك بالأحرى قوى لا شعورية تنبثق من أغوار
النفس ويكون لها أثر لا يُستهان به في نجاح الفرد أو نبوغه أو تفوقه. والفرق الذي
نراه أحياناً بين فرد وآخر في مبلغ النجاح رغم تشابههما في السعي والذكاء ناتج في
الأغلب من كون أحدهما يسمح لقواه اللاشعورية بالإنبثاق ويستفيد منها في حياته
العملية، بينما يكدح الأآخر طول وقته ويجهد نفسه فيكبح بذلك تلك القوى ولا يُصغي
لحوادسها وحوافزها، ولذا تراه قد ابتعد رغم أنفه عن طريق النجاح [...] ونحن لا
نحاول بهذا أن نستصغر أهمية الإرادة والجهد والسعي أو ننكر أثرها في نجاح الفرد.
ولكننا نريد أن نعين لهذه الأمور حدها الذي تقف عنده ونوضح مجالها الذي ينبغي أن
لا تتعداه. فهناك أوقات يحتاج فيها الفرد إلى السعي والجهد. وهناك أوقات أخرى
تقتضي من الفرد الانسياب والاسترسال واللامبالاة وقلة الحرص. والسعيد هو من استطاع
أن يفرّق بين هذه الأوقات وتلك ثم يسلك في كل حين حسبما يقتضيه المقام. صـ 14 ، 15
▬ إن الإطار الفكري الذي ينظر الإنسان من خلاله إلى الكون مؤلف جزؤه الأكبر
من المصطلحات والمألوفات والمفترضات التي يوحي بها المجتمع إليه ويغرزها في أعماق
عقله الباطن. والإنسان إذن متأثر بها من حيث لا يشعر. فهو حين ينظر إلى ما حوله لا
يدرك أن نظرته مقيده ومحدودة. وكل يقينه أنه حر في تفكيره. وهنا يكمن الخطر، فهو
لا يكاد يرى أحداً يخالفه في رأيه حت يثور غاضباً ويتحفز للاعتداء عليه. وهو عندما
يعتدي على المخالف له بالرأي لا يعد ذلك شيئاً ولا ظلما إذ هو يعتقد بأن يجهاد في
سبيل الحقيقة ويكافح ضد الباطل. صــ 47
▬ لقد دل التاريخ على أن كل دين، مهما كان نوعه، لا يكاد ينتشر حتى ينشق
على نفسه؛ أي أنه لا يكاد ينتصر وينجح حتى تظهر فيه الفرق المتطاحنة والشيع
المتنابذة. وكل فرقة تدعي أنها هي الأحق والأعدل وأنها وحدها الناجية من دون الفرق
الأخرى. والعجيب أن نرى المؤرخين يعزون سبب التفرق في دين من الأديان إلى فلان أو
فلان من شخصيات التاريخ ثم يأخذون بذمه وصب اللعنات عليه على اعتبار أنه قد فرق
الأمة وشق عصا الجماعة. الواقع أن التفرقة طبيعة لازبة من طبائع العقل البشري.
والتفرقة لا تبدأ عادة إلا بعد النصر لأن نزاع المصالح يأخذ عند ذلك بالظهور..
فالجماعة تكون في فترة الكفاح الأولى متكتلة لا اختلاف فيها لأن مصلحة الفرد ومصلحة
المجموع تكون آنذاك واحدة. أما فإن يبدأ النصر وتنهال الغنائم، وحين يترف بضعة
أفراد على حساب الآخرين، فنجد غول التفرقة
قد أخذ يكشر عن أنيابه. صـ 55
▬ منطق أرسطو يريد أن يأخذ عن
الأمور صورة ثابتة مطلقة ويعتبرها نهائية. هذا بينما الحياة في حركة متواصلة والفوتوغراف
لا يمثل من حقيقتها إلا لحظة عابرة. فالمنطاقة القدماء قد يحكمون على شيء أنه خير
أو أنه شر ويظلون يتدرجون في أقيستهم المنطقية بعدئذٍ استناداً على حكمهم الأول
هذا - غير دارين بأن الشيء ربما تغير في طبيعته بعد صدور الحكم عليه، وهو ربما
أصبحَ خيراً بعدما كان شراً أو شراً بعدما كان خيراً. إنهم يعتبرون الشيء جاهزاً
قد انتهى أمره ولذا يعدون حكمهم عليه نهائياً لا يجوز فيه التبديل. والويل للشعب
الذي يحكمه أصحاب هذا المنطق، فالشعب في دأب متواصل وكفاح في سبيل العيش، بينما هم
قابعون في أبراجهم العالية يشرفون على الشعب من علٍ ويفرضون عليه أحكامهم الثابتة
النهائية. صـ 81
▬ يُقال إن بعض الخطباء البارعين
كانوا إذا وقفوا للخطابة ينسون أنفسهم، ويأخذ العرق بالتصبب منهم حتى في برد
الشتاء. وقد سُئل أحد هؤلاء الخطباء مرة عن سر براعته الخطابية، فأجاب: إنه حين
يرقى منصة الخطابة لا يدري ماذا سيقول. فهو يصبح في تلك الساعة شبيها بآلة المذياع
التي تتلقى أمواج محطة من محطات الإذاعة. إنه آنذاك يدخل في شبه ذهول أو غيبوبة
ولعله بهذه الطريقة يجعل ذهنه صافياً مستعداً لتلقي الأمواج النفسية من الحاضرين
ويستجيب لها على بديهته التي لا يعتريها التكلف والتصنع.. إن الخطابة الارتجالية
أو المحاضرة أو المناظرة أو ما أشبه تحتاج إلى استلهام اللاشعور أكثر مما تحتاج
إلى أي شيء آخر.. صــ 101
▬ إن الذين يحرضون أبناءهم على تقليد الغير هم في الحقيقة بدو قد ارتدوا
رداء المتمدنين. فالمجتمع البدوي لا يقوم على تنوع الاختصاص إلا قليلاً إذ هو
مجتمع غزو وسلب ونهب. والحياة البدوية منصبة في معظمها على تمجيد الشجاعة
والكرامة. فالبدوي ينهب الناس من جهة ليبذل ما سلب على ضيوفه من جهة أخرى. ولهذا
أصبح من الضروري على الوالد البدوي أن يحرض ولده على تقليد غيره. فثمة اختصاص واحد
ينبغي على أفراد القبيلة جميعاً أن يحذقوه. ومن يفشل فيه فقد حق له أن يبتئس وآن
له أن يفنى في ذلك المعترك الصحراوي العنيف. يمكن اعتبار الصحراء بمثابة الغربال،
إذ لا يبقى فيه إلا من كان قوياً جلداً يأكل ولا يؤكل. وهي كذلك مصنع ينتج نوعاً
واحداً من البشر - هم الأبطال الكرام. فالطفل البدوي إذن مضطر أن يكون بطلاً
كريماً أو يموت، حيث يأكله غيره من الأبطال الكرام. صـ 123
▬ إن الإبداع الفكري يحتاج، كما لا يَخفى، إلى أن يمر في مرحلتين هما مرحلة
الخزن ومرحلة الاجترار. وبعبارة أخرى أن كل مبدع أو مفكر يحتاج في أول الأمر إلى
عمل دائب حيث يجمع به المعلومات اللازمة فيخزنها في عقله الباطن لتختمر فيه وتنضج.
وهذه هي ما نسميها بمرحلة الخزن. فإن اجتاز المفكر هذه المرحلة، لجأ إلى المرحلة
الثانية وهي مرحلة الاجترار حيث تراه قد جلس بعيداً، كالبقرة التي تجتر ما خزنت في
كرشها من طعام غير مهضوم، وأخذ يسبح سادراً في خيالات تشبه أحلام اليقظة. إنه يترك
عقله الباطن آنذاك هائماً في خيالاته كما يشاء. وحينئذ تنبعث لديه معظم أفكار
الإبداع والابتكار والاختراع.. ومثل هذا يُقال عن أي شخص ماهر في مختلف الفنون
والحرف والصناعات. فالماهر تراه دؤوباً كادحاً حين يتمرن على فنه ويتعلم مبادئه
ولكنه عند الإنتاج ينسى نفسه وينغمر في عمله ويصبح آنذاك كالحالم الذي لا وعي له
ولا إرادة. صـ 137
▬ يحاول دعاة الحقيقة في كل حين أن يكاحفوا الأوهام بين الناس، وما دروا أن
الوهم ربما كان أنفع من الحقيقة أحياناً. فلو أن الإنسان عاش على الحقيقة وحدها
لفني منذ زمانٍ بعيد.. لقد جهزتنا المدنية الحديثة بكثير من الأدوية الناجعة
والوسائل المفيدة فأصبحنا نستطيع أن نستعيض بها عن اعتناق الأوهام والخرافات ولكن ماذا يصنع ذلك الفطري العائش في
غابات أفريقيا، أو هذا الريفي الساكن في قرية نائية منعزلة. إنه أمام الأمراض
والمخاطر وجهاً لوجه، وهو لا يملك تجاهها أية وسيلة مادية قادرة على وقايته منها.
إن من الضرر إذن أن نطلب من هذا الفطري أن يترك أوهامه وخرافاته ويصير واقعياً في
تفكيره.. إن الأوهام لها وظيفتها في كثير من الحضارات والمجتمعات، فهي كالدواء في
البيئة التي لا دواء فيها، وكالحجر الصحي
بين أولئك الذين لم يعرفوا بعد حقيقة الأمراض ومصدرها الميكروبي. صـ 198
▬ لو درسنا شخصية كل من الناجحين العظام لوجدناها غريبة الأطوار. فهي لا
تأخذ قالباً معيناً فتظل فيه زماً طويلاً. كل يوم هي في شأن. وهنا يظهر امتياز
الناجح العظيم عن الرجل العادي. فالرجل العادي له شخصية متحجرة لا تتغير ولا تتبدل
إلا نادراً. فأنت تستطيع أن تعرفه بسيماه في كل حين. أما الرجل العظيم فتراه
جياشاً لا يقر له قرار، فتارة تجده بارداً غير مكترث وتارة تجده جباراً وثاباً
يضرب الضربة فلا يثنيها. وهو حكيم أحياناً خرافي أحياناً أخرى، عاقل مرة مجنون
مرة. مؤمن في بعض أوقاته، مشكك في أوقاته الباقية.. إن شخصية العظيم في الواقع
شاذة. ومن المخجل أن نرى العاديين من الناس يريدون تقليد العظيم ويحاولون أن
يكونوا مثله، وشتان ما بين الثرى والثريا. إن العظمة مزيج غريب بين مواهب الشعور
واللاشعور. فالعظيم يسعى ويكد، ويدقق ويحقق، حتى إذا دنت ساعة الحسم يضرب ضربته
القاصمة التي لا تخضع لتدقيق ولا تحقيق. صــ 206
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق