نقاط
دونتها، ومنها ما هو موجود فى الكتاب نفسه ...
• دراسة كل وثيقة ينبغى أن نبدأ بتحليل مضمونها لغير غاية إلا تحديد فكرة
المؤلف الحقيقية .
• التفسير يمر بمرحلتين : المعنى الحرفى، والمعنى الحقيقى .
• من الأفضل معرفة اللغة الأساسية التى كتب بها النص ..
• لكل مؤلف طريقته الخاصة فى الكتابة .. ولهذا يجب أن ندرس لغة المؤلف .
• التعبير يختلف معناه بحسب الموضع الذى يوجد فيه .. (المعنى يفهم من
السياق) .
• إن لدراسات الكلمات أهمية بالغة فى علم التاريخ . فاللفظ الذى يفسر
تفسيراً خطأ يمكن أن يكون مصدراً لأغلاط فاحشة .. (فوستيل دى كولانج) .
• يجب أخذ الحيطة من التعبيرات المجازية التى يستعملها المؤلف فقد تغير
المعنى تماماً وتقلبه رأساً على عقب ..
• من المهم أن نفهم طبيعة الجمهور الذى يكتب له المؤلف ..
• إبحث دائماً عن المؤلف الذى تقرأ له .. هل هو جدير بالثقة أم لا .. ؟ وما
هى هفواته ..
• من المسحسن الإلتزام بقواعد الشك (المنهجى) عند التحقق من وثيقة أو مؤلف
تاريخى ما ..
• لما كان ديكارت قد نشأ فى عصر لم يكن التاريخ فيه غير ترديد للأخبار
السابقة، فإنه لم يجد ذريعة لتطبيق الشك المنهجى عليه ؛ ولهذا رفض أن يعترف بأن
للتاريخ طابعاً علمياً .
• والقول بأن وثيقة ما (صحيحة) لا يعنى إلا أن مصدرها وثيق، لا أن مضمونها
صحيح دقيق .. بإختصار تحقق من المضمون .
• إن إمكان البرهنة على واقعة تاريخية يتوقف على عدد الوثائق المستقلة
المحفوظة عندنا عن هذه الواقعة، وبقاء الوثائق يتوقف على المصادفة . وهكذا يفسر
دور المصادفة فى تكوين التاريخ
• التعصب لعرق أو لمذهب أو جماعة ... قد يجعل المؤلف يزيف الحقيقة .
مقدمة :
♠ ينقسم العمل فى كل علم الى نوعين من سلاسل العمليات هما : (مشاهدة)
الوقائع الجزئية بعزلها عن المجموع الذى تنسب اليه، ــ ثم المقارنة بينهما على نحو
يسمح بفهم (العلاقات) القائمة بينهما . والإنسان لا يستطيع أن يدرك بطريق مباشرة
إلا الوقائع التى على قياس حواسه : من موضوعات أو كائنات محسوسة ، أو علاقات
مباشرةً للتوالى أو علاقة العلة بالمعلول . وعلى الرغم من أنه لا يوجد حد واضح
متمايز بين كلتا السلسلتين، فالبحث فى الجملة، عن الواقع هو من شأن العلم
التحصيلى، وينقسم غالباً بين نوعين من المختصين : ناشرى الوثائق، ومؤلفى الرسائل
المفردة . أما البحث عن العلاقات فمن شأن التاريخ الذى يتخذ صورة مؤلفات عامة .
♠ والحق أن الموضوع الحقيقى للتاريخ هو سلسلة النتائج الواقعية التى
أحدثتها الأفعال، والأفعال هى التى ترصد ؛ لكن لا يمكن فهمها إلا بمعرفة (كيفية)
حدوثها ؛ بل من الصعب أيضاً رواية فعل دون بيان دواعيه . فلا يمكن أن نحكى كيف
اكتشف كلومبس أمريكا إلا ببيان خطئه فى معرفة الأبعاد الحقيقية للأرض . وكل الوقائع
التى تدرس بسبب نتائجها ، شأنها شأن عوارض المصادفات.لا يمكن أن تصنف إلا فى إطار
جغرافى تاريخى، وهى مادة التاريخ العام .
------------------------------------
[البحث عن الوثائق (الهورسطيقا)]
♠ التاريخ يصنع من وثائق . والوثائق هى الآثار التى خلفها أفكار السلف
وأفعالهم . والقليل جداً من هذه الأفعال والأفكار هو الذى يترك آثاراً محسوسة، إن
وجدت فنادراً ما تبقى : لأن عارضاً بسيطة قد يكفى لزوالها . وكل فكرة أو فعل لا
يخلف أثراً، مباشراً أو غير مباشر، أو طمست معالمه، هو أمر ضاع على التاريخ : كأن
لم يكن البتة . وبفقدان الوثائق صار تاريخ عصور متطاولة من ماضى الإنسانية مجهولاً
أبداً . إذ لا بديل عن الوثائق : وحيث لا وثائق .. لا تاريخ .
♠ ومن المرغوب فيه، من حيث المبدأ، ألا تكون مستودعات الوثائق (دور
المحفوظات ودور الكتب والمتاحف) كثيرة العدد جداً، ولقد قلنا إنه من حسن الحظ أنها
اليوم أقل جداً مما كانت عليه منذ مائة عام ..
♠ ولما كان معظم الوثائق التاريخية محفوظاً اليوم فى مسؤسسات عامة (دور
محفوظات ومكتبات ومتاحف) ، فإن الهورسطيقا لن تكون ميسورة تماماً إلا اذا وضعت
إثباتات وصفية لكل مستودعات الوثائق الموجودة، وكانت هذه الإثباتات مشفوعة بلوحات
وفهارس أو كانت لها كشافات عامة (أبجدية، وللموضوعات، الخ)، وإلا اذا كان من
الممكن مراجعة المجموعة الكاملة لكل هذه الإثباتات، وفهارسها فى مكان ما . بيد أن
علم الهورسطيقا شاق جداً لأن هذه الظروف لم تهيأ ويا للأسف حتى اليوم .
[العلوم المساعدة]
♠ لنفرض أن لدينا وثيقة مكتوبة، فكيف نستفيد منها إذا كنا لا نستطيع
قراءتها ؟ فإن الوثائق المصرية القديمة المكتوبة بالحروب الهيروغليفية، ظلت فى
الواقع حروفاً ميتة حتى جاء فرانسوا شامبليون . ومن المقرر أن الإشتغال بتاريخ
آشور القديم يستدعى بالضرورة معرفة قراءة الكتابات المسمارية . ولذلك إذا أراد
المرء القيام بأبحاث أصيلة تعتمد على الأصول فى ميدان التاريخ القديم أو ميدان
التاريخ الوسيط، فمن الحكمة أن يدرس كيف يقرأ النقوش والمخطوطات . وهذا هو السبب
فى أن علم النقوش اليونانية واللاتينية وقراءة الخط المستعمل فى العصور الوسطى،
أعنى مجموع المعارف الضرورية لقراءة النقوش والمخطوطات المتخلفة عن العصر القديم
والعصر الوسيط - كل هذا يعد بمثابة (علوم مساعدة) للتاريخ ؛ أو بعبارة أدق
للدراسات التاريخية المتعلقة بالعصر القديم والعصر الوسيط . صــ32
♠ وكم من الناس يخيل إليهم - دون أن يدرسوا اللغة الفرنسية واللغة
اللاتينية المستعملتين فى العصور الوسطى - أنهم يعرفونهما لأنهم يفهمون اللاتينى
الكلاسيكى والفرنسى الحديث، ويستبيحون لأنفسهم تفسير النصوص التى لا يدركون معناها
الحرفى، أو التى يبدو معناها غامضاً مع أنه واضح كل الوضوح ! وما أكثر الأخطاء
التاريخية التى ترجع الى سوء الفهم أو التفسير التقريبى للنصوص الصريحة، من جانب
باحثين لا يحسنون معرفة نحو اللغات القديمة وألفاظها أو معانيها الدقيقة . إن
الواجب منطقياً هو أن تسبق الأبحاث التاريخية بدراسات فيلولوجية راسخة، فى جميع
الأحوال التى لا تكون فيها الوثائق المستند إليها غير مكتوبة بلغة حديثة، ومفهومة
بغير مشقة . صــ33
العمليات التحليلة..
[الأحوال العامة للمعرفة التاريخية]
♠ إن الوقائع لا يمكن معرفتها تجريبياً إلا بطريقتين : إما مباشرة إذا
لوحظت وهى تحدث، أو بطريقة غير مباشرة بدراسة الآثار التى تركتها . فلنفرض حادثاً
وليكن زلزالاً مثلاً : فإنى أعرفه مباشرة ً إذا أنا حضرت هذه الظاهرة، وأعرفه
بطريقة غير مباشرة إذا كنت لم أحضره ولكنى
عانيت آثاره المادية (شقوق، جدران متداعية) ، أو إا قرأت وصفاً مكتوباً عنه، بعد
أن أمحيت آثاره، كتبه شخص شاهد بنفسه هذه الظاهرة، أو شاهد آثارها .. والخاصة
المميز "للوقائع التاريخية" هى أنها لا تدرك مباشرة ً بل وفقاً لآثارها . ولهذا فإن المعرفة التاريخية هى
بطبيعتها معرفة غير مباشرة . ولهذا السبب ينبغى أن يختلف منهج علم التاريخ
إختلافاً أساسياً عن منهج العلوم المباشرة، أعنى عن مناهج سائر العلوم (فيما عدا
الجيولوجيا) التى تعتمد على الملاحظة المباشرة . وعلم التاريخ مهما قيل فيه، ليس
علم ملاحظة .
والوقائع الماضية لا نعرفها إلا بما بقى لنا من آثار عنها . صحيح أن المؤرخ
يلاحظ هذه الآثار، وتسمى "الوثائق" ، يلاحظها مباشرة ً، لكنه ليس لديه
بعد ذلك ما يلاحظه، بل إبتداءً من هذه النقطة يسلك مسلك الإستدلال محاولاً أن
يستنتج الوقائع من الآثار الباقية على أصح وجه ممكن . فالوثيقة هى نقطة الإبتداء،
والواقعة الماضية هى نقطة الوصول . وبين نقطة الإبتداء ونقطة الوصول ينبغى المرور
بسلسلة مركبة من الإستدلالات المرتطبة بعضها ببعض، فيها فرص الخطأ عديدة ؛ وأقل
خطأ، سواء ارتكب فى البداية أو الوسط أو فى نهاية العمل، يمكن أن يفسد كل النتائج
. ومن هذا يتبين أن المنهج "التاريخى" ، أو غير المباشر، أدنى مرتبة من
منهج الملاحظة المباشرة، لكن ليس أمام المؤرخ خيار : فهذا المنهج التاريخى هو وحده
الموجود للوصول إلى الحقائق الماضية، وسنرى فيما بعد كيف يمكنه الوصول إلى معرفة
علمية، رغم الظروف السيئة . صــ43 ، 44
♠ يمكن التمييز بين نوعين من الوثائق . فأحياناً تترك الواقعة الماضية
أثراً مادياً (تمثاًلا أو معماراً أو شيئاً مصنوعاً) . وأحياناً وهو الأغلب يكون
أثر الواقعة نفسانياً : وصف أو رواية مكتوبة .. والحالة الأولى أبسط من الثانية
بكثير، فإن هناك علاقة ثابتة بين بعض الآثار المادية وأسبابها، وهذه العلاقة
معروفة جيداً أو تتحدد بقوانين فزيائية .. أما الأثر النفسانى فعلى العكس من ذلك
رمزى بحت : إنه ليس الواقعة نفسها، وليس الأثر المباشر للواقعة على عقل الشاهد، بل
هو مجرد علامة إصطلح عليها تدل على الأثر الذى تركته الواقعة فى عقل من شاهدها .
ولهذا فليس للوثائق المكتوبة قيمة بذاتها مثل الوثائق المادية، بل قيمتها هى من
حيث كونها علامات على عمليات نفسانية معقدة وصعبة التمييز . والغالبية العظمى من
الوثائق، التى تزود المؤرخ بنقطة إبتداء إستلالاته، ليس فى جملتها غير آثار
لعمليات نفسانية . صــ45
النقد الخارجى ..
[نقد التصحيح]
♠ إن من يكتب كتاباً اليوم يرسل الى المطبعة المخطوط الذى كتبه بيده، ويصحح
تجارب الطبع بيده، ويصدر أمر الطبع بنفسه . فإذا طبع الكتاب على هذا النحو فإنه من
حيث هو وثيقة يكون فى حال مادية جيدة . فأياً من كان المؤلف، وأياً ما كانت مشاعره
ومقاصده، فمن المؤكد .. وهذا هو ما يهمنا فى هذا المقام الآن ـــ أن بين أيدينا
صورة دقيقة تقريباً للنص الذى كتبه . وينبغى أن نقول "دقيقة تقريباً" ؛
لأنه إذا كان المؤلف قد تهاون فى تصحيح تجارب الطبع، أو إذا أهمل جماعو الحروف
والطابعون فى القيام بوضع تصحيحاته فإن صورة النص الأصلى، حتى فى هذه الحالة
الجيدة، تكون ناقصة . وليس من النادر أن نجد جماعى الحروف والطابعين يجعلون المؤلف
يقول أشياء غير التى أرادها ولا يفطن لها المؤلف إلا فيما بعد . صـ51
♠ وقد تقرر أن الموقف المعقول الوحيد هو أن نحدد أولاً العلاقات بين النسخ
بعضها وبعض .. وفى هذا السبيل نبدأ من مصادرة لا مشاحة فيها وهى : أن كل النسخ
التى تحتوى فى نفس المواضع على نفس الأغلاط هى نسخ منقول بعضها عن بعض أو نقلت
كلها عن نسخة كانت توجد فيها هذه الأغلاط . فليس من المعقول أن يرتكب نساخ
مختلفون، وهم ينقلون كل منهم من ناحيته عن الأصل الخالى من الأغلاط تماماً : وإذن
فالإتفاق فى الأغلاط شاهد على الإتفاق فى المصدر .. صــ60
[نقد المصدر]
♠ من غير المعقول أن ننشد معلومات عن واقعة ما فى أوراق شخص لم يعرف عنها
شيئاً ولم يكن فى وسعه أن يعرف عنها شيئاً . ولهذا ينبغى أن نتسائل أولاً ، حينما
نكون أمام وثيقة ما " "من أين أتت ؟ ومن مؤلفها ؟ وما تاريخها ؟
فالوثيقة التى لا يعرف شىء عن مؤلفها وتاريخها ومكان كتابتها ، وبالجملة مصدرها ،
هى وثيقة لا تفيد شيئاً .. صــ65
♠ أن أوراق إجابة طالبين (أحدهما مقعدة بجوار مقعد الآخر) بينهما صلة نسب .
فإذا طاب لهم ان يبحثوا أيهما نقل من الآخر، فإنهم يكتشفون ذلك بسهولة، برغم الحيل
الصغيرة (التغييرات الخفيفة فى بعض الكلمات، بعض التوسع، الإختصارات، الإضافات،
الحذف، النقل من موضع إلى آخر) التى أكثر منها الناقل (الغشاش) منعاً من الإشتباه
. فالأخطاء المشتركة تكفى لإكتشاف الجانبين . والأغلاط الغبية، وخصوصاً الأغلاط
الخاصة بالناقل والتى ترجع الى خصائص فى أوراق إجابة المنقول عنه تكشف عن أكثرها
جناية .. وكذلك فالنفترض وثيقتين قديمتين : فإذا كان مؤلف إحداهما قد نقل عن الآخر
مباشرة ً بغير وسيط، فمن السهل جداً على وجه العموم معرفة التسلسل فى النقل
(الإسناد) ، فإن الإختصار والحذف يكشفان دائماً تقريباً عن الناقل فى أى موضع حدثا
. صــ72
[الترتيب النقدى للمراجع]
♠ بفضل العمليات السابقة "وجدنا" الوثائق، كل الوثائق التى من
نوع معين تعلق بموضوع معين، أو هكذا نفترض : فنحن نعرف أين هى. ثم إن نص كل واحدة
منها قد صحح، ما إحتاج الى تصحيح . وكل منها قد أخذعت لنقدر المصدر : فعرفنا عمن
صدرت . وقد بقى علينا أن نجمع ونرتب منهجياً هذه المواد التى حققناها على هذا
النحو . وهذه العملية هى آخر العمليات التى يمكن عدها عمليات تحضيرية لأعمال النقد
العالى (الباطن) والتشييد . صــ77
♠ أما إذا لم تكن الوثائق مؤرخة، فينبغى أن نختار بين الترتيب الأبجدى
والترتيب الجغرافى والترتيب الموضوعى .. وتاريخ (محصل ) النقوش اللاتينية شاهد على
ما فى الأمر من صعوبة . "لقد كان التاريخ بحسب التواريخ مستحيلاً، لأن معظم
النقوش مجهولة التاريخ . ومنذ اسمتيوس تم التقسيم إلى أصناف، أى بحسب المضمون، دون
إعتبار للمصدر، فسمت إلى نقوش دينية ومقبرية وعسكرية وشعرية، وعامة وخاصة (أى ذات
طابع عام، أو لا تتعلق إلا بالأشخاص) ... إلخ
صــ82
[نقد التحصيل والعلماء المحصلون]
♠ مجموع العمليات التى ذكرناها فى الفصول السابقة (تصحيح النصوص، نقد
المصدر، جمع الوثائق وترتيبها) يؤلف الميدان الواسع للنقد الخارجى، أو نقد التحصيل
... صــ86
♠ ولن نمل من تكرار هذا القول : إن النقد الخارجى تحضيرى كله ؛ إنه وسيلة،
وليس غاية ؛ والمثل الأعلى أن يكون قد أنجز منه ما يكفى لكى نتمكن آنفاً من الإستغناء
عنه ؛ إنه مجرد ضرورة مؤقتة ... صـ88
♠ وفيما مضى كانت مهنة " العالم المحصل " و "المؤرخ "
متمايزتين تماماً . "فالمؤرخ" آنذاك بـ "التاريخ" ، دون أن
يكونوا على علم بما يقوم به العلماء المحصنون من أعمال . والعلماء المحصنون من
جانبهم وضعوا بأبحاثهم النقدية أساس التاريخ، لكنهم لم يهتموا بعملية التأريخ :
فإقتصروا على الجمع والتنقية والترتيب للوثائق التاريخية، ولم يهتموا بالتأريخ ولم
يفهموا الماضى خيراً من فهم عامة الناس فى عصرهم. وتصرف العلماء المحصلون وكأن
التحصيل غاية فى ذاته، وتصرف المؤرخون وكأنهم إستطاعوا أن يستعيدوا الوقائع
الماضية بقوة التفكير وحده وبالفن المتعلق بالوثائق السقيمة التى كانت ملكاً
مشتركاً . صــ89
النقد الباطن ..
[نقد التفسير (الهرمنيوطيقا)]
♠ إن كل من يقرأ نصاً ولا يهتم بفهمه إهتماماً تاماً لابد أن يحدث له أن
يقرأه من خلال إنطباعاته هو ؛ فينجذب إنتباهه فى الوثيقة على الجمل أو الكلمات
التى تتجاوب مع تصوراته هو ، وأن تتفق مع الفكرة السابقة التى كونها مقدماً عن
الواقع ؛ ودون أن يتبين ذلك ؛ تراه يفصل هذه الجمل أو هذه الكلمات ويؤلف منها نصاً
خيالياً ، ويضعه مكان النص الحقيقى الذى كتبه المؤلف . صــ111
♠ والميل الطبيعى هو أن نعطى الكلمة الواحدة معنى واضحاً أينما وجدناها .
فالإنسان بالطبيعة يعامل اللغة وكأنها نظام ثابت من الرموز . فإن هذا هو طابع
العلامات الموضوعة للإستعمال العلمى، كما فى الجبر والرموز الكميائية ؛ وفيها لكل
تعبير معنى محود، واحد ، مطلق ، لا تغير، ويعبر عن فكرة تحلل وتحدد بالدقة، فكرة
واحدة، تظل هى هى، أياً كان موضوعها، وأياً كان المؤلف الذى يستعملها . أما اللغة
العادية، التى تكتب بها الوثائق، فهى لغة عائمة ؛ وكل كلمة تعبر عن فكرة مركبة لم
تحدد بالدقة ؛ ولها معانٍ عديدة ، نسية ، متغيرة، فاللفظ يدل على أشياء كثيرة
مختلفة ؛ ويتخذ معانى مختلفة عند المؤلف الواحد تبعاً للسياق ، ويتغير معناه من
مؤلف إلى آخر وعلى مجرى الزمان . فكلمة vel
تدل فى اللاتينية الكلاسيكية دائماً على معنى "أو"، ولكنها تدل فى بعض
الفترات فى العصر الوسيط على معنى "و" (واو العطف) ؛ وكلمة suffragium تدل فى اللاتينية الكلاسيكية على "التصويت"، ولكنها فى
العصر الوسيط تدل على "النجدة" . ولهذا ينبغى أن نتعلم كيف نقاوم
الغريزة التى تدفعنا الى تفسير كل عبارات النص بالمعنى الكلاسيكى أو المعنى العادى
. والتفسير النحوى، القائم على القواعد العامة للغة ينبغى أن يكمل بالتفسير
التاريخى القائم على فحص كل حالة على حدى . صـ113
♠ بعد وصولنا أخيراً الى المعنى الحقيقى للنص نكون بذلك قد أنيهنا التحليل
الإيجابى .. والنتيجة هى التمكن من معرفة تصورات المؤلف، والصور التى كونها فى
ذهنه والأفكار العامة التى بها إمتثل العالم ... إلخ صـ119
[النقد الباطن السلبى للأمانة والدقة]
♠ إن التحليل والنقد الإيجابى للتفسير لا ينفذان إلى العمل الباطن الذى قام
به عقل مؤلف الوثيقة ولا يطالعننا إلا على أفكاره وحدها، ولا يعرفاننا مباشرة ً
شيئاً عن الوقائع الخارجية . وحتى لو كان قد إستطاع مشاهدتها، فإن النص الذى قدمه
لنا لا يدل إلا على كيفيه تصوره لها، لا كيف شاهدها فعلاً وعلى نحو أقل ماذا كانت
حقاً . وما يعبر عنه المؤلف ليس بالضرورة ما كان يعتقده، فالعله يكذب .. أخطأ ..
لم يحسن الوصف .. إلخ صـ121
♠ إن من أبرز صور المنقول الشفوى - الأسطورى - تنشأ فى جماعات من الناس
التى لا وسيلة عندهم للنقل غير الكلام، كالجماعات المتبربرة أو الطبقات القليلة
الثقافة، كالفلاحين والجنود . هنالك نرى جماع الوقائع ينتقل شفوياً ويتخذ شكلاً
أسطورياً . وفى بداية كل شعب نجد عصراً أسطورياً .. ففى اليونان، وروما، ولدى كل
الشعوب الجرمانية والسلافية نجد أن أقدم الذكريات للشعب تؤلف طبقة من الأساطير .
وفى العصور المتدينة يستمر الشعب محافظاً على أسطورته الشعبية فيما يتصل بالحوادث
التى تبهر خياله . والأسطورة هى المنقول الشفوى الخالص . صــ 141
[تحديد الوقائع الجزئية]
♠ ويمكن أن نتقدم خطوة أخرى فنقول إن التصورات ليست بنفسها وقائع نفسانية،
بيد أن الخيال لا يخلق موضوعاته، بل يأخذ عناصرها من الواقع. وأوصاف الوقائع
المتخيلة تشيد بالوقائع الخارجية التى شاهدها المؤلف من حوله صـ150
♠ إن وصف الوقائع المادية نفسه يمكن أن يكون من بنات أفكار المؤلف، وإبداع
خياله، وعناصره وحدها هى الحقيقة، فلا نستطيع إذن أن نؤكد غير الوجود المستقل
لعناصر لا يرد بعضها الى بعض : الشكل ، المادة ، اللون ، العدد . فحينما يتحدث
الشاعر عن أبواب من ذهب أو دروع من فضة ، فليس من المؤكد أنه وجد أوباب من ذهب أو
دروع من فضة، بل وجدت فقط أبواب ودروع وذهب وفضة . لهذا ينبغى أن ننزل فى التحليل
حتى العنصر الذى لابد أن المؤلف قد استمده من التجربة (الموضوعات، استعمالها،
الأعمال المعتادة) . صــ151
العمليات التركيبية ..
[الأحوال العامة للبناء التاريخى]
♠ إذا قرأنا عبارة فى وثيقة، تتكون فى عقلنا صورة بعملية تلقائية لا نملك
ضبطها . وهذه الصورة، الناتجة عن مماثلة سطحية هى فى العادة زائفة زيفاً غليظاً .
وكل منا يمكنه أن يجد فى ذكرياته الطريقة المحالة التى تصور بها الأشخاص والمناظر
الماضية . وعمل التاريخ هو تصحيح صورنا تدريجياً بأن نضع مكان اللمحات الزائفة
لمحات صحيحة . فقد رأينا ناساً شعرهم أشقر، ودروعاً ، وبلطات فرنجية (أو رسوماً
لهذه الأشياء)، فنقرب هذه الملامح لتصحيح الصورة التى كوناها عن المحاربين الفرنجة
. وهكذا تصبح الصورة التاريخية مزيجاً من الملامح المستعارة من تجارب مختلفة .
صـ169
♠ إن التحليل النقدى قد أمدنا بالمواد، غير أن هذه ليست إلا وقائع تاريخية
متناثرة . فنبدأ بتصورها على غرار الوقائع الحالية التى نظنها مماثلة لها، ونعمل
على بلوغ أشبه صورة بتلك التى كانت ستعطينا إياها المشاهدة المباشرة، وذلك بمزج
شذرات مأخوذة من مواضع مختلفة فى الحقيقة الواقعية . تلك هى العملية الأولى، وهى
مرتبطة بقراءة الوثائق إرتباطاً لا إنفصام له . صـ179
♠ إن العمليات التاريخية إبتداء من إكتشاف الوثيقة حتى الصياغة النهائية
للنتيجة، هى من التعدد وتقتضى إحتياطات دقيقة وإستعدادات طبيعية وعادات متنوعة
بحيث لا يمكن فرداً واحداً أن يقوم هو نفسه بالعمل كله . فالتاريخ أقل العلوم
استغناء عن تقسيم العمل، ومع ذلك فهو أقلها ممارسة له . إذ يحدث أن يكتب علماء
محصلون تواريخ لم يختبروا قيمتها . ذلك أن تقسيم العمل يتضمن تفاهماً بين
العاملين، وهذا التفاهم غير موجود فى ميدان التاريخ . فكل مؤرخ اللهم إلا فى
العمليات التحضيرية للنقد الخارجى، يسلك سبيله وفقاً لإلهامه الشخصى، بغير منهج
مشترك، وبغير إهتمام بالمجموع الذى ينبغى أن يأتى عمله فيحتل مكانه فيه ... صــ180
[تجميع الوقائع]
♠ لا تكشف الوثائق إلا عن وقائع عامة : صور لغوية، شعائر ذاتية، قواعد
قانونية . ولابد من مجهود فى التخيل لتصور الإنسان الذى قال هذه الكلمة ، أو أدى
هذه الشعير ، أو مارس تلك القاعدة ... وهكذا نرى أن التاريخ مضطر إلى أن يمزج
بدراسة الوقائع العامة دراسة بعض الوقائع الجزئية . إن طابعه مزيج، غير محدد بل
متردد بين علم العموميات وحاية المغامرات . وصعوبة ترتيب هذا المزيج الهجين فى
داخل إحدى مقولات الفكر الإنسانى يعبر عنها غالباً بالسؤال الصبيانى : هل التاريخ
فن أو علم ؟ صـ188
♠ ولتشييد التاريخ العام ينبغى البحث عن كل الوقائع التى يمكن أن تفسر حال
المجتمع أو احد تطوراته، لأنها أحدثت فيه تغييرات . وينبغى البحث عنها فى كل أنواع
الوقائع : إنتقال السكان، التجديدات الفنية والعلمية والدينية والصناعية والفنية
وتغير الهئية الحاكمة، والثورات والحروب وإكتشاف الأقطار ... صــ195
[البرهان البنائى]
♠ تدل التجربة على أن البرهان هو أصعب عمليات المعرفة التاريخية ممارسة على
الوجه الصحيح، وهو الذى أدخل فحش الأخطاء . ولهذا ينبغى ألا نستعمله إلا محوطاً بالإحتياطات
حتى لا نغفل أبداً عن الخطر . صـ199
♠ وينبغى أن نتوقع أنه نادراً ما تتحقق شروط البرهان اليقينى ؛ فنحن لا
نعرف قوانين الحياة الإجتماعية إلا معرفة ناقصة، ولا نعرف التفاصيل الدقيقة
للواقعة التاريخية إلا نادراً . ولهذا فإن معظم البراهيم لا تعطى إلا مجرد دعاوى
محتملة، لا يقيناً . لكن الأمر فى البراهين كالأمر فى الوثائق . إذا تواطأت عدة
وثائق على معنى واحد، فإنها يؤيد بعها بعضاً وتحدث اليقين المشروع . والتاريخ
يملاً جزءاً من النقص بحشد البراهين . ولقد بقى الشك حول النشأة الفينيقية من
البلاد اليونانية، ولكن لا شك فى وجود الفينيقيين فى بلاد اليونان . صــ205
[تشييد الصيغ العامة]
♠ وهكذا سنرى تعارضاً بين الحاجة إلى الإيجاز، التى تفضى الى البحث عن صيغ
عينية وبين ضرورة التدقيق التى تلزمنا بإتخاذ صيغ مفصلة . إن الصيغ الموجزة جداً
تجعل العلم غامضاً وهمياً، والصيغ الطويلة جداً تثقل كاهلة وتجعله عديم الفائدة .
ولا سبيل إلى تفادى هذا الإنفصال إلا بحل وسط مستمر، مبدؤه هو إحكام الوقائع بحذف
كل ما ليس ضرورياً كل الضرورة لإمتثالها، والوقوف عند النقطة التى فيها نزيل شيئاً
من خصائصها المميزة . صــ207
♠ ولوضع الصيغة الوصفية لشخص تاريخى ينبغى إختيار ملامح فى ترجمة حياته وفى
عاداته . فمن ترجمة حياته نأخذ الوقائع التى حددث مهنته، وكونت عاداته، وأدت إلى
الأفعال التى أثر بها على المجتمع . إنها الأحوال الفسيلوجية (الجسم، المزاج ،
الصحة) ، وألوان التنشئة التى تلقاها، والأحوال الإجتماعية . وتاريخ الأدب عودنا
على مباحث من هذا القبيل .. صـ213
♠ إن الميل الطبيعى يتجه إلى إهمال نتائج النقد أثناء البناء، وإلى نسيان
ما هناك من نقص أو إرتياب فى معارفنا، تدفعنا رغبة قوية فى تنمية جملة معلوماتنا
ونتائجها إلى التخلص من كل التقييدات السلبية . فهناك خطر كبير فى أن نكوِّن
لأنفسنا معلومات متناثرة مبهمة لفكرة إجمالية وكأن لدينا لوحة كاملة .. ونحن ننسى
بسهولة وجود الوقائع التى لا تصفها الوثائق (الوقائع الإقتصادية، العبيد فى العنصر
القديم) ؛ ونبالغ فى شأن المكانة التى تحتلها الوقائع المعروفة (الفن اليونانى،
النقوش الرومانية، أديرة العصور الوسطى) . وبالغريزة نقدر أهمية الوقائع بحسب كمية
الوثائق التى تتحدث عنها .. وننسى الطبيعة الخاصة للوثائق . وإذا كانت جميعها من
مصدر واحد ، ننسى أنها أحدثت فى الوقائع نفس التحريف وأن إشتراكهما فى المصدر يجعل
الضبط مستحيلاً ؛ ونحتفظ طواعية بلون المنقول (رومانى، أرثذوكسى، أرستقراطى .. )
صــ220
♠ يمكننا مقارنة الأصناف المتشابهة من الوقائع الخاصة : اللغات، الأديان،
الفنون، الحكومات، وذلك بأن نأخذها من الإنسانية كلها وأن نقارنها بعضها ببعض وأن
نضع فى صنف واحد أكثرها شبهاً ببعض ، فنحصل بذلك على أسر لغات، وأديان، وحكومات
يمكن محاولة ترتيبها فيما بعد . وهذا تصنيف مجرد، يعزل نوعاً من الوقائع عن سائر
الوقائع، متخلياً بذلك عن بلوغ الأسباب وميزة هذا اللون من التصنيف أنه يتم بسرعة
وأنه يتأدى بنا إلى مصطلحات فنية يمكن أن تسهل تسمية الوقائع .. صـ221
// خلال حديثه عن نشوء ما يسمى بـ "فلسفة التاريخ" والبحث عن
العلل البعيدة للوقائع التاريخية //
♠ يبدأ الميل إلى تفسير الوقائع التاريخية بأسباب عالية لا يزال قائماً فى
نظريات تلبس فيها الميتافيزيقا أشكالاً علمية . والمؤرخون فى القرن التاسع عشر قد
تأثروا تأثراً بالغاً بالتربية الفلسفية إلى حد أن الكثيرين منهم أدخلوا - على غير
وعى منهم أحياناً - صيغاً ميتافيزيقية فى بناء التاريخ . ويكفى أن نعدد هذه النظم
وأن نبين طابعها الميتافيزيقى من أجل أن ينتبه المؤرخون العقلاء وأن يرتابوا فيها
. صــ224
♠ ومع ذلك فالواقع هو أن المؤرخين كثيراً ما يستخدمون فكرة العلة وهى فكرة
لا غنى عنها - كما بينا من قبل - لصياغة الحوادث وبناء الصور .. ذلك أنهم يعرفون
الأسباب إما بواسطة مؤلفى الوثائق الذين لاحظوا الوقائع أو بالمماثلة مع العلل
الحالية التى شاهدها كل منهم، وتاريخ الحوادث بأسره تسلسل بين لا مراء فيه من
الحوادث التى كل منها علة محددة للأخرى، فضربة الرمح التى سددها مونتجمرى هى السبب
فى موت هنرى الثانى، وهذا الموت هو السبب فى مجىء آل دى جيز Guises
إلى الحكم ، وهذا لإنتفاضة حزب البروتستنت . صـ 228
♠ وللبحث عن أسباب الوقائع العامة، يرتد البناء التاريخى إلى التماثل بين
الماضى والحاضر، فإن كان من حظه أن يجد الأسباب التى تفسر تطور المجتمعات الماضية،
فلن يكون ذلك إلا بملاحظة التحولات فى المجتمعات الحاضرة .. من نفس الصفة .
[العرض]
♠ إن منذ خمسين خلصت وتكونت الأشكال العلمية للعرض التاريخى، فى تناسب مع
النظرة العامة القائلة بأن الغاية من التاريخ ليست إشاعة السرور ولا تقديم وصفات
عملية للسير وفقاً لها ، ولا الإثارة ، بل مجرد المعرفة والعلم .. صــ238
♠ إن معايب المؤلفات التاريخية المتوجهة إلى الجمهور غير المختص - وهى معايب
شنيعة فى بعض الأحيان - مما جعل التبسيط نفسه متهماً فى نظر كثير من العقول الجيدة
. هى من نتائج عدم كفاية الإعداد أو سوء التنشئة الأدبية التى تلقاها القائمون
بالتبسيط (المبسطون) صـ245
خاتمة ..
♠ ليس التاريخ غير إستثمار الوثائق
. لكن بقاء الوثائق أو ضياعها يتوقف على الصدفة والبخت . ومن هنا كان للصدفة دور
حاسم سائد فى تشييد التاريخ .
♠ إن المؤرخ لا يجمع بنفسه المواد الضرورية اللازمة للتأريخ، عن طريق
الملاحظة كما هى الحال فى سائر العلوم : بل يعمل فى وقائع نقلها مشاهدون سابقون .
والمعرفة، فى التاريخ لا تكتسب بطرق مباشرة، كما فى سائر العلوم : بل هى غير
مباشرة، وليس التاريخ كما قيل علماً من علوم الملاحظة، بل هو علم برهنة .
♠ وإنه لوهم عتيق أن نعتقد أن التاريخ يزودنا بنصائح عملية تفيد فى السلوك
(التاريخ أستاذ الحياة) ، وبدروس تفيد الأفراد مباشرة ً والشعوب : فإن الظروف التى
تحدث فيها الأفعال الإنسانية من النادر أن تتشابه بين زمان وزمان بحيث يمكن تطبيق
(دروس التاريخ) تطبيقاً مباشراً . لكن من الخطأ أيضاً، فى مقابل ذلك، أن نقول (إن
الصفة المميزة للتاريخ هى أنه لا يفيد فى شىء) . ذلك أن له فائدة غير مباشرة . صـ250
يمكنك متابعة دراسة موضوعية عن الجزء المتبقى من الكتاب (نقد النص)
------------------------------------------------------------------------
روعة شكرا استاذ
ردحذف