فلسفة التذوق الفني (غادة الإمام، بدر الدين مصطفى)

• الفنان يبدأ بالواقع ولكن على النحو الذي يعيد فيه تشكيل وإبداع هذا الواقع من جديد، بحيث يبدو كوجود جديد لم نتلق به من قبل ولن نلتمس له وجوداً خارج الصورة الفنية.
• إنني (كقاريء) أتجه لأقيم في الطوابع الأدبية التي يقدمها الشعراء لي؛ فصورة البيت تطالبني بأن أسكن فيها ببساطة، وبكل الأمان الذي تمنحه تلك البساطة. (باشلار)

============================
▬ إن الفن - كما يرى هيدجر - إبداع أصيل يعبر عن الوجود ويجسده من خلال العمل الفني. ومن ثم، يحاول هيدجر إيضاح كيف يكون الفن في علاقة ضرورية مع الوجود والحقيقة حينما يسهم العمل الفني في تكشف حقيقة شيء ما من خلال ما يسميه بإبداعية العمل الفني Creativity of the work of art. وبالتالي، ينظر للعمل الفني على أنه يقول لنا شيئاً ما له صلة وثيقة بالوجود والحياة، وليس مجرد صياغة أو تشكيل جمالي خالص يخاطب متعتنا الجمالية. صــ 34

▬ ينبهنا باشلار إلى المكانة الخاصة للذاكرة في العملية الإبداعية بوصفها إحدى الركائز الرئيسية في هذه العملية، فهي الوعاء الذي يحوي ماضي الإنسان بكل ذكرياته وأحلامه وصوره المتخيَّلة. فالذاكرة - حقاً - هي جزء من وعي المبدع؛ إذ أنها: "تُمكن المبدع من وصل لحظة الإدراك المباشر باللحظات الماضية التي حملت إليه انطباعات مماثلة. فالشاعر يقوم بتوظيف الماضي والحاضر. بحيث ينطلق من ذكريات طفولته متجهاً نحو المستقبل، أي نحو ما سيأتي، نحو كل ما هو جديد في الصورة الشعرية. صــ 53

▬ إن الأثر الكبير للحب، كما يستشهد باشلار هنا بقول هيتشكوك، هو رد كل شيء إلى طبيعته بالذات، هي كلها طيبة ولطافة وكمال. فالفنان - إذن - حينما يُشكل مادته، فإنه ببساطة يحاول إحياء وبعث أحلامه وذكرياته وصوره المتخيلة في المادة، وكأنه - بذلك - يبعث الحياة في المادة نفسها. هذه المادة التي يجسد من خلالها - ويجلب إليها - حبه للطبيعة ذاتها، وإنصاته إليها، وليس مجرد - كالحال عند الصانع - الانتفاع بها أو استهلاكها. فالحب إذن هو الرابط بين الفنان والمادة؛ بل والفنان والطبيعة. صــ 57

▬ يرى باشلار أنه من الضروي أن يضع المتلقي هذا الوصف للصور الشعرية على محور القصدية، أي أن أهتم باعتباري متلقياً للصورة الشعرية أن أصف ماهيتها بدءاً من الصورة نفسها من خلال الانفتاح عليها والمشاركة في عالمها والإنصات إلى رنينها، حتى ألتحم بعالمها وأشعر بأنه عالمي الخاص بي، والذي ينبع من شعوري بأن الصورة نفسها تخصني إلى حد أن أقول لنفسي: "آه! ليت هذه الصورة التي رأيتها لتكون هي صورتي، حقاً صورتي، ليتها تصبح - وهذا يمثل قمة كبرياء القاريء - عملي!. أي عظمة قراءة لو استطاع القاريء بمساعدة الشاعر أن يحيا القصدية الشعرية!، أو بالأحرى قصدية الخيال الشعري الذي يتجه نحو إبداع كل ما يُجدد وُيثري العالم، ويعيد له نبض الحياة من جديد. فهنا يرى باشلار أن القاريء - كي يكون قارئاً حقاً - ينبغي أن يتخيل ويحلم ويتذكر حينما يقرأ. صــ 80

▬ الشعراء يقنعوننا بأن جميع أحلام يقظة الطفل جديرة بأن نحياها من جديد. وبالتالي فإن المسألة المطروحة هنا هي أننا نستطيع تعميق وإيقاظ حالة طفولتنا من جديد من خلال قراءة الشعراء. وأحياناً بفضل صورة الشاعر وحدها، طفولة تذهب أبعد من ذكريات طفولتنا، وكأن الشاعر يجعلنا نكمل، بل وننهي طفولة لم تنتهِ تماماً، مع أنها طفولتنا نحن. صـ 84

▬ إعتاد ممثلو النقد السيكولوجي أثناء تقييمهم لقصيدة ما - مثلاً - على تحويل الصورة الشعرية إلى صورة عقلية؛ وذلك حينما يحاولون فهمها، وإيجاد سبب لتفسيرها، في حين أن ما يميز الصورة الشعرية بخلاف ذلك - ثراء المعنى، ثقل تعدد المعنى، فإنها - بذلك - لا تتقيد أبداً بالتفسير. أو بمعنى آخر، إن الصورة الشعرية تتميز بأنها متعددة المعاني... في قولنا "إنه يفهم الصورة" وتلك هي المشكلة بالنسبة للمحلل النفسي والناقد الأدبي والسيكولوجي؛ إذ تبقى الصورة الشعرية عنده مجرد "مضمون" يحاول تفسيره، حينما يفسره فإنه يترجم الصورة إلى لغة أخرى، لغات مغايرة عن لغة اللوغوس أو القول الشعري. ومن ثم فلا تصيبنا الدهشة حينما نجد باشلار يصفه بأنه شأنه شأن المترجم، وكل مترجم - بالنسبة لباشلار - خائن. فإنه ينطلق في نقده من أسس ومعايير موضوعية باحثاً عن أسباب إبداع الصورة في نفس المبدع مما يحول بينه وبين الانفتاح على الصورة، والمشاركة في عالمها والإنصات للصوت الشعري المنبعث منها. وهذا ما يرفضه باشلار بشدة. صــ 89

▬ يرى باشلار أن تفسيرات النقد الأدبي السيكولوجي تعد محدودة وآلية؛ إذ أنها تنطلق من تصورات مسبقة تنظر للعمل الفني بوصفه مرآة الحياة؛ وبالتالي ينبغي العودة إلى الحياة عند تفسيرها والحكم عليها. ولهذا، فإن هذا التوجه النقدي يعد - بالنسبة لباشلار - غير منطقي؛ إذا أنه يغفل عن حقيقة بسيطة، ألا وهي أن القصائد - وحقاً، الأدب وكل الأعمال الفنية - قد أٌبدِعت على النحو الذي تمثل فيها انفصالاً عن الحياة، أو بالأحرى تجاوزاً عنها. فإنها - بإيجاز: عمل العبقري.. فالكاتب ينفصل عن كل شيء، يوجد بالفعل، ينفصل عن حياته الباطنية، بقدر ما ينفصل عن أفكاره. صــ 91

▬ لا يريد باشلار الاقتراب من العمل الأدبي بوجه خاص - والعمل الفني بوجه عام - بوصفه انعكاساً لمعاناة الفنان أو مرآة لحياته الشخصية ولسماته السيكولوجية، أو لظروف مجتمعه الأخلاقية والاجتماعية والفكرية. أو بإيجاز، إنه لا يريد أن يكون قارئاً موضوعياً يتعامل مع العمل الفني كموضوع يدرسه من الخارج ويُحكم السيطرة عليه؛ وإنما - بخلاف ذلك - إنه القاريء الذي يتعامل مع العمل الفني بوصفه ذاتاً ينفتح على عالمها ويشاركها حلمها وذكرياتها الماضية، أي أنه لا يفكر - عند الانفتاح على الصورة - في شيء ما آخر سوى الصورة. إنه - بإيجاز - قاريء مغامر يتخيل ويحلم ويتذكر ويكتب وهو يقرأ. صــ 104 ، 105

▬ لو طرحنا على أحد الشكلانيين السؤال التالي: هل الحقيقة هامة للفن بوصفه فناً ؟ لأجاب علينا بقوله: "إن المرء يمكن أن يؤكد على أن أي عمل يظهر على الصورة المعبرة هو عمل فني. ومثل هذه الأعمال فحسب تعد بمثابة أعمال فنية". وفي هذه الحالة بالنسبة للشكلانيين، فكل الحقائق وكل قيم الحياة مهما كان لا يؤخذ بها فنياً؛ إذ إنها تمثل عناصر دخيلة على العمل الفني بوصفه موضوعاً جمالياً، الذي يبقى ويخلد في وجدان الإنسان بفضل العلاقات الكائنة بين العناصر التشكيلية وحدها. فدلالة العمل الفني تكمن في باطنه، فهو لا يمثل شيئاً خارجه.. وتتجلى هذه الرؤية للفن بصورة أوضح في نظرة الشكلانيين للموسيقى؛ إذا أنها مجرد أصوات في حركة لا تعني أي شيء، ولا تشير على الإطلاق إلى أي شيء يقوم خارجها، أي ما تعنيه الموسيقى يكون معنى موسيقياً خالصاً. وبهذا المعنى تكون الموسيقى مجرد تشكيل صوتي زماني خالص. وتتضح تلك الرؤية للموسيقى بصورة واضحة قوية لدى هانزليك في كتابه "الجميل في الموسيقى"؛ إذ يرى أن الجميل في الموسيقى ذو طبيعة موسيقية، وهو يعني بذلك أن الجميل هنا لا يكون متوقفاً على - ولا محتاجاً إلى - أي موضوع خارجي، وإنما هو يتألف برمته من أصوات يتم ربطها فنياً. فالأصوات الموسيقية إذن لها جمالها المباطن فيها، والذي يتبدى في أسلوب تشكيلها: في توافقها وتقابلها، وفي تحليقها واقترابها، وفي قوتها المتزايدة والمتلاشية. ولهذا يرى هانزليك أن: "الموسيقى شكل حي بفضل التراكيب اللحنية". ويعني ذلك أن ماهية الموسيقى هي صوت وحركة، فالتعبير الموسيقي يكمن في لغة التشكيل الجمالي للموسيقى ذاتها، أي في تلك التراكيب الصوتية للموسيقى فحسب. والحقيقة أن الموسيقى لا تعبر عن مشاعر أو انفعالات معينة، فهذه كلها أمور مستقلة عن التعبير الجمالي للصوت الموسيقي. صــ 119، 120

▬ في أوائل الستينيات من القرن العشرين، نشر ليونارد ماير دراسته الشهيرة "نهاية عصر النهضة" التي قال فيها إن مفهوماً جديداً للجمال يولد آنئذ، هذا المفهوم يتنكر لمبدأ الغائية ويكرس فناً لا يهدف إلى شيء. وفي علم الجمال الجديد، حسب ماير، لم يعد الإنسان هو المعيار الذي تقاس به الأشياء والموجودات، لأنه ببساطة لم يعد مركز الكون، كما ذهب فلاسفة الحداثة، ولهذا فإن علينا أن نستعيد إحساسنا بالأشياء من خلال إعادة اكتشاف الواقع والإنصات الجيد للحياة. الاستماع بالصوت كما هو، واللون كما هو، والوجود والموجودات كما هي. وبشر بولادة فن ديمقراطي جديد بوسعه أن يذيب الجدر الغليظة بين الثقافة العليا (الثقافة النخبوية) وثقافة الجماهير (الثقافة الشعبوية) وبوسعه تفكيك الاستقلالية النخبوية للحداثة.. صــ 126

▬ إن الأبنية ما بعد الحداثية، وفقاً لدولوز" لا ترى ضيراً مثلاً في مزج الأفكار المعمارية الحديثة مع الأشكال والرموز التقليدية الغابرة بهدف إحداث نوع من الصدمة والادهاش، وربما المرح والتسلية للرائي. وهو ضرب من الإيمان بأن الجمال قد يتولد من التنافر مثلما يتولد من الاتساق، ومن الفوضى مثلما يتولد من النظام. لقد انعكس التحول الذي حدث في المجالات الثقافية على الناتج المعماري وعلى اهتمام المعماريين، وساهم كل منهما في إثراء الفنون الأخرى، لأن الحواجز بينهما قد سقطت "فاستوعب الخطاب المعماري المعاصر اتجاهات مختلفة نحتية وتشكيلية تنهل من طرز عديدة. ورأى بعض النقاد المعماريين أن التعددية والصخب ما هما إلا تعبير عن تعددية وصخب الأحداث التي بداخل جدران البنايات وفيما حولها. أو هي لون من الديمقراطية وحرية التعبير تسمح لكل معماري أن يطرح أفكاره الخاصة دون الإلتزام بقالب يحده أو نموذج يتمثله، وهو أمر لم يكن بمقدور المعماريين أن يفعلوه في السابق"، وفي سياق مشابه يقول جان نوفيل: "لم يعد المكان يعاش بنفس الطريقة، ولم تعد نفس الأشياء موجودة بالداخل، فاللعب بالمقياس يتم بطريقة مختلفة، ويتم تغيير معناه، فنتمكن انطلاقاً مما كان كبير الحجم غير واضح ووظيفي على نحو خالص، وعبر انحرافات متعاقبة، من إعادة خلق وتجديد لم يكن باستطاعة أي أحد تخيل أنها ممكنة. صــ 155 ، 156


▬ جاء اهتمام فلاسفة مدرسة فرانكفورت - بنيامين وأدورنو على وجه التحديد - انطلاقاً من اهتمام أكبر بما أطلقوا عليه "صناعة الثقافة" والتي مفاداها أن للعوامل الاقتصادية تأثيرها المفرط والخبيث في المجال الثقافي، وأن الثقافة تحولت من كونها مظهر من مظاهر انتشار الوعي إلى مجرد سلعة تُصنع فقط من أجل أهداف محددة تصب في النهاية لخدمة الرأسمالية المعاصرة. فالربح لم يعد عنصراً غير مباشر في إبداع العمل الثقافي.. لقد غدا كل شيء. ولأن السينما في الأساس صناعة رأسمالية تتوجه للجمهور من أجل الربح، بشكل يفوق الفنون الأخرى، فقد كان من الطبيعي أن تمثل نموذجاً جيداً للتطبيق كما ظهر ذلك في أعمال أدورنو وبينيامين... لم يكن هدف أدورنو في كتابته عن السينما وضع نظرية للفيلم أو حتى مناقشة الأبعاد الفلسفية للسينما، إنما تناولها كظاهرة ثقافية تمتلك القدرة على تزييف وعي المتلقي لخدمة مصالح الرأسمالية، لذا يمكن تلخيص موقف أدورنو في الإجابة على التساؤل الآتي: كيف تساهم السينما في اغتراب الإنسان المعاصر وتشيؤه؟ لقد رأى أدورنو أن أخطر سمة تنفرد بها السينما قدرتها الفائقة على تقليص دور المشاهد في إنتاج المعنى وتحويله بالتالي إلى متلقٍ سلبي لسيل الصور المتدفق على الشاشة. فالعمل السينمائي يقلص حجم المشاركة، فهو يُملي على المشاهد ما يريد أن يقوله ويحصره في الإطار الضيق الذي تمثله شاشة العرض. يكون المتلقي همه الأول، أثناء متابعته للعمل السينمائي متابعة لذلك السيل المتدفق للصور المتحركة دون إعطاءه الفرصة للتفكير والتدبر. صــ 194

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

مقدمة في فلسفة البيئة (كرم عباس)

• عِلم البيئة هو: دراسة البيئة الطبيعية بما تشمله من علاقات بين الكائنات الحية بعضها مع بعض ومع الوسط المحيط الذي نعيش فيه. (عالم الأحياء الألماني:إرنست هايكل) ص5

▬ إن أهم ما يميز الإيكولوجيا هو تركيزها على مفهوم العلاقات، فعالم الحيوان على سبيل المثال قد يدرس الحيوان بتشريحه في المعمل، أو يدرسه في بيئته الخاصة المحلية، أما عالم الإيكولوجيا فيدرسه في إطاره البيئي ككل من خلال علاقاته بكل العوامل الحية وغير الحية التي تحيط به.. يؤثر فيها ويتأثر بها. عالم الحيوان يدرس الكائن الحي باعتباره مركز اهتمامه، مركزاً على سماته الأساسية، وعلى طريقة حصوله على غذاؤه وتفاعله مع أبناء جنسه، وعالم الأحياء يقوم بالدراسة والتشريح في معمله، يختبر المواصفات والسمات الجينية للكائن الحي تحت مجهره، أما الإيكولوجي فيدرس الكائن الحي في بيئته المحيطة، يدرس علاقاته، ليس فقط مع أبناء جنسه، بل مع كل ما يحيط به على كوكب الأرض، وهكذا يمكن النظر إلى الإيكولوجيا بوصفه أكثر العلوم تعميماً، رغم انطلاقه من أمور أكثر جزئية. فالكرة الأرضية منزل للجميع، ما يحدث في أقصاها يؤثر في أدناها، وأدنى التأثير في غربها يؤثر في شرقها. صــ 6

▬ إن العلاقة الحقيقية بين الإيكولوجيا وفلسفة البيئة ليست في علاقة التأثير والتأثر بين العلماء والفلاسفة بقدر ما توجد في العلاقة الجدلية بين التفاصيل العلمية والتجريديات الفلسفية، فالفرق بين الإيكولوجيا والفلسفة هو ذاته الفرق بين العلم والفلسفة، الفرق بين التفاصيل والصورة الكلية. النظرية العلمية لا يمكن أن تقوم دون نظرة فلسفية كلية بالمعنى الواسع، وكذلك الفلسفة، لو ظلت في حدود المفاهيم المجردة التأملية، ستظل كما هي الآن، جوفاء ولا علاقة لها بالواقع. صــ 36

▬ تتميز الفلسفة البيئية بشكل خاص بتمسكها بالفرض الفلسفي القائل بأنه لما كانت أسباب الأزمات البيئية التي نعاني منها في معظمها إنساني، فإن أحد المصادر الرئيسية لهذه الأزمات هو الاعتقاد في مركزية الإنسان. ويمكن تعريف مركزية الإنسان بأنها النظرة لقيمة شيء ما أو وضع بعينه باعتباره يتحدد فقط بحسب قيمته بالنسبة للبشر. ويعد رفض المركزية الإنسانية السمة المميزة للأخلاق والفلسفة البيئية، والتي تحاول إيجاد بدائل من المركزية الحيوية والمركزية البيئية والإيكولوجية العميقة. وظهرت نتيجة لذلك في الفلسفة البيئية مفهوم القيمة الجوهرية للكائنات الطبيعية، وتمثلت في دفاع عدد كبير من فلاسفة البيئة عن قيمة ذاتية للكائنات المختلفة من البكتريا والنباتات حتى الأنظمة البيئية الكاملة، والتي يُفترض أن يكون لها وفقاً لهذا المفهوم قيمة في ذاتها وبغض النظر عن أي فوائد تقدمها للإنسان. إن محاولات التفكير خارج حدود المنفعة الإنسانية هي التي تميز التفكير البيئي بشكل أساسي، ورغم أنها تعرضت للنقد من بعض الفلاسفة البيئيين أنفسهم، إلا أنها تظل السمة الرئيسية والملمح المميزة للفلسفة البيئية، التي تحاول أن تفكر في قيمة الشيء في ذاته، وليس في قيمته نسبة إلى الإنسان. صــ 41

▬ تتمثل أزمة فهم العلاقة الجدلية بين الإنسان والطبيعة في أن الإنسان يعاني من أزمة حقيقية في فهم تلك العلاقات واستيعابها بشكلٍ صحيح. فيعتقد الإنسان أن تلك العلاقة تسير في اتجاه واحد، من الإنسان للبيئة. ويغفل الإنسان عن أن البيئة لها ردود أفعال، أو بالأحرى أفعال عكسية. فالطبيعة ترد بالمثل، بل وترد بكل عنف. فعندما يلوث الإنسان بيئته المحيطة بالقمامة، فسترد عليه البيئة بالأمراض، وعندما يجور الإنسان على مصادر الغذاء في البر والبحر، فإنها سترد عليه بالمجاعات، وعندما يفرط الإنسان في استخدام الطاقة ومواردها، فإنها سترد عليه بالنضوب. وهكذا كل فعل سلبي من جانب الإنسان، يواجهه فعل سلبي أعنف من جانب الطبيعة. صــ  67

▬ يُستخدم تعبير "الحياة" بشكل واسع وغير تقني ليشمل ما يصنف من قبل البيولوجيين على أنه غير حي، مثل الأنهار ومساقط المياه واللاندسكيب والنظام البيئي ككل. بالنسبة إلى مؤيدي الإيكولوجيا العميقة فإن شعاراً مثل "دعوا النهر يحيا" يعبر عن هذا المعنى الأوسع للحياة الذي يقصدونه. وأخيراً تُستخدم "القيمة الجوهرية" للتأكيد على أن قيمة النظام البيئي لا تكتسب من فائدتها بالنسبة للإنسان، بل هي قيمة كامنة في الأشياء ذاتها، بغض النظر عن أي وعي أو اهتمام أو تقدير يقع عليها من جانب الإنسان. صــ 157

▬ تختلف الإيكولوجيا العميقة مع مذهب التنوير، وهو المذهب الذي يرى أن الإنسان وحدة مستقلة تسعى لتحقيق حريتها بأكبر قدر ممكن بعيداً عن كل القيود الاجتماعية. كما تختلف كذلك مع الإيكولوجيا الاجتماعية، والتي ترى أن الإنسان جزء من شبكة علاقات اجتماعية يسعى لتثويرها وإعادة إنتاجها في شكل أكثر عدالة، وأن كل المشاكل البيئية ليست إلا نتيجة لعلاقات اجتماعية ظالمة، بحيث أن الإنسان الذي اعتاد أن يستخدم الإنسان وأن يقهره، لا يمكن له أن يفهم الطبيعة بعد ذلك إلا باعتبارها قوة يجب السيطرة عليها وقهرها هي الأخرى. ويمكن القول من وجهة نظر الإيكولوجيا العميقة أن هذه المذاهب هي مذاهب متمركزة حول الإنسان، بمعنى أنها تعتقد أن الإنسان كائن مختلف جذرياً من حيث الكيف عن كل ما عاداه من الكائنات في العالم، وهذه وجهة نظر لها أهمية خاصة في الأديان التي تؤكد بشكل دائم على اصطفاء الإنسان وتمييزه. وهكذا ستتضح لنا وجهة نظر الإيكولوجيا العميقة بشكل أكبر عندما نضعها في مقابلة هذه التوجهات؛ نزعة مركزية الإنسان والفلسفات الاقتصادية والساسية والاجتماعية للغرب المعاصر وأفكار التنوير، والأديان المختلفة، ومذهب الإيكولوجيا الاجتماعية. صــ 165،166

▬ تقع الرأسمالية في أكثر من تناقض مع الإيكولوجيا العميقة؛ إذ أن الأولى مؤسسة على مبدأ الملكية الخاصة، المبدأ الذي يضفي الشرعية على امتلاك مجموعة من البشر جزءاً من الأرض لاستغلاله بهدف الربح. وقد ظن الرأسماليون في أزمنة سابقة أن بإمكانهم امتلاك البشر كذلك، عندما كان الرق قائماً، ولكن كما انهار نظام الرق وتم نفيه من تصورنا المهيمن للعالم اليوم، فإن الإيكولوجيا العميقة تسعى إلى إلغاء مبدأ الملكية الخاصة بنفس الطريقة ورفض الاعتقاد بأن الإنسان يمكن له أن يمتلك الأرض.صــ 169

▬ إن ما يجمع الإيكولوجيا العميقة مع الأديان هي فكرة الشبكة الكونية التي تربط كل الكائنات الطبيعية، ففي التوراة على سبيل المثال لم يكن السبت راحة للإنسان فحسب، بل وللحيوان أيضاً. ويظهر الترابط بين الموجودات في البوذية على أكمل وجه في فكرة التناسخ. وفي المسيحية يحل اللاهوت في الناسوت، ويتجسد الإلهي في البشري "الطبيعي". والطبيعة عند الإيكولوجي العميق هي مصدر للحكمة، كما هو الأمر عند الهنود الحمر الذي كان لكل شخص منهم معلم روحي من الحيوانات. وبعض الديانات تشير لهذا الأمر، وفي القرآن على سبيل المثال، الغراب يعلم قابيل كيف يدفن أخاه هابيل، وينطق بالحكمة على لسان النمل، ورغم ذلك فإن التعامل مع الطبيعة باعتبارها مصدراً للحكمة في الديانات أقل بكثير عنه في الإيكولوجيا العميقة. صــ 184، 185

▬ هناك محاولات عديدة للربط بين البيئة والدين، خاصة في الدراسات باللغة العربية. وتلك المحاولات في نظرنا هي محاولة تسعى إلى تلوين الدين بلوك البيئة، ولذلك نسميها بنزعة اخضرار الأديان. وهي نزعة مشابهة لما حدث في العلوم؛ فقد تحول الاخضرار إلى موضة انتابت شتى العلوم. وداخل كل علم يوجد فرع يحاول الحفاظ على منجزات العلم دون المساس بالبيئة المحيطة، وتحول إلى مجرد عنوان تدافع به العلوم عن نفسها أمام الدعوى الحقيقية التي ترى أن الإنسان قد دمر البيئة في محاولته تحقيق أعلى مستوى رفاهية ممكن للإنسان. صــ 191

▬ إن محاولة الربط بين البيئة والأديان، والتأكيد على أن الإيكولوجيا بمعناها العلمي المعاصر والفلسفي موجود في الأديان والحضارات القديمة، هو أمر أشبه بالبحث عن علاج أمراض معاصرة بالبحث في كتب الطب القديمة، وهو أمر يكاد يكون مستحيل، لأن مسببات المرض نفسه لم تكن موجودة قديمة. وهو نفس الأمر بالنسبة للبيئة، فالاهتمام بالبيئة بالشكل المعاصر لم يظهر إلا بعد أن تفاقمت المشكلات البيئية وظهرت مخاطر لم يكن العالم القديم يتوقع يوماً حدوثها. والخلاصة أن الربط بين الأديان والبيئة هدفه الأول فيما يبدو الحفاظ على الأديان والدفاع عنها، وليس الحفاظ على البيئة، إذا ما نظرنا إلى المردود العلمي لتلك المسألة. صــ 192 ، صــ 193


▬ يشير مصطلح النسوية الإيكولوجية، أو النسوية البيئية، إلى مجموعة من المواقف النظرية والعلمية التي تدمج المنظور النسوي بالفلسفة البيئية. وقد بدأ الإيكولوجيون النسويون صياغة نظرياتهم لإيضاح التشابهات ومناطق الترابط بين التمييز الجنسي والانتهاك الواقع على الطبيعة في أوائل السبعينيات. وبالرغم من التنوع الكبير في موقف الإيكولوجيين النسويين، إلا أنه ثمة اتفاق فيما بينهم على أنه هناك صلة بين الهيمنة على المرأة والهيمنة على الطبيعة، وأن فهم أحد أنواع الهيمنة مهم لفهم النوع الآخر، وأن أية فلسفة بيئية تفشل في إيضاح تلك الارتباطات المهمة هي بالضرورة فلسفة ناقصة وغير صحيحة. وتشتمل أنواع الارتباط التي يشير إليها الإيكولوجيون النسويون على الارتباطات التاريخية والمفاهيمية والتجريبية والإبستمولوجية والأخلاقية والنظرية والسياسية. صــ 208

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

الفلسفة الحديثة ونصوصها (أحمد عبد الحليم عطية، عفاف عمر حسين)

• عندما نقارن بين الفلسفة الحديثة والفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى معاً، فإننا يمكن أن نصفها بأنها فردية. فالمفكر الحديث فردي بمعنى أنه يستطيع أن يصنع تجاربه، ويتحقق بعينيه، ويختبر منطق الحجج بتفكيره الخاص. ص3
• لا يمكن أن نرد فكر النهضة إلى الفكر القديم أو الوسيط، فالفكر النهضوي يعبر عن ولادة جديدة، ولادة أشكال وصور لم يسبق للإنسان أن رآها. (إرنست بلوخ) ص6
• الحداثة فعل يدل على قطيعة حدثت في الوعي الغربي مع ما هو مألوف وتقليدي في العلم أو في الدين أو الفلسفة أو الأدب...إلخ والحداثة شعور بأننا نعيش في عصر حديث وفي زمن مختلف فيه الحاضر عن الماضي. ص34
• لقد كان مبدأ لوك العام - وهو أن أفكارنا تؤسس في التجربة وتعتمد عليها - مبدأ أساسياً في المذهب التجريبي الكلاسيكي..
• الثورة قد تطيح بالاستبداد الشخصي والاضطهاد المتعطش للمصلحة المادية أو السلطة، ولكن لا يمكن أن تؤدي أبداً إلى إصلاح حقيقي لنمط التفكير، بل فقط إلى استخدام أحكام مسبقة جديدة، مثلما كانت تستخدم القديمة، كشريط موجه للأغلبية التي لا تفكر. (كانط)
• الموضوع الذي شغل معظم الفلاسفة على اختلاف مذاهبهم هو "الكُلي" أو "المطلق" أو "الله"، أي كل ما يمثل الحقيقة بلا تحديد أو تعيين أو ما هو موجود على وجه العموم. وهدف الفلسفة دائماً هو بلوغ التصور الكلي من حيث هو مبدأ للتفسير. ص173
• لقد اتخذ هيجل من وحدة الفكر والوجود، الذات والموضوع، وحدة بنائية للفكر الذي يلزم ذاته بأن تتطور بغير قيود ولا عوائق. فالموضوعية الحقيقية للفكر تتأسس على الأفكار التي ليست أفكاراً فقط، ولكنها في ذاتها أفكاراً للأشياء ولكل ما هو موضوعي.
• يكشف الجدل في مجال المعرفة أن ماهية المعرفة تكمن في ذاتنا ووعينا كما قال هيجل، فذاتنا هي معيارنا، وفي داخل وعينا تدور ماهية الحقيقة ومعيارها والتي بها نقيس معرفتنا.
• يرى هيجل أن مبدأ الحركية التاريخية هو الفكر أو الروح. فالروح هي القوة الدافعة والعامل المحرك في نمو الشخصيات والمدنيات، وبالتالي نمو الكون الواعي في مجموعه.
• الضحايا هم هؤلاء الأفراد الذين لا يستطيعون قراءة إشارات الزمان، فما يحدث لهم أشبه بما يحدث للمشاة الذين لا ينتبهون لإشارات المرور. ولذا فعلينا أن نفتح أعيننا على التاريخ ونساعد غيرنا على رؤية إشاراته.
===========================
▬ يحدد رسل السمات العامة لهذه الفلسفة وما يميزها عن الفلسفة السابقة عليها بقوله: "إن للفترة التاريخية التي يطلق عليها" الفترة الحديثة "نظرة عقلية تختلف في جوانب عديدة عن نظرة الفترة الوسيطة. ومن هذه الجوانب ثمة جانبان لهما الأهمية القصوى، هما: تضاؤل سلطة الكنيسة، وتزايد سلطة العلم. ويتصل بهذين الجانبين جوانب أخرى. فثقافة الأزمنة الحديثة ثقافة أقرب إلى الثقافة العلمانية منها إلى الثقافة الدينية. فقد أخذت الدول تحل باطراد محل الكنيسة باعتبارها السلطة الكحومية المهيمنة على الثقافة. وكانت الحكومة في أول أمرها بين أيدي الملوك، ثم بدأت الديمقراطيات أو الطغاة يحلون محل الملوك، كما كان الشأن في اليونان القديمة، وأخذت سلطة الحكومة القومية والمهام التي تنجزها، تنمو نمواً مطرداً. بيد أنه في معظم الحالات كان للدولة على الفلاسفة نفوذاً أقل من النفوذ الذي كان للكنيسة في العصو الوسطى. فمنذ زمن الثورتين الأمريكية والفرنسية، غدت الديمقراطية بالمعنى الحديث، قوة سياسية مهمة. وفي مواجهة الديمقراطية المؤسسة على الملكية الخاصة ظفرت الاشتراكية بالسلطة الحكومية لأول مرة سنة 1917. صــ 2

▬ إن إنسان عصر النهضة قد فطن إلى ما يرفع من شأنه ومن قيمته كإنسان وما يقيم له وزناً في المجتمع ليس كرم الأصل وأمجاد الحروب وإنما نشاطه الخلاق وقدرته على الفعل والإنتاج، صفوة القول إن عصر النهضة قد أنتج تصوراً جديداً للطبيعة إذ فقدت قداستها بعدما أصبحت ظواهرها قابلة للحصر في علاقات رياضياتية ثابتة، وللإنسان إذ أصبح يعي ذاته ويعي عظمته كإنسان فرد منتج وخلاق. وقدر أفرز هذا التصور أيضاً رمزاً جديداً وهو رمز برومثيوس، ورمز التجاوز والتحدي للملك الجائر والكائن الحقود. صــ 6

▬ نقطة البداية في منهج ديكارت هي الحدس ثم يليه الاستنباط. فالحدس معرفة مباشرة لا زمن فيها، والاستنباط يحتاج إلى زمن ويحتاج لملكة الذاكرة. والذاكرة كثيراً ما تخون الإنسان. فقيمة الحدس تأتي من كونه فعل عقلي بسيط متميز ولا يحتاج الذهن إلى تعلمه ولذلك لا يسيء الذهن القيام به. أما الاستنباط فهو سلسلة من الحدوس. والعقل بفطرته قادر على القيام بالحدس والاستنباط.. والاختلاف بين البشر راجع إلى درجة حسن الاستخدام لعقولهم وإجادة الفهم. وإجادة الاستخدام تتم بالتدريب على اتباع قواعد المنهج. لا يهدف ديكارت من وضع المنهح إلى فرضه على الناس، بل يضع ديكارت المنهج بغرض توجيه عقله هو، ومن يقتنع به عليه أن يتقن استخدامه. صــ 71

▬ [..] ويترتب على "واحدية اسبينوزا" رفض فكرة "الخلق". ففكرة خلق الله للعالم فكرة تتضمن تناقضاً، لأنها تفترض وجود جوهرين، أحدهما علة الآخر، وهذا شيء مرفوض بالنسبة "لاسبينوزا". فلا يوجد إلا جوهر واحد فقط لا منتاهٍ ويتضمن داخله كل شيء وهو "علة ذاته". ولو افترضنا أن الله مفارق للعالم، فسيترتب على ذلك أن يصبح الله متناهياً وبغير أي قوة مطلقة، لأنه سيصبح هناك شيء خارج عنه أو مفارق له، وهذا الشيء سيحد من قدرة الله بل ويصيبه بالنقص. فالعالم إذا صار مفارقاً لله، سوف يحوز صفات لا يحوزها الله فيصبح "الله" متناهياً ناقصاً، وهذا تناقض لأن الله الموجود الكامل اللامتناهي.. والحل في وجهة نظر اسبينوزا أن يكون الله هو العلة المباطنة الكامنة داخل العالم، وبذلك لا يصبح الله علة مفارقة أو عابرة بل هو علة كامنة ودائمة للعالم. صــ 106

▬ إهتم كانط في فلسفته كما هو معروف بالنقد. والنقد يعني نقد قدرات العقل المعرفية وبيان حدود هذه القدرات قبل تجربة المعرفة، والإدراك للكشف عن المباديء العقلية الأولية الخالصة التي تؤسس التجربة وتجعلها ممكنة، أي تحديد إمكان المعرفة لبيان ما يمكن ولا يمكن معرفته، أي أن الفيلسوف انشغل بالعقل والذات العارفة أكثر من انشغاله بواقع تجربة المعرفة والأشياء المعروفة.. فما يهدف إليه هو البحث في مشروعية المعرفة، أي ما يعطي أحكام العقل المعرفية صدقها وموضوعيتها. والمتعالي (الترنسندتالي) عند كانط ليس سوى هذه الطريقة في البحث، إنه المبدأ الذي يفسر خضوع التجربة بالضرورة لتصورات العقل المستقلة عنها، هو ذلك المجال الذي يتيح الربط على نحو ضروري وكلي بين التصورات المحضة ومعطيات التجربة بين المباحث العقلية والوقائع التجريبية بين عالم العقل وعالم الطبيعة.. صــ 142 - 143

▬ إن قيمة كانط، في نظر نيتشه، تتمثل في أنه أخذ على عاتقه أن يحارب أية ميتافيزيقا تدعي معرفة الأشياء في ذاتها، وراح يبرهن أنه ليس لدينا ولا يمكن أن يكون لدينا تصور إيجابي للشيء في ذاته؛ فالشيء في ذاته عند كانط لا يمكن أن يُعرف، لأن العقل العلمي لا يمكن أن يتجاوز حدود الظواهر الحسية، وليس في مقدوره أن يقدم إلا معرفة من نوع محدود. يقول نيتشه في "العلم المرح": "مع كانط صرنا نشك كألمان في القيمة القطعية للمعارف العلمية، كما صرنا نشك، فضلاً عن ذلك، في كل ما تسهل معرفته سببياً وصار حتى الممكن معرفته ذاته يبدو لنا بما هو كذلك ذا قيمة أقل". صــ 153

▬ لقد حاول هيجل تخطي أخطاء السابقين عليه فعمل على تصحيح مسار المعرفة بالجمع بين عنصري المعرفة، الجانب الذاتي والجانب الموضوعي، ليقضي على الفصل بينهما ويجمع بينهما في وحدة عليا تؤلف بينهما بدون تضاد أو تناقض. فقد جمع بين ذاتية فتشه المتطرفة وموضوعية شلنج المتطرفة في مذهبه الذي يجمع بين الذات والموضوع أو الروح والطبيعة داخل وحدة "المطلق". لم تعد الطبيعة شيء آخر إلى جانب العقل بل صارت جزء من حياة العقل نفسه. تمر الحقيقة بمراحل عديدة أو مراتب متعددة، فمعرفة الإنسان للكون تقتضي الانتقال من مرحلة من مراحل العقل إلى مرحلة أعلى منها وكل مرحلة مهما كانت دنيا تمثل مرحلة ضرورية من مسار معرفة الحقيقة الكلية أو المطلقة. فالعقل أو الروح بذاته، المدرك لنفسه إدراكاً كاملاً هو الذي يجتاز جميع مراحل تطوره من الأدنى إلى الأعلى ويستوعبها داخل ذاته.. والحقيقة عند هيجل هي الفكر وحده، ولذلك لابد من تفسير كل شيء تفسيراً عقلياً. يكشف العالم الواقعي عن الفكر وعن تطوره لأن الفكر يمثل وحدة عضوية ذات أجزاء متصلة، كل جزء يعبر عن الحقيقة الكلية، كما أن كل جزء لا يُفهم إلا في ضوء الكل الذي يمثله. فالحقيقة كلٌ عضوي مترابط الأجزاء. ليس هناك معنى للكل بدون أجزائه ولا معنى للجزء بمعزلٍ عن هذا الكل. وكل جزء له علة أو سبب لتبرير وجوده. والنتيجة أن الأجزاء كلها تتصف بأنها ضرورية والفرق بينها هو مجرد فرق في الترتيب من الأدنى إلى الأعلى... والوحدة التي تشمل كل شيء هي وحدة فكرية أي وحدة بين الأضداد. فكل جزء يتضمن في ذاتِه كل مرحلة من مراحل الحقيقة تتضمن المراحل السابقة عليها وتعلو عليها. وفي النهاية الحقيقة الكلية تجمع الأضداد معاً في واحدة عليا منسجمة. ولجمع بين الأضداد في وحدة ينطبق على كل شيء في الطبيعة والتاريخ والفلسفة. فكل شيء يحكمه قانون الوحدة الشاملة التي تضم في داخِلها جميع الأضداد. صــ 171

▬ يكشف المطلق عن نفسه في العالم فيتجلى في الطبيعة والعقل معاً. فهو يشكف نفسه في الفكرة المنطقية في مرحلة سابقة على الوجود. ثم يتجلى المطلق في الطبيعة في صورة الحياة المادية. وأخيراً يتجلى المطلق في العالم الروحي في روح الفرد وفي نظام المجتمع وفي الفن والدين والفلسفة. الفكر يسبق الوجود ولكنه مع ذلك يتجلى في كل شيء في العالم الواقعي. فالفكر أساس كل حقيقة في الوجود.. وعمل الفلسفة عند هيجل هو تتبع الفكر في تطوره وانتقاله من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل يعني تتبع الحقيقة كما تظهر في المنطق، وتتخارج في التاريخ وحتى تكتمل في الروح المطلق في صورة الفن والدين والفلسفة. فالفكر عند هيجل يسير في حركة جدلية ثلاثية من الفكرة المجردة في المنطق إلى الفكرة المتجسدة في الطبيعة ثم عودة الفكر، إلى ذاتها في الروح، فالطبيعة مرحلة ضرورية لانتقال الفكرة من مرحلة الفكرة المجردة إلى مرحلة الإدراك أو الوعي الذاتي، والحقيقة في مرحلة الروح الموضوعي تعبر عن ذاتها في صورة نظم أخلاقية التي تقوم عليه المجتمع وتظهر في مسار التاريخ. فهناك مسارات يتبعها العقل وفقاً للمنهج الجدلي. فالجدل يمثل إسهاماً في سيكولوجيا النمو العقلي، فمن خلال الجدل نتابع تطور العقل في مراحلة المختلفة... وتستمر  الحركة الجدلية لتطور العقل في التاريخ الذي يمثل عند هيجل عملية عقلية تمثل روح العالم فيها القائد. والأدوات التي تستخدمها روح العالم في تحقيق أهدافها هي عباقرة التاريخ وأبطاله، هؤلاء الذين يحدثون التغيير اللازم في مسار التاريخ. فالعالم عند هيجل في حالة تغير مستمر ضمن عملية تاريخية روحية. صــ 172

▬ تُعد "فلسفة التاريخ" مدخلاً حيوياً لفهم المذهب الهيجلي كله. فالوعي الإنساني لا يمكن أن يدرك أو يقرر كحقيقة بمعزل عن الخبرة التجريبية للتاريخ. إقترن الوعي في الفلسفة بالتاريخ، مما أدى إلى نجاتها من الوقوع في المثالية الذاتية. ومن هنا جاءت أهمية "فلسفة التاريخ" كجزء من ميتافيزيقا هيجل. وقد اتضحت علاقة الميتافيزيقا بالتاريخ من خلال المقولات التي وظفها هيجل في فلسفة التاريخ. فهيجل في عرضه لمسيرة وعي الروح بذاتها في التاريخ وصف مسارها بأنه مساراً عقلياً. لقد بدأ التاريخ بالتسليم بمقولة "العقل يحكم التاريخ"، وهي المقولة التي وجهت المسار كله. وكشف مقولة العقل يحكم التاريخ عن المعقولية في العالم الطبيعي، وسيادتها أيضاً في العالم الروحي. والمعقولية تتجلى على نحو أوسع وأعمق في مجال العالم الروحي عما يوجد في الطبيعة. وقد أدت المعقولية بهجيل إلى صياغة النظرة "الثيودثية" للتاريخ والتي تبرر وجود "الله" وعنايته وعمله في العالم. صــ 180

▬ إنتقال القوة التاريخية والسياسية من دولة ما (اليونان مثلاً) تعكس مستوى أدنى من الوعي الذاتي الإنساني، إلى دولة أخرى (الرومان مثلاً) تعكس مستوى أعلى للوعي الإنساني، فالتعديل في الفهم الذاتي للإنسان - كما حدث في الانتقال من العصور الوسطى إلى عصر الإصلاح والنهضة - هو انتقال يتضمن بالفعل ارتفاعاً عظيماً في الأوجه السياسية والاجتماعية داخل حضارة واحدة وداخل دولة مفردة. وهنا تبدو وجهة نظر هيجل بعيدة عن المثالية، لأنه يهتم بفهم الانتقالات السياسية العظمى في العالم في ضوء التطورات والتعديلات التي تطرأ على مستوى الوعي الذاتي للإنسانية. ولذا فنحن نصير على ما نحن عليه من وعي ذاتي بالحرية عندما نصبح على وعي بالمسار الكلي الذي نتجت عنه ذواتنا. فمع كل تقدم في مسار التطور يحصل الإنسان على فهم أعمق لذاتِه، فهم يتطور ليصبح في النهاية فِهماً تاماً لذاتِه، فهماً مختلفاً عما بدأ به. فمع مرور الزمن وتغيير الظروف واختلاف العصور يزداد الوعي الذاتي للإنسان بذاته من حيث هي ذات حرة. صــ 205


  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS