طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد (عبد الرحمن الكواكبي)





//لن أتطرق كثيراً الى فقرات فيها دلالة على التعصب لدين على حساب دين آخر، وبما يستعين به من حينٍ لآخر بالإعجاز العلمي..//

• أفضل الجهاد كلمة عدل تُقال عند سلطان جائر .
• حياة الأسير تشبه حياة النائم المزعوج بالأحلام، فهي حياة لا روح فيها .
• إن المدارس تقلل الجنايات، لا السجون .
• الإستبداد يقلب السير من الترقي إلى الإنحطاط .
• الجهل عدو العلم .
• إن خوف المستبد من نقمة رعيته أكثر من خوفهم بأسه .
• كلما زاد المستبد ظلماً واعتسافاً زاد خوفه من رعيته وحتى
 من حاشيته، وربما من هواجسه وخيالاته...
• الإستبداد اصل لكل فساد .
• أنا إنسان الجد والإستقبال لا إنسان الماضي والحكايات .
• الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية.
• الاستبداد لا يُقاوم بالشدة إنما يُقاوم باللين والتدرج.
• يجب قبل مقاومة الإستبداد تهيئية ماذا يُستبدل به الإستبداد.

[مقدمة خارجة عن الكتاب]

إننا نرى الكواكبي في هذا الكتاب يتحدث بجرأة وصراحة متناهيتين في عصر يسوده الإستبداد، وتُخنق فيه الكلمة في الحناجر، وفي ظل حُكمٍ لا يحرم، ولا يسمع، أو يعي..لقد طرح بعضهم أن عبد الرحمن الكواكبي خاصم السلطان العثماني، وبالتالي حمَّلوا موقفه أثقالاً وصلت لدرجة القول إن نقد الإستبداد في عصر السلطان عبد الحميد الثاني، الذى إكتوي به الكواكبي وكل أهل زمانه ممن يخضعون للعثمانين، قد أسهم في إسقاط الخلافة.

إن الإستبداد قد ساد فى أواخر عهد الدولة العثمانية، والصحيح كذلك أن التأخُّر عن ركب التطور العلمي والتقني قد ترافق مع الظلم والتعسف والإستبداد، وعشعش الفساد، وحصل إستغلال سياسي خطير للدين، وإنتشرت الماسونية في أوصال القيادة العسكرية العثمانية، وعمل الأتراك على تتريك العرب، ولم يصغوا للمصلحين من أمثال جمال الدين الأفغاني والسيد عبد الرحمن الكواكبي وسواهما.
---------------------------------------------------------------------------------------

☼ ومن أشد مراتب الإستبداد التي يُتعوَّذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية. ولنا أن نقول: كلما قل وصف من هذه الأوصاف خقَّ الإستبداد إلى أن ينتهي بالحاكم المنتخب الموقت المسؤول فعلاً، وكذلك يخف الإستبداد طبعاً كلما قل عدد نفوس الرعية، وقل الإرتباط بالأملاك الثابتة، وقل التفاوت في الثروة، وكلما ترقى الشعب في المعارف . صـ38

☼ ومن الأمور المقررة طبيعة وتاريخياً أنه ما من حكومة عادلة تأمن المسؤولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمة أو التمكن من إغفالها إلا وتسارع إلى التلبس بصفة الإستبداد، وبعد أن تتمكن فيه لا تتركه وفي خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين : جهالة الأمة، والجنود المنظمة، وهما أكبر مصائب الأمم المتمدنة - نوعاً - من الجهالة، ولكن بليت بشدة الجندية العمومية؛ تلك الشدة التي جعلتها أشقى حياة من الأمم الجاهلة وألصق عاراً بالإنسانية من أقبح أشكال الإستبداد، حتى ربما يصح أن يُقال: إن مخترع هذه الجندية إذا كان هو الشيطان فقد انتقم من آدم في أولاده أعظم ما يمكنه أن ينتقم! نعم إذا ما دامت هذه الجندية التي مضى عليها نحو قرنين إلى قرن آخر أيضاً تنهك تجلد الأمم وتجعلها تسقط دفعة واحدة. ومن يدري كم يتعجب رجال الإستقبال من ترقي العلوم في هذا العصر ترقياً مقروناً بإستبداد هذه المصيبة التي لا تترك محلاً لاستغراب إطاعة المصريين للفراعنة في بناء الأهرامات سخرة، لأن تلك لا تجاوز التعب وضياع الأوقات، وأما الجندية فتفسد أخلاق الأمة حيث تعلمها الشراسة والطاعة العمياء والإتكال، وتميت النشاط وفكرة الإستقلال، وتكلف الأمة الإنفاق الذي لا يُطاق، وكل ذلك منصرف لتأييد الإستبداد المشؤوم: استبداد الحكومات القائدة لتلك القوة من جهة، وإستبداد الأمم بعضها على بعض من جهة أُخرى . صــ39

 ☼ المستبد يتحكم فى شؤون الناس بإدراته لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المتعدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته.. المستبد عدو الحق عدو الحرية وقاتلهما، والحق أبو البشر، والحرية أمهم، والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئاً، والعلماء هم إخوتهم الراشدون، إن أيقظوهم هبوا وإن دعوهم لبوا وإلا فيتصل نومهم بالموت.. المستبد يتجاوز الحد ما لم ير حاجزاً من حديد، فلو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفاً لما أقدم على الظلم، كما يقال:الإستعداد للحرب يمنع الحرب.. المستبد إنسان مستعد بالطبع للشر وبالإلجاء للخير، فعلى الرعية أن تعرف ما هو الخير وما هو الشر فتلجىء حاكمها للخير رغم طبعه، وقد يكفي للإلجاء مجرد الطلب إذا علم الحاكم أن وراء القول فعلاً. ومن المعلوم أن مجرد الإستعداد للفعل فعل يكفي شرَّ الإستبدا.. المستبد يود أن تكون رعيته كالغنم دراً وطاعة، وكالكلاب تذللا وتملقاً، وعلى الرعية أن تكون كالخيل إن خُدِمت خَدَمت، وإن ضُربت شَرست، وعليها أن تكون كالصقور لا تُلاعب ولا يُستأثر عليها بالصيد كله، خلافاً للكلاب التي لا فرق عندها أطُعِمت أو حُرمت حتى من العظام. نعم على الرعية أن تعرف مقامها، هل خُلقت خادمة لحاكمها، تطيعه إن عدل أو جار، أم هي جاءت به ليخدمها لا ليستخدمها! والرعية العاقلة تقيد وحش الإستبداد بزمام تستميت دون بقائه في يدها لتأمن من بطشه، فإن شمخ هزَّت به الزمام وإن صال ربطته..من أقبح أنواع الإستبداد الجهل على العلم،  وإستبداد النفس على العقل، ويسمى استبداد المرء على نفسه... صــ41 ، 42

[قرائن الإستبداد]

☼ تضافرت آراء أكثر العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعي للأديان على أن الإستبداد السياسي متولد من الإستبداد الديني، والبعض يقول إن لم يكن هناك توليد فهما أخوان أبوهما التغلب وأمهما الرياسة، أو هما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنهما حاكمان أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب...صــ45

☼ لا يُخفى على المستبد، مهما كان غبياً، أن لا استعباد ولا اعتساف إلا ما دامت الرعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه عماء، فلو كان المستبد طيراً لكان خفاشاً يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل، ولو كان وحشاً لكان ابن آوى يتلقف دواجن الحواضر في غشاء الليل، ولكنه هو الإنسان يصيد عالِمَه جاهِله.. المستبد لا يخشى علوم اللغة، تلك العلوم التي بعضها يقوِّم اللسان وأكثرها هزلٌ وهزيان، نعم لا يخاف علم اللغة إذا لم يكمن وراء اللسان حكمة حماس تعقد الألوية، أو سحر بيان يحل عقد الجيوش، لأنه يعرف أن الزمان ضنين بأن تلد الأمهات كثيراً من أمثال الكميت وحسان أو مونتيسكيو وشيللار .. وكذلك لا يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد المختصة ما بين الإنسان وربه، لإعتقاده انها لا ترفع غباؤه ولا تزيل غشاوة، وإنما يتلهى بها المتهوسون للعلم حتى إذا ضاع فيها عمرهم، وامتلأتها أدمغتهم، وأخذ منهم الغرور ما أخذ، فصاروا لا يرون علماً غير علمهم، فحينئذ يأمن المستبد منهم كما يؤمَن شر السكران إذا خَمُرَ. على أنه إذا نبغ منهم البعض ونالوا حرمة بين العوام لا يعدم المستبد وسيلة لاستخدامهم فى تأييده أمره ومجاوراة هواه في مقابلة أنه يضحك عليهم بشيء من التعظيم، ويسدُّ أفواههم بلقيمات من فُتات مائدة الإستبداد؛ وكذلك لا يخاف من العلوم الصناعية محضاً لأن أهلها يكونون مسالمين صغار النفوس، صغار الهمم، يشتريهم المستبد بقليل من المال والإعزاز؛ ولا يخاف من الماديين لأن أكثرهم مبتلون بإيثار النفس، ولا من الرياضيين لأن غالبهم قصار النظر ..... ترتعد فرائس المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وطبائع الإجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تكبِّر النفوس وتوسِّع العقول وتعرِّف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب، وكيف النوال، وكيف الحفظ. وأخوف ما يخاف المستبد من أصحاب هذه العلوم المندفعين منهم لتعليم الناس بالخطابة أو الكتابة وهم المعبَّر عنهم فى القرآن بالصالحين والمصلحين في نحو قوله تعالى : (أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) ، وفي قوله : (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون)، وإن كان علماء الإستبداد يفسرون مادة الصلاح والإصلاح بكثرة التعبد، كما حوَّلوا معنى الفساد والإفساد : من تخريب نظام الله إلى التشويش على على المستبدين..والخلاصة أن المستبد يخاف من هؤلاء العلماء العاملين الراشدين المرشدين، لا من العلماء المنافقين أو الذين حفر رؤوسهم محفوظات كثيرة كأنها مكتبات مقفلة! .. كما يبغض المستبد العلم لنتائجه يبغضه أيضاً لذاته، لأن العلم سلطاناً أقوى من كل سلطان، فلابد للمستبد من أن يستحقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه علماً، ولذلك لا يحب المستبد أن يرى وجه عالم عاقل يفوق عليه فكراً، فإذا اضطر لمثل الطبيب والمهندس يختار الغبي المتصاغر المتملق. وعلى هذه القاعدة بنى ابن خلدون قوله " فاز المتملِّقون" ، وهذه طبيعة كل المتكبرين بل في غالب الناس، وعليها مبنى ثنائهم على كل من يكون مسكيناً خاملاً لا يُرجى لخير ولا لشر . صــ65 ، 66 ، 67

☼ لما كانت أكثر الديانات مؤسسة على مبدأي الخير والشر كالنور والظلام والشمس وزحل، والعقل والشيطان، {رأت بعض الأمم الغابرة أن أضر شيء على الإنسان هو الجهل، وأضر آثار الجهل هو الخوف، فعملت هيكلاً مخصصاً للخوف يُعبد اتقاء لشره . صــ69

☼ المستبد يتخذ المتمجدين سماسرة لتغرير الأمة بإسم خدمة الدين، أو حب الوطن، أو توسيع المملكة، أو تحصيل منافع عامة أو مسؤولية الدولة، أو الدفاع عن الإستقلال، والحقيقة أن كل هذه الدواعي الفخيمة العنوان في الأسماع والأذهان ما هي إلا تخييل وإيهام يقصد بها رجال الحكومة تهييج الأمة وتضليلها حتى إنه لا يستثنى منها الدفاع عن الإستقلال، لأنه ما الفرق على أمة ٍ مأسورة ٍ لزيدٍ أن يأسرها عمرو ؟ وما مثلها إلا الدابة التي لا يرحمها راكب مطمئن، مالكاً أو غاضباً. صــ78

☼ المستبد في لحظة جلوسه على عرشه ووضع تاجه الموروث على رأسه يرى نفسه كان إنساناً فصار إلهاً، ثم يرجع النظر فيرى نفسه في نفس الأمر أعجز من كل عاجز، وأنه ما نال ما نال إلا بواسطة من حوله من الأعوان، فيرفع نظره إليهم فيسمع لسان حالهم يقول له: ما العرض وما التاج وما الصولجان؟ ما هذه إلا أوهام في أوهام. هل يجعلك هذا الريش فى رأسك طاووساً وأنت غراب، أم تظن الأحجار البراقة في تاجك نجوماً ورأسك سماء، أم تتوهم أن زينة صدرك ومنكبيك أحرجتك عن كونك قطعة طين من هذه الأرض؟ والله ما مكنك في هذا المقام وسلَّطك على رقاب الأنام إلا شعوذتنا وسحرنا وامتهاننا لديننا ووجداننا وخيانتنا لوطننا وإخواننا، فانظر ايها الصغير المكبر الحقير الموقر كيف تعيش معنا ! صــ82

☼ الإستبداد لو كان رجلاً وأراد أن يحتسب وينتسب لقال : "أنا الشر وأبي الظلم وأمي الإساءة  وأخي الغدر وأختي المسكنة، وعمي الضرُّ وخالي الذل، وابني الفقر وابنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب، أما ديني وشرفي وحياتي فالمال المال المال" ... والمال يصح في وصفه أن يقال: القوة مال، والوقت مال، والعقل مال، والعلم مال، والدين مال، والثبات مال، والجاه مال، والجمال مال، والترتيب مال، والإقتصاد مال، والشهرة مال، والحاصل كل ما يُنتفع به فى الحياة مال. صــ89

☼ إن الإستبداد داء أشد وطأة من الوباء، أكثر هولاً من الحريق، أعظم تخريباً من السيل، أذلُّ للنفوس من السؤال. داء إذا نزل بقومٍ سمعت أرواحهم هاتف السماء ينادي القضاء القضاء والأرض تناجي ربها بكشف البلاء. والإستبداد عهد أشقى الناس فيه العقلاء والأغنياء ، وأسعدهم الجهلاء والفقراء، بل أسعدهم اولئك الذين يتعجلهم الموت فيحسدهم الأحياء . صــ105

☼ أقل ما يؤثره الإستبداد في أخلاق الناس، أنه يرغم حتى الأخيار منهم على إلفة الرياء والنفاق، ولبئس السيئتان، وأنه يعين الأشرار على إجراء غي فى نفوسهم آمنين من كل تبعة ولو أدبية، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح، لأن أكثر أعمال الأشرار تبقى مستورة، يلقي عليها الإستبداد رداء خوف الناس من تبعة الشهادة على ذي شر وعقبى وذكر الفاجر بما فيه... صــ111

☼ وهكذا بين الشرقيين والغربيين فروق كثيرة، قد يُفضل في الإفراديات الشرقي على الغربي، وفي الإجتماعيات يفضل الغربي على الشرقي مطلقاً، مثال ذلك: الغربيون يستحلفون أميرهم على الصداقة في خدمتهم لهم والتزام القانون، والسلطان الشرقي يستحلف الرعية على الإنقياد والطاعة! الغربيون يمنُّون على ملوكهم بما يرتزقون من فضلاتهم، والأمراء الشرقيون يتكرمون على من شاؤوا بإجراء أموالهم عليهم صدقات! الغربي يعتبر نفسه مالكاً لجزء مشاع من وطنه، والشرقي يعتبر نفسه واولاده وما في يديه ملكاً لأميره! الغربي له على أميره حقوق وليس عليه حقوق، والشرقي عليه لأميره حقوق وليس له حقوق! الغربيون يضعون قانوناً لأميرهم يسري عليه، والشرقيون يسيرون على قانون مشيئة أمرائهم! الغربيون قضاؤهم وقدرهم من الله، والشرقيون قضاؤهم وقدرهم ما يصدر من بين شفتي المستعبدين! الشرقي سريع التصديق، والغربي لا ينفي ولا يثتب حتى يرى ويلمس، الشرقي أكثر ما يغار على الفروج كأن شرفه كله مستودع فيها، والغربي أكثر ما يغار على حريته وإستقلاله! الشرقي حريص على الدين والرياء فيه، والغربي حريص على القوة والعز والمزيد فيها! والخلاصة أن الشرقي ابن الماضي والخيال، والغربي ابن المستقبل والمجد!. صــ120 ، 121

☼ الأسير المعذب المنتسب إلى دين يسلي نفسه بالسعادة الأخروية، فبعدها بجنان ذات أفنان ونعيم مقيم أعده له الرحمن، ويبعد عن فكره أن الدينا عنوان الآخرة، وأنه كان خاسر الصفقتين، بل ذلك هو الكائن غالباً. ولبسطاء الإسلام مسليات أظنها خاصة بهم يعطفون مصائبهم عليها وهي نحو قولهم: الدنيا سجين المؤمن، المؤمن مصاب، إذا أحب الله عبداً إبتلاه، هذا شأن آخر الزمان، حسب المرء لقيمات يقمن صلبه، ويتناسون حديث (إن الله يكره العبد البطال) والحديث المفيد معنى (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم غرسة فليغرسها)... صــ130

☼ ما أبعد الأسراء عن النشاط للتربية، ثم لماذا يتحملون مشاق التربية وهم إن نوَّروا أولادهم بالعلم جنوا عليهم بتقوية إحساسهم، فيزيدونهم شقاء ويزيدونهم بلاء، ولهذا لا غرو أن يختار الأسراء الذين فيهم بقية من الإدراك، ترك أولادهم هملاً ترجفهم البلاهة إلى حيث تشاء. صـ134

☼ لقد اجمع علماء الإجتماع والأخلاق والتربية على أن الإقناع خير من الترغيب فضلاً عن الترهيب، وأن التعليم مع الحرية بين المعلم والمتعلم، أفضل من التعليم مع الوقار، وأن التعليم عن رغبة ٍ في التكمل أرسخ من العلم الحاصل طمعاً فى المكافأة، او غيرة من الأقران. وعلى هذه القاعدة بنو قولهم: إن المدارس تقلل الجنايات لا السجون، وقولهم: إن القصاص والمعاقبة قلما يفيدان فى زجر النفس... صــ138

☼ الترقَّي الحيوي الذي يتدرج فيه الإنسان بفطرته وهمته هو أولاً:الترقى فى الجسم صحة وتلذذا. ثانياً:الترقي في القوة بالعلم والمال. ثالثاً: الترقي في النفس بالخصال والمفاخر. رابعاً: الترقي بالعائلة استئناساً وتعاوناً. خامساً: الترقي بالعشيرة تناصراً عند الطوارىء. سادساً: الترقي بالإنسانية، وهذا منتهي الترقَّي. صــ142

☼ بعض الإجتماعيين في الغرب يرون أن الدين يؤثر على الترقي الإفرادي ثم الإجتماعي تأثيراً معطلاً كفعل الأفيون في الحس، أو حاجباً كالغيم يغشى نور الشمس. وهناك بعض الغلاة يقولون: الدين والعقل ضدان متزاحمان في الرؤوس، وإن أول نقطة من الترقَّي تبتدىء عند آخر نقطة من الدين، وإن أصدق ما يُستدل به على مرتبة الرقي والإنحطاط في الأفراد أو في الأمم الغابرة والحاضرة، وهو مقياس الإرتباط بالدين قوة ً وضعفاً. صــ145

رعاك الله يا شرق، بل رعى الله أخاك الغرب، العائل بنفسه والعائل فيك، وقاتل الله الإستبداد، بل لعن الله الإستبداد، المانع من الترقّي فى الحياة، المنحط بالأمم إلى أسفل الدركات. ألا بعُداً للظالمين. صــ159

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

منهج البحث التاريخي (حسن عثمان)





♦ من الصفات الواجب توافرها فى المؤرخ - كما فى غيره من الدارسين - أن يكون محباً للدرس جلداً صبوراً، فلا تمنعه وعورة البحث ولا المصاعب والعقبات عن مواصلة العمل، ولا توقفه ندرة المصادر، ولا يصرفه عن عمله غموض الوقائع والحقائق التاريخية وإختلاطها أو إضطرابها . وينبغى عليه أن يقضى الشهور والسنوات وهو يعمل ويرتحل من بلد الآخر، فى وطنه وفى كل مكان يمكن أن يعثر به على ما يفيده. وينبغى عليه ألا يتسرع أو يقتضب تعجيلاً لنيل منفعة، لأن هذا سيكون على حساب العلم والحقيقة التاريخية .
وينبغى على المؤرخ أن يكون أميناً شجاعاً مخلصاً، فلا يكذب، ولا ينتحل، ولا ينافق أصحاب الجاه والسلطان، ولا يُخفى الوقائع والحقائق التى قد لا يعرفها غيره فى بعض الأحيان، والتى قد لا ترضيه أو لا ترضى قومه، إذ أنه لا رقيب عليه غير ضميره. ومن يخرج على ذلك لا يمكن أن يعد مؤرخاً. ولا ريب أن الكشف عن عيوب الماضى وأخطائه تفيد إلى حد كبير فى السعى إلى تجنب عوامل الخطأ فى الحاضر، وعدم الكشف عنها يُعد تضليلاً وبعداً عن التبصر والمصلحة الوطنية. وقد يكون إخفاء الحقيقة التاريخية عملاً وطنياً فى بعض الظروف، كما تفعل كل الأمم، ولكن لا بد من ظهور الحقيقة بعد زوال الضرورة التى دعت إلى إخفائها، حتى يمكن إستخلاص أكبر قسط من الحقيقة التاريخية. ولا يمكن أن يُكتب التاريخ بغير التوصل الى الوقائع الصحيحة .
ويلزم للمؤرخ أن تتوفر له ملكة النقد، فلا يجوز له أن يقبل كل كلام أو يصدق كل وثيقة أو مصدر بغير الدرس والفحص والإستقراء، فيأخذ الصدق، أو أقرب ما يكون إليه، ويطرح جانباً ما ليس كذلك. وإذا أعوزت المؤرخ ملكة النقد سقطت عنه صفته، وأصبح مجرد شخص يحكى كل ما يبلغه على أنه حقيقة واقعة. وليس بهذا يُدرس أو يُكتب التاريخ . صــ18 ، 19

[العلوم المساعدة]

♦ من الضرورى للمؤرخ أن يكون واسع الثقافة، عارفاً بالعلوم المتصلة بدراسة التاريخ وكتابته. ويمكن أن تسمى العلوم اللازمة للمؤرخ - أو لغيره من الدارسين والباحثين بالنسبة لموضوع كل منهم - بالعلوم المساعدة أو العلوم الموصِّلة . صــ25

♦ من ضمن هذه العلوم (المساعدة) : اللغات - الفيلوجيا - الخطوط - الوثائق - الأختام - الرنوك - النيمات - الجغرافيا - الإقتصاد - الأدب - فنون الرسم والتصوير والنحت والعمارة - الفنون الموسيقية - التاريخ - طائفه من العلوم الأخرى - الإرتحال والسفر .

♦ ومن المفيد أيضاً إن لم يلم الباحث فى "التاريخ" بطائفة أخرى من العلوم المساعدة. فيلزمه أن يدرس شيئاً من المنطق الذى يفيده فى بنائه التاريخى. وكذلك يفيده الإلمام بتقسيم العلوم فى أن يفهم موضع التاريخ من سائر العلوم. كما ينبغى عليه أن يدرس أشياء من فلسفة التاريخ وآراء المفكرين فيه مثل اشبنجلر ، وبرجسون، وكروتشى، وكولونجوود. وهو فى حاجة كذلك إلى أن يعرف أشياء من علم الآثار، ومن علم الأجناس ومن علم الإجتماع، ومن علم النفس، ومن القانون، ومن النظريات السياسية، ومن علم الإحصاء، ومن الرياضة أو الفلك أو النبات أو الحيوان ... إذا ما عرضت له نواحٍ من هذه المسائل . وإذا لم يكن له بها معرفة سابقة فيمكنه تحصيل القدر الذى يكفيه منها لفهم الموضوع التاريخى الذى يعالجه، حينما يصبح فى حاجة إلى ذلك . صــ50

[إختيار موضوع البحث]

هل ستبحث كـ طالب جامعى ؟ أم كـ باحث فى التاريخ ؟ أم بحث عن بعض القواعد، أم بحث عن بعض الأمثلة .. ؟

♦ ويلاحظ أيضاً أنه من بين التدريبات المفيدة، للطالب فى الدور الأول من دراسته الجامعية، أن يختار كتاباً فى موضوع بعينه - وليكن باللغة العربية فى أول الأمر - ولتكن صفحاته 300 مثلاً - ويلخصه فى 100 صفحة أولاً، ثم يلخصه فى 50 صفحة ثانياً ثم 20 صفحة ثم فى 10 صفحات . ثم يطبق هذا على كتب أخرى أجنبية - ولابد له من أن يُحسن معرفة لغة أجنبية واحدة على الأقل - وسيجد أنه قد أفاد فائدة، وتعلم القدرة على الإستيعاب والتركيز، فضلاً عما يكسبه من المعلومات التاريخية الواردة فى الكتب التى إختارها، وما يجنيه من الصحيلة اللغوية والفكرية، بالقراءة، والترجمة، والإقتباس، والتدرب على الإيجاز والتركيز . صــ55

♦ ولا يجوز للباحث الذى يريد أن يكتب بحثاً علمياً تاريخياً - لا يجوز له أن يتخذ تاريخ الدولة الأيوبية بأكمله موضوعاً للبحث، لأنه موضوع طويل . فالأيوبيون حكموا دولتهم سنة 1196 إلى سنة 1250 م . ودراسة هذه الفترة دراسة عميقة مع كشف حقائق جديدة عنها لا يمكن أن يتم فى سنوات قلائل . وإذا أصرَّ الباحث على القيام بهذه الدراسة فى فترة محدودة من الزمن، فلن يخرج منها بنتيجة أكثر من تلخيص وإقتباس ما هو موجود عن هذا الموضوع فى المراجع السابقة عليه . صــ58

[جمع الأصول والمراجع]

♦ على الباحث الذى يرغب فى الكتابة عن ناحية من تاريخ مصر فى القرن الثامن عشر - مثلاً - ينبغى عليه أن يدرس أولاً بعض المراجع العامة عن تاريخ مصر منذ أقدم العصور حتى عصر دراسته، لكى يفهم أساس تطور هذه البلاد عبر التاريخ. ثم يتجه إلى المراجع التى تبحث فى تاريخ مصر فى أثناء القرن الثامن عشر، ثم يطالع ما كتبه الرحالون الذين زاروا مصر، ويدرس ما دونوه عنها، قبل التغلغل فى الأصول والوثائق التاريخية فى مصر والخارج، وذلك لكى يزداد بالتدريج إقتراباً من الناحية التى يرغب فى الكتابة عنها . صــ67

♦ وليس من الضرورى أن توجد وثائق وافية عن كل حوادث التاريخ، إذ تنطمس آثار كثيرة منها وتزول دلالاته، بتعرضها فى ظروف مختلفة للتلف أو الضياع، مثل ظروف الثورات أو الحرائق أو الرغبة فى التخلص منها وإتلافها عن عمد، حينما تكون فى حوزة من لا يفهم قيمتها التاريخية، أو من يهمه منع تدوال معلومات بين الناس. وبذلك يضيع الكثير منها بالنسبة للتاريخ، وكأن الأفكار والحوادث التى كانت تحملها فى طياتها وثناياها لم تكن فى الوجود . صــ70

♦ ومن الضرورى أن يفهم البحث محتويات ما ينقله، من الوثائق والأصول والمراجع، ويستوعبها أولاً بأول حتى لا تتراكم الأوراق أمامه، ولذلك ينبغى عليه أن يلخص مضمونها فى هوامش الصفحات، لكى تكون واضحة سهلة التناول. ومن المذكرات التى على الباحث أن يدونها أولاً بأول، تعليق أو نقد أو ملاحظة على وثيقة أو مصدر، أو فكرة عن مسألة تفصيلية معينة، أو إشارة إلى أصل تاريخى أو مرجع للرجوع إليهما فى المستقبل . وكثيراً ما تعرض للباحث فى هذا الدور من العمل أو فى الأدوار التالية، آراء ومسائل متشابكة أو غامضة، فعليه أن يسارع بتدوين ملاحظاته عليها حتى لا ينساها . صـ79

♦ ولا ريب أنه من الضرورى للمؤرخ أن يعيش فترة أو فترات من الزمن خلال هذه الذكريات التى تأدت من الماضى إلى الحاضر، وأن تشيع فى نفسه هذه الرؤى وتلك الخلجات التى أحاطت برجال العصر الذى يدرسه، إذ يُصبح بذلك كله أقدر على إستخلاص الحقائق التى تعنيه، وأقرب إلى فهم روح الموضوع الذى يتناوله ويرغب فى الكتابه عنه . صــ80

[نقد الأصول التاريخية]

♦ ينبغى على المؤرخ أن يُلاحظ قبل البدء فى نقد الأصل التاريخى الكتابى المخطوط هل هو فى نفس الحالة التى كان عليها من قبل ؟ ألم يَبلَ ويتآكل؟ ألم تُفقد بعض أجزائه أو تطمس بعض فقراته؟ وذلك لكى يرمِّمه بقدر المستطاع، ويجعله أقوى على البقاء والحفظ .. وهناك عدة مراحل للنقد . فالنقد الظاهرى (external criticism) يتعلق بعدة أمور، مثل إثبات صحة الأصل التاريخى، ونوع الخط والورق، وتعيين شخصية المؤلف وزمان التدوين ومكانه . أما النقد الباطنى (internal criticism) فيبحث فى الحالات العقلية التى مر خلالها كاتب الأصل التاريخى، ويحاول أن يتبين قصد الكاتب بما كتب، وهل كان يعتقد صحة ما كتبه، وهل توفرت المبررات التى جعلته يعتقد صحة ذلك ؟ صــ83

♦ وعلى ذلك تتضح أهمية البحث لمعرفة أكبر قسط ممكن من المعلومات عن كاتب الأصل أو الوثيقة التاريخية. وفى هذه الناحية وغيرها من نواحى نقد الأصول التاريخية، يصبح عمل المؤرخ شبيهاً بعمل القاضى، وإن إختلفت الظروف . فالقاضى يمتاز بأن شهود الحوادث أحياء أمامه - فى الغالب - وينطقون بالحق أو الكذب، ولكن هذا المثول لا يتوفر للمؤرخ، الذى عليه أن ينتقل من الحاضر إلى الماضى بالعقل والنقد والخيال . صــ90

♦ ويلاحظ الباحث عند تحديد العلاقة بين النُسخ المتعددة لمخطوط واحد، قاعدة شبه عامة، وهى أن النُسخ المتشابهة التى تحتوى على نفس المعلومات، واردة بنفس اللغة وبنفس الأخطاء، إما أن تكون قد نقلت جميعها عن أصل أقدم منها أخذ عن الأصل الأول الضائع، وتحتوى على نفس المعلومات ونفس الأخطاء. ولا يُعقل من الناحية السيكولوجية أن عدداً من الناسخين ينقلون مستقلين أصلاً تاريخياً معيناً، ويوردون نفس المعلومات بنفس اللغة وبنفس الأخطاء، بل لابد من أن يوجد بينهم فوارق متنوعة . صــ110

[النقد الباطنى]

♦ وعلى ذلك فمن الضرورى أن تحلل الوثيقة أو النص التاريخى، لمعرفة العمليات التى لم تراع فيها الدقة اللازمة - بقدر الإمكان - حتى لا يأخذ الباحث بما ورد به من المعلومات قبل التثبت من صحتها. فالتحليل (analysis) ضرورى فى نقد الأصول التاريخية . وما من نقدٍ يمكن أن يجرى دون أن يبدأ بالتحليل . ومن أهم واجبات التحليل إسترجاع أغلب العمليات التى قام بها المؤلف، منذ الوقت الذى بدأ فيه بمشاهدة الحادث - إن كان قد فعل ذلك - حتى تحركت يده لتسطير الأصل التاريخى الماثل بين يدى الباحث فى التاريخ. أو على العكس من ذلك، ينبغى أن يسير الباحث إبتداء من الحادث المسجل فى لأصل التاريخى، حتى يصل إلى الوقت الذى شهد فيه المؤلف ذلك الحادث - إن كان قد فعل ذلك. ولا شكل أن ذلك يستغرق الزمن ويقتضى الصبر . صــ117

♦ ويلجأ أكثر الباحثين فى التاريخ دقة ً إلى طريق مختصر، ويركزون عملياتهم فى مجموعتين :
1 - تحليل محتويات الأصل التاريخى بالنقد الباطنى الإيجابى الضرورى للتحقق من معنى الألفاظ ومن قصد المؤلف بما كتبه . 2 - تحليل الظروف التى دُوِّن فيها الأصل التاريخى، بالنقد الباطنى السلبى - الذى سيأتى بعد - والضرورى لإثبات صحة المعلومات المدونة . صــ118

♦ فالنقد الباطنى الإيجابى (hermeneutic) عبارة عن تحليل الأصل التاريخى بقصد تفسيره وإدراك معناه . ويمر ذلك فى دورين : أولاً تفسير ظاهر النص وتحديد المعنى الحرفى له . ثانياً : إدراك المعنى الحقيقى للنص ومعرفة غرض المؤلف مما كتبه . صــ119

\\وفى هذا الصدد - اللغوى - يمكن أن نجمل عدة نقاط هامة منها الفهم المكانى والزمانى للغة، وفهم أسلوب الكاتب اللغوى، وفهم الكلمة ليس بذاتها فقط بل فى السياق التى وجدت فيه ...\\

♦ وعندما ينتهى الباحث من تحديد المعنى الحرفى للألفاظ والتراكيب التى تحتمل الشك فى معانيها، عليه أن يصل إلى معرفة غرض الكاتب والمعنى الحقيقى لما كتبه. فمن الجائز أنه كتب بعض الأساليب والتراكيب غير الواضحة، وفى هذه الحالة لا يؤدى ظاهر النص إلى المعنى المقصود. وتعترض المؤرخ حالات كثيرة من هذا النوع، تحتوى على تشبيه أو مجاز أو إستعارة أو كناية أو رمز أو هزل ومداعبة أو تلميح وتعريض، أو التعبير عن المقصود بطريقة سلبية. ففى هذه الحالة لا يكفى فهم ظاهر النص والمعنى الحرفى للألفاظ، بل لابد من محاولة الوصول إلى المعنى الحقيقى الباطنى الذى قصد إليه كاتب النص التاريخى . صــ121

♦ إن النقد الباطنى السلبى عملية ضرورية لتصفية الحقائق وإستبعاد الزائف منها، بقدر المستطاع. ونظراً لصعوبة النقد الباطنى السلبى فإن بعض الباحثين لم يعنوا به عنايتهم بالنقد الباطنى التفسيرى الإيجابى، وإكتفوا بأن تعرفوا هل كان كاتب الأصل التاريخى معاصراً للحوادث التى كتب عنها، وهل كان شاهد عيان صادقاً فى رواية ما أعتقد أو ما تصوَّر حدوثه ؟ صــ125

♦ يمكن القول أن النقد الباطنى السلبى يؤدى إلى قاعدتين : 1 - الإثبات العلمى لأيه حقيقة تاريخية، لا يمكن أن يتم عن طريق شهود العيان فقط، بل ينبغى أن تتوافر لدى الباحث فى التاريخ الأدلة التى تثبت صحة تلك الحقيقة. وفى بعض الأحوال تُعد أقوال مؤلف بعينه أقوالاً صحيحة، ولكن لا يمكن أن يُتخذ ذلك كقاعدة عامة . 2 - لا يجوز أن يُنقد الأصل التاريخى فى هذه المرحلة كوحدة عامة، بل ينبغى أن تُنقد جزئياته وتفصيلاته وحوادثه المفردة واحدة بعد الأخرى. فنجد مثلاً أن جملة واحدة قد تحتوى على عدة حوادث مرتبطة بعضها ببعض، كما فى حالة عقد البيع، الذى يقتضى من الباحث أن يبحث الزمان والمكان، والبائع والشارى، وموضوع البيع والشراء، والثمن، وشروط البيع ... فهذا المثال الصغير يبين أن النقد الباطنى السلبى يتطلب عدة عمليات، ويستلزم جهداً وصبراً، ولكنه يصبح عملاً مألوف بالتمرين والتدريب العملى . صــ126

♦ وثمة صعوبة أخرى تواجه كاتب الأصل التاريخى والباحث فى التاريخ على السواء. فعلى الرغم من ذكاء الكاتب وعدله وتثبته من الأخبار والمعلومات، وعلى الرغم من عدم إنخداعه وبعده عن أسباب التحيز والهوى، وعلى الرغم من رغبته الصادقة فى قول الصدق والتعبير عن الحقيقة، فإن ما يكتبه لا يدل حتماً على أنه قد طابق ما رغب فى التعبير عنه. وذلك لأن الأمر يتطلب دقة خاصة وملكة أو موهبة تساعده على تدوين الكتابة التاريخية، بما يجعلها أقرب ما تكون مطابقة للحقيقة التاريخية. فكاتب الأصل التاريخى ينبغى أن يكتب بلغة دقيقة تعبر عما شهده بنفسه او ما عرفه، أو ما إستخلصه، بحيث يؤثر فى ذهن القارىء وينقل إله ما أحسه وما عرفه عن ذلك الحادث التاريخى المعين، وتجعله يدرك الأفكار التى قامت فى ذهنه هو عنه. وهذه الدقة فى التعبير ليست أمراً سهلاً كما يتصور بعض الناس، إذ كثيراً ما تعجز اللغة عن وصف الحوادث وعن أداء المعانى وعن التعبير عما يجيش بالصدور . صــ133

♦ ويُلاحظ أن الأساطير من أهم أنواع الروايات الشفوية، وتكثر عند الجماعات الفطرية أو فى البيئات غير المثقفة، مثل بعض القبائل أو سكان الريف أو الجند. ويوجد عصر أساطير فى تاريخ كل أمة مثل أساطير قدماء المصريين وأساطير الفرس والهنود واليونان الرومان والصقالبة والجرمان...وفى عهود الحضارة تستمر الأساطير الشعبية فيما يتعلق بالحوادث ذات التأثير فى أذهان الناس. وحينما تبدأ أمة من الأمم فى تدوين تاريخها لا تنتهى الروايات الشفوية، بل تستمر ولكنها تبقى فى حيز ضيق، وتصبح مقصورة على وقائع لم تدون، لأنها سرية بطبيعتها أو لأن أحداً لم يُعن بتدوينها، وذلك مثل بعض التصرفات أو الأقوال الخاصة، أو بعض تفاصيل الحوادث التى أفلتت من سجل التاريخ. وعلى ذلك تنشأ النوادر أو القصص المسماة بأساطير الجماعات المتحضرة، مثل الإشاعات والأوهام والتفسيرات الخاطئة لبعض الظواهر، والحكايات التى تتركز حول بعض الشخصيات أو الحوادث . صــ135

♦ ومما يفيد فى النقد الباطنى السلبى - أو فى العدالة والضبط - الإلمام ببعض ما أورده ابن خلدون فى مقدمته من الآراء الخاصة بالبحث فى التاريخ فى نطاق دراسته للمجتمع الإنسانى. فهو يحاول أن يتجنب الأخطاء التى يقع فيها المؤرخ. بتحديد العوامل التى تؤدى إلى الوقع فى الخطأ، فيذكر أنه "لما كان الكذب متطرقاً للخبر بطبيعته، وله أسباب تقتضيه، فمنها التشيعات للآراء والمذاهب، فإن النفس إذا كانت فى حال الإعتدال فى قبول الخبر، أعطته حقه من التمحيص والنظر، حتى يتبين صدقه من كذبه. ومن الأسباب المقتضية للكذب فى الأخبار أيضاً الثقة بالناقلين، ومنها الذهول عن المقاصد، ومنها توهم الصدق، ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع، لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع. ومنها تقرب الناس فى الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب، بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك، فيستفيض الإخبار بها على غير حقيقة " . ويروى ابن خلدون أنه لابد للمؤرخ من معرفة طبائع العمران. لأن لكل حادث من الحوادث طبيعة تخصه فى ذاته، وفيما يعرض له من أحواله، فمعرفة طبائع العمران تساعد المؤرخ فى تمحيص الأخبار وفى تمييز الصدق من الكذب. وينبغى أن يكون ذلك سابقاً على التمحيص بتعديل الرواة، ولا يُرجع إلى تعديل الرواة حتى يُعلم أن ذلك الخبر فى نفسه ممكن أو متبع. وما كان مستحيلاً فلا فائدة للنظر فى أمر تعديله وتجريحه. وبذلك يستطيع المؤرخ أن يميز بين الصدق والكذب بوجه برهانى لا مدخل للشك فيه . ومع ذلك فإن ابن خلدون نفسه لم يُراع فى كتابه المسمى "العبر وديوان المبتدأ والخبر" الدقة فى تطبيق آرائه، فوقع فيما دعا إلى تجنبه من عوامل الخطأ والخضوع للمؤثرات المختلفة . ويوضح هذا كله على صعوبة دراسة التاريخ بعامة، وصعوبة النقد التاريخى بخاصة، والذى بغيره لا يمكن أن تتم كتابة التاريخ، على الرغم من محاولة الكاتب وجهده وسعيه إلى بلوغ ذلك. ويتضح بهذا - وبغيره - أن دراسة التاريخ ليست أمراً سهلاً، إذا تقتضى كثيراً من البحث والتحرى والأناة والصبر للوصول بقدر المستطاع إلى الحقيقة التاريخية، كما أشرنا إلى ذلك غير مرة . صــ145

[إثبات الحقائق التاريخية]

♦ ينبغى على الباحث قبل أن ينبذ رواية الواحد أن يحاول العثور على شواهد تؤيدها. والرواية المفردة، مهما كانت صادقة، يحسن ألا تُعد حقيقة نهائية، بل يمكن أن تُستخدم، مع الإعتراف بأنها رواية مفردة، وينبغى الإشارة إلى قائلها أو كاتبها، لأنه هو الذى يتحمل مسؤليتها. ويأخذ بعض المؤرخين أحياناً رواية وردت فى أصل واحد على أنها حقيقة ثابتة، مع أن هذا غير جائز . فمثلاً الحروبة الميدية التى تكلم عنها هيرودوت، لا يمكن أن تكون موضع دراسة ومناقشة، كما هى الحال بالنسبة إلى حوادث الثورة الفرنسية الكبرى، التى شهدها وكتب عنها مؤلفون عديدون، بوجهات نظر متفاوتة . صــ147

♦ ينبغى على الباحث فى التاريخ أن يلاحظ أنه إذا وجدت عدة أصول تقول برأى معين، ووجد مصدر واحد يقول برأى مخالف، فمن الجائز أن يكون الرأى الواحد هو الصحيح. والكثرة العددية لا تحدد حتماً صحة ما تورده، والعبرة قائمة فى نوع هذه الكثرة أو فى نوع الواحد، من حيث صفات الكتّاب وظروفهم ووسائل بحثهم. ولا عبرة بالعدد أحياناً فى بعض المسائل التاريخية . صــ148

♦ ويلاحظ كذلك أن إتفاق الروايات المستقلة لا يكفى وحده لبلوغ الحقيقة التاريخية، وهو يؤدى أحياناً إلى نتائج ليست نهائية دائماً. ولكى يتثبت الباحث من هذه النتائج ينبغى عليه أن يلاحظ التوافق والتآلف والإتساق بين الحقائق التاريخية . فقد يؤكد الكثير من الحقائق بعضها بعضاً، ويوجد بينهما صلة وعلاقة، فتكون مجموعاً متناسقاً يلمع الحق فى ثناياه، وتصبح كالموسيقى التى تُشكل الحانها المتسقة مجموعة من الأنغام التى تؤثر فى نفس المستمع الفنان المتذوق ... صــ151

♦ وبذلك نجد أن هيرودوت قد قدم لنا معلومات متنوعة مستمدة من مصادر مختلفة. فمعلوماته عن التاريخ المصرى القديم لم تزد عن إعتبارها نوعاً من الأساطير والقصص، والتى أوردها لنا كما سمعها، ولكنه لم يأخذها على أنها وقائع مسلم بصحتها، بل أبدى الشك فى بعض نواحٍ منها، وسردها لمن كان مستعداً لتصديقها. ولكن ابتداء من العصر الصاوى، وكلما إقترب كلامه من العصر الذى عاش فيه، نقص لديه عنصر الخيال والقصص وزاد  عنصر الصدق والحقيقة التاريخية . وكذلك نجد وصف هيرودوت لمصر كما شهدها صحيحاً بصفة عامة، بل ونجد معلوماته عن بعض نواح من الديانة المصرية القديمة ومن العادات المصرية القديمة، مطابقة لما توصل إلى إثباته علماء مصر القديمة المحدثين. وعلى وجه العموم يبدو هيرودوت فى كتابته عن مصر، كباحث متحمس محب للحقيقة، وإن لم يَحُلْ ذلك دون وقوعه فى الخطأ، إذ لم يستطيع دائماً أن يميز بين القصص والحقائق التاريخية . صــ155

♦ ويلاحظ فى بعض الأحيان أن الباحث فى التاريخ يُضطر إلى اتباع طريقة رجل القانون. ولا ريب أن هناك أوجه شبه بين عمل الباحث فى التاريخ وعمل القاضى فى كثير من مراحل البحث. وكثيراً ما يحدث أن يدرس الباحث فى التاريخ الظروف التى أحاطت بحادث ما، على نحو ما يفعل القاضى، ويحاول أن يستنبط ما يمكن الوصول إليه من الحقائق . ولنأخذ مثالاً أورده الاستاذ فلنج عن حالة إجرامية . فالنفرض أن شخصاً رمز إليه بـ (أ) كان واقفاً مع (ب) فى غرفة بطبقة عالية. ويخرج (أ) من باب الغرفة الوحيد ويترك (ب) فى داخل الغرفة، ويرى (أ) بعد خروجه شخصاً ثالثاً (جـ) يدخل تلك الغرفة. وبعد قليل يسمع (أ) جلبة وصراخاً وصوت جسم يسقط على الأرض. ويلاحظ (أ) أن (جـ) قد غادر الغرفة مهرولاً وهو فى حالة مضطربة، فيدخل (أ) الغرفة، ويجد (ب) ملقى على الأرض مضرحاً بدمائه وبجانبه مدية عليها آثار الدماء. فالشخص (أ) لم يشهد بنفسه ما حدث داخل الغرفة، ولكن الظروف التى ذكرناها تجعله يستنتج أن (جـ) هو القاتل .
وتبدو المسألة أكثر صعوبة إذا صُوّرت الحالة على الوجه الآتى: توجد غرفة ذات بابين وبها ثلاثة أشخاص (أ ، ب ، جـ) ويلاحظ (أ) أن (ب ، جـ) يتناقشان فى مسألة ما ، فيخرج لبعض شأنه، ويترك (ب ، جـ) بالغرفة. وبعد قليل يسمع جلبة وضوضاء وصراخاً وصوت سقوط جسم، فيدخل ليرى ماذا حدث، فيجد (ب) ملقى على الأرض مطعوناً بمدية غارقاً فى دمائه، ويجد (جـ) ممسكاً بالمدية. هذه الشواهد لا تَثبت حتماً أن (جـ) هو القاتل، إذ أن الغرفة ذات بابين، ومن الجائز أن شخصاً مجهولاً دخل الغرفة من الباب الثانى واعتدى فجأة على (ب) وطعنه بالمدية، وحاول (جـ) الدفاع عن (ب) ولكنه لم يفلح. ولعله قد حاول أيضاً إخراج المدية من جسم (ب) فدخل (أ) الغرفة فوجد المدية فى يد (جـ). ومن الجائز أن القاتل المجهول أسرع إلى الهرب من الباب الثانى. ومن الجائز أيضاً أن (جـ) هو القاتل. ولكننا لا نستطيع أن نستخلص الحقيقة هنا بسهولة، بل لا بد لذلك من إجراء تحقيق دقيق محدد ومتشعب، كفحص آثار البصمات أو تحليل آثار الدم، أو آثار التمزيق فى الملابس، أو غير ذلك من الشواهد إن وجدت .. وإن تفهم هذا المثال وغيره من الحالات الإجرامية، يساعد الباحث فى التاريخ على إستنباط بعض الحقائق التاريخية. فينبغى عليه أن يدرس الأصول والمصادر الماثلة أمامه بهذه الروح الفاحصة، فلا يصدق بسهولة ما يقرأه أو ما يُروى له، ويحاول أن يستخلص من ظروف الحوادث وملابساتها ما يعنيه على أن يصل إلى الحقيقة التاريخية، أو ما يقرب منها . صــ156 ، 157

[بعض القواعد العامة للتركيب التاريخى]

♦ بعد التثبت من صحة الحقائق التى تقدمها الأصول والمصادر التاريخية، ينبغى على الباحث فى التاريخ أن يقوم بسلسلة من عمليات التركيب أو البناء (synthesis) . ودراسة هذه العمليات من أهم المراحل فى الإلمام بمنهج البحث فى علم التاريخ، وهى مرتبطة بنوع المادة التاريخية التى يتوصل إلى جمعها الباحث فى التاريخ . صـ158

♦ ونجد فى علم الحيوان الوصفى مثلاً، أنه يمكن ملاحظة الحيوان وتشريحه، وبعد ذلك يمكن جمع أجزائه وتركيبها وجعلها تكون شكلها السابق على وجه التقريب. فهاتان العمليتان هما التفكيك أو التحليل والتركيب الحقيقيان. ولكن الحال مختلفة بالنسبة لعلم التاريخ، إذ لا يكون التحليل والتركيب فيه شيئاً ملموساً على النحو المشار إليه، بل يكون على سبيل الإستعارة فحسب . صـ160

♦ ويمكن أن تُلخص عمليات التركيب أو البناء التاريخى فى بعض المراحل. وعلى الباحث أن يجمع خلالها العناصر المأخوذة من أصول تاريخية متعددة، ويحاول أن يُكون عنها صورة عقلية تشابه بقدر الإمكان الصورة التى وُجدت فى ذهن شاهد العيان أو كاتب الاصل التاريخى. ثم يقسم الباحث الحقائق إلى مجموعات على أساس من التشابه القائم بينهما، وعلى أساس المسائل المتعلقة بنقطة أو حادث معين. وحينما تصادف الباحث فجوات صغيرة أو كبيرة، فعليه أن يحاول ملأها بالإستنتاج العقلى المستمد من الحقائق التى توفرت لديه، وعليه كذلك أن يستخرج من هذه الحقائق صفاتها العامة، وعلاقة بعضها ببعض، ويؤدى ذلك فى النهاية إلى كتاب التاريخ . صــ162

[تنظيم الحقائق التاريخية]

♦ يصل الباحث فى التاريخ إلى مرحلة تنظيم أو ترتيب الحقائق التاريخية التى تجمَّعت لديه. ومن غير شك ينبغى عليه أولاً أن يُفاضل بينها وأن يستمسك ببعضها ويدع جانباً بعضها الآخر. وفى الواقع أن كل الحقائق التاريخية لها قيمة فى حد ذاتها، ولكن الباحث مضطر إلى إختيار جزء منها لإستخدامه فى كتابة التاريخ، والحقائق التى يتركها جانباً تساعده - وإن لم يُبرزها - على فهم كثير من مسائل التاريخ. ويمكن للباحث أن يختار الحقائق على أساس موضوعه أو إتجاهه إلى الكتابة فى الناحية التى تعنيه، سواء أكانت ناحية سياسية أم إقتصادية أم عسكرية أم دينية أم ثقافية ... صــ165

♦ وعلى ذلك ينبغى أن تٌُدرس الحقائق وتنظم على أساسين : على أساس العناصر المفردة القائمة بذاتها، وعلى أساس عناصرها الجماعية المستمرة . وكلتا الناحيتين ضرورية، إذ لابد من الجمع بين الحوادث العامة والحوادث الخاصة المعينة. فمثلاً لا يمكن فهم تاريخ النظم الفرنسية، إذا إقتصر الباحث على دراسة الحوادث أو التيارات العامة، دون دراسة سقوط الباستيل مثلاً، والعكس صحيح . وينبغى على الباحث فى التاريخ أن يلاحظ أوجه التشابه والخلاف بين الجماعات الإنسانية، ولا يجعل تنظيمه وتقسيمه للجماعات قائمين على التشابه والسطحية، بل ينبغى عليه أن يتبين على وجه الدقة طبيعة كل جماعة بعينها : فما أوجه الشبه بين أفراد الجماعة الواحدة ؟ وما الصلة التى ربطت بينهم ؟ وما الآراء أو العادات التى سادت بينهم ؟ وما أوجه الخلاف ؟ فالبروتستانت مثلاً تجمعهم رابطة واحدة بالنسبة إلى الكنيسة الكاثوليكية، ولكنهم ينقسمون فيما بينهم إلى طوائف من أتباع لوثر أو كلفن أو زِوينجلى ... واللغة الواحدة مثلاً تنقسم إلى لهجاب، ولبعضها قيمة أدبية خاصة، والدولة الواحدة تنقسم إلى مقاطعات ... ففى مثل هذه المسائل يلاحظ الباحث الصفات العامة . وكذلك نجد كثيراً من الحوادث كون فيما بينها وحدة أو رابطة عامة، فضلاً عن ملاحظة الخصائص الجزئية المميزة لكل فرع أو شعبة من هذه الرابطة العامة الجامعة . صــ167

[الإجتهاد]

♦ وللإجتهاد طريقتان، طريقة سلبية وأخرى إيجابية. ولقد عبر المناطقة عن الإجتهاد السلبى بقولهم (السكوت حُجّة). فقد يقال إن الحادث لم يقع لسكوت الوثائق أو المصادر عنه، وإنه لو كان الحادث حقيقياً لسمعنا به أو لقرأنا أخباره. ولكن هذا إستنتاج خطر فى أحوال كثيرة، لأننا لا يمكننا أن نسمع جميعاً بكل الحقائق. وقد تعرض كثير من الأصول التاريخية للتلف أو الضياع، فضاعت معه حوادث التاريخ ... صــ175

♦ أما الإجتهاد الإيجابى فهو محاولة إستنتاج حقيقة أو حادث أو أكثر، بمجرد التثبت من حدوث واقعة معينة. فيبدأ الباحث بحادث ما، ثم يسعى إلى أن يستنتج وقوع حوادث أخرى لم يرد عنها نص فيما تحت يده من الأصول التاريخية. ويمكن أن يقارن الباحث حوادث الحاضر بحوادث الماضى حتى يساعده ذلك فى إستنتاجه. فيجد أن كثيراً من الحقائق أو الحوادث مرتبط بعضها ببعض، وإذا عرفنا حادثاً معيناً، أمكن إستنتاج وقوع حادث آخر، لترتب أحدهما على الآخر، أو لأنهما معاً نتيجة سبب مشترك. وينطبق هذا الإجتهاد على الحقائق التاريخية كافة، على العادات، وعلى المجتمع وتطوره أو تغيره فى شتى النواحى، وعلى الحوادث الفردية، وعلى مسائل السياسة، أو الدين، أو الفن، أو الحياة العقلية ... صــ182

♦ ثم ينبغى أخيراً أن يلاحظ الباحث أن الإجتهاد لا يؤدى دائماً إلى نتائج نهائية ثابتة، ولكنه يؤدى فى الغالب إلى نتائح تقريبية. وأحياناً يمكن ملء بعض الفجوات فى التاريخ عن طريق الإجتهاد، وأحياناً أخرى تبقى بعض المسائل التى لا يمكن الوصول فيها إلى رأى حاسم، ويظل الشك حائماً حولها، وربما يأتى فى المستقبل من يمكنه أن يصل فى شأنها إلى راى أصح أو افضل، بناء على ما قد يُكتشف عنه من الحقائق المجهولة . صــ184

[التعليل والإيضاح]

♦ وقد حاول بعض الباحثين الطبيعين ونحوهم، لمعرفة أسباب الحوادث. فقاموا بمقارنة مجموعات من الحقائق، لإكتشاف أى الحوادث يقع فى نفس الوقت، ويكون الإرتباط بينهما قوياً. فيدرس الباحث مثلاً ناحية من تاريخ النظم أو العقائد، ويقارن بين أوجه تطورها فى عدة مجتمعات، لكى يحدد إتجاه تطورها العام، بقصد الوصول إلى معرفة السبب المشترك الذى يرجع إليه ذلك التطور. وعلى ذلك ظهرت أنواع من الدراسات التاريخية المقارنة، مثل دراسة فقه اللغة المقارن، والأساطير المقارنة، والقانون المقارن، والنظم المقارنة والأدب المقارن .. وحاول بعض الباحثين فى أوروبا إستخدام الإحصائيات فى هذه الدراسة المقارنة زيادة فى الدقة . صــ186

[إنشاء الصيغ التاريخية]

♦ يحتاج التاريخ إلى صيغة وصفية للتعبير عن طبيعة ظواهره المختلفة. وينبغى أن تكون الصيغة التاريخية مختصرة ودقيقة. وقد يوجد التعارض بين الإختصار والدقة. فالأسلوب المختصر ربما يحول دون فهم المراد، والأسلوب المطول ربما يقلل من قيمة التاريخ المكتوب، ويقدم للقارىء ما ليس ضرورياً. فيحسن اتباع طريق وسط بين الطريقين، وذلك بضغط الحقائق أو الحوادث، وبحذف كل ما هو غير ضرورى لإيضاحها. وطبيعة الحقائق ذاتها ربما تجعل هذه العملية صعبة، فالحقائق ذاتها تتفاوت فى دقتها وتركيزها، وتوجد حقائق مطولة مفصلة، وأخرى مقتضبة موجزة، ولا تُعرف تفاصيلها . صــ 191

♦ ينبغى على الباحث أن يستعين فى ذلك بما وصل إليه من التعرف على طبيعة الحقائق العامة، ومدى إنتشارها فى الزمان والمكان، يجمع كل الظواهر المتعلقة بها، وتركيزها، وتمييزها عن غيرها من الحقائق، وبذلك ينتظمها فى بنائه التاريخى. صــ192

♦ وكذلك ينبغى على الباحث أن يعطى الناحية التاريخية التى يدرسها التلوين المناسب، مما يساعد على إبراز صورة صحيحة عنها. ولا يمكن أن يحدد ذلك التلوين بقواعد معينة، والأمر متروك إلى ذوق الباحث وتقديره. فمثلاً عند الكلام عن إنعقاد مجلس طبقات الأمة فى فرساى فى 4 مايو سنة 1789 ، يحسن به أن يذكر جمال الجو فى ذلك اليوم، وتزاحم الجماهير فى الطرق والميادين وفى النوافذ وفى أعلى الدور، وتزيين الشرفات بالسجاجيد، وإصطفاف الجند، وسير الموكب، ووصف فرق الموسيقى، وإبتهاج الجماهير، وإستقبال لويس السادس عشر ومارى أنطوانيت ... فكل هذه التفاصيل تساعد على تلوين الموقف وتصويره ورسم الجو السائد، الذى يجعله أقرب إلى الفهم وأدنى إلى التصور . صــ193

[العرض التاريخى]

♦ آخر مرحلة من مراحل هذا المنهج هى مرحلة العرض التاريخى. وهى ليست أسهل من المراحل السابقة. وبالضرورة لا تصبح كتابة التاريخ سهلة إلا حينما تكون جميع الحقائق ماثلة أمام الباحث مُثبتة مرتبةً معللةً مشروحةً، وعندما يتخيل الباحث موضوع البحث كله كوحدة عامة، ويدرك النسبية لأجزاء البحث المختلفة ويحسن اللغة التى يكتب بها..صـ196

♦ وتوضع المؤلفات التاريخية إما للجمهور وإما للمختصين. فالكتب التى توضع للجمهور يُقصد بها الثقافة العامة، وهى تُعنى بتقديم صورة سهلة واضحة مختصرة عن العصر أو الناحية التاريخية التى تتناولها. ولا تحتوى مثل هذه الكتب على التفصيلات وعلى الإرشادات إلى الأصول والمراجع، وتكتفى بذكر بعض المراجع العامة للرجوع إليها إذا رغب القارىء فى المزيد. ومن الأفضل أن يكتب هذه المؤلفات العامة نفس الباحثين الذين يكتبون للمختصين، إذا اتسع وقتهم لذلك، لأنهم أقدر على فهم دقائق التاريخ وتفاصيله، وهم فى الغالب أقدر على عرضه بصورة عامة واضحة مختصرة ... صــ197

♦ وكذلك ينبغى ألا يكتب الباحث بأسلوب أدبى صرف، لأن ذلك ربما يضطره إلى تغيير الحقائق، وإلى المبالغة فيما يكتبه، لإحداث الأثر المطلوب فى نفس القارىء. وليس المقصود أن يكتب قطعة أدبية مثيرة للعواطف، بل المقصود أن يعرض على القارىء بوضوح النتائج التى وصل إليها. وياحبذا لو كانت للباحث ملكة الكتابة، التى يجمع فيها بين البساطة والدقة وروح الفن لكى يعرض الحقائق والحوادث كما كانت أو كما فهمها، بالصورة التى تجتذب القارىء إلى الإقبال عليه والإفادة بما كتبه ... من نفس الصفحة

♦ ينبغى أن تكون الهوامش جزءاً هاماً فى أسفل الصفحات أو فى نهاية الفصل أو فى نهاية الكتاب، لكى تضبط الوقائع الواردة فى متن التاريخ. وفى المؤلفات المطبوعة التى يعتمد عليها البحث، يلزمه أن يضع اسم المؤلف(اللقب أولاً ثم الإسم أو أول حروفه)، ويضع اسم الكتاب ومكان طبعه وتاريخه، ورقم المجلد إذا كان متعدد المجلدات، ورقم الصفحة. وإذا كان الكتاب المطبوع نادر الوجود، فينبغى ذكر مكان وجوده ورقمه. وإذا كان الأصل التاريخى الذى اعتمد عليه الباحث وثيقة مخطوطة، فينبغى ذكر الأرشيف أو المكتبة التى توجد بها رقم المجلد ورقم الملف ورقم الصفحة، وتاريخ الوثيقة ومكان تدوينها، وعمَّن صدرت وإلى من أرسلت، وبيان ما إذا كانت ورقة نهائية رسمية أو غير رسمية، أو مُسودة، وإذا أمكن معرفة كل هذه النواحى. ولا بد أن تكون هذه المعلومات دقيقة وصحيحة، وألا يحدث بشأنها سهو او إضطراب وخلط، وإلا فلا فائدة منها أصلاً، لان المقصود بذلك أن تتاح الفرصة أمام الإخصائى للرجوع بنفسه إلى بعض هذه الأصول التاريخية، إذا رغب فى التثبت من مسألة معينة - وهذا شىء من حقه - أو إذا رغب فى متابعة البحث فى نفس الموضوع والمزيد فيه . صــ199






  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

النقد التاريخي (عبد الرحمن بدوي)



نقاط دونتها، ومنها ما هو موجود فى الكتاب نفسه ...

• دراسة كل وثيقة ينبغى أن نبدأ بتحليل مضمونها لغير غاية إلا تحديد فكرة المؤلف الحقيقية .
• التفسير يمر بمرحلتين : المعنى الحرفى، والمعنى الحقيقى .
• من الأفضل معرفة اللغة الأساسية التى كتب بها النص ..
• لكل مؤلف طريقته الخاصة فى الكتابة .. ولهذا يجب أن ندرس لغة المؤلف .
• التعبير يختلف معناه بحسب الموضع الذى يوجد فيه .. (المعنى يفهم من السياق) .
• إن لدراسات الكلمات أهمية بالغة فى علم التاريخ . فاللفظ الذى يفسر تفسيراً خطأ يمكن أن يكون مصدراً لأغلاط فاحشة .. (فوستيل دى كولانج) .
• يجب أخذ الحيطة من التعبيرات المجازية التى يستعملها المؤلف فقد تغير المعنى تماماً وتقلبه رأساً على عقب ..
• من المهم أن نفهم طبيعة الجمهور الذى يكتب له المؤلف ..
• إبحث دائماً عن المؤلف الذى تقرأ له .. هل هو جدير بالثقة أم لا .. ؟ وما هى هفواته ..
• من المسحسن الإلتزام بقواعد الشك (المنهجى) عند التحقق من وثيقة أو مؤلف تاريخى ما ..
• لما كان ديكارت قد نشأ فى عصر لم يكن التاريخ فيه غير ترديد للأخبار السابقة، فإنه لم يجد ذريعة لتطبيق الشك المنهجى عليه ؛ ولهذا رفض أن يعترف بأن للتاريخ طابعاً علمياً .
• والقول بأن وثيقة ما (صحيحة) لا يعنى إلا أن مصدرها وثيق، لا أن مضمونها صحيح دقيق .. بإختصار تحقق من المضمون .
• إن إمكان البرهنة على واقعة تاريخية يتوقف على عدد الوثائق المستقلة المحفوظة عندنا عن هذه الواقعة، وبقاء الوثائق يتوقف على المصادفة . وهكذا يفسر دور المصادفة فى تكوين التاريخ
• التعصب لعرق أو لمذهب أو جماعة ... قد يجعل المؤلف يزيف الحقيقة .

مقدمة :

♠ ينقسم العمل فى كل علم الى نوعين من سلاسل العمليات هما : (مشاهدة) الوقائع الجزئية بعزلها عن المجموع الذى تنسب اليه، ــ ثم المقارنة بينهما على نحو يسمح بفهم (العلاقات) القائمة بينهما . والإنسان لا يستطيع أن يدرك بطريق مباشرة إلا الوقائع التى على قياس حواسه : من موضوعات أو كائنات محسوسة ، أو علاقات مباشرةً للتوالى أو علاقة العلة بالمعلول . وعلى الرغم من أنه لا يوجد حد واضح متمايز بين كلتا السلسلتين، فالبحث فى الجملة، عن الواقع هو من شأن العلم التحصيلى، وينقسم غالباً بين نوعين من المختصين : ناشرى الوثائق، ومؤلفى الرسائل المفردة . أما البحث عن العلاقات فمن شأن التاريخ الذى يتخذ صورة مؤلفات عامة .

♠ والحق أن الموضوع الحقيقى للتاريخ هو سلسلة النتائج الواقعية التى أحدثتها الأفعال، والأفعال هى التى ترصد ؛ لكن لا يمكن فهمها إلا بمعرفة (كيفية) حدوثها ؛ بل من الصعب أيضاً رواية فعل دون بيان دواعيه . فلا يمكن أن نحكى كيف اكتشف كلومبس أمريكا إلا ببيان خطئه فى معرفة الأبعاد الحقيقية للأرض . وكل الوقائع التى تدرس بسبب نتائجها ، شأنها شأن عوارض المصادفات.لا يمكن أن تصنف إلا فى إطار جغرافى تاريخى، وهى مادة التاريخ العام .
------------------------------------
[البحث عن الوثائق (الهورسطيقا)]

♠ التاريخ يصنع من وثائق . والوثائق هى الآثار التى خلفها أفكار السلف وأفعالهم . والقليل جداً من هذه الأفعال والأفكار هو الذى يترك آثاراً محسوسة، إن وجدت فنادراً ما تبقى : لأن عارضاً بسيطة قد يكفى لزوالها . وكل فكرة أو فعل لا يخلف أثراً، مباشراً أو غير مباشر، أو طمست معالمه، هو أمر ضاع على التاريخ : كأن لم يكن البتة . وبفقدان الوثائق صار تاريخ عصور متطاولة من ماضى الإنسانية مجهولاً أبداً . إذ لا بديل عن الوثائق : وحيث لا وثائق .. لا تاريخ .

♠ ومن المرغوب فيه، من حيث المبدأ، ألا تكون مستودعات الوثائق (دور المحفوظات ودور الكتب والمتاحف) كثيرة العدد جداً، ولقد قلنا إنه من حسن الحظ أنها اليوم أقل جداً مما كانت عليه منذ مائة عام ..

♠ ولما كان معظم الوثائق التاريخية محفوظاً اليوم فى مسؤسسات عامة (دور محفوظات ومكتبات ومتاحف) ، فإن الهورسطيقا لن تكون ميسورة تماماً إلا اذا وضعت إثباتات وصفية لكل مستودعات الوثائق الموجودة، وكانت هذه الإثباتات مشفوعة بلوحات وفهارس أو كانت لها كشافات عامة (أبجدية، وللموضوعات، الخ)، وإلا اذا كان من الممكن مراجعة المجموعة الكاملة لكل هذه الإثباتات، وفهارسها فى مكان ما . بيد أن علم الهورسطيقا شاق جداً لأن هذه الظروف لم تهيأ ويا للأسف حتى اليوم .

[العلوم المساعدة]

♠ لنفرض أن لدينا وثيقة مكتوبة، فكيف نستفيد منها إذا كنا لا نستطيع قراءتها ؟ فإن الوثائق المصرية القديمة المكتوبة بالحروب الهيروغليفية، ظلت فى الواقع حروفاً ميتة حتى جاء فرانسوا شامبليون . ومن المقرر أن الإشتغال بتاريخ آشور القديم يستدعى بالضرورة معرفة قراءة الكتابات المسمارية . ولذلك إذا أراد المرء القيام بأبحاث أصيلة تعتمد على الأصول فى ميدان التاريخ القديم أو ميدان التاريخ الوسيط، فمن الحكمة أن يدرس كيف يقرأ النقوش والمخطوطات . وهذا هو السبب فى أن علم النقوش اليونانية واللاتينية وقراءة الخط المستعمل فى العصور الوسطى، أعنى مجموع المعارف الضرورية لقراءة النقوش والمخطوطات المتخلفة عن العصر القديم والعصر الوسيط - كل هذا يعد بمثابة (علوم مساعدة) للتاريخ ؛ أو بعبارة أدق للدراسات التاريخية المتعلقة بالعصر القديم والعصر الوسيط . صــ32

♠ وكم من الناس يخيل إليهم - دون أن يدرسوا اللغة الفرنسية واللغة اللاتينية المستعملتين فى العصور الوسطى - أنهم يعرفونهما لأنهم يفهمون اللاتينى الكلاسيكى والفرنسى الحديث، ويستبيحون لأنفسهم تفسير النصوص التى لا يدركون معناها الحرفى، أو التى يبدو معناها غامضاً مع أنه واضح كل الوضوح ! وما أكثر الأخطاء التاريخية التى ترجع الى سوء الفهم أو التفسير التقريبى للنصوص الصريحة، من جانب باحثين لا يحسنون معرفة نحو اللغات القديمة وألفاظها أو معانيها الدقيقة . إن الواجب منطقياً هو أن تسبق الأبحاث التاريخية بدراسات فيلولوجية راسخة، فى جميع الأحوال التى لا تكون فيها الوثائق المستند إليها غير مكتوبة بلغة حديثة، ومفهومة بغير مشقة . صــ33

العمليات التحليلة..
[الأحوال العامة للمعرفة التاريخية]

♠ إن الوقائع لا يمكن معرفتها تجريبياً إلا بطريقتين : إما مباشرة إذا لوحظت وهى تحدث، أو بطريقة غير مباشرة بدراسة الآثار التى تركتها . فلنفرض حادثاً وليكن زلزالاً مثلاً : فإنى أعرفه مباشرة ً إذا أنا حضرت هذه الظاهرة، وأعرفه بطريقة غير مباشرة  إذا كنت لم أحضره ولكنى عانيت آثاره المادية (شقوق، جدران متداعية) ، أو إا قرأت وصفاً مكتوباً عنه، بعد أن أمحيت آثاره، كتبه شخص شاهد بنفسه هذه الظاهرة، أو شاهد آثارها .. والخاصة المميز "للوقائع التاريخية" هى أنها لا تدرك مباشرة ً بل وفقاً  لآثارها . ولهذا فإن المعرفة التاريخية هى بطبيعتها معرفة غير مباشرة . ولهذا السبب ينبغى أن يختلف منهج علم التاريخ إختلافاً أساسياً عن منهج العلوم المباشرة، أعنى عن مناهج سائر العلوم (فيما عدا الجيولوجيا) التى تعتمد على الملاحظة المباشرة . وعلم التاريخ مهما قيل فيه، ليس علم ملاحظة .
والوقائع الماضية لا نعرفها إلا بما بقى لنا من آثار عنها . صحيح أن المؤرخ يلاحظ هذه الآثار، وتسمى "الوثائق" ، يلاحظها مباشرة ً، لكنه ليس لديه بعد ذلك ما يلاحظه، بل إبتداءً من هذه النقطة يسلك مسلك الإستدلال محاولاً أن يستنتج الوقائع من الآثار الباقية على أصح وجه ممكن . فالوثيقة هى نقطة الإبتداء، والواقعة الماضية هى نقطة الوصول . وبين نقطة الإبتداء ونقطة الوصول ينبغى المرور بسلسلة مركبة من الإستدلالات المرتطبة بعضها ببعض، فيها فرص الخطأ عديدة ؛ وأقل خطأ، سواء ارتكب فى البداية أو الوسط أو فى نهاية العمل، يمكن أن يفسد كل النتائج . ومن هذا يتبين أن المنهج "التاريخى" ، أو غير المباشر، أدنى مرتبة من منهج الملاحظة المباشرة، لكن ليس أمام المؤرخ خيار : فهذا المنهج التاريخى هو وحده الموجود للوصول إلى الحقائق الماضية، وسنرى فيما بعد كيف يمكنه الوصول إلى معرفة علمية، رغم الظروف السيئة . صــ43 ، 44

♠ يمكن التمييز بين نوعين من الوثائق . فأحياناً تترك الواقعة الماضية أثراً مادياً (تمثاًلا أو معماراً أو شيئاً مصنوعاً) . وأحياناً وهو الأغلب يكون أثر الواقعة نفسانياً : وصف أو رواية مكتوبة .. والحالة الأولى أبسط من الثانية بكثير، فإن هناك علاقة ثابتة بين بعض الآثار المادية وأسبابها، وهذه العلاقة معروفة جيداً أو تتحدد بقوانين فزيائية .. أما الأثر النفسانى فعلى العكس من ذلك رمزى بحت : إنه ليس الواقعة نفسها، وليس الأثر المباشر للواقعة على عقل الشاهد، بل هو مجرد علامة إصطلح عليها تدل على الأثر الذى تركته الواقعة فى عقل من شاهدها . ولهذا فليس للوثائق المكتوبة قيمة بذاتها مثل الوثائق المادية، بل قيمتها هى من حيث كونها علامات على عمليات نفسانية معقدة وصعبة التمييز . والغالبية العظمى من الوثائق، التى تزود المؤرخ بنقطة إبتداء إستلالاته، ليس فى جملتها غير آثار لعمليات نفسانية . صــ45

النقد الخارجى ..
[نقد التصحيح]

♠ إن من يكتب كتاباً اليوم يرسل الى المطبعة المخطوط الذى كتبه بيده، ويصحح تجارب الطبع بيده، ويصدر أمر الطبع بنفسه . فإذا طبع الكتاب على هذا النحو فإنه من حيث هو وثيقة يكون فى حال مادية جيدة . فأياً من كان المؤلف، وأياً ما كانت مشاعره ومقاصده، فمن المؤكد .. وهذا هو ما يهمنا فى هذا المقام الآن ـــ أن بين أيدينا صورة دقيقة تقريباً للنص الذى كتبه . وينبغى أن نقول "دقيقة تقريباً" ؛ لأنه إذا كان المؤلف قد تهاون فى تصحيح تجارب الطبع، أو إذا أهمل جماعو الحروف والطابعون فى القيام بوضع تصحيحاته فإن صورة النص الأصلى، حتى فى هذه الحالة الجيدة، تكون ناقصة . وليس من النادر أن نجد جماعى الحروف والطابعين يجعلون المؤلف يقول أشياء غير التى أرادها ولا يفطن لها المؤلف إلا فيما بعد . صـ51

♠ وقد تقرر أن الموقف المعقول الوحيد هو أن نحدد أولاً العلاقات بين النسخ بعضها وبعض .. وفى هذا السبيل نبدأ من مصادرة لا مشاحة فيها وهى : أن كل النسخ التى تحتوى فى نفس المواضع على نفس الأغلاط هى نسخ منقول بعضها عن بعض أو نقلت كلها عن نسخة كانت توجد فيها هذه الأغلاط . فليس من المعقول أن يرتكب نساخ مختلفون، وهم ينقلون كل منهم من ناحيته عن الأصل الخالى من الأغلاط تماماً : وإذن فالإتفاق فى الأغلاط شاهد على الإتفاق فى المصدر .. صــ60

[نقد المصدر]

♠ من غير المعقول أن ننشد معلومات عن واقعة ما فى أوراق شخص لم يعرف عنها شيئاً ولم يكن فى وسعه أن يعرف عنها شيئاً . ولهذا ينبغى أن نتسائل أولاً ، حينما نكون أمام وثيقة ما " "من أين أتت ؟ ومن مؤلفها ؟ وما تاريخها ؟ فالوثيقة التى لا يعرف شىء عن مؤلفها وتاريخها ومكان كتابتها ، وبالجملة مصدرها ، هى وثيقة لا تفيد شيئاً .. صــ65

♠ أن أوراق إجابة طالبين (أحدهما مقعدة بجوار مقعد الآخر) بينهما صلة نسب . فإذا طاب لهم ان يبحثوا أيهما نقل من الآخر، فإنهم يكتشفون ذلك بسهولة، برغم الحيل الصغيرة (التغييرات الخفيفة فى بعض الكلمات، بعض التوسع، الإختصارات، الإضافات، الحذف، النقل من موضع إلى آخر) التى أكثر منها الناقل (الغشاش) منعاً من الإشتباه . فالأخطاء المشتركة تكفى لإكتشاف الجانبين . والأغلاط الغبية، وخصوصاً الأغلاط الخاصة بالناقل والتى ترجع الى خصائص فى أوراق إجابة المنقول عنه تكشف عن أكثرها جناية .. وكذلك فالنفترض وثيقتين قديمتين : فإذا كان مؤلف إحداهما قد نقل عن الآخر مباشرة ً بغير وسيط، فمن السهل جداً على وجه العموم معرفة التسلسل فى النقل (الإسناد) ، فإن الإختصار والحذف يكشفان دائماً تقريباً عن الناقل فى أى موضع حدثا . صــ72

[الترتيب النقدى للمراجع]

♠ بفضل العمليات السابقة "وجدنا" الوثائق، كل الوثائق التى من نوع معين تعلق بموضوع معين، أو هكذا نفترض : فنحن نعرف أين هى. ثم إن نص كل واحدة منها قد صحح، ما إحتاج الى تصحيح . وكل منها قد أخذعت لنقدر المصدر : فعرفنا عمن صدرت . وقد بقى علينا أن نجمع ونرتب منهجياً هذه المواد التى حققناها على هذا النحو . وهذه العملية هى آخر العمليات التى يمكن عدها عمليات تحضيرية لأعمال النقد العالى (الباطن) والتشييد . صــ77

♠ أما إذا لم تكن الوثائق مؤرخة، فينبغى أن نختار بين الترتيب الأبجدى والترتيب الجغرافى والترتيب الموضوعى .. وتاريخ (محصل ) النقوش اللاتينية شاهد على ما فى الأمر من صعوبة . "لقد كان التاريخ بحسب التواريخ مستحيلاً، لأن معظم النقوش مجهولة التاريخ . ومنذ اسمتيوس تم التقسيم إلى أصناف، أى بحسب المضمون، دون إعتبار للمصدر، فسمت إلى نقوش دينية ومقبرية وعسكرية وشعرية، وعامة وخاصة (أى ذات طابع عام، أو لا تتعلق إلا بالأشخاص) ... إلخ  صــ82

[نقد التحصيل والعلماء المحصلون]

♠ مجموع العمليات التى ذكرناها فى الفصول السابقة (تصحيح النصوص، نقد المصدر، جمع الوثائق وترتيبها) يؤلف الميدان الواسع للنقد الخارجى، أو نقد التحصيل ... صــ86

♠ ولن نمل من تكرار هذا القول : إن النقد الخارجى تحضيرى كله ؛ إنه وسيلة، وليس غاية ؛ والمثل الأعلى أن يكون قد أنجز منه ما يكفى لكى نتمكن آنفاً من الإستغناء عنه ؛ إنه مجرد ضرورة مؤقتة ... صـ88

♠ وفيما مضى كانت مهنة " العالم المحصل " و "المؤرخ " متمايزتين تماماً . "فالمؤرخ" آنذاك بـ "التاريخ" ، دون أن يكونوا على علم بما يقوم به العلماء المحصنون من أعمال . والعلماء المحصنون من جانبهم وضعوا بأبحاثهم النقدية أساس التاريخ، لكنهم لم يهتموا بعملية التأريخ : فإقتصروا على الجمع والتنقية والترتيب للوثائق التاريخية، ولم يهتموا بالتأريخ ولم يفهموا الماضى خيراً من فهم عامة الناس فى عصرهم. وتصرف العلماء المحصلون وكأن التحصيل غاية فى ذاته، وتصرف المؤرخون وكأنهم إستطاعوا أن يستعيدوا الوقائع الماضية بقوة التفكير وحده وبالفن المتعلق بالوثائق السقيمة التى كانت ملكاً مشتركاً . صــ89

النقد الباطن ..

[نقد التفسير (الهرمنيوطيقا)]

♠ إن كل من يقرأ نصاً ولا يهتم بفهمه إهتماماً تاماً لابد أن يحدث له أن يقرأه من خلال إنطباعاته هو ؛ فينجذب إنتباهه فى الوثيقة على الجمل أو الكلمات التى تتجاوب مع تصوراته هو ، وأن تتفق مع الفكرة السابقة التى كونها مقدماً عن الواقع ؛ ودون أن يتبين ذلك ؛ تراه يفصل هذه الجمل أو هذه الكلمات ويؤلف منها نصاً خيالياً ، ويضعه مكان النص الحقيقى الذى كتبه المؤلف . صــ111

♠ والميل الطبيعى هو أن نعطى الكلمة الواحدة معنى واضحاً أينما وجدناها . فالإنسان بالطبيعة يعامل اللغة وكأنها نظام ثابت من الرموز . فإن هذا هو طابع العلامات الموضوعة للإستعمال العلمى، كما فى الجبر والرموز الكميائية ؛ وفيها لكل تعبير معنى محود، واحد ، مطلق ، لا تغير، ويعبر عن فكرة تحلل وتحدد بالدقة، فكرة واحدة، تظل هى هى، أياً كان موضوعها، وأياً كان المؤلف الذى يستعملها . أما اللغة العادية، التى تكتب بها الوثائق، فهى لغة عائمة ؛ وكل كلمة تعبر عن فكرة مركبة لم تحدد بالدقة ؛ ولها معانٍ عديدة ، نسية ، متغيرة، فاللفظ يدل على أشياء كثيرة مختلفة ؛ ويتخذ معانى مختلفة عند المؤلف الواحد تبعاً للسياق ، ويتغير معناه من مؤلف إلى آخر وعلى مجرى الزمان . فكلمة vel تدل فى اللاتينية الكلاسيكية دائماً على معنى "أو"، ولكنها تدل فى بعض الفترات فى العصر الوسيط على معنى "و" (واو العطف) ؛ وكلمة suffragium تدل فى اللاتينية الكلاسيكية على "التصويت"، ولكنها فى العصر الوسيط تدل على "النجدة" . ولهذا ينبغى أن نتعلم كيف نقاوم الغريزة التى تدفعنا الى تفسير كل عبارات النص بالمعنى الكلاسيكى أو المعنى العادى . والتفسير النحوى، القائم على القواعد العامة للغة ينبغى أن يكمل بالتفسير التاريخى القائم على فحص كل حالة على حدى . صـ113

♠ بعد وصولنا أخيراً الى المعنى الحقيقى للنص نكون بذلك قد أنيهنا التحليل الإيجابى .. والنتيجة هى التمكن من معرفة تصورات المؤلف، والصور التى كونها فى ذهنه والأفكار العامة التى بها إمتثل العالم ... إلخ صـ119

[النقد الباطن السلبى للأمانة والدقة]

♠ إن التحليل والنقد الإيجابى للتفسير لا ينفذان إلى العمل الباطن الذى قام به عقل مؤلف الوثيقة ولا يطالعننا إلا على أفكاره وحدها، ولا يعرفاننا مباشرة ً شيئاً عن الوقائع الخارجية . وحتى لو كان قد إستطاع مشاهدتها، فإن النص الذى قدمه لنا لا يدل إلا على كيفيه تصوره لها، لا كيف شاهدها فعلاً وعلى نحو أقل ماذا كانت حقاً . وما يعبر عنه المؤلف ليس بالضرورة ما كان يعتقده، فالعله يكذب .. أخطأ .. لم يحسن الوصف .. إلخ صـ121

♠ إن من أبرز صور المنقول الشفوى - الأسطورى - تنشأ فى جماعات من الناس التى لا وسيلة عندهم للنقل غير الكلام، كالجماعات المتبربرة أو الطبقات القليلة الثقافة، كالفلاحين والجنود . هنالك نرى جماع الوقائع ينتقل شفوياً ويتخذ شكلاً أسطورياً . وفى بداية كل شعب نجد عصراً أسطورياً .. ففى اليونان، وروما، ولدى كل الشعوب الجرمانية والسلافية نجد أن أقدم الذكريات للشعب تؤلف طبقة من الأساطير . وفى العصور المتدينة يستمر الشعب محافظاً على أسطورته الشعبية فيما يتصل بالحوادث التى تبهر خياله . والأسطورة هى المنقول الشفوى الخالص . صــ 141

[تحديد الوقائع الجزئية]

♠ ويمكن أن نتقدم خطوة أخرى فنقول إن التصورات ليست بنفسها وقائع نفسانية، بيد أن الخيال لا يخلق موضوعاته، بل يأخذ عناصرها من الواقع. وأوصاف الوقائع المتخيلة تشيد بالوقائع الخارجية التى شاهدها المؤلف من حوله صـ150

♠ إن وصف الوقائع المادية نفسه يمكن أن يكون من بنات أفكار المؤلف، وإبداع خياله، وعناصره وحدها هى الحقيقة، فلا نستطيع إذن أن نؤكد غير الوجود المستقل لعناصر لا يرد بعضها الى بعض : الشكل ، المادة ، اللون ، العدد . فحينما يتحدث الشاعر عن أبواب من ذهب أو دروع من فضة ، فليس من المؤكد أنه وجد أوباب من ذهب أو دروع من فضة، بل وجدت فقط أبواب ودروع وذهب وفضة . لهذا ينبغى أن ننزل فى التحليل حتى العنصر الذى لابد أن المؤلف قد استمده من التجربة (الموضوعات، استعمالها، الأعمال المعتادة) . صــ151

العمليات التركيبية ..

[الأحوال العامة للبناء التاريخى]

♠ إذا قرأنا عبارة فى وثيقة، تتكون فى عقلنا صورة بعملية تلقائية لا نملك ضبطها . وهذه الصورة، الناتجة عن مماثلة سطحية هى فى العادة زائفة زيفاً غليظاً . وكل منا يمكنه أن يجد فى ذكرياته الطريقة المحالة التى تصور بها الأشخاص والمناظر الماضية . وعمل التاريخ هو تصحيح صورنا تدريجياً بأن نضع مكان اللمحات الزائفة لمحات صحيحة . فقد رأينا ناساً شعرهم أشقر، ودروعاً ، وبلطات فرنجية (أو رسوماً لهذه الأشياء)، فنقرب هذه الملامح لتصحيح الصورة التى كوناها عن المحاربين الفرنجة . وهكذا تصبح الصورة التاريخية مزيجاً من الملامح المستعارة من تجارب مختلفة . صـ169

♠ إن التحليل النقدى قد أمدنا بالمواد، غير أن هذه ليست إلا وقائع تاريخية متناثرة . فنبدأ بتصورها على غرار الوقائع الحالية التى نظنها مماثلة لها، ونعمل على بلوغ أشبه صورة بتلك التى كانت ستعطينا إياها المشاهدة المباشرة، وذلك بمزج شذرات مأخوذة من مواضع مختلفة فى الحقيقة الواقعية . تلك هى العملية الأولى، وهى مرتبطة بقراءة الوثائق إرتباطاً لا إنفصام له . صـ179

♠ إن العمليات التاريخية إبتداء من إكتشاف الوثيقة حتى الصياغة النهائية للنتيجة، هى من التعدد وتقتضى إحتياطات دقيقة وإستعدادات طبيعية وعادات متنوعة بحيث لا يمكن فرداً واحداً أن يقوم هو نفسه بالعمل كله . فالتاريخ أقل العلوم استغناء عن تقسيم العمل، ومع ذلك فهو أقلها ممارسة له . إذ يحدث أن يكتب علماء محصلون تواريخ لم يختبروا قيمتها . ذلك أن تقسيم العمل يتضمن تفاهماً بين العاملين، وهذا التفاهم غير موجود فى ميدان التاريخ . فكل مؤرخ اللهم إلا فى العمليات التحضيرية للنقد الخارجى، يسلك سبيله وفقاً لإلهامه الشخصى، بغير منهج مشترك، وبغير إهتمام بالمجموع الذى ينبغى أن يأتى عمله فيحتل مكانه فيه ... صــ180

[تجميع الوقائع]

♠ لا تكشف الوثائق إلا عن وقائع عامة : صور لغوية، شعائر ذاتية، قواعد قانونية . ولابد من مجهود فى التخيل لتصور الإنسان الذى قال هذه الكلمة ، أو أدى هذه الشعير ، أو مارس تلك القاعدة ... وهكذا نرى أن التاريخ مضطر إلى أن يمزج بدراسة الوقائع العامة دراسة بعض الوقائع الجزئية . إن طابعه مزيج، غير محدد بل متردد بين علم العموميات وحاية المغامرات . وصعوبة ترتيب هذا المزيج الهجين فى داخل إحدى مقولات الفكر الإنسانى يعبر عنها غالباً بالسؤال الصبيانى : هل التاريخ فن أو علم ؟ صـ188

♠ ولتشييد التاريخ العام ينبغى البحث عن كل الوقائع التى يمكن أن تفسر حال المجتمع أو احد تطوراته، لأنها أحدثت فيه تغييرات . وينبغى البحث عنها فى كل أنواع الوقائع : إنتقال السكان، التجديدات الفنية والعلمية والدينية والصناعية والفنية وتغير الهئية الحاكمة، والثورات والحروب وإكتشاف الأقطار ... صــ195

[البرهان البنائى]

♠ تدل التجربة على أن البرهان هو أصعب عمليات المعرفة التاريخية ممارسة على الوجه الصحيح، وهو الذى أدخل فحش الأخطاء . ولهذا ينبغى ألا نستعمله إلا محوطاً بالإحتياطات حتى لا نغفل أبداً عن الخطر . صـ199

♠ وينبغى أن نتوقع أنه نادراً ما تتحقق شروط البرهان اليقينى ؛ فنحن لا نعرف قوانين الحياة الإجتماعية إلا معرفة ناقصة، ولا نعرف التفاصيل الدقيقة للواقعة التاريخية إلا نادراً . ولهذا فإن معظم البراهيم لا تعطى إلا مجرد دعاوى محتملة، لا يقيناً . لكن الأمر فى البراهين كالأمر فى الوثائق . إذا تواطأت عدة وثائق على معنى واحد، فإنها يؤيد بعها بعضاً وتحدث اليقين المشروع . والتاريخ يملاً جزءاً من النقص بحشد البراهين . ولقد بقى الشك حول النشأة الفينيقية من البلاد اليونانية، ولكن لا شك فى وجود الفينيقيين فى بلاد اليونان . صــ205

[تشييد الصيغ العامة]

♠ وهكذا سنرى تعارضاً بين الحاجة إلى الإيجاز، التى تفضى الى البحث عن صيغ عينية وبين ضرورة التدقيق التى تلزمنا بإتخاذ صيغ مفصلة . إن الصيغ الموجزة جداً تجعل العلم غامضاً وهمياً، والصيغ الطويلة جداً تثقل كاهلة وتجعله عديم الفائدة . ولا سبيل إلى تفادى هذا الإنفصال إلا بحل وسط مستمر، مبدؤه هو إحكام الوقائع بحذف كل ما ليس ضرورياً كل الضرورة لإمتثالها، والوقوف عند النقطة التى فيها نزيل شيئاً من خصائصها المميزة . صــ207

♠ ولوضع الصيغة الوصفية لشخص تاريخى ينبغى إختيار ملامح فى ترجمة حياته وفى عاداته . فمن ترجمة حياته نأخذ الوقائع التى حددث مهنته، وكونت عاداته، وأدت إلى الأفعال التى أثر بها على المجتمع . إنها الأحوال الفسيلوجية (الجسم، المزاج ، الصحة) ، وألوان التنشئة التى تلقاها، والأحوال الإجتماعية . وتاريخ الأدب عودنا على مباحث من هذا القبيل .. صـ213

♠ إن الميل الطبيعى يتجه إلى إهمال نتائج النقد أثناء البناء، وإلى نسيان ما هناك من نقص أو إرتياب فى معارفنا، تدفعنا رغبة قوية فى تنمية جملة معلوماتنا ونتائجها إلى التخلص من كل التقييدات السلبية . فهناك خطر كبير فى أن نكوِّن لأنفسنا معلومات متناثرة مبهمة لفكرة إجمالية وكأن لدينا لوحة كاملة .. ونحن ننسى بسهولة وجود الوقائع التى لا تصفها الوثائق (الوقائع الإقتصادية، العبيد فى العنصر القديم) ؛ ونبالغ فى شأن المكانة التى تحتلها الوقائع المعروفة (الفن اليونانى، النقوش الرومانية، أديرة العصور الوسطى) . وبالغريزة نقدر أهمية الوقائع بحسب كمية الوثائق التى تتحدث عنها .. وننسى الطبيعة الخاصة للوثائق . وإذا كانت جميعها من مصدر واحد ، ننسى أنها أحدثت فى الوقائع نفس التحريف وأن إشتراكهما فى المصدر يجعل الضبط مستحيلاً ؛ ونحتفظ طواعية بلون المنقول (رومانى، أرثذوكسى، أرستقراطى .. ) صــ220

♠ يمكننا مقارنة الأصناف المتشابهة من الوقائع الخاصة : اللغات، الأديان، الفنون، الحكومات، وذلك بأن نأخذها من الإنسانية كلها وأن نقارنها بعضها ببعض وأن نضع فى صنف واحد أكثرها شبهاً ببعض ، فنحصل بذلك على أسر لغات، وأديان، وحكومات يمكن محاولة ترتيبها فيما بعد . وهذا تصنيف مجرد، يعزل نوعاً من الوقائع عن سائر الوقائع، متخلياً بذلك عن بلوغ الأسباب وميزة هذا اللون من التصنيف أنه يتم بسرعة وأنه يتأدى بنا إلى مصطلحات فنية يمكن أن تسهل تسمية الوقائع .. صـ221

// خلال حديثه عن نشوء ما يسمى بـ "فلسفة التاريخ" والبحث عن العلل البعيدة للوقائع التاريخية //

♠ يبدأ الميل إلى تفسير الوقائع التاريخية بأسباب عالية لا يزال قائماً فى نظريات تلبس فيها الميتافيزيقا أشكالاً علمية . والمؤرخون فى القرن التاسع عشر قد تأثروا تأثراً بالغاً بالتربية الفلسفية إلى حد أن الكثيرين منهم أدخلوا - على غير وعى منهم أحياناً - صيغاً ميتافيزيقية فى بناء التاريخ . ويكفى أن نعدد هذه النظم وأن نبين طابعها الميتافيزيقى من أجل أن ينتبه المؤرخون العقلاء وأن يرتابوا فيها . صــ224

♠ ومع ذلك فالواقع هو أن المؤرخين كثيراً ما يستخدمون فكرة العلة وهى فكرة لا غنى عنها - كما بينا من قبل - لصياغة الحوادث وبناء الصور .. ذلك أنهم يعرفون الأسباب إما بواسطة مؤلفى الوثائق الذين لاحظوا الوقائع أو بالمماثلة مع العلل الحالية التى شاهدها كل منهم، وتاريخ الحوادث بأسره تسلسل بين لا مراء فيه من الحوادث التى كل منها علة محددة للأخرى، فضربة الرمح التى سددها مونتجمرى هى السبب فى موت هنرى الثانى، وهذا الموت هو السبب فى مجىء آل دى جيز Guises إلى الحكم ، وهذا لإنتفاضة حزب البروتستنت . صـ 228

♠ وللبحث عن أسباب الوقائع العامة، يرتد البناء التاريخى إلى التماثل بين الماضى والحاضر، فإن كان من حظه أن يجد الأسباب التى تفسر تطور المجتمعات الماضية، فلن يكون ذلك إلا بملاحظة التحولات فى المجتمعات الحاضرة .. من نفس الصفة .

[العرض]

♠ إن منذ خمسين خلصت وتكونت الأشكال العلمية للعرض التاريخى، فى تناسب مع النظرة العامة القائلة بأن الغاية من التاريخ ليست إشاعة السرور ولا تقديم وصفات عملية للسير وفقاً لها ، ولا الإثارة ، بل مجرد المعرفة والعلم .. صــ238

♠ إن معايب المؤلفات التاريخية المتوجهة إلى الجمهور غير المختص - وهى معايب شنيعة فى بعض الأحيان - مما جعل التبسيط نفسه متهماً فى نظر كثير من العقول الجيدة . هى من نتائج عدم كفاية الإعداد أو سوء التنشئة الأدبية التى تلقاها القائمون بالتبسيط (المبسطون) صـ245

خاتمة ..

 ليس التاريخ غير إستثمار الوثائق . لكن بقاء الوثائق أو ضياعها يتوقف على الصدفة والبخت . ومن هنا كان للصدفة دور حاسم سائد فى تشييد التاريخ .

♠ إن المؤرخ لا يجمع بنفسه المواد الضرورية اللازمة للتأريخ، عن طريق الملاحظة كما هى الحال فى سائر العلوم : بل يعمل فى وقائع نقلها مشاهدون سابقون . والمعرفة، فى التاريخ لا تكتسب بطرق مباشرة، كما فى سائر العلوم : بل هى غير مباشرة، وليس التاريخ كما قيل علماً من علوم الملاحظة، بل هو علم برهنة .

♠ وإنه لوهم عتيق أن نعتقد أن التاريخ يزودنا بنصائح عملية تفيد فى السلوك (التاريخ أستاذ الحياة) ، وبدروس تفيد الأفراد مباشرة ً والشعوب : فإن الظروف التى تحدث فيها الأفعال الإنسانية من النادر أن تتشابه بين زمان وزمان بحيث يمكن تطبيق (دروس التاريخ) تطبيقاً مباشراً . لكن من الخطأ أيضاً، فى مقابل ذلك، أن نقول (إن الصفة المميزة للتاريخ هى أنه لا يفيد فى شىء) . ذلك أن له فائدة غير مباشرة . صـ250

يمكنك متابعة دراسة موضوعية عن الجزء المتبقى من الكتاب (نقد النص)
------------------------------------------------------------------------

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS